بنات القصب
من أقاصيص: زينة حداد
ترجمة: سمير الحداد
الغابة مُلتفَّة تتعانق فيها الأغصان الحانية لكثرة ما تحمل من الورق.
ويهب الإله "بان" إله الرعاة، والحزن بادٍ على مُحيّاه يجمع قطيعة ليمضي به إلى الحظيرة، ملجأ القطيع آناء الليل خشية الحيوانات المفترسة التي تتربص به دائمًا. وعلى طريق العودة يتوقف "بان" على ضفة النهر الكبير "لادون" ليورد نعاجه فتروي ظمأها. كان الوقت زمن المغيب الذي يلقي تحية الوداع على فصل الشتاء كاشفًا غلالة الفصل المنصرم عن أشعة الفصل الجديد الذهبية، مُبشرًا بحلول فصل الربيع. فالأزهار بدأت تتفتح. أزهار الربيع اللؤلؤية، شقائق النعمان، المنثور وأزرار الذهب تطل برؤوسها في جنبات الحقول. الزعرور والزعتر، الخلنج والوزال تطلُّ بهاماتها من بين الصخور، والأرض المبللة الكثيرة الحصى تضوِّع عبيرها العذب المسكر وتنشره من أكمام ورودها ونباتاتها البرية.
ذوبان الثلوج من الجبال في مثل هذه الأيام ينذر بفيضان مياه الأنهار، فالمياه الصافية الرقراقة تتسارع مُنحدرة لتنسكب في مجرى النهر ومساره مطلقة أصواتًا كألحان الأجراس الخافتة، والعشيبات الزمردية والطحالب بدأت توشي الضفاف.
هنا وفي هذه البقعة الحالمة توقف إله الرعاة، "بان" ليروي عطشه. وضع عصاه جانباً وانحنى يغمر وجهه بالمياه العذبة ويعبّ منها حتى الارتواء.
"أيها الإله القدوس، جوبيتر! كم هي رائعة هذه المياه! سأعرج كل يوم إلى هذا المكان سالكًا هذا الدرب فأروي عطشي.
حقًا، إن هذه المياه هي أكسير الإلهة. الحيوانات العطشى ارتوت منها أيضاً. ولدى مغادرته المكان تناهت إلى مسمع بان ضحكات بلورية رنانة. أصوات طفولية فرحة كانت تأتي من طائفة من الحوريات كنّ ينعمن في أحضان المياه، تدور بهن الأمواج فيرقصن ممسكات بعضهن بأيدي البعض الآخر. ومع حلول الليل غطسن في المياه وغبن عن الأنظار. وتكرَّر هذا المشهد في اليوم التالي وفي الأيام الأخرى.
كان الإله بان يرجع مع كل غروب فيرتوي وقطيعه ويرتاح على صخرة ممتعاً ناظريه بمفاتن الحوريات الرشيقات تظهر من خلف غلالاتهن الشفافة الزاهية وهنّ يتراقصن لاهيات.
كان بان يسترسل غالباً بالبكاء. إنها الوحدة المريرة القاتلة، فلطالما كان يتأمل وجهه البشع على صفحة المياه الصافية كالمرآة، وكان يرى قرنين صغيرين يبرزان من رأسه كما كانت لحية كثة شعثاء تغطي وجهه الضخم إضافة إلى أن نصف جسمه كان كجسم تيس الماعز.
آه! ليته كان قادراً على انتشال احدى هذه العرائس الفاتنات فيلفها بذراعيه فتدخل البهجة على وحدته القاتلة. كان ليداعب شعرها الأشقر الطويل ويخال نفسه في حقل من حقول سنابل القمح الذهبية. وكان ليغطي وجنتيها المتوردتين بالقبل وكان يحلم بمنامه بعينيها الدعجاوين وشفتيها الورديتين كان يحلم بليلة عرس سعيدة.
باخوس، باخوسن هلمَّ إلى العيد! إملأ كؤوسنا فرحًا وسعادة ونشوة. وأنت يا جوبيتير، اجمع شملي بحبيبتي، فقد انتقيت احدى هذه الحواري. رفيقاتها يسمينها سيرانكس،"ٍSyrinx" وقد تناهى إليَّ أنها ابنة النهر "لادون" وهي تعيش هناك، وبالرغم من بشاعتي فأنا إله يكرمني الخلق ويعيِّدونَ لي. هكذا كان الإله بان يتحدث إلى نفسه، ولم يعد قادرًا على التحمل، فوثب وثبة واحدة فإذاه في مياه النهر الممزوجة بعطر العرائس والحوريات.
رؤية العرائس لهذا الكائن المُخيف مسحت الفرح عن وجوههن فنجون بأنفسهن. غطسن إلى الأعماق مذعورات. كنّ سريعات، رشيقات الحركة. تمكن من الاختفاء عن انظاره وبلغن قصرهن تحت المياه المبني على صخرة مرجانية ضخمة بالأحجار المرجانية الكريمة.
وما ان إصبحن في حمى قلعتهن المنيعة، لاحظن أن واحدة من البنات غير موجودة. إنها لا تجيب على ندائهن. سيرانكس، سيرانكس! هي ليست هنا. ربما ضلَّت الطريق.
الحقيقة أن سيرانكس كادت تقع في قبضة "بان" تمزق ثوبها الموسلين وكاد أن يدركها لولا أن موجة قوية قذفت به جانبًا حاجبة عنه الروية، فاستغلت الشابة هذه الفرصة وانحرفت بطريقها مُسرعة واختبأت داخل احدى المغاور البحرية.
رجع "بان" أدراجه أسير الخيبة والأسى، غير أنه وبصدفة لا تصدق مرّ من أمام تلك المغارة. رأى قطعة من ثوبها المُمزَّق فالتقطها بخشوع واحتفظ بها، فهي مقدسة بالنسبة اليه. ثم سبر بنظره الثابت أعماق الملجأ فوقعت عيناه على سيرانكس، حبيبته فرمقته بنظرة وجلٍ وخوف. حملها بين ذراعيه ووضعها على اليابسة، وكان في غمرة فرحة العامر يطلق ضحكات حادة دلالة على الغلبة والانتصار.
أطلقت الأمواج نداءات الإنذار والاستغاثة وراحت تتدحرج من صخرة إلى صخرة لافتة إلى الخطر المُحدق بأميرة المياه. تلقَّفَ النهر، لادون، الخبر وتولَّى قيادة المعركة، فإن ابنته، ولو كانت طعمة للموت، لن تكون من نصيب هذا الكائن الخشن، الفظ. تضَّرع لادون إلى الاله جوبيتير وإلى الآلهة أقرانه، فهبَّت عاصفة ودوّى هزيم الرعد مُطلقًا صواعقه والسنة لهيبة في الغابات، واقتلعت الرياح الأشجار من جذورها، وتدحرجت الأمواج المُتعاظمة وانتهت إلى مساعدة الصبية على الافلات من بين ذراعيّ بان لتهرب من جديد فتحملها الرياح وتحطُّ بها على ضفة النهر.
تبعها بان وهو يستشيط غضباً واصبح على وشك الإمساك بها من جديد عندما حصلت احدى المُعجزات فتحولت سيرانكس متقمِّصة في قصبة بين ذراعي بان الذي كان يظن بأنه ممسكٌ بحبيبته. كسر بان القصبة إلى سبع قطع تناثرت على ضفة النهر، وراح يطلق صراخًا صاخبًا وشكوى اليمة. وتغلغل بكاؤه ونواحه في تجويف القصبة التي عادت فالتحمت قطعها وراحت تطلق أصواتً ألم وشكوى ونواح، وهكذا ولد الناي.
هدأت العاصفة وعلا ضوء القمر مهيبا فوق هام الجبال. باعثًا بعض أشعتة داخل الآلة الموسيقية الجديدة فراحت تتغنَّى بجمال مصباح الليل، وأسكن النسيم العليل سلسلة نغماته في أعطاف القصبة المسحورة.
بكى النهر ابنته وردَّدت القصبة مراثيه الحزينة فملأت الطبيعة واهتزت مشاعر المروج والحقول المليئة بالأزهار والقمم الشاهقة والوديان.
واستلقى بان على العشب مغلوبًا على أمره وراح يشكو تعاسته وحزنه فيردِّدها الناي بكلِّ أمانةٍ وإخلاص وراح حملان بان ونعاجه الواحد تلو الآخر يقترب منه ويحيط به لعله يدخل إلى نفسه العزاء فينسيه أحزانه، كانت النعاج والحملان تحب راعيها حبَّا بعيدًا عن الوصف.
وأطلق الفجر تاركًا بعضًا من شعره الذهبي ينساب في جوف الناي. واستيقظت الطيور ونشرت الشمس أمواج أنوارها، وكان الناي يردِّد الأنغام الفرحة والحزينة. نهض بان وابتعد عن هذا المكان الحزين وذكرياته المؤلمة حاملاً معه الناي ليتذكر به حبيبته سيرانكسن الحورية الشقراء. وراحت النغمات الموسيقية الشجية تنبعث من هذه الآلة الجميلة, نغمات لم يُسمع مثلها في ذلك الغاب من قبل.
وفي صباح اليوم الجديد، جاءت شقيقات سيرانكس لزيارتها. أحببن مشاركتها مصيرها فتحولن جميعهن إلى قصبات طريات العود، رشيقات القوام. وبعدها بتنا نرى هذه النبتات الوفيات تتخذ ضفاف الأنهار موطنًا لها.