" جريمة القرن العشرين " المحامي فارس زعتر ، وهو أستاذ مساعد في جامعة لونغ – آيلاند في نيويورك يدرّس " الأنظمة الجنائيّة الدوليّة المقارنة "، تناول القضيّة بدوره قائلا :" يشكّل الاضطهاد الذي تعرّض له الدكتور داهش جريمة كبرى من جرائم القرن العشرين في لبنان . ولا يسع من يطّلع على قضيّة داهش ، اذا كان يتحلّى بحدّ أدنى من المسؤوليّة والانسانيّة وحس العدالة الموضوعيّة ، الاّ أن يثور مُستنكرا لها أشدّ الاستنكار ." ويضيف المحامي زعتر : " انّ الشعوب العظيمة تؤكّد عظمتها وتثبت جدارتها بالحياة ، وذلك بما تُظهره من شجاعةٍ ونزاهةٍ خلقيّة عندما تواجه أخطاءها وتعترف بها ، وتعمل على تقويمها وعدم معاودتها ، محدّدة بذلك ميثاقها مع مثل الحقّ والعدل والحريّة . هذا ما فعلته فرنسا عندما نقلت رفات الكاتب المُبدع اميل زولا ، عام 1908 ، الى مثوى عظمائها في مبنى " البانتيون " في احتفال رسميّ وشعبيّ ، اعترافا بفضله عليها ، لأنّه تصدّى لطغيان الرأي العام المضلّل وللسلطات الحكوميّة والعسكريّة والقضائيّة في دفاعه التاريخيّ الشهير عن الانسان البريء في قضيّة دريفوس . لقد دافع زولا عن انسان بريء ليس له به أيّة معرفة ، ولا تربطه به أيّة رابطة من روابط القربى أو الدين أو العرق أو العقيدة ، ما خلا رابطة المواطنيّة والانسانيّة ، فبذل في هذا السبيل حياته العائليّة واستقراره وراحته وصحّته وماله ، وواجه الأخطار ، واضطرّ الى نفي نفسه ، مُتخفيّا في انكلترا ،وتحمّل من العنت والارهاق ضروبا وألوانا . ومع ذلك كان له من نفاذ الرؤية والبصيرة ما جعله يرى أنّ قضيّة دريفوس هي قضيّة فرنسا برمّتها ، وأنّ فرنسا تحكم على نفسها بالزوال كأمّة حضاريّة اذا ارتضت التضحية بانسان بريء على مذهب التعصّب الدينيّ والعرقيّ الأعمى ، حفظاً لماء وجه السلطات الضالعة في جريمة الظلم بحقّ دريفوس . كان زولا يعتبر أنّه يدافع عن المبادىء الانسانيّة التي كرّستها الثورة الفرنسيّة في شرعة حقوق الانسان والمواطن ، وكان يقول :" انّ فرنسا ستشكرني يوما على انقاذي لشرفها ." وقد تمّ ما توقّعه ، فشكرته فرنسا باعترافها به عظيما من عظمائها بسبب موقفه البطوليّ في قضيّة دريفوس ، وليس بسبب عبقريّته الأدبيّة . لكن فرنسا لم تزد زولا قيمة ولا عظمة بتكريمها له واعترافها بفضله ، بل انّها بعملها هذا رفعت ذاتها ، وأثبتت عظمتها وجدارتها بالحياة بين الشعوب المتحضّرة الحيّة ." ويضيف فارس زعتر :" فالرئيس الأسبق بشاره الخوري ، مع من مالأه وتكافل معه وانقاد اليه ونفّذ رغباته في قضيّة الدكتور داهش ، ما لجأ الى الطرق غير المشروعة واساءة استعمال السلطة باتخاذه لاجراءات مخالفة فاضحة للدستور والقوانين كأدوات للاعتداء على حريّة فرد وتجريده من جنسيّته اللبنانيّة وتشريده ، مع ما رافقها من أعمال بربريّة تشجبها القوانين والأعراف الداخليّة والدوليّة – نقول انّ الرئيس الأسبق ما لجأ الى ذلك الاّ بعد أن تبيّن وتأكّد له ، من خلال التحقيقات العلنيّة والسرّيّة ، أنّ الرجل لم يأت عملا يؤاخذ عليه قانونا ويمكن ، على أساسه ، تجريمه وادانته قضائيّا . " كان داهش فردا ، مواطنا ، لا يحمل الاّ قلما ودفتراً وكتاباً وفلسفة وعقيدة لا يرغم عليها أحد . وكان الأفراد النخبة الذين انجذبوا الى أفكاره مواطنين من ذوي الأخلاق الكريمة والمُراعين للقوانين والأنظمة ، وكانوا من حملة الأقلام ، لا المدى والخناجر والمسدّسات والبنادق وغيرها من الأسلحة . فلو لم يكن داهش بريئا البراءة كلّها من كلّ تهمة ، بل لو لم يكن هو البراءة بعينها ، لما عجز بشاره الخوري ، رغم تسخيره أجهزة الدولة، عن اختلاق تهمة ، واختلاق دليل ، يستطيع على أساسهما ادانته ." ويختم زعتر :" الأقلام الحقّة لم تكن ، في يوم من الأيّام ، ولا يمكنها أن تكون أبدا أداة تطبيل أو تزمير، أو مجامر لحرق البخور استرضاء للحكّام الفاسدين الظالمين ؛ والأقلام المنيرة هي التي تشجب الجريمة لا التي تمتدحها وتحضّ عليها وتبرّرها ؛ هي التي تدافع عن حقّ كلّ انسان ، بدون تمييز ، بالتمتّع على قدم المساواة بالحقوق والحريّات التي كفلها له الدستور والقوانين والأنظمة والأنظمة المشروعة المرعيّة ؛ هي التي تدافع دفاعا مُستميتا عن حريّة الفكر والعقيدة حتّى لو اختلفت مع ذلك الفكر وتلك العقيدة ، لا التي تعتدي على تلك الحريّة وتثمل طربا على أشلائها ؛ هي التي تزأر بالحقّ بوجه كلّ من تسوّل له نفسه أن يحنث بأقسامه الدستوريّة والقانونيّة سبيلا للاعتداء على المواطن الذي لم تكن القوانين الاّ لحمايته ؛ هي التي تشهر كالسيف القاطع أو السوط اللاذع بوجه الطُّغاة البُغاة المُفتئتين على الحقوق والحرّيّات . الأقلام المنيرة حقّا هي تلك التي تأتمُّ بقلم المحرّر العظيم فولتير في دفاعه في قضيّة كالا وتصدّيه للسلطتين السياسيّة والدينيّة ولطغيان الرأي العام المجروف بتيّار التعصّب الدينيّ المقيت ، أو التي تأتمُّ بقلم زولا في دفاعه التاريخيّ في قضيّة دريفوس ؛ هي الأقلام التي تتصدّى للطغيان أيّاً كان مصدر هذا الطغيان , وسواء أكان طغيان سلطةٍ أو حتّى طغيان مجتمعٍ بأكمله ." *** ثنائيّ في الدم والمهنة والعقيدة ، و"استثنائيّان" اذا جاز التعبير في الحديث معهما ، الى حدٍّ يرى فيهما المحاور توأمين على الرغم من الفارق في السن بينهما . انّهما المحامي خليل زعتر وشقيقه فارس زعتر . التقتهما " الديار " في دارتهما في زحلة فاستضافاها على كرم وسخاء ، أكان من زاوية الضيافة التقليديّة أم من زاوية ما تريده من معلومات حول قضيّة الدكتور داهش ، خصوصا وأنّ المحامي خليل له كتاب قيد الطبع حول هذه القضيّة ، بالاضافة الى أنّ المحامي فارس شارك في وضع كتاب " أضواء جديدة على مؤسّس الداهشيّة ومعجزاته الروحيّة "وتناول في مشاركته الزاوية القانونيّة في هذه القضيّة ، وخصوصا الشقّ المتعلّق بمسألة " مناجاة الأرواح الواردة في القانون اللبنانيّ . فماذا يقول الأخوان زعتر ؟ بدون مقدّمات ولا أسئلة يتناول المحامي فارس زعتر الموضوع بشكلٍ له وقعٌ في النفس يتجسّد بحركات أصابعه ، وحتّى في تعابير عينيه التي يلتمع فيها بريق الغضب أحيانا والحزن أحيانا أخرى . واذا ما سها عن شيء أسهب خليل في مداخلة بعد استئذانه . فكيف يقدّم الأخوان زعتر للقضيّة الداهشيّة من زاوية قانونيّة بحتة ؟ يقول المحامي فارس زعتر :" قبل الولوج الى الزاوية القانونيّة الصرفة في قضيّة الدكتور داهش ، لا بدّ من الحديث عن الظروف التي أحاطت بهذه القضيّة والتي ولّدت مآسي كموت الأديبة الشابّة ماجدا حدّاد وهي في عامها السابع والعشرين بتاريخ 27 كانون الثاني 1945 . فماجدا الابنة الكبرى لجورج وماري حدّاد ، كانت أديبة واعدة باللغة الفرنسيّة . وقد آمنت بالعقيدة الداهشيّة مع جميع أفراد أسرتها في شهر أيلول عام 1942 . ولم يكن ايمان هذه الأسرة بالعقيدة الداهشيّة سطحيّا أو عاطفيّا . فأسرتها كانت تنتمي الى الطبقة الصاعدة في لبنان في النصف الأوّل من هذا القرن ، أي طبقة أصحاب النفوذ وذوي رؤوس الأموال المثقّفين ثقافة غربيّة عالية ؛ وهي طبقة يمكن نعتها مجازا بالأرستقراطيّة اللبنانيّة الجديدة . فماري حدّاد هي شقيقة ميشال شيحا ، صاحب جريدة " لو جورLE JOUR الفرنسيّة الصادرة في بيروت ، ونسيبة الثريّ هنري فرعون ، وشقيقه لور زوجة الرئيس بشاره الخوري . وكلّ مطّلع على تلك الحقبة من تاريخ لبنان الحديث يعلم ما كان يمثّله المثلّث شيحا – فرعون – خوري ، والدور الذي لعبه ، وارتباطاته الداخليّة والدوليّة ، وأثره في ارساء النظام الطائفيّ والتوازنات الطائفيّة في هذا البلد . وفضلا عن ذلك ، فقد كانت السيّدة ماري حدّاد أديبة مرموقة باللغة الفرنسيّة ، وفنّانة على مستوى عالميّ ، أقامت للوحاتها معارض في باريس ولبنان ؛ واحدى لوحاتها معروضة بصورة دائمة في متحف اللوكسبورغ في باريس ، كما كانت رئيسة لنقابة الفنّانين اللبنانيّين آنذاك . أمّا زوجها السيّد جورج حدّاد فقد كان وجيهاً من وجهاء بيروت ، وتاجراً من تجّارها المعروفين ، وقنصلاً فخريّاً لرومانيا في لبنان . ودارة آل الحدّاد الرحبة كانت مقصداً للأدباء والفنّانين والوجهاء ، وفيها عقد اليسوعيّون عام 1941 اجتماع خرّيجيهم السنويّ . وبالتالي ، فقد كانت تلك الأسرة المنتمية الى النخبة والصّفوة في المجتمع اللبنانيّ تتمتّع بجميع معطيات النجاح ، من وعي وذكاء وعلم وثقافة وانفتاح وروابط عائليّة واجتماعيّة . وهذه المعطيات تؤهّلها التأهيل الأمثل لممارسة حقوقها الطبيعيّة والقانونيّة البديهيّة في الفكر والعقيدة والايمان الدينيّ ، وهي حقوق وحرّيّات تكفلها الدساتير والشّرع العالميّة والقوانين بدون تمييز لكلّ فرد ، أيّا تكن قدراته الفكريّة والثقافيّة أو انتماءاته العرفيّة أو الطبقيّة أو الوطنيّة أو سوى ذلك من الفروق ؛ فهي من الحقوق الأساسيّة الجوهريّة البديهيّة التي يتمتّع بها الانسان بحكم كونه انسانا . وهكذا فانّ ايمان أسرة جورج وماري حدّاد بعقيدة روحيّة أتى بها رجل نشأ يتيما ، وكابد في طفولته وفتوّته الضيق والمشقّات المعيشيّة ، وشقّ طريقه في الحياة مُعتمدا على مواهبه وعبقريّته ، فدرس على نفسه وكوّن ذاته بارادته وتصميمه ، وهو، فوق ذلك ، لا ينتمي الى أسرة لبنانيّة كبيرة أو صغيرة ذات نفوذ ، ولا هو من أصحاب المطامح السياسيّة أو العاملين في الحقل السياسيّ ولا ممّن يعيرون المقاييس أو المعايير الاجتماعيّة الطبقيّة المألوفة أيّ اعتبار، لأنّ مقاييسه ومعاييره روحيّة خلقيّة بحتة – انّ ايمان أسرة جورج وماري حدّاد بعقيدة أتى بها هذا الرجل الفذّ كان فعل اختيار حرّ واع ، لأنّه اختيار تخطّى الحواجز والموانع الطبقيّة والاجتماعيّة والمذهبيّة الزائفة ، وقام على تقبّل عقيدة روحيّة سامية رأوا فيها حقيقةً مُخلصةً كبرى لخير الفرد والمجتمع ." قصّة الحقّ الالهيّ: ويضيف المحامي فارس زعتر :" وما درى آل الحدّاد أنّهم ، بممارستهم لحرّيّة طبيعيّة أسبغها الخالق على جميع عباده وأعترفت بها شرع الحقوق العالميّة والدساتير والقوانين لجميع الناس بدون تمييز ، كانوا يقترفون جريمة لا تغتفر في عرف بعض المراجع المذهبيّة وعرف أنسبائهم وأقربائهم . وجريمتهم تكمن في عدم استئذان هؤلاء وأولئك في ايمانهم الجديد ، جريمتهم أنّهم تصرّفوا بشكل طبيعيّ كمواطنين يتمتّعون بحقوق وحرّيّات ، وفي ضوء نور عقولهم ونفوسهم ، ولم يدركوا أنّ هناك قوما ما زالوا يعتبرون أنفسهم أولياء وأوصياء مفروضين فرضاً الزاميّاً بحقّ الهيّ مُطلق على عقول الناس وأفكارهم . ما درى آل الحدّاد انّ ايمانهم بعقيدة اقتنعت بها عقولهم وارتاحت اليها نفوسهم ،وأدخلت الطمأنينة والسعادة الى حناياهم – أنّ ايمانهم ذاك محكّا لأنسبائهم ولسواهم ممّن سيشترك معهم في اضطهاد داهش ، وامتحانا يكشف زيف شعاراتهم السياسيّة المنادية باحترام الدستور والقوانين وحماية الحقوق والحرّيّات ، ويسقط قناع ريائهم الفكريّ ، فيبدون على حقيقتهم الجوهريّة أناسا قبليّين بتفكيرهم واتّجاهاتهم . أجل ، فمن ايمان أسرة جورج وماري حدّاد بالرسالة الداهشيّة ومعارضة أنسبائهم من آل شيحا وخوري وفرعون لهم ، لأسباب مرتبطة بغايات دنيويّة شخصيّة ومصالح سياسيّة متعلّقة بغرض الوصول الى سدّة الرئاسة الأولى وبما يستدعيه ذلك الوصول من ارضاء للقوى المذهبيّة الطائفيّة وكسب لدعمها وتأييدها ، من كلّ ذلك تولّدت الشرارة التي أشعلت نيران اضطهاد الدكتور داهش ، خصوصاً بعد وصول بشاره الخوري الى سدّة الرئاسة الأولى ، وهيمنته مع محازبيه وذويه وحاشيته على مقدّرات السلطة في البلاد . ولذلك ، كان لاضطهاد الدكتور داهش وقع هائل بآلامه على أسرة جورج وماري حدّاد لأسباب ، منها أنّ آلهم وذويهم هم المنفّذون لهذا الظلم والجرم ، ولقد اتّخذوا من ايمان آل حدّاد بالداهشيّة مبرّرا لاضطهاد مؤسّسها . ناهيك عن أنّ ما كان يوجّه الى الدكتور داهش كان يطالهم بالضرورة بطريقة أو باخرى ، بصورة مباشرة أو غير مباشرة . كان ألم آل حدّاد مزدوجاً ومضاعفاً . فمن جهة ، كان يؤلمهم ما ينالهم وينال الدكتور داهش من ضروب الافتراءات والاختلاقات الرخيصة والمظالم . ومن جهة أخرى ، كان يؤلمهم أيضا ويحزّ في نفوسهم ما يرتّبه آلهم وذووهم على أنفسهم من تبعات ومسؤوليّات جسام ، وما تستتبعه أفعالهم من كوارث وفواجع يجلبونها على البلاد وعلى أنفسهم وعلى بيوتهم نتيجة اضطهادهم الظَّالم . المؤامرة: وبينما لا يجد أصحاب النفوس الضعيفة غضاضةً في تبديل ولاءاتهم وقناعاتهم تبعا لتبدّل اتجاهات رياح مصالحهم بسرعة تفوق سرعة الحرباء في تبديل ألوانها ، غير مفتقرين في ذلك الى اختلاق الأعذار وتمحّل المبرّرات ، خصوصا متى كان ذلك سبيلا للتقرّب من من اصحاب السلطة والنفوذ أملا بمنصب أو جاه دنيويّ أو طمعاً بمكاسب ماديّة عن طريق صرف النفوذ أو استغلاله ، فانّ تلك الحال لم تكن حال أسرة جورج وماري حدّاد على الاطلاق ، اذ انّهم هزأوا بالمغريات ، وداسوا المصالح الشخصيّة ، قاطعين صلاتهم بذيهم ، وهؤلاء في أوج سلطانهم ونفوذهم عندما كان القاصي والداني يتمنّى التقرب منهم ونيل حظوتهم ، وفضّلوا أن يتحمّلوا أفدح الخسائر ، وأن يضحّوا بالغالي والنفيس ، من أجل مبدا الحريّة وعقيدة آمنوا بها بصدقٍ واخلاص . وعندما نفّذ المتآمرون ، بعد القائهم القبض التعسّفيّ على الدكتور داهش ، جريمة تجريده من جنسيّته وتشريده خارج الأراضي اللبنانيّة بطريقة بولوسيّة سرّيّة ، وباجراءات مخالفة للدستور والقوانين والأعراف الداخليّة والدوليّة ، وبأفعالٍ وحشيّة بربريّة ، استفظع آل حدّاد أن يقع كلّ ذلك في بلد دستوريّ ديموقراطيّ ، وأن تبقى الاستكانة مخيّمة على المسؤولين وقادة الرأي العامّ ، فكأنّ هناك مؤامرة صمت رهيبة لفّت الجميع . وقد تملّك نفس ماجدا حدّاد ، من جرّاء ذلك ، يأس جارف من القانون والعدالة في هذا البلد ، فصمّمت على الانتقام ، وعقدة النيّة تحديدا على اغتيال الشيخ بشاره الخوري الذي اعتبرته ، بحكم موقعه وما لعبه من دور أساسيّ في هذه القضيّة ، المسؤول الأوّل عن ارتكاب الجريمة في حقّ الدكتور داهش . فاحتازت مسدّسا لهذه الغاية ، وبدأت تترصّد حركات الرئيس ، وكان بامكانها الوصول اليه بسهولة لو أرادت تمحّل عذر ما ، فهو زوج خالتها . ولكن ما ان بلغ الى الدكتور داهش نبأ ما اعتزمت تنفيذه حتّى بادرها فوراً برسالة اليها بتاريخ 15 كانون الثاني 1945، ينهاها فيها عن المضيّ قدما في ما خطّطت له وعن " الاقدام على أيّ عمل عدائيّ ضدّ الشيخ بشاره أو سواه "، مثلما جاء في الرسالة . لم تستطع ماجدا تجاهل هذه الرسالة ، ولكنّ الحالة النفسيّة والعصبيّة الحادّة التي هي نتيجة تراكميّة مباشرة خلقتها سلسلة حوادث الاضطهاد المتلاحقة على مدى ينيف على سنتين جعلتها تفكّر بطريقة أخرى للانتقام من ذويها المسؤولين عن الاضطهاد ، وذلك بقتل نفسها وتحميلهم مسؤوليّة دمها المهراق احتجاجاً على ما يرتكبونه من جرم بحقّ الدكتور داهش والداهشيّين ، وتنبيها للرأي العامّ الى فداحة الظلم والطغيان الممارسين من قبل المسؤولين في هذه القضيّة .وهكذا ، ففي 27 كانون الثاني 1945 أطلقت ماجدا رصاصة على صدغها فسقطت شهيدة الظلم واضطهاد حريّة الفكر والعقيدة في هذا البلد الذي يتغنّى فيه الكتّاب والصحفيّون والسياسيّون كثيرا بحضارته العريقة ، وبالحرص فيه على الحريّة , وبأنّه ملجأ المضطهدين . انّ المسؤولين عن سلسلة الأفعال والاجراءات التعسّفيّة التي تشكّل بمجموعها تنفيذا لمؤامرة اضطهاد الدكتور داهش والداهشيّين هم المسؤولون مسؤوليّة مباشرة عن استشهاد ماجدا , لأنّ الصلة السببيّة بين أعمالهم غير المشروعة والجو الذي خلق هذه الأعمال ، والحالة النفسيّة الحادّة التي أحدثها هذا الجو في الأديبة الشابّة ماجدا ، هي التي أدّت مباشرة الى استشهادها . ومذكّرات ماجدا التي ترجمها الأديب اللبنانيّ الكبير كرم ملحم كرم من الفرنسيّة الى العربيّة ، ونشرها في مجلّته " ألف ليلة وليلة "، تشرح ذلك بوضوح تامّ." الداهشيّة تحت مجهر القانون: كثيرة هي الأسئلة التي دارت حول قضيّة تجريد الدكتور داهش من جنسيّته اللبنانيّة واحالة قيده الى سجلاّت الأجانب ، وحصراً الى التابعيّة الفلسطينيّة . فإلام استند الرئيس بشاره الخوري قانونيّاً لاصدار مرسومه المشهور؟ ولماذا تمّ ابعاد داهش الى الحدود السوريّة – التركيّة بدلا من ترحيله الى فلسطين عبر الحدود اللبنانيّة – الفلسطينيّة طالما اعتبره الرئيس الخوري من التابعيّة الفلسطينيّة ؟ وماذا كان موقف الداهشيّين ؟ وما هي الظروف التي أحاطت بانتحار ماجدا حدّاد ؟وما هي صحّة الاشاعات في تلك المرحلة ؟هذه الأسئلة حملتها " الديار" في لقائها مع المحامي فارس زعتر الذي أسهب في الردّ عليها ، وافتتح حديثه بالقول : " قبل الدخول في تفاصيل الصراع بين الرئيس الخوري والدكتور داهش وما نتج عن هذا الصراع من سجن الداهشيّين وانتحار ماجدا حدّاد ... لا بدّ من القاء الضوء أوّلا على المسألة الأساسيّة التي اتّخذها الرئيس الخوري وجعل منها " حصان طروادة " لارتكاب سابقة لم تعرف في تاريخ لبنان ، وهي تجريد انسان من جنسيّته ونفيه بلا اوراق ثبوتيّة .وهذه المسألة هي قضيّة " مناجاة الأرواح ." ويضيف المحامي فارس زعتر :" اذن قضيّة " مناجاة الأرواح " كانت الجسر الذي استعمله الرئيس الخوري للعبور الى تحقيق مؤامرته ضدّ داهش ، محاولا تغطية " السماوات بالقبوات "، كما يقولون . من هذه الزاوية سنتناول قضيّة " مناجاة الأرواح " وفق القانون اللبنانيّ ، مع العلم أنّ الداهشيّة لا تسلم بوجود علم صحيح اسمه علم " مناجاة الأرواح " ، ولا تعتقد بوجود أشخاص يتمتّعون بمزايا أو مواهب طبيعيّة تمكّنهم من اخضاع قوانين الطبيعة لارادتهم أو الاتّصال بالأرواح أو الاتيان بأعمال خارقة لقوانين الطبيعة المعروفة .فالظاهرات الروحيّة الخارقة لا تتمّ الاّ باذن وارادة الهيّين ، ولا تجريها الاّ قوّة روحيّة علويّة على يدي فرد من الناس تختاره المشيئة الالهيّة ليؤدّي رسالة روحيّة لأبناء البشر . فالأرواح ، بالمفهوم الداهشيّ ، ليست من أمر الانسان ولا تخضع لأرادته ، بل العكس تماما ، اذ هو من يخضع لسلطانها ويعمل ويتصرّف وفق ارشاداتها وتوجيهاتها ، لأنّها كائنات قديرة نقيّة الهيّة ، وهي تحيا في عوالم روحيّة أزليّة أبديّة لا يشوبها دنس ولا ضعف ولا تخالطها أيّة مادّة . لكنّ الناس يذهبون مذاهب شتّى في تفسير الظاهرات الروحيّة الخارقة وتأويلها ، حتّى لو ثبت حدوثها بالبراهين والأدلّة القاطعة الحاسمة ، وذلك تبعا لميولهم ورغباتهم ومستوياتهم الروحيّة والفكريّة وتكوينهم النفسيّ والخلقيّ والعقليّ والثقافيّ ، وسوى ذلك من المعالم التي تدخل في تشكيل درجة صفاء الرؤية أو مدى نفاذ الادراك والوعي . والقاعدة العامّة التي لا يبدو أنّ لها استثناء في التاريخ المعروف هي أنّ جميع المصلحين ، بمن فيهم الأنبياء والمرسلون والهُداة ، لاقوا مقاومات عنيفة ظالمة ، خصوصاً في مطلع عهد دعوتهم . ولم يسلم أيّ رسول أيّدته العناية الالهيّة باجتراح الخوارق والمُعجزات من شتّى التّهم الحقيرة ، بما فيها تهم السحر والشعوذة والكفر ، الاّ أنّ الغلبة في النهاية كانت دائما للحقيقة : ( فأمّا الزبد فيذهب جفاء ، وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) " سورة الرعد : 17." قانون يمنع امتهان التنجيم ومناجاة الأرواح وقراءة الكفّ وقراءة ورق اللعب والتنويم المغنطيسيّ أقرّ مجلس النوّاب ، ونشر رئيس الجمهوريّة القانون الآتي نصّه : المادّة الأولى : يمنع في أراضي الجمهوريّة اللبنانيّة امتهان التنجيم ومناجاة الأرواح وقراءة الكفّ وقراءة ورق اللعب والتنويم المغنطيسيّ وجميع المهن التي لها علاقة بعلم الغيب على اختلاف أسمائها والوسائل المستخدمة فيها . المادّة الثانية : كلّ مخالفة لهذا القانون يعاقب مرتكبها بالحبس من أسبوع الى ستّة أشهر وبجزاءٍ مقداره مائتا ليرة لبنانيّة سوريّة أو باحدى هاتين العقوبتين . بيروت في 9 أيّار 1939 الامضاء : اميل ادّه ، صدر عن رئيس الجمهوريّة الوسطاء الروحيّون: ويضيف زعتر :" وتجدر الاشارة في هذا المجال الى ما يأتي : أوّلا : انّ نطاق تطبيق قانون 9 أيّار 1939 واسع جدّا . فهو لا يقتصر على أعمال معيّنة فيه بشكل محدّد ، بل يشمل أيضا ، عملاً بصريح نصّه ، " جميع المهن التي لها علاقة بعلم الغيب على اختلاف أسمائها والوسائل المُستخدمة فيها ." يضاف الى ذلك أنّ تعبير " مناجاة الأرواح "، وان كان يتعلّق بما كان شائعاً في القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين ، خصوصاً في الغرب من زعم أناس – اطلق عليهم اسم " الوسطاء الروحيّين "- أنّهم يستطيعون الاتّصال بالأرواح في " جلسات روحيّة " مزعومة كانوا يعقدونها ، فانّه تعبير واسع يمكن استخدامه ليشمل أيّ اتّصال بالعالم الروحيّ الخفيّ المجهول وأيّة ظاهرة روحيّة خارقة ، لأنّ الظواهر الخارقة – أي المعجزات – لا تتمّ الاّ بتدخّل روحيّ وعبر اتّصال روحيّ الهيّ . وفي نهاية المطاف ليس الأنبياء والمرسلون والهداة الروحيّون الاّ وسطاء – بمعنى الواسطة والوسيلة – بين العالم الروحيّ العلويّ وعالمنا ، اذ بواسطتهم ومن خلالهم تبلّغ العناية الالهيّة كلماتها ورسالاتها لأبناء البشر . ولكنّ مفهوم هذه الواسطة أو الوساطة الروحيّة هو مفهوم دينيّ يختلف اختلافا جذريّا بيّنا عن مفهوم " الوساطة الروحيّة " في ما هو متعارف عليه في مذاهب " مناجاة الأرواح " المعروفة . ثانيا : انّ القانون اللبنانيّ ، 9 أيّار 1939 ، أو المادّة 768 من قانون العقوبات ، على حدّ سواء ، لا يمنع تعاطي " مناجاة الأرواح " أو كلّ ما له علاقة بعلم الغيب أو سوى ذلك من الأعمال المذكورة رغم أنّها من أعمال الشعوذة والدجل المعروفة ، بل يمنع فقط " امتهان " هذه الأعمال ، أي تعاطيها قصد الربح ( لقاء بدل ) . ثالثا : انّ الظاهرات الداهشيّة الروحيّة الخارقة لا تدخل في عداد الأعمال المنصوص عليها في قانون 9 أيّار 1939 ، لأنّ القوّة التي تجريها هي قوّة روحيّة علويّة مستمدّة من الخالق عزّ وجلّ ، والغاية التي ترمي اليها هي غاية سامية تهدف الى اعادة الايمان النقي بالله تعالى الى النفوس ، وبما يبشّر به الأنبياء والمرسلون جميعا . لكنّ الذين لا يستطيعون أو يرفضون الاقرار بالمصدر الروحيّ الالهيّ لهذه الظاهرات الخارقة ، وخصوصا اذا كانوا من مناوئي الدكتور داهش ، قد لا يرون حرجا على الاطلاق ، من خلال منظورهم الخاصّ ، في تصنيف هذه الظاهرات الروحيّة الداهشيّة الخارقة في عداد الأعمال المنصوص عليها في قانون 9 أيّار 1939 ، وفي ادخالها ضمن نطاق " مناجاة الأرواح " المزعومة ، مثلا ، أو ضمن نطاق الأعمال التي " لها علاقة بعلم الغيب." ويضيف زعتر : نجح مناوئو الدكتور داهش ، وبينهم ميشال شيحا وهنري فرعون والشيخ بشاره الخوري ، في المرحلة السابقة لانتخاب هذا الأخير رئيسا للجمهوريّة اللبنانيّة بتاريخ 21 أيلول من عام 1943 ، وهم على ما هم عليه من مكانة ماليّة واجتماعيّة وسياسيّة – نجحوا ، عن طريق استعمال نفوذهم في ظلّ حملة صحافيّة جانية ، في حمل المسؤولين على تحريك النيابة العامّة التي أمرت بفتح تحقيقات سريّة بحقّ الدكتور داهش ، الغاية منها التحقّق ممّا يقوم به وهل يقع تحت قبضة القوانين الجزائيّة ، وخصوصا هل كانت أعماله مخالفة لقانون 9 ايّار 1939 . وأجريت التحقيقات التي شملت مراقبة منزل الدكتور داهش بصورة سريّة ، ولكنّ نتائج جميع هذه التحقيقات المتعاقبة جاءت سلبيّة لتؤكّد أنّ الدكتور داهش لم يأت عملا يؤاخذ عليه قانونا ." افادة ماري حدّاد أمام المحقّق: يتابع المحاميان خليل وفارس زعتر مطالعتهما القانونيّة في قضيّة الدكتور داهش ومسألة مُناجاة الأرواح فيقولان : " مع تسلّم الرئيس بشاره الخوري الحكم اثر انتخابه رئيسا للجمهوريّة في 21 أيلول 1943 ، فتح ملفّ الدكتور داهش مجدّدا ، فأرسلت له الأديبة ماري حدّاد ، وهي شقيقة زوجة لور ، رسالة احتجاجيّة على التحقيقات السريّة تدعوه فيها الى وضع حدّ لها بولوج المحاكم المشرعة الأبواب . وهذا بعض ما جاء في رسالة الأديبة حدّاد : " انّ حرّيّة الدين وحرّيّة نشره حقّان معترف بهما في الدستور اللبنانيّ الذي تخضعون ونخضع نحن له . فها انّ السنّيّ والبروتستنتيّ والشيعيّ والكاثوليكيّ والدرزيّ والأرثوذكسيّ وسواهم يعيشون في هذه البلاد ، ولم يخطر على بال أيّ رئيس حكومة ان يضطهد ايّا منهم لأنّهم لا ينتمون لعقيدته الدينيّة . وها انّ الدعاية البروتستنتيّة منتشرة في طول البلاد وعرضها ، ولم يجرؤ ايّ من رؤساء الحكومة اللبنانيّة الكاثولوليكيّة على منعها ، اذ انّ هؤلاء الرؤساء يعرفون انّ هذا التعدّي يكون اهانة لبلادهم وصفعة في وجه القانون . " وانّ الداهشيّة ستعيش وتنمو في لبنان وخارج لبنان رغم جميع المحاولات لقمعها والوقوف دون انتشارها ، فيجب أن تعلموا ذلك ! " واذا كانت يد الأقدار قد اجلستكم على كرسيّ الرئاسة لوقت معيّن ، فاعلموا أنّه من الخطأ الظنّ بأنّ الرئاسة أعطيت لكم لتتصرّفوا كما تشاؤون لاشباع الضغينة التي في قلبكم ضدّ الدكتور داهش . فانّ الدستور يحمي المعتقدات ، ونحن من الذين يجاهرون بفاعليّة القانون ، ويطالبون بتطبيقه بالحرف الواحد . " فانّ للدكتور داهش ولأتباعه ، من أفراد وجماعات ذوي مكانة اجتماعيّة ، هدفا دينيّا نبيلا هم أحرار في اعتناقه ونشره ، وليس لأحد سلطة عليهم البتّة ما داموا سائرين في دائرة الحقّ والعدل ، وما دام القانون يضمن حريّة المعتقدات والأديان اليوم وغدا والى ما شاء الله . " فكفى استجوابات سريّة ومحاولات فاشلة . فان كان لكم على الدكتور داهش أيّ لوم ، فها انّ المحاكم مفتوحة ، والقانون صريح ، والحقوق مصونة ، ولا داعي للاستجوابات الغافلة بين الجدران الصامته ." يضيف زعتر : " التحقيقات الجديدة تولاّها مدير البوليس العدليّ ، ادوار أبو جودة ، بنفسه ، ورغم أنّ غايتها لم تكن مختلفة عن غاية سابقاتها ، الاّ أنّها كانت أكثر اتّساعا ، وكادت تتناول حياة الدكتور داهش ونشاطاته بجوانبها كافّة . ولكنّ نتيجتها ، مع ذلك ، لم تأت مختلفة عن النتيجة التي اقترنت بها التحقيقات السابقة . وبالتالي فهي لم تؤدّ الى ما كان يامل ويتمنّى محرّكوها أن يحصدوه منها . ونكتفي ، فيما يلي ، بعرض نصّ الافادة التاريخيّة التي أعطتها السيّدة ماري حدّاد ردّا على اسئلة مدير البوليس العدليّ ، ادوار أبو جودة : افادة السيّدة ماري حدّاد الداهشيّة: " حدّثنا بعض الثقات بأخبار الدكتور داهش وأخبار مُعجزاته ، فقمنا بزيارته . " ولقد كان يتجاذبني الايمان والارتياب في الوقت نفسه . " أمّا الايمان ، فلأنّ كلّ ما في الحياة ، اذا نظرنا فيه قليلا ، مُعجزة : الحبّة النامية ، والكهرباء صنيعة العلم ، والولادة ، والحياة ، والموت .... " وأمّا الارتياب ، فلأنّه ( أي الارتياب ، وهو تقدير الشرّ قبل الخير ) حصيلة الاختبار الطبيعيّة والضروريّة . " فهل في هذا العصر الذي يسوده فيه المال العالم ، ويتمتّع أخسَّ الناس ، اذا كان غنيّا ، باحترام الجميع – هل فيه من يتعالى عن المال والمكانة الاجتماعيّة وما اليهما ؟ هذا ما أجهله . " يبدو المنحى الروحيّ في الحياة ، بل أيّ مثل أعلى ، موضع ازدراء ، فلا يتّصف به الاّ أناس مفتقرون الى العقل السليم . ولكن ، ها انذا أمام حدث فريد . " ذلك أنّ الدكتور داهش ظاهرة تتحدّى هذا العصر . فهو يعيد القيم الى منازلها ؛ وهذا أمر غريب غير متوقّع ، ولكنّه ثابت . " يعتمد الدكتور داهش على الانجيل ، بل هو الانجيل مجسّداً . " كنّا ، ولا ريب ، نعرف هذا الكتاب ، ونعدّه عملا الهيّا فذّاً رائعاً . لكنّ معرفتنا به لم تكن كافية لتجعل حياتنا موافقة له . ولذلك نحن موقنون بأنّ الدكتور داهش رجل الانجيل . " ثمّ سرعان ما نجد أنفسنا امام قوّة تفوق الطبيعة ، فنشاهد المُعجزات الانجيليّة تحصل ثانية : تحويل الماء الى خمر ( وهو معجزة يسوع الأولى ، وبسببها آمن بها الجميع ) ، وتكثير الخبز والسمك . " لقد شاهدنا شتّى أنواع التكثير ، كما شاهدنا معجزات شفاء ، وتحقّق نبوءات . " ثمّ انّه لا شيء ، ههنا ، بخافٍ : لا الفكر ، ولا الحاضر ، ولا المستقبل . " وما ثمّة مسافات ، ولا صناديق حديديّة مقفلة . " وقد شاهدنا كيف تحلّ الرزايا بمن يفترون عليه . " كما شاهدناه يتحكّم بعناصر الطبيعة تحكّمه بالموت والحياة . " لقد عرفنا الدكتور داهش بما يقوله ، وما يكتبه ، وما يؤلّفه ، وما يأتيه من مُعجزات ، وما يقيمه مع الناس من صلات . " اذا تكلّم ، انهارت الحجج أمام حجّته . فقد شاهدته في لفيف من الجهابذة والأدباء والصحافيّين والمتبحّرين في الثقافة ، فاذا كلّهم مُعجبٌ به ، وصغير جدّاً في حضرته . كانوا يطلبون الاستنارة بشروحه ، فكان يمدّهم بها في بساطة غاية في الاتّضاع والكمال . " انّه ، في سموّ مقاصده وما يتّصف به فكره من نبل وصفاء ، أسمى تعبير عن العبقريّة . والى ذلك ، فلا يمكن أن يكون في الناس من يفوقه موضوعيّة وواقعيّة عمليّة ، ذلك أنّه يجعلنا نعرف ونقدّر الأمور ؛ وهي أمور خالدة، لا فانية . " وهو ، في ما يعلّمنا ايّاه ، انّما يدعنا نلمس حقيقة الروح لمس اليد ، فيشرع لنا نافذة عريضة على العالم الثاني الذي يتعذّر حتّى الآن ارتياده. " واذا نحن آمنّا به ، فلأنّ في متناولنا البراهين الملموسة القاطعة على صحّة رسالته ؛ والاّ فما بالنا لا نكتفي بالكهنة والأحبار ، وهم أيضا يدّعون الاعتماد على الانجيل ! " بيدَ أنّ هذا الحجاب ، على جماله ، لن يستر أكاذيبهم وأعمالهم المخالفة لدعوة السيّد المسيح . " انّنا لم نألف التجرّد من المكاسب المادّيّة ، اذ انّ كلّ شيء مدفوع ثمنه ، وبخاصّة في كنيسة روما ، كغفران الخطايا ، والألقاب ، والتحليلات في مختلف أنواعها . "اذا ، عندما نعرف شخصيّة الدكتور داهش ، تسقط شتّى المحاذير والشكوك والظنون من تلقاء نفسها ، ويعترينا الخجل ممّا يراودنا ، في هذا السبيل ، من أفكار خبيثة . " انّما الدكتور داهش مُعجزة هذا العصر . فما من تجسّد انسانيّ في مثل هذه العظمة منذ عهد السيّد المسيح . " لقد قضى بضعة أشهر من حياته فقط في مدارس وضيعة ، في غزير وصيدا ، فلم يحصّل تعليماً ؛ فهو على حدّ قوله ، ابن الحياة . " ومع ذلك ، فانّ مؤلّفاته تناهز التسعين . وهي صرح عظيم يفي بشرح شخصيّته . ألّفها في سرعة مُذهلة ؛ وأنا عاينته في ساعات الهامه ويراعته كأنّها تطير على الطّرس . " لقد كنّا شهودا لحياته اليوميّة ؛ وعددنا كبير . فقد خبرناه ، ودرسناه فاطّلعنا في شأنه على كلّ شيء منذ ساعة مولده . " فالمُعجزات لم تفارقه قطّ . وكلّ ما يتّصل به مدوّن منذ عامه الثاني عشر ؛ مدوّن يوماً فيوماً ، في كلّ دقيقة . " أمّا تعاليمه ، فحصيلتها انتفاء الشكّ والسكينة النفسيّة واليقين بما ينتظرنا بعد الموت . واذا بنا نرتفع فوق كلّ الصغائر ، وما كان بالأمس ذا شأن عندنا ينقلب لا شأن له . فما ثمّة هموم ، بل حياة سعيدة – اذا صحّ أنّ في الأرض سعادة . " أمّا اذا انتقلنا الى حيّز العلم ، فالدكتور داهش هو المعهد الحقيقي الوحيد . فلقد تأتّى لنا على يديه وحي في شتّى ميادين العلم : في التاريخ منذ أصل الأرض ، وفي علم النجوم ، وفي الطبّ وأسباب الأمراض وأسباب شفائها ، وفي أسرار الحياة والموت – وهي أسرار لا يمكن أن تراود فكرنا . بيد أن ساعة نشر ذلك كلّه لم تحن بعد . " فلو كانت حكومتنا حكومة مستنيرة ، لأدركت انّ في شخص الدكتور داهش طاقات لا تقدّر ولا تحدّ أبعادها ، ولسَعَت الى الانتفاع بها من قبل أن تسبقها أمم ناهضة الى تجديد قواها بتلك القوّة الخارقة التي لم تكن متوقّعة حتّى الأمس القريب ، تلك القوّة التي ينحني أمامها كلّ شيء ، كلّ شيء بلا استثناء ، لأنّها قوّة الله . " على أنّني لا أرثي فقط لمن يفترون عليها ، بل لمن يقفون منها موقف الحياد ، فلا يسلكون في ركبها . ولكن اذا صحّ اليوم ألاّ نبيّ في وطنه ، فانّنا لمكذّبون يوماً هذا القول . " واذا سألتني كيف يعيش الدكتور داهش ، أجبتك أنّني رأيت عنده من الأموال أكداساً اكداسا ، وربّما عزّ على أيّ مصرف أن يحوز مثلها . " وقد رأيته يسخو على الفقراء ، ولكنّه يقتصد على نفسه . بيروت 23 شباط ( فبراير ) 1944 مواقف النوّاب من قضيّة داهش: عجزت السلطات اللبنانيّة عن ايجاد ايّ مخالفة قانونيّة ارتكبها الدكتور داهش ، كما يقول الأستاذ فارس زعتر ، في مرحلة الأربعينيّات . وعندما وجد الرئيس الخوري نفسه على واجهة الافلاس ، أصدر مرسومه الظالم بنفي الدكتور داهش من لبنان مخالفاً جميع الشرائع المعمول بها في جميع الدول والبلدان في العالم . ويضيف زعتر : " افادة السيّدة ماري حدّاد أوضحت بجلاء كلّيّ حقيقة الظاهرات الداهشيّة الروحيّة الخارقة ، وماهيّة القوّة الروحيّة التي تجريها ، ومصدرها العلويّ الالهيّ ، وغايتها السامية ، وأنّ القضيّة هي قضيّة روحيّة ومعتقد ومدرسة فكريّة اصلاحيّة جديدة ، وأنّها أرفع كثيرا وأبعد ما تكون تفاهة وسخافة ما كان مناوئو الدكتور داهش يأملون تحقيقه عن طريق التحقيقات المزعومة . أدرك رئيس الجمهوريّة بشاره الخوري والمتحالفون معه في هذه القضيّة انّ التحقيقات التي كانوا وراءها ، والتي شارفت منتهاها ، مصيرها كمصير سابقاتها ، وانّها أدّت الى عكس النتيجة التي كانوا يأملونها ويرجونها . كما أدركوا أنّه لا يمكن النّيل من الدكتور داهش بواسطة الاجراءات القانونيّة أو القضائيّة ، مهما أسيء استعمالها ، في حالة التشريع اللبنانيّ الساري والأنظمة المشروعة النافذة . وبما أنّ غايتهم لم تكن أبدا دراسة الظاهرة الروحيّة الداهشيّة ، ولا تفهّم حقيقتها ، ولا احترام حرّيّة الناس وحقّهم المشروع بدراستها والتعرّف عليها ،أو حريّة الدكتور داهش وحقّه في الفكر والعقيدة والتعبير ، بل كانت غايتهم الحقيقيّة منع الظاهرة الروحيّة الداهشيّة، وقمع انتشارها تحت ستار شرعيّ ، لذلك ، بعد أن تأكّد لهم أنّه من المستحيل امكان التوصّل الى تجريم الدكتور داهش في ظلّ التشريع السائد المعمول به ، عمدوا الى اقتراح مشروع قانون يعدّل أحكام قانون 9 أيّار 1939 ، ويستبدل بها أحكاماً تجعل الأعمال المنصوص عليها فيه محظّرة تحظيراً مطلقاًً مهما كانت الغاية من اجرائها ، سواء أكانت " ببدل أو بغير بدل ". وقد أحال رئيس الجمهوريّة ، بشاره الخوري ، مشروع القانون الذي أقرّه مجلس الوزراء الى المجلس النيابيّ بموجب المرسوم رقم 790 ، تاريخ 1/3 /1944 ، وعرض على لجنة العدليّة لدراسته واقراره قبل عرضه على المجلس النيابيّ في جلسة علنيّة . وفيما يلي نصّ مشروع القانون المذكور المؤلّف من ثلاث مواد : المادّة الأولى : يمنع في أراضي الجمهوريّة اللبنانيّة امتهان التنجيم ومناجاة الأرواح وقراءة الكفّ وقراءة ورق اللعب والتنويم المغنطيسيّ وجميع المهن التي لها علاقة بعلم الغيب على اختلاف أسمائها سواء كان هذا الامتهان ببدل أو بغير بدل . المادّة الثانية : كلّ مخالفة لهذا القانون يعاقب مرتكبها بالحبس من شهر الى ثلاث سنوات ، وبجزاءٍ نقديّ من مئتي ليرة الى ألفي ليرة أو باحدى هاتين العقوبتين . اذا رافق هذا الامتهان أعمال تمسّ بالآداب والأخلاق ، فلا يمكن أن يكون الحدّ الأدنى اقلّ من سنة حبس ، فضلا عن العقوبة المنصوص عنها في قانون الجزاء لمثل هذه الأعمال . المادّة الثالثة : ألغيت جميع الأحكام المخالفة لهذا القانون والتي لا تتّفق مع مضمونه ، وبصورة خاصّة القانون الصادر في 9 أيّار سنة 1939 . لم يكن القصد الحقيقي من وراء مشروع القانون هذا سرّاً خفيّاً على أحد ، بل كان معلوماً لدى الجميع ، داهشيّين وغير داهشيّين ، أنّه يستهدف الدكتور داهش بعد أن أثبتت التحقيقات المتعاقبة أنّه لا يبتغي ربحا ولا يتقاضى بدلا من اجرائه لأعماله الروحيّة الخارقة ، وبالتالي فقد كان مستحيلا اتّهامه أو توقيفه أو محاكمته أو الحكم عليه أو منعه من اجراء ظاهراته الخارقة في ظلّ قانون 9 أيّار 1939 . ولذلك فقد وسّع مشروع القانون الجديد نطاق المنع وجعله عامّاً مطلقاً بنصّه على منع تعاطي " مناجاة الأرواح " وكلّ ما له علاقة بعلم الغيب والأعمال الأخرى المعيّنة فيه سواء كان تعاطيها " ببدل أو بدون بدل ،" مثلما جاء حرفيّا في نصّه ، إضافة الى تشديده العقوبة .والنتيجة العمليّة الوحيدة لمشروع القانون هذا ، في حال أنّ المجلس النيابيّ وافق على اقراره ، هو منع الظاهرة الروحيّة منعاً تامّا ، مهما كانت الغاية التي تهدف اليها ، حتّى لو أجري لأشرف الأهداف وأسماها كالتنقيب العلميّ مثلا ، أو الاصلاح الخلقيّ والروحيّ ، أو اثبات الحقائق الروحيّة التي شغلت الفلاسفة والحكماء والعلماء والمفكّرين منذ أقدام العصور ، اذ يكفي أن تعتبر السلطة ، أو مُتسلّم السلطة ، أو الموظّف صاحب الصلاحيّة ، أنّ الظواهر الروحيّة الخارقة التي تتمّ على يدي الدكتور داهش مثلا تدخل في نطاق " مناجاة الأرواح " أو في نطاق الأعمال التي " لها علاقة بعلم الغيب "- وفق فهم المسؤول لهما أو تبعا لما يريد أن يفهم – لكي يلقي القبض عليه بتهمة ارتكاب جرم تعاطي هذه الأعمال ، مهما كانت الغاية من تعاطيها ." الأنبياء والاتّهامات: ويضيف زعتر :" فضلا عن ذلك ، وعلى سبيل المثال لو افترضنا جدلا أنّ مشروع القانون المذكور الذي أحاله الرئيس بشاره الخوري الى مجلس النوّاب بموجب المرسوم 790 /44 كان قانونا ساريا ومعمولا به زمن السيّد المسيح ، فهل كان هيرودس ومن ورائه هيروديا وأرهاط رجال الدين اليهوديّ المناوئين للسيّد المسيح ، والمعنيّين بالمحافظة على سلطاتهم ، والمتقوقعين في تعصّبهم ، والمحمومين بعدائيّتهم لابن السماء ، المصلح العظيم ، واللذين لم يتردّدوا عن اتّهامه بالسحر وبأنّه بروح رئيس الشياطين يخرج الشياطين ، وبمعاشرة الزناة والخطأة ، وبمخالفة وصايا موسى النبيّ والتجديف والكفر – هل كانوا يتردّدون لحظة واحدة عن اتّهام السيّد المسيح ، إضافة الى اتّهاماتهم الأخرى ، بجرم مخالفة القانون الذي يمنع مناجاة الأرواح وكلّ ما له علاقة بعلم الغيب ، واعتبار ظاهراته الروحيّة الخارقة امّا من قبيل " مناجاة الأرواح " أو من قبيل الأعمال التي لها علاقة بعلم الغيب ؟ فلو كانوا يؤمنون بأنّ مصدر معجزاته وعجائبه قوّة روحيّة علويّة مستمدّة من الله عزّ وجلّ لما اضطهدوه ، ولما عذّبوه وحكموا عليه بعقوبة الاعدام صلباً كمجرمٍ مع المجرمين . فيا للعار ويا للمهزلة ! من جهة أخرى , بالإضافة إلى أنّ مشروع القانون هذا مخالف لمبادئ أساسيّة في الدّول الدستوريّة الديموقراطيّة تتعلّق بالحرّيّة الشخصيّة وحريّة الفكر والاعتقاد وحريّة البحث والتنقيب العلميّين في جميع المجالات , بما فيها المجال الروحيّ , كما هو مخالف لمبدإ افتراض حسن النيّة في الأعمال حتّى إثبات العكس مّمن يدّعيه , فإنّ اللجوء إلى سنّ قانون ليكون أداة لمعاقبة فرد والانتقام منه يعتبر من أبشع صور الطغيان والديكتاتوريّة المقيتة المخالفة لروح التشريع والغاية منه . رافق إحالة مشروع القانون إلى المجلس النيابيّ تحريك حملة صحافيّة جانية من الافتراءات والأكاذيب بحقّ الدكتور داهش غايتها خلق حاجة مُصطنعة لإقرار المشروع والضغط على النوّاب للقيام بذلك . وبالمقابل, قامت جماعة من أصدقاء الدكتور داهش ومحبيّه بتقديم عريضة احتجاجيّة الى المجلس النيابيّ ضدّ المشروع المذكور , محذ ّرين فيها من اعتماده بسبب مخالفته أبسط المبادئ الديمقراطيّة في حريّة البحث والفكر والاعتقاد , ولأنّه لا يستهدف إلاّ فرداً واحداً هو الدكتور داهش . وجرى توزيع هذا الاعتراض على النوّاب . وقد أحدث مشروع القانون ضجّة في صفوف النوّاب , فقام رئيس المجلس النيابيّ , آنذاك , السيّد صبري حماده , يرافقه النائب أديب الفرزلي , بزيارة الدكتور داهش في 23 آذار 1944 , وكانت دارته تغصّ بجمهورٍ من الشخصيّات والنوّاب الآخرين . وفي تلك الزيارة شاهد المجتمعون ظاهرات روحيّة خارقة لقوانين الطبيعة . ورغم الضغوط الشديدة التي لا بدّ من ان يكون مقدّمو مشروع القانون قد مارسوها على النوّاب ، فانّ هؤلاء امتنعوا عن مماشاتهم لأنّ لامنطقيّة المشروع الصارخة وهدفه المفضوح يجعلان من اقراره فضيحة ، ومن الموافقين عليه اضحوكة . وربّما كان الانتقاد العنيف الذي وجّهه اليه النائب جبرائيل المرّ معبّرا عن الجوّ العامّ لدى النوّاب ، اذ قال :" انّ مشروع قانون منع قراءة الأفكار ومناجاة الأرواح والتنويم المغنطيسيّ مشروع سخيف لا يمكن اقراره ، اذ لا المجلس النيابيّ ولا القوّات البشريّة يمكنها أن تقف أمام العلم وأمام تطوّره الروحاني ." وبالنتيجة ، لم يخرج مشروع القانون من دائرة لجنة العدليّة ، بل ظلّ عالقاً فيها عدّة أشهر ، الأمر الذي اضطرّ الحكومة أخيرا الى سحبه . وبذلك ، حصد الرئيس بشاره الخوري والمتحالفون معه في هذه القضيّة خيبة مريرة ، وأصيبوا بهزيمة لم يكونوا يتوقّعونها . يمثّل اقتراح مشروع القانون المعروض أعلاه المحاولة القصوى التي لجأ اليها خصوم الدكتور داهش في مخطّط منع الظاهرة الروحيّة الداهشيّة الخارقة من خلال تسخير القانون واستخدامه أداة قمعيّة لمآربهم وغاياتهم الشخصيّة .فمشروع القانون هذا هو مرآة تعكس بوضوح كلّيّ نيّاتهم ومقاصدهم وتعرّيها تعرية تامّة . وبفشل هذه المحاولة لم يبق أمامهم ، تحقيقا لما لم يستطيعوا تحقيقه تحت ستار التغطية القانونيّة مهما كانت واهية ، الاّ ولوج الطرق غير المشروعة بشكل سافر حتّى لو كانت التغطية لها غير مشروعة بحدّ ذاتها ولا تستند حتّى ظاهريّا الى أيّ قانون . وكان منهم ، في تلك المرحلة من القضيّة ، من لم يتورّع عن الدعوة الصريحة ، على صفحات الجرائد ، الى خرق القانون ومخالفته اذا كان ذلك ضروريّا للنيل من الدكتور داهش . فهل هناك احتقار أكبر للدستور والقانون ولارادة الشعب اللبنانيّ ولجميع القيم الديمقراطيّة من تلك الدعوة التي تظلّ في مطلق الأحوال أقلّ خطورة من أعمال المسؤولين الذين تصرّفوا وفقا لها ، فتمّ ما تمّ من اعتداء على الدكتور داهش واعتقال اعتسافيّ له ، وهو الضحيّة بينما تُرك الجُناة احرارا، ثمّ جرّد سرّا من جنسيّته اللبنانيّة وشرّد بوسائل مخالفة للدستور وللقوانين والأعراف الداخليّة والدوليّة ولأبسط المبادىء الانسانيّة والقانونيّة ، بل حتّى لمبادىء العدالة الطبيعيّة البديهيّة ، وبوحشيّة لم يسبق لها مثيل ، على ما سنوضّحه في الفصل التالي ؟ في دعوى الابطال لتجاوز حدّ السلطة التي قدّمها وكلاء الدكتور داهش القانونيّون الى مجلس شورى الدولة اللبنانيّ ، بتاريخ 4 تشرين الثاني 1944 ، ضدّ الحكومة اللبنانيّة طعناً بمرسوم اخراجه من الأراضي اللبنانيّة ( المرسوم رقم 1842k تاريخ 8/9/1944 ، ) وجّه هؤلاء الوكلاء اتّهاماً صريحاً ومباشراً الى الحكومة اللبنانيّة مفاده أنّها " عندما لم تنجح باستصدار القانون الذي فكّرت باستصداره ، وهو مشروع قانون منع مناجاة الأرواح الذي لم يكن المقصود منه سوى منع الدكتور داهش من اجراء ظاهراته الروحيّة الخارقة ، لجأت الى وسائل أخرى مخالفة للقانون للوصول الى هذه الغاية ،" مثلما جاء حرفيّا في الصفحة الأولى من استدعاء الدعوى . وبعد أن بيّن وكلاء الدكتور داهش أوجه اللامشروعيّة التي تعتور مرسوم الابعاد ، والكافية بحدّ ذاتها لابطاله ، مضوا على سبيل الاستطراد والافاضة في البحث الى التأكيد في صفحة 5 من استدعاء الدعوى بأنّه : " لا يمكن القول بأنّ وجود الدكتور داهش في الأراضي اللبنانيّة هو خطر على الأمن ما لم يرتكب جرماً أو يكن ممّن اعتادوا الجرائم ويخشى أن يكرّروها . وفخامة رئيس الجمهوريّة لم يقل ، في مرسوم الابعاد ، انّ الدكتور داهش قد ارتكب جرماً أو أنّه من المجرمين المُخيفين . ولكنّه قال : "انّ وجوده في الأراضي اللبنانيّة من شأنه احداث اضطراب واخلال في السكينة العامّة ،" دون بيان ايّ سبب كان يحمل على التسليم بصحّة هذا الزعم . ولا يسع فخامة رئيس الجمهوريّة أو غيره ان يقول بأنّ الدكتور داهش قد اقترف جرماً أو أتى حركة مخلّة بالنظام أو الأدآب الاّ اذا اعتبرت مناجاة الأرواح جريمة او عملاً مخلاّ بالنظام أو الآداب ، وعوقب بالابعاد لأنّه وسيط روحانيّ يتّصل بالأرواح . وهذا ما لا يمكن التسليم به ." لم تستطع الحكومة اللبنانيّة أن تقول ، بواسطة ممثّلها القانونيّ في ردّها على هذا التحدّي الصريح الوارد في الدعوى المذكورة أعلاه ، انّ الدكتور داهش قد اقترف جرماً ما أو انّه أتى حركة مخلّة بالنظام أو الآداب ، وهذا كاف بحدّ ذاته لدحض جميع الافتراءات والتخرّصات المغرضة التي ملأ بها خصوم الدكتور داهش صفحات جرائدهم الصفراء . والغريب أنّ الحكومة اللبنانيّة اعترفت في ردّها ذاك بأنّ مبرّر ابعاد الدكتور داهش عن لبنان هو ممارسته لما تسمّيه " مناجاة الأرواح " وبالتالي فغاية الابعاد لم تكن الاّ منعه من اجراء ظاهراته الروحيّة في الأراضي اللبنانيّة . والحكومة اللبنانيّة باعترافها هذا انّما تعترف بمخالفتها لأحكام قانون 9 أيّار 1939 ، المتعلّقة ب" مناجاة الأرواح " و" كلّ ما له علاقة بعلم الغيب"، ذلك القانون الذي عجزت عن اتّهام الدكتور داهش بمخالفته ، كما تعترف في الآن نفسه بمخالفتها للمبدأ – القاعدة في النّظم الديمقراطيّة الحديثة ، ألا وهو مبدأ شرعيّة الجرائم والعقوبات . فالحكومة اللبنانيّة بابعادها للدكتور داهش بحجّة ممارستها لما تسمّيه " مناجاة الأرواح " تكون قد أنزلت به عقوبة من دون محاكمة ومن أجل أعمال يبيحها القانون ولا يعاقب عليها الاّ اذا كانت غايتها الكسب المادّيّ ، وهو ما لم تستطع اتّهامه به أو تقديمه للمحاكمة من أجله . ولا يمكن اعتبار المرء مخلاّ بالنظام العامّ اذا كان يمارس حقوقه وحرّيّاته القانونيّة في حدود القانون وأحكامه . الحقيقة: هذه هي حقيقة مسألة " مناجاة الأرواح " في القانون اللبنانيّ ، وحقيقة الدوافع والأسباب لاثارتها في قضيّة الدكتور داهش . واذا كان محامو الدكتور داهش أو بعض أصدقائه ومريديه قد لجأوا الى تذكير الحكومة اللبنانيّة بموقف الحكومات ، في الدول الديمقراطيّة المتقدّمة ، من البحوث النفسيّة والروحيّة ، وباطلاقها الحرّية لها ، وبأنّ هناك علماء مرموقين اهتمّوا بالبحث في ميدان الشؤون النفسيّة والروحيّة الماورائيّة وبدراسة الظاهرات الروحيّة و" مناجاة الأرواح " ، فما ذلك الاّ لايقافها عن متابعة اضطهاد الدكتور داهش والظاهرة الروحيّة الداهشيّة ، وبالتالي حفاظاً على حقّ الدكتور داهش وحرّيّته في اجراء ظاهراته الخارقة في اطار القانون ، وتأمينا لحقهم وحقّ كلّ باحث عن الحقيقة في دراسة هذه الظاهرات الروحيّة الداهشيّة الخارقة . ولا ينتقص من حجّة أنصار الدكتور داهش أو محبيّه ، اذا كان بعضهم يؤمن حقّا بامكان " مناجاة الأرواح " التي تنفيها العقيدة الداهشيّة نفياً قاطعا ، أو يعتقد فعلاً بوجود علم صحيح اسمه علم " مناجاة الأرواح " ، اذ انّ المسألة المطروحة لم تكن مسالة صحّة " مناجاة الأرواح " بشكلٍ عامّ أو صحّة وجود علم صحيح اسمه علم " مناجاة الأرواح " بل المسألة المطروحة هي مسألة حقّ الدكتور داهش المشروع باجراء ظاهراته الروحيّة الخارقة في ظلّ التشريع المعمول به . والأمر المهمّ أنّ الحكومة عجزت بتحقيقاتها المتكرّرة عن تقديم الدليل على مخالفة الدكتور داهش لقانون 9 أيّار 1939 ، أو أيّ نصّ قانونيّ قضائيّ آخر ، لأنّ الظاهرة الروحيّة الداهشيّة لا تقع تحت قبضة القوانين السارية ، وهي ظاهرة واقعيّة ملموسة . أمّا أمر تفسيرها وتحديد مصدرها ، فمتروك للباحث ولمدى تجرّده ، يمارس في ذلك حقّه ، في اطار الحريّة المعترف له بها قانونا بموضوعيّة ومن دون الانحدار الى السفاسف وتفاهات التهجّم الرخيص والآراء الاعتباطيّة التي لا تستند الى دليل ، والتي قد تعبّر عن عمى تعصّبيّ أو مركّبات نقص وأمراض نفسيّة متأصّلة لدى بعض الحاقدين ." المرسومان 1822 و1842 والمخالفة الصارخة: يتابع المحاميان خليل وفارس زعتر مطالعتهما القانونيّة في قضيّة الدكتور داهش معتبرين انّ تجريده من الجنسيّة اجراء تعسّفيّ أقدمت عليه السلطة اللبنانيّة آنذاك ، اذ قام الرئيس بشاره الخوري باصدار المرسوم رقم1822 في أيلول 1944 ، وقضى فيه باسقاط الجنسيّة اللبنانيّة عن داهش وابعاده خارج الحدود ، مغتصباً بذلك مبدأ الفصل بين السلطات ، ضاربا بالسلطة التشريعيّة عرض الحائط ، وكذلك بالدستور اللبنانيّ وبالمادّة السادسة التي تنصّ على الجنسيّة اللبنانيّة وطريقة اكتسابها وحفظها وفقدانها ، فيقولان : " ما يؤكّد أنّه لم يعتقل الاّ لتنفيذ مؤامرة لتجريده من جنسيّته وتشريده خارج لبنان هو أنّ معاملة التجريد من الجنسيّة بدأت بصورة سرّيّة بتاريخ القاء القبض عليه في 28 أب 1944 . وعندما صدر قرار الإبعاد بصورة سرّيّة أيضا ، استردّت مذكّرة التوقيف في 9 أيلول 1944 . الاّ أنّ قرار استردادها لم يعرف به الدكتور داهش أو ممثّلاه القانونيّان، بل سلّم الى رجال البوليس الذين حضروا في الساعة العاشرة ليلا الى " سجن الرمل " ، فأخذوا الدكتور داهش تنفيذا لاخراجه من البلاد. وخلاصة الأمر أنّ الرئيس بشاره الخوري أصدر في 6 أيلول 1944 المرسوم رقم 1822 الذي يعطي ، بموجبه مثلما جاء في نصّه حرفيّا : "لرئيس دوائر النفوس أن يشطب القيود المدرجة بغير حقّ بعد اجراء التحقيق وأخذ موافقة وزير الداخليّة ." ومع انّ المراسيم التي لها شكل المراسيم العامّة لا تنفّذ ، وبالتالي لا تصبح سارية المفعول الاّ بنشرها في الجريدة الرسميّة ، ومن تاريخ هذا النشر ، فانّ المرسوم 1822 الذي صدر بتاريخ 6 أيلول 1944 " بصيغة " المراسيم العامّة لم ينشر في الجريدة الرسميّة الاّ في 13 أيلول 1944 ، ومع ذلك فقد طبّقه رئيس دوائر النفوس على الدكتور داهش في اليوم التالي لصدوره ، أي في 7 أيلول 1944 ، قبل ستّة أيّام من نشره ونفاذه . هذا التطبيق الباطل قانوناً لمرسوم باطل شكلاً وأساساً يؤكّد أنّ المرسوم 1822 قد صدر ليطبّق خصّيصاً على الدكتور داهش . وفي اليوم التالي مباشرة لتطبيق رئيس دوائر النفوس في 7 أيلول 1944 للمرسوم 1822 ، الصادر في 6 أيلول 1944 ، أصدر الرئيس بشاره الخوري المرسوم 1842 ، بتاريخ 8 أيلول 1944 ، يأمره فيه باخراج الدكتور داهش من " أراضي الجمهوريّة اللبنانيّة ". وفي 9 أيلول 1944 ، وهو اليوم التالي مباشرة لصدور مرسوم الاخراج من البلاد ، رقم 1842 ، تاريخ 8 أبلول 1944 ، استردّت مذكّرة توقيف الدكتور داهش بالقرار رقم 940 /235 ، وسلّمت مذكّرة الاسترداد الى عناصر الشرطة المكلّفين بتنفيذ مرسوم الاخراج من البلاد . فحضروا ليلا الى " سجن الرمل " – باستيل لبنان – وبمخالفة صريحة لقوانين السجون وأمكنة التوقيف ، أخذوا الدكتور داهش لا ليطلقوا سراحه عملاً بقرار استرداد مذكّرة التوقيف ، بل لاخراجه من البلاد وتشريده عملاً بمرسوم الاخراج رقم 1842 . ومع أنّ هذا المجال ليس المجال المناسب لاجراء دراسة قانونيّة للاجراءات المذكورة أعلاه ، لا بدّ لنا ، توخّياً للفائدة ، من الادلاء ببعض الملاحظات الايضاحيّة على سبيل المثال لا الحصر : مخالفة المبادىء والقوانين: أ – انّ المرسوم 1822 ، تاريخ 6 أيلول 1944 ، مخالف بصورةٍ صريحة للمادّة السادسة من الدستور اللبنانيّ التي هي أولى مواد الفصل الثاني من الدستور المتعلّق بحقوق اللبنانيّن وواجباتهم ، والتي تنصّ : المادّة 6 : انّ الجنسيّة اللبنانيّة وطريقة اكتسابها وحفظها وفقدانها تحدّد بمقتضى القانون ." فالمرسوم 1822 ليس قانونا ، بل هو مرسوم تنظيميّ ، من حيث الشكل على الأقل . وهو بنصّه على طريقة لفقدان الجنسيّة اللبنانيّة يكون مخالفا للمادّة 6 من الدستور . ب – المرسوم 1822 مخالف لمبدأ فصل السلطات ، ويشكّل اغتصاباً لصلاحيّة السلطة الاشتراعيّة ولمبادىء أساسيّة في الدول الحديثة تجعل حقوق المواطنين وحرّيّاتهم في حمى القانون والقضاء ، وهذا ما أكّده مجلس شورى الدولة في قراره رقم 29 ، تاريخ 12 حزيران 1945 ، في هذه القضيّة . ج – المرسوم 1822 مخالف للمبادىء القانونيّة العامّة وللقوانين والأنظمة التي ترعى مناعة قيود سجلاّت الاحصاء والأحوال الشخصيّة ، والتي بموجبها يحظّر على الادارة أن تغيّر في قيود السجلاّت التي تمثّل حقوقا مكتسبة لأصحابها الاّ بواسطة أحكام قضائيّة تصدر وفق الأصول والاجراءات القضائيّة المرعيّة ، وبعد تأمين جميع الضمانات لأصحاب العلاقة . د –انّ صدور المرسوم 1822 في 6 أيلول 1944 ، وتطبيقه في اليوم التالي لصدوره ، أي في 7 أيلول 1944 ، من قبل رئيس دوائر النفوس على الدكتور داهش ، قبل ستّة أيّام من تاريخ نشره في الجريدة الرسميّة ، ونفاذه في 13 أيلول 1944 – كلّ ذلك يؤكّد أنّه قد صدر " مرسوم عامّ ليطبّق على الدكتور داهش ، أي انّه عمل فردي تحت ستار مرسوم عامّ ، الأمر الذي يشكّل اساءة فاضحة لاستعمال السلطة . ه – انّ الهدف من معاملة التجريد الاعتسافيّ من الجنسيّة عن طريق اصدار المرسوم 1822 ، ومن تطبيقه في اليوم التالي ، قبل نشره وسريانه قانوناً ، على الدكتور داهش ، هو تحقيق اخراج الدكتور داهش من الأراضي اللبنانيّة ، اذ لا يمكن اخراج المواطن من وطنه عملا بالقوانين الداخليّة والدوليّة التي تحظّر ذلك . ولذلك كان ضروريّا ازالة العقبة التي تقف دون تحقيق الرغبة باخراج الدكتور داهش من لبنان ، والمتمثّلة بجنسيّته اللبنانيّة . ولو لم تكن جنسيّة الدكتور داهش ثابتة ، ولا ريب فيها ، لما لجأ بشاره الخوري الى مخالفة الدستور واغتصاب سلطة تشريعيّة والى مخالفة كلّ القواعد العامّة والقوانين والأنظمة المشروعة التي تكفل حماية الجنسيّة ومناعة قيود السجلاّت المتعلّقة بها ، وذلك باصدار للمرسوم 1822 ليطبّق خصيّصاً ، في اليوم التالي لصدوره ، رغم عدم نفاذه ونشره ، على الدكتور داهش ، وليسارع في اليوم التالي لتطبيقه الى اصدار مرسوم الاخراج من البلاد ( المرسوم 1842 ، تاريخ 8 أيلول 1944 ). و – انّ هذه الأعمال ( أي المرسوم 1822 ، تاريخ 6 أيلول 1944 ، وقرار رئيس دوائر النفوس ، تاريخ 7 أيلول 1944 ، والمرسوم 1842 ، تاريخ 8 أيلول 1944 ) صدرت بصورة سرّيّة تامّة ، ونفّذت بصورة سرّيّة تامّة أيضا ، ولم يعلم بها الاّ المشتركون باصدارها وتنفيذها . وقد أكّد مجلس الشورى أنّ صاحب العلاقة ، الدكتور داهش ، لم يعلم بها قبل تنفيذها بحقّه . فهل هناك أفظع من ذلك : أن يجرّد انسان بشطحة قلم من أقدس حقوقه ، ويشرّد ، فيجد نفسه بدون جنسيّة وبدون ملجأ ، بعيدا عن بلاده وأهله وأصدقائه ، وذلك من دون أن يعلم بالاجراءات المتّخذة بحقّه الاّ بعد تنفيذها ! ز – والأسوأ من كلّ ذلك هو أنّ الحكومة رفضت اعطاء صورة أو نسخة عن قرار رئيس دوائر النفوس الى وكلاء الدكتور داهش في لبنان لتقديم القرار مع اعتراضهم عليه الى مجلس شورى الدولة . وقد رفعوا الشكوى من ذلك صراحة في لوائحهم أمام مجلس شورى الدولة عبثا . وعدم اعطاء نسخة عن قرار رئيس دوائر النفوس هو موقف اعتسافيّ خطير يعبّر أبلغ تعبير عن عدائيّة انتقاميّة ، وهو مخالف لأبسط مبادىء القانون . فمن حقّ الدكتور داهش ووكلائه القانونيّين أن يطّلعوا على هذا القرار لممارسة حقوقهم المشروعة في الطعن به أمام مجلس شورى الدولة ، ومن واجب رئيس دوائر النفوس أن يعطيهم نسخة عن القرار ، كما من واجب الحكومة ومجلس الشورى أن يأمرا بتقديم نسخة عنه . ومن قرار مجلس شورى الدولة ، رقم 29 ، تاريخ 12 حزيران 1945 ، يتبيّن بوضوح أنّ قرار رئيس دوائر النفوس لم يقدّم الى مجلس الشورى . وموقف الادارة المتعنّت هذا الذي لا مبرّر له على الاطلاق تنكشف أسبابه بجلاء تامّ لدى الاطلاع على معاملة الشطب . فمن الاطلاع عليها يظهر ما يلي : انّ قرار ( أو مطالعة ) رئيس دوائر النفوس ( الاحصاء والأحوال الشخصيّة ) الذي ارتأى بموجبه شطب قيود الدكتور داهش وعائلته من سجلاّت اللبنانيّين ونقلهم الى سجلاّت الأجانب ، وهو القرار الصادر بتاريخ 7 أيلول 1944 ، لم يقترن بموافقة وزير الداخليّة الاّ في 14 أيلول 1944. أمّا معاملة الشطب فلم تجر الاّ بتاريخ 22 أيلول 1944 . وبالتالي ، فانّ الدكتور داهش كان ، حتّى من الواجهة الشكليّة ، ما زال لبنانيّا استنادا الى قيود سجلاّت المُقيمين اللبنانيّين عندما صدر مرسوم اخراجه من لبنان ( المرسوم 1842 ) ، بتاريخ 8 أيلول 1944 ، وعندما نفّذ هذا المرسوم بتاريخ 9 أيلول 1944 . وبتعابير أخرى ، فانّ مرسوم الابعاد ، رقم 1842 ، يكون قد صدر في 8 أيلول 1944 بحقّ مواطن لبنانيّ ، ونفّذ في 9 أيلول 1944 بحقّ هذا المواطن اللبنانيّ أيضا . المرسوم الباطل: وبما أنّ صحّة الأعمال الاداريّة ومشروعيّتها تقدّران بتاريخ صدورها ، فانّ المرسوم 1842 وتنفيذه بحقّ مواطن يعتبران عملين غير مشروعين وباطلين . وهذا سبب ومصدر اضافيّان من أسباب ومصادر لا مشروعيّة مرسوم الابعاد وتنفيذه ، ما كان بامكان مجلس الشورى تجاهلهما . ولذلك تمنّعت الادارة بتعنّت وتعسّف عن اعطاء نسخة عن قرار الشطب ، لأنّ من شأنه أن يكشف عن الكيفيّة التي تمّت فيها معاملة الشطب وعن تاريخ اتمامها ، مع ما يترتّب على ذلك من نتائج وآثار . ولذلك لم يذكر مجلس الشورى أيضا في قرار رقم 29 ، تاريخ 12 حزيران 1945 ، أنّه اطّلع عليه . وتعميما للفائدة ، نورد فيما يلي نصّ " قرار الشطب " بالمعاملة رقم 1543 : قرار الشطب بالمعاملة رقم 1543 بناء على المرسوم رقم 1822 تاريخ 6 أيلول 1944 . بناء على تحقيقات مفوّض الأمن تحت رقم 1206، تاريخ 7/9/1944 . بناء على مطالعة رئيس الاحصاء والأحوال الشخصيّة تاريخ 7/9/1944 . بناء على موافقة مدير الداخليّة ووزير الداخليّة رئيس مجلس الوزراء تحت رقم 10471 تاريخ 14/9/1944. تمّ شطب اسم سليم موسى العشّي وعائلته من سجلاّت المقيمين ونقلوا الى سجلّ أجانب المصيطبة برقم 1063 /3071 ، من التابعيّة الفلسطينيّة بالمعاملة رقم 1543 ، تاريخ 22/9 /1944 . واذا كان شرّ البليّة ما يضحك ، فانّ ممّا يضحك في قرار الشطب هو عدم الاكتفاء بتجريد الدكتور داهش وعائلته من الجنسيّة اللبنانيّة عن طريق شطب قيودهم من سجلاّت المقيمين ( اللبنانيّين ) ، بل اعتبارهم من التابعيّة الفلسطينيّة ونقلهم الى سجلّ أجانب المصيطبة من التابعيّة الفلسطينيّة . لقد اعتبرتهم الادارة الجانية من التابعيّة الفلسطينيّة تغطية لمسؤوليّتها وتستّرا عليها حتّى لا ينكشف للرأي العامّ بالعين المجرّدة أنّ الدكتور داهش قد جرّد بهذه الطريقة الاعتسافيّة غير المشروعة من جنسيّته الوحيدة التي هي الجنسيّة اللبنانيّة ، وترك بدون جنسيّة ، وشرّد خارج الأراضي اللبنانيّة . فالادارة المرتكبة لهذه الجناية كانت تعلم علم اليقين انّ ما دوّنته بشأن التابعيّة الفلسطينيّة المزعومة للدكتور داهش غير صحيح ، مثلما كانت تعلم أنّ تجريده من جنسيّته لا يرتكز على واقع أو قانون . المنشورات السوداء: ويضيف الأخوان زعتر : لم يقف الدكتور داهش ولا الداهشيّون مكتوفي الأيدي ازاء هذه الجريمة . فالدكتور داهش عاد الى لبنان ، بعد أن أنقذته العناية الالهيّة ، وشنّ مع الداهشيّين حملة ساحقة في محكمة الرأي العامّ ، فطبعوا ونشروا 66 كتابا أسود ، و165 منشورا أسود ، عرضوا فيها على الرأي العامّ وقائع هذه القضيّة وابطالها وأسبابها ومسبّباتها ودوافعها . ولم يكتفوا بذلك ، بل كشفوا سلسلة الإرتكبات والفضائح التي غصّ بها عهد بشاره الخوري . وقد بذل الداهشيّون في طبع هذه الكتب والنشرات وتوزيعها أموالهم ووقتهم وراحتهم ، وتحمّلوا أقصى الاضطهادات دون أن يلينوا ، لأنهم كانوا على يقين من أنّهم يدافعون عن قضيّة الحقّ والحريّة في قضيّة الدكتور داهش .وعندما صدرت الكتب والنشرات السوداء ،كان بشاره الخوري في أوج سلطانه ، وكانت أكبر الهامات تنحني له في لبنان .وقد اكّد الداهشيّون المرّة تلو المرّة في هذه المنشورات السوداء أنّ الحقّ يؤخذ ولا يستجدى ، وأنّ جنسيّة الدكتور داهش ستعود اليه بقوّة الحقّ وبقوّة البأس أيضا . وعلى سبيل المثال ، فقد جاء في الصفحة 8 من النشرة السوداء " أطلب محاكمتي "التي صدرت عامّ 1945 ، باسم ماري حدّاد ما يلي : " ولكنّني أؤكّد لهنري فرعون بأن الجنسيّة ستعود بالرّغم منه وبالرّغم من محاولاته الشائنة ومحاولات من يلفَّ لفّه . والمستقبل الآتي سيريه صدق أقوالي ." وفي الكتاب الأسود " كشف الستار وفضح أسرار العصفوريّة وما يرتكب فيها من جرائم رهيبة باسم العطف على البؤساء والمنكوبين " لماري حدّاد ، الصادر عام 1946 ، بيروت ، جاء في الصفحة 2 منه ما يلي : " وليعلم هؤلاء الكذبة المراؤون ، بل ليتأكّد لهم أنّ جنسيّة الدكتور داهش ستُعاد اليه بقوّة الحقّ وبقوّة البطش أيضا . فمن أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ . والعبد الذليل هو من يرضخ ويحني الهامة بمذلّة مُعيبة . " وجاء دوام هذه الحالة من المحال . وانّ فوضى الحكم التي أصبح لبنان يتخبّط بها بفضل بشاره الخوري وأساليبه سيكون لها شأن خطير ، وستظهر نتائجه قريبا ، فلينتظروها . وأخيرا ، انّ لكلّ أمر غاية ، ولكلّ بداية نهاية . وعندما تأتي بدايتنا تتمّ نهايتهم ، فتقوّض آرائك حكمهم ، ويردّ كيدهم الى نحرهم ."
استعادة الجنسيّة: بعد سقوط عهد بشاره الخوري ، عرضت قضيّة الدكتور داهش على رئيس الجمهوريّة المنتخب ، كميل شمعون، وعلى مجلس الوزراء . وبناء على دراسة قانونيّة أعدّها القاضي الدكتور أنطوان بارود ممثّلا دائرة القضايا والتشريع في وزارة العدل ، بتاريخ 30 كانون الأوّل 1952 ، بيّن فيها لامشروعيّة الاجراءات المتّخذة بحقّ الدكتور داهش ، أصدر مجلس الوزراء اللبنانيّ ، في 6 شباط 1953 ، قرارا ألغى بموجبه قرار رئيس مصلحة الاحصاء والأحوال الشخصيّة الذي قضى بشطب قيد الدكتور داهش من سجلّ المصيطبة ونقله الى سجلّ الأجانب ، بموجب المعاملة المؤرّخة في 22 أيلول 1944 ، رقم 1543 . وأمر مجلس الوزراء بقراره " اعادة قيد " الدكتور داهش وعائلته الى ما كان عليه واعتبارهم من الجنسيّة اللبنانيّة مثلما جاء حرفيّا في قرار مجلس الوزراء . وبعد الغاء قرار الشطب واعادة الجنسيّة أصدر رئيس الجمهوريّة ، الأستاذ كميل شمعون ، بتاريخ 24/3/1953، مرسوما يحمل الرقم 1453 ألغى بموجبه مرسوم الابعاد رقم 1842 الذي أصدره بشاره الخوري بتاريخ 8 أيلول 1944 ؛ وقد نشر هذا المرسوم في ملحق العدد 13 من الجريدة الرسميّة ، أوّل نيسان 1953 . وبعد استعادة الدكتور داهش لحقوقه السليبة في أوائل عام 1953 ، بقي مقيماً اقامة دائمة مستمرّة في وطنه لبنان حتّى العام 1976 ، اذ غادره في تلك السنة الى الولايات المتّحدة الأمريكيّة ، ثمّ عاد اليه في العام 1978 ، وبقي فيه حتّى العام 1980 . وطوال هذه المدّة كان منزل الدكتور داهش في بيروت مقصدا للشخصيّات والمثقّفين والعامّة وللصحفيّين الذين قابلوه وعاينوا ظاهراته الروحيّة ، وصوّروها بأثناء حدوثها ، وكتبوا التقارير عن زياراتهم وأحاديثهم ومشاهداتهم في الصحف والمجلاّت التي يعملون فيها ."
مَنْ يُعيد سمعة داهش ؟ في كتابه " جريمة القرن العشرين " تناول المحامي خليل زعتر قضيّة الدكتور داهش معتبراً أنّ اعادة الجنسيّة للدكتور لا تكفي لأنّها حقّه الطبيعيّ . ولكن يتسائل المحامي زعتر هل استعادة داهش لجنسيّته هي ردّ لاعتباره خصوصاً بعدما تعرّضت سمعته للاغتيال عبر الاشاعات الملفّقة التي خصّص عهد الرئيس بشاره الخوري معظم وقته في سبيلها . " صحيح أنّ الجنسيّة اللبنانيّة أعيدت الى الدكتور داهش بعد أن أبطل مجلس الوزراء برئاسة الأمير خالد شهاب الاجراءات التعسّفيّة التي اتخذها الشيخ بشاره الخوري ، وأظهر عدم قانونيّتها استنادا الى دراسة القاضي أنطوان بارود القيّمة . وصحيح ، أيضا ، أنّ داهش عاد الى لبنان معزّزاً مكرّماً بعد أن خلع الشعب اللبنانيّ بشاره الخوري عن أريكة حكمه ، هذا الرئيس الذي أصبح اسمه مرادفاً لكلّ أنواع الفضائح والتجاوزات والظلم والفساد . ولكن ، هل يكفي هذا ؟ هل تعتبر اعادة الجنسيّة الى الدكتور داهش نهاية المطاف ؟ وهل استردّ الدكتور داهش حقّه كاملاً غير منقوص ؟ ما أراه هو أنّ وجهاً من وجوه قضيّة الدكتور داهش قد تحقّق ، وهو الوجه السلبيّ المتمثّل بردّ الجنسيّة اليه ، وعودته الى لبنان بابطال مرسوم الابعاد الذي أصدره بشاره الخوري . ولكن تبقى لهذه القضيّة وجوه أخرى لم يتحقّق منها شيء ، مع أنّها أمور أساسيّة جوهريّة ، وفي الوقت نفسه بديهيّة ، وذلك بالرغم من بعض " العقبات".الاّ أنّها عقبات غير مُستعصية ، بل يمكن تذليلها والتغلّب عليها باصدار تشريع خاصّ من المجلس النيابيّ يجيز اعادة النظر قضائيّا في قضيّة الدكتور داهش ، واجراء محاكمة جميع المُشتركين والمُحرّضين والمُساهمين في جريمة تشريده وابعاده ، وذلك بصورة علنيّة أمام جميع أفراد الشعب . ومن ثمّ تعلن مسؤوليّتهم ، ويشهّر بهم ، ويحكم للدكتور داهش بالتعويضات المعنويّة والمادّيّة عن العذاب والتنكيل والاضطهاد ابّان حكم بشاره الخوري . هكذا ، فقط ، يكون الدكتور داهش قد وصل الى بعض حقوقه . وهكذا ، فقط ، نكون قد أزلنا بعض آثار تلك الجريمة النكراء . قد يقول قائل :" ولماذا اعادة المحاكمات ما دامت اجراءات بشاره الخوري أصبحت باطلة وفي مطاوي العدم ؟" وعليه أجيب :" صحيح أنّ اجراءات الخوري أبطلت ، انّما الرأي العامّ ما زال متأثّرا بالدعايات المُغرضة ، وما برح عالقاً في ذهنه بعض صور الماضي السوداء، صور تشويه سمعة الدكتور داهش في المجالس العامّة والخاصّة وعلى صفحات الجرائد . فاذا أعيدت المحاكمات بشكلٍ مجرّد ونزيه أمام الرأي العامّ ، يظهر بطلان الاجراءات وعسفها قضائيّاً ، كما أبطلها مجلس الوزراء بشكل اداريّ . واذ ذاك ، ينشر الحكم الذي يصدره القضاء بكافّة وسائل الاعلام ، ونعيد بعض الاعتبار الى الدكتور داهش ، ونفيه بعض حقّه ..." وقد يقول قائل :" ولماذا اعادة النظر واعادة المحاكمات ما دام الزمن قد طوى هذه الجريمة ، ولفّها النسيان ، وأصبحت في ذمّة التاريخ ؟" كالا callas ودريفوسdreyfus وفوVaux ويضيف زعتر :" انّ العدالة توجب الاقتصاص من المجرمين ، والتاريخ يحوي ، في طيّاته وبين صفحاته ، جرائم – وان لم تبلغ جسامتها جسامة الجريمة النكراء التي ارتكبها بشاره الخوري – أعيدت المحاكمات فيها ، وظهرت براءة أصحابها على الملا ، حتّى بعد أن غيّبهم وضمّهم الثرى ، وأعيد الاعتبار اليهم ، وحوكم خصومهم ، من جديد ، وحكم عليهم . والتاريخ الحديث حافل بمحاكمات من هذا النوع أشير الى بعضها باختصار ، مع لفت النظر مجدّدا الى أنّ الدكتور داهش لم يُحاكم ، ولم يصدر بحقّه أيّ حكم أو عقوبة ، بل اعتقل وأوقف مدّة ثلاثة عشر يوما حتّى صدر مرسوم الابعاد . أمّا القضايا التي سأعرضها ،فقد جرت فيها محاكمات ، وان كانت صوريّة ، أو اعتورتها الأخطاء ، ورافقتها الاجراءات التعسّفيّة لغايات أملتها السياسة الغاشمة أو مصلحة الدولة أو التعصّب الدينيّ الأعمى . ومن تلك القضايا ، قضيّة جان كالا ( 1761 )j. Callas اتّهم جان كالا زورا ، وحُكم عليه بالسجن المؤبّد . وقد حمل لواء الدفاع عنه الكاتب الفرنسيّ الكبير فولتير الذي اثار هذه القضيّة في جميع الأوساط ، وأصدر فيها كتابا دعاهL affaire callas هاجم فيه الطريقة التي جرت فيها المحاكمة والاجراءات التعسّفيّة ، والحكم الذي صدر فيها بعيداً عن مقتضيات العدالة ، لأنّه مجرّد من الأسباب التي تبرّره . ونتيجة لهذه المساعي ، أعيدت محاكمة جان كالا بعد سنتين ، وأحيلت القضيّة على محكمة التمييز التي أعلنت بالاجماع ، في 9/3/1765 ، براءة المتّهم . وأقرّ الملك للعائلة مبلغا من المال كتعويض عادل عمّا لحقها من أذى وضرر وعذاب . وثمّة قضيّة أخرى هي قضيّة بيار فوp. vaux ، الذي حكم عليه بالأشغال الشاقّة المؤيّدة رغم كونه بريئا ، وزجّ في السجن ، وتوفّي فيه . ولكن أحد أولاده تابع حملاته لاظهار براءة والده . واستطاع ، بعد مرور خمس وأربعين سنة ، أن يعيد المحاكمة حتّى ظهرت براءة والده . وأعيد الاعتبار للضحيّة ، رغم مرور خمس وأربعين سنة ، لأنّ الضمير يأبى على الانسان أن يقبل باستمرار حكم الظلم ، ولا يني يحرّك الطاقة البشريّة للعمل على رفعه . ومن أشهر القضايا التي أعيدت فيها المحاكمة ، في العصر الحديث ، قضيّة الضابط الفرنسي ألفرد دريفوس الذي حكم عليه المجلس الحربيّ الفرنسيّ بالسجن ، وجرّد من رتبته العسكريّة ، نتيجة محاكمة سرّيّة لم تتأمّن فيها الضمانات اللازمة لحقّ الدفاع . وصدر الحكم استنادا الى وثائق سرّيّة مزوّرة لم توضع موضع المناقشة العلنيّة ،كما تقتضي الاصول القانونيّة ، وذلك بتاريخ 11 كانون الأوّل 1894 . وبعد الحكم ، ظهرت عناصر ودلائل جديدة كلّها تشير الى براءة دريفوس ، والى ضلوع بعض الضبّاط الكبار في الجريمة المنسوبة اليه .فتطوّع الكاتب الشهير اميل زولا ( 1840 – 1902 ) للدفاع عنه . وأطلق قنبلته في كتاب رفعه الى رئيس الجمهوريّة عنوانه :" أنا أتّهم "، ارتفع فيه من مستوى التوسّل الى مرتبة النصح والارشاد والاتّهام . وقد نشرت جريدة " لورور "l aurore الفرنسيّة هذا الكتاب بتاريخ 13 كانون الثاني 1898 . وممّا جاء فيه : " اسمحوا لي ، يا فخامة الرئيس ، وأنا أسير الرعاية التي شملتموني بها يوم استقبالكم ايّاي أن أكون غيّورا على مجدكم ، وأن أقول لكم ، بكلّ صراحة ، انّ نجمكم السعيد ، لغاية الآن ، قد أصبح مهدّدا بأفظع لطخة عار لا يمكن أن تُمحى . وسيذكر التاريخ أنّ مثل هذه الجريمة الاجتماعيّة تّمَّت في عهدكم . " واذا كان المجلس الحربيّ قد تجرأ على ذلك ، فأنا أيضا أتجرأ لأقول الحقيقة ، طالما يتغاضى القضاء عن الحكم بالعدل ، لأنّ واجبي يلزمني الكلام لئلاّ أكون مشتركاً في الجريمة ،وتكون لياليّ المقبلة مشغولة بطيف ذلك الرجل البريء الذي يعاني ، في سجنه البعيد ، ألوان العذاب عن جرم لم يقترفه . " ومتى تمّت المأساة التي تتمثّل بادانة بريء وبتبرئة مجرم ، فقل : سلام على مجتمع أصبح في طور الانحلال ." الى أن يقول : " وما حركتي هذه سوى وسيلة ثوريّة في سبيل الحقيقة والعدل . وانّ أمنيتي الوحيدة أن تتجلّى الحقيقة باسم البشريّة المتألمة المتعطّشة لمناهل السعادة ، والتي تعي ندائي الملتهب الصارخ من أعماق النفس .فلتتجرّأ السّلطة على ملاحقتي لكي يجري التحقيق في وضح النهار . انّي أنتظر ..." وعلى الأثر أُحيل زولا على المحاكمة بتهمة تحقير رئيس الجمهوريّة والجيش . وحكم عليه بسنة سجن . ولكنّ الرأي العامّ الفرنسيّ ضجّ وثار ، الأمر الذي دفع وزير العدل الى مطالبة النيابة العامّة باعادة النظر في قضيّة دريفوس ، وكانت نتيجة المحاكمة الجديدة اعلان براءته في 12 تمّوز 1906 ، بقرار من محكمة التمييز ( الغرف مجتمعة ) ، فاستعاد دريفوس كرامته وكرامة عائلته ، ومحا العار الذي لحقه . والساحة التي شهدت حفلة تجريده من رتبته العسكريّة شهدت من جديد حفلة اعادة الاعتبار اليه وتقليده وسام الشرف العسكريّ . زولا في " البانتيون ": وفي اليوم التالي لبراءة دريفوس ، اجتمع البرلمان الفرنسيّ ، وأصدر قانوناً خاصّا بنقل رفات اميل زولا الى مقبرة " البانتيون " ليدفن فيه الى جانب عظماء فرنسا ، فارتفع ، بدفاعه عن بريء مظلوم ، الى مرتبة الخلود . فهل يجتمع مجلس النوّاب اللبنانيّ ، رأس السلطة التشريعيّة ، ويصدر تشريعاً خاصّاً لاعادة النظر في قضيّة الدكتور داهش ومحاكمة المسؤولين عنها ؟ وهل يثور رجال الفكر والقانون والقضاة وأساتذة الحقوق مطالبين بالاقتصاص من المجرمين ، ومصادرة أموالهم التي جمعوها وثمّروها من استغلال المناصب وعلى حساب مصلحة الشعب ، وضمّها الى أموال الخزانة العامّة أو انشاء مشاريع خيريّة بها لمساعدة المحتاجين والمصابين من أبناء الوطن الذي كانت نكبته الكبرى في الحرب الأهليّة التي اندلعت في 13 نيسان 1975 نتيجة لأعمال أولئك الذين ائتمنهم على مقدّراته في العهد الاستقلاليّ الأوّل ، وهؤلاء الذين ساروا على خطاهم فيما بعد . انّ السلطة التشريعيّة اليوم مدعوّة الى الاعتراف بخطأ السلطة التشرعيّة في عهد بشاره الخوري لاهمالها التامّ اثارة موضوع الجريمة المرتكبة بحقّ الدكتور داهش والداهشيّين ، وعدم مساءلته عنها وعن سواها من الجرائم والمفاسد الكثيرة التي تمّت ، والتي تمتدّ خيوطها بطريقة أو بأخرى اليه ، والى من تعاون وأسهم معه فيها ." ويختتم زعتر : " انّ حكومات العالم ، من شرقيّة وغربيّة ، تعيد النظر اليوم بأخطاء وجرائم ارتكبتها الحكومات السابقة أثناء الحرب العالميّة الثانية وما قبلها وما بعدها ، وتقدّم الاعذار ،وتقدّم حتّى التعويضات الماديّة التي، مهما بلغت ، تكون رمزيّة ، لضحايا تلك الأخطاء والجرائم أو لورثتهم . هل سيدرك المسؤولون والمثقّفون أهميّة قضيّة الدكتور داهش وارتباطها الوثيق بحياة هذا الوطن ومستقبله ؟ انّ اليوم الذي سيفتح فيه مجلس النوّاب ملفّ هذه القضيّة ، واليوم الذي فيه سيعلن المجلس الظلم الفادح الذي ارتكب بحقّ الدكتور داهش ، ذاك اليوم سيكون ولادة حقيقيّة جديدة للبنان ، لأنّه في ذاك اليوم يكون قد انتصر الحقّ والقانون – حِمَى الجميع مهما اختلفت أراؤهم – على التعصّب الطائفيّ الأعمى وما يرتبط به من عصبيّات حزبيّة ظلاميّة . في ذلك اليوم تتكسّر وتتحطّم الروح الرجعيّة التي تولّد عنها اضطهاد الدكتور داهش ، وتولّدت عنها محنة لبنان في حربه المدمّرة الدامية . وبدون تحطيم هذه الروح الكامنة وراء جميع مشاكل لبنان وأمراضه في كافّة النواحي ، فمن العبث الخلاص ، أو التقدّم نحو مستقبل حضاريّ بالفعل . هل هذا سيحصل ؟ " انّنا ننتظر ..." الأديب مسّوح ودفاعه عن داهش: يتابع المحامي خليل زعتر نظرته القانونيّة في مسألة اضطهاد داهش معتبرا أنّ هذه القضيّة ليست قضيّة فرد ، بل هي في جوحرها قضيّة الحريّة والديمقراطيّة والدستور في لبنان ، خصوصا وأنّ السلطات آنذاك استغلّت القانون في سبيل الفساد والرشاوي وتزوير الانتخابات في 25 أيّار 1947 . انّ عهد بشاره الخوري هو العهد الذي ارتكب جريمة اغتيال الزعيم أنطوان سعاده عبر المحاكمة الصّوريّة ، المهزلة – المأساة عام 1949. لم تكن الجريمة الرهيبة التي اقترفت بحقّ الدكتور داهش جريمة آنيّة ، بل كانت جريمة مستمرّة امتدّت فصولها المتّصلة الحلقات على مدى عشر سنوات ( 1942 – 1952 ) ، وتألّفت من مؤامرة جرميّة ، ومن أفعال جرميّة تمّت مساهمة فيها وتنفيذا لها . وما تزال ذيولها الوخيمة المروّعة وانعكاساتها السلبيّة على الدكتور داهش وعلى حياة لبنان والرأي العامّ فيه تتفاعل حتّى اليوم . ولم تكن هذه الجريمة جريمة عاديّة اقترفها فرد أو عدّة أفراد عاديّين بحقّ فرد أو عدّة أفراد أيضا ، بل كانت جريمة غير عاديّة ، اقترفها رأس السّلطة التنفيذيّة الممثّلة برئيس الجمهوريّة بشاره الخوري . ولم تتمّ هذه الجريمة بوسائل اعتياديّة ، بل كانت اساءة لإستعمال السلطة ، أو بالأحرى السلطات – عبر الحنث بالأقسام الدستوريّة والقانونيّة ، وتهشيم الدستور ودوس القوانين ، ومخالفة أبسط مبادىء حقوق الانسان والمواطن ، فتحوّلت السلطات بيد المؤتمنين عليها الى وسائل لخرق مباشر وصريح لموادّ الدستور والقوانين التي تحمي الانسان والمواطن وحريّاته الأساسيّة . وهذا يشكّل خيانة كبرى تؤدّي في البلدان الديمقراطيّة الراقية الى اسقاط الرؤساء والاطاحة بالحكومات ، ومحاكمة المسؤولين ، والاّ ثار الشعب ثورة عارمة وجرف في سخطه المتقاعسين عن محاسبتهم على حدّ سواء . ولم يقتصر الاشتراك في هذه القضيّة على متسلّمي زمام السّلطات العامّة من الشخصيّات الرسميّة ومن انقاد لهم من الموظّفين والقضاة ورجال الأمن ، ولم تكن الصحافة اللبنانيّة ، في هذه القضيّة ، أمينة على رسالتها التاريخيّة بإنارة الرأي العامّ ، ومراقبة السّلطات ومتسلّمي زمامها ، وكشف تجاوزاتها ، وانتقادها ، بل على العكس من ذلك ، فانّ وسائل الاعلام اشتركت هي أيضا في هذه الجريمة ، ولم تتطوّع صحيفة واحدة لشجبها. وقد أكّد الدكتور داهش في مقدّمة كتابه " مختارات " أنّ جميع الصّحف من يوميّة وأسبوعيّة وشهريّة راحت تهاجمه مهاجمة شعواء ، وتحاول النيل منه بوسائلها المقيتة . كما أكّد :" وبأسف عظيم ...لم يبرز الى الميدان – في لبنان –رجل واحد يدافع عن الحقّ الهضيم ، وينافح عن العدالة تدوسها سنابك الباطل ". ولا يستطيع أيّ من المسؤولين أو المشتغلين في الحقل العامّ ، أو من قادة الرأي العامّ ، ممّن عاصروا هذه الجريمة النكراء المستمرّة على مدى عشر سنوات متواصلات ، أن يدفع التبعة عنه ، لأنّ الجريمة المقترفة بحقّ الدكتور داهش واضحة ، والاجراءات التي تمّ تنفيذها بواسطتها مخالفة فادحة فاضحة لنصوص دستوريّة وقانونيّة صريحة ولأبسط مبادىء القانون والحقوق والحريّات الأساسيّة التي اعترفت بها حتّى الشعوب الهمجيّة منذ أقدم العصور . هذا من جهة ؛ ومن جهة ثانية ، فانّ الدكتور داهش نفسه أذاع ونشر وقائع ودقائق هذه القضيّة بواسطة 66 كتابا أسود و165 منشورا أسود وزّعت مجّانا على الجمهور وعلى المسؤولين والصحافيّين والكتّاب، والمعتمدين الدبلوماسيّين في لبنان ، والسفارات والقنصليّات اللبنانيّة في الخارج ، وعلى المنظّمات الدوليّة والاقليميّة ، كمنظّمة الأمم المتّحدة والجامعة العربيّة ، ورؤساء الدول والأمراء والملوك. وعليه ، فقضيّة الدكتور داهش لم تكن قضيَّة فرد وحسب ، بل كانت في حقيقتها الجوهريّة قضيّة الحريّة المقدّسة في الفكر والاعتقاد والتعبير، قضيّة الديمقراطيّة والدستور والقانون في لبنان . قضيّة كلّ فرد: عندما تخون أعلى سلطة في البلاد أمانة المحافظة على الدستور والقوانين وحقوق المواطنين وحرّيّاتهم ، وتستغلّ سلطتها ، وتسيء استعمالها، وتسخّرها لمآربها وأغراضها الشخصيّة ، وترتكب بواستطها الجرائم ، عند ذاك من العبث القول انّ القضيّة هي قضيّة فرد مُعتدى عليه، بل انّها تصبح ، وبالضرورة الحتميّة ، قضيّة كلّ فرد من أفراد المجتمع ، وخاصّة قضيّة متسلّمي زمام السّلطات والصحافة وقادة الرأي العام فيه . ولأنّ القضيّة هي قضيّة اضطهاد حرّيّة الفكر والعقيدة ، فانّ الجريمة لا تقع فقط على الفرد المُضطهد داهش ، بل انّها تطال أيضا ، ومن هذه الزاوية ، المجتمع بأسره الذي حرمته الجريمة من حقّ البحث المُجرّد عن الحقيقة ، ودراسة ما يدعوا اليه هذا الفرد المضطهد ، كما انّ الجريمة تطال الأجيال القادمة أيضا . وقد أشار الى ذلك الفيلسوف الانكليزيّ جون ستيوارت ميل في كتابه الرائع " الحرّيّة " ( ترجمة طه باشا السباعي ) حيث كتب : " ...انّ المضرّة الناشئة عن اخماد الرأي لا تقتصر على صاحبه ، بل تتعدّاه الى جميع الناس حاضرهم وقادمهم . وما هي في الحقيقة الاّ سلب النوع البشريّ برمّته وحرمان الانسانيّة بأسرها من شيء فائدته لعائبيه ورافضيه أوفر منها لمؤيّديه وقابليه . ذلك انّ الرأي ان كان صوابا ، فقد حرم الناس فرصة نفيسة يستبدلون فيها الحقّ بالباطل ، ويبيعون الضلالة بالهدى . وان كان خطأ ، فقد حرموا كذلك فرصة لا تقلّ عن السابقة نفاسة وفائدة ، وهي فرصة الازدياد من التمكّن في الحقّ والرسوخ في العلم على أثر مصادمة الحقّ بالباطل ، ومقارنة الخطإ بالصواب ." لقد تفرّد الصحافيّ المهجريّ النبيل جبران مسّوح ، صاحب جريدة " المختصر " الصادرة في بونس أيرس بالأرجنتين ، بادراك أهميّة قضيّة الدكتور داهش وخطورتها ونتائجها وذيولها الوخيمة ، ليس فقط على تاريخ لبنان ، بل أيضا على مستقبل الحرّيّة في الشرق كلّه . وقبل أن يبدأ حملته الصحافيّة بنشر أنباء القضيّة المروّعة في " سلسلة مقالات ناريّة "، بعث برسالتين تاريخيّتين : الأولى بتاريخ 2 أيلول ( سبتمبر ) 1946 الى رئيس الجمهوريّة بشاره الخوري ، والثانية بتاريخ 10 أيلول ( سبتمير) الى رئيس مجلس الوزراء رياض الصلح . وقد جاء في مطلع رسالته الى بشاره الخوري ما يلي : معالي الرئيس المكرّم ، وصلتني في هذا الاسبوع رزمة فيها أوراق ومنشورات ووثائق تتعلّق بقضيّة الدكتور داهش . وكنت أنتظر مثل هذه المعلومات من مدّة طويلة لأصل الى أعماق هذه المسألة التي هي أهمّ حادث جرى في الشرق في هذا الجيل . ومن رأيي أن تتناوله أقلام الكتّاب بشيء من الصراحة والغيرة على الحقّ ليكون خطوة الى الأمام في كلّ الأقطار العربيّة . أمّا اذا لم يقم المفكّرون بواجبهم نحوه ، فهو بدون شكّ خطوة الى الوراء . ومعلوم أنّ كلّ خطوة من هذا النوع - سواء كانت الى الأمام أم الى الوراء – تجرّ وراءها خطوات من جنسها . أمّا الرسالة الثانية التي أرسلها الأستاذ مسّوح الى رئيس مجلس الوزراء رياض الصلح فقد جاء فيها : سعادة رياض بك الصلح الأفخم ، وصلت إليّ في المدّة الأخيرة منشورات ووثائق تقع في 792 صفحة تتعلّق بحادث نفي الدكتور داهش . والذي يطالع هذه الأوراق جميعها يشعر أنّ هناك جرماً لا تستطيع قوّة أن تغطّيه . وطبيعيّ أن هذا الحادث كان صدمة هائلة لما كنّا نقيمه من الآمال في مستقبل أوطاننا بعد أن نالت حرّيّتها واستقلالها . والأوساط الأدبيّة هنا اهتمّت بالأمر . وسوف نصدر كتابا عن المسألة نشرح فيه الحادث كما هو ، ونبيّن الخطر الذي فيه على روح العدالة وحرّيّة الكلام واحترام العقيدة، وأنّه قد يكون خطوة الى الوراء لكلّ الاقطار العربيّة ، لأنّ الفساد شديد العدوى اذا لم تؤخذ ضدّه الاحتياطات ، بينما يمكن أن يكون خطوة الى الأمام اذا روعي الحقّ فيه ، وأعيدت الى داهش حرّيّته ، وأخذ الحقّ مجراه في الاقتصاص من المجرمين . في اعتقادي أنّ هذه المسألة هي أعظم حادث جرى من هذا النوع في الشرق كلّه في هذا الجيل . ويجب أن نضع لها تاريخاً صادقاً ليعرف الآتون بعدنا كيف يجب أن تكون الحكومات ، وما هي نتيجة مثل هذه الجريمة على تاريخ البلاد كلّها وعلى سمعتها بين بقيّة الشعوب . اغتيال الزعيم أنطون سعاده: انّ السنوات أثبتت صحّة كلمات الأستاذ جبران مسّوح المُلهمة هذه وصوابيّتها . فجريمة اضطهاد الدكتور داهش بدأها بشاره الخوري والمشتركون الرئيسيّون معه قبل وصوله الى سدّة الرئاسة الأولى ، واستأنفها بعيد انتخابه مباشرة مثلما جرى عرضه في الكتاب. ولو كان في لبنان من وقف منذ البداية في قضيّة الدكتور داهش الى جانب الدستور والقانون والحقّ والعدالة لما كان لبنان عانى وكابد سنوات حكم بشاره الخوري السوداء الملأى بالفضائح والمفاسد والرشاوى والجرائم واستغلال المناصب ونهب أموال الأمّة وسرقة لقمة عيش الفقراء والكادحين ، ولربّما كان – وعلى سبيل المثال- انتهى عن تزوير انتخابات 25 أيّار 1947 الشهيرة ، وعن ارتكاب جريمة قتل الزعيم أنطون سعاده بواسطة المحاكمة الصّوريّة ، المهزلة – المأساة ، سنة 1949 . انّ قوى التعصّب الطائفيّ الأعمى المتحالفة مع الفئات الاقطاعيّة الفاسدة الحاكمة التي أرست قواعد الدولة – المزرعة هي المسؤولة عن اضطهاد الدكتور داهش لأنّ نهجه الأبيّ الحرّ ومبادئه الاصلاحيّة المنفتحة هي النقيض لها جميعها . ونتيجة لانقياد المسؤولين وقادة الرأي لبشاره الخوري ، فانّ قوى التعصّب وطرق الفساد ترسّخت وتجذّرت في تربة المؤسّسات والمجتمع في ذلك العهد الاستقلاليّ الأوّل الذي كان يجب أن يكون مثالا وقدوة عليه ترسو لأسس الاصلاح ، وعليه تبنى تطلّعات الأجيال ومستقبلها . وما الحرب الأهليّة اللبنانيّة المدمّرة التي ذرّ قرنها سنة 1975 الاّ ثمرة شجرة التعصّب والفساد والاجرام التي ترعرت جذورها المقيتة في العهد الاستقلاليّ الأوّل . أجل ، انّ القوى نفسها ، والروحيّة الاجراميّة المتعصّبة الكريهة ذاتها التي قامت بالمجازر الطّائفيّة البغيضة أثناء الحرب الأهليّة ، والتي ستبقى وصمة عار أبديّة عليها ، هي هي القوى والروحيّة نفسها المسؤولة عن اضطهاد الدكتور داهش . فحبّذا لو تنبّه المسؤولون وقادة الرأي ، آنذاك ، لخطورة ما كان يقترف بحقّ الدكتور داهش ، ولنتائجه على تاريخ البلاد . حبّذا لو حاربوا روح التعصّب الأعمى ، والفساد ، والعبث بالقوانين ، وبحقوق العباد في قضيّة الدكتور داهش ، اذا لكانوا قضوا عليها وهي في بدايتها ومهدها ، ولكان مسار تاريخ لبنان تغيّير حتما ، ولما كانت الحرب الأهليّة الدامية المدمّرة لتقع فيه . ومثلما حذّر السيّد المسيح – له المجد – الشعب اليهوديّ من وخيم عواقب اضطهاده بتدمير أورشليم والهيكل فيها وتشتّتهم ، هكذا أيضا حذّر الدكتور داهش بشاره الخوري والمسؤولين عن الجريمة من العقاب الالهيّ الذي سيطالهم هم وذراريّهم ، كما حذّر الرأي العامّ اللبنانيّ والعالميّ من كارثة دامية كبرى تصيب لبنان ، وتتجاوز حدوده ، اذا لم تحلّ قضيّة جريمة اضطهاده حلاّ عادلا . ففي رسالة بعثت بها السيّدة ماري حدّاد الى المستشرق الانكليزيّ دانيال أوليفر ، مدير مدرسة رأس المتن ، في شباط 1946 ، ونشرتها في الكتاب الأسود " ميشال شيحا المغرور " سنة 1946 ، صفحة 26 وما يليها ، كتبت ماري حدّاد ما يلي ( صفحة 28 ) : " ....وكن على ثقة ، أيّها العزيز ، بأنّنا سنطالب بها ( أي بحقوقنا ) حتّى نحصل عليها كاملة غير منقوصة . وأنت تعلم بعد الاختبار كيف تتمّ نبوءات الدكتور داهش . وأنا أعرف منذ زمن بعيد أنّ هذه القضيّة ستّتسع حتّى تصبح عالميّة . وانّني عالمة أنّ سيلا من الدماء سيهرق اذا تشبّثوا في جريمتهم بدل من أن يكفّروا عنها . " وانّني لا أرغب في أن أسرد هنا جميع ما أعرفه . ولكنّي أعلم بأنّ المستقبل مشؤوم ورهيب جدّا عليهم اذا لم يندموا ويكفّروا . " وقد أنذرتهم بذلك مرارا وتكرارا ، فأبوا أن يصغوا الى نصيحتي . ومن أجل هذا سيتحمّلون نتائج أعمالهم ."
نبوءة خراب لبنان: وفي عدد 4 كانون الثاني سنة 1948 من جريدة " الحياة " البيروتيّة نشر الشاعر حليم دمّوس نبوءة للدكتور داهش مفادها انّ الدمار سيعمّ لبنان من أقصاه الى أقصاه اذا لم تحلّ قضيّة الدكتور داهش حلاّ عادلا . وفي شهر تشرين الأوّل من سنة 1948 ، أرسل الدكتور داهش الى الجمعيّة العامّة للامم المتّحدة المنعقدة في قصر " شايو " في باريس عريضة طويلة باللغة الفرنسيّة ، وتحت توقيع السيّدة ماري حدّاد الظاهريّ نظرا لظروفه الخاصّة آنذاك ، وفيها شرح وقائع الجريمة بحقّه وبحقّ الداهشيّين . وتجاوزها الى انتهاكات حقوق الانسان وفضائح عهد بشاره الخوري . وطلب من الامم المتّحدة ، بصفتها محكمة عالميّة عليا ، التدخّل لاحقاق الحقّ في قضيّته ، وضمّن نداءه التحذير الآتي : " انّ الداهشيّين يطالبون باعادة جنسيّة الدكتور داهش اليه . وهم اذ يقومون بذلك بواجب الزاميّ ، يلجأون الى محكمتكم العليا ، ويحضّونها على دراسة هذه القضيّة التي تتجاوز حدود لبنان بدقّة . وبذلك تكون محكمتكم قد قامت بعمل من أعمال العدالة والانسانيّة ، لأنّها تكون قد منعت هذا النزاع من التطوّر أكثر .وانّني أؤكّد لكم أنّ هذا النزاع يهدّد ، عمّا قريب ، بصبغ لبنان بالدماء مثلما جرى في فلسطين .كلّ ذك سيتمّ اذا لم تؤدّي هذه العريضة الاتّهاميّة الى أيّة نتيجة ." وفي شهر تشرين الثاني من السنة نفسها 1948 ، أرسل الدكتور داهش الى لجنة الامم المتّحدة للشؤون الاجتماعيّة والانسانيّة والثقافيّة ، المولّجة بصياغة الشّرعة العالميّة لحقوق الانسان ، رسالة أخرى باللغة الفرنسيّة أيضا ، وتحت توقيع السيّدة ماري حدّاد . وقد ضمّن هذه الرسالة التحذير ذاته المذكور آنفا والذي تضمّنته عريضته الى الجمعيّة العامّة للامم المتّحدة في شهر تشرين الأوّل 1948 . وممّا لا شكّ فيه أنّه لم يصغي اللبنانيّون ، ولا العالم الممثّل في الامم المتّحدة ، الى هذه التحذيرات . كما انّه لم تجر أيّة محاولات لرفع الظلم عن الدكتور داهش وحلّ قضيّته حلا ّ عادلا .وفضلا عن ذلك ، فانّ موقف القوى المتعصّبة في لبنان من الداهشيّة لم يتغيّر ، والنيّات الخبيثة والأفكار السوداء تظهر بين الحين والحين بأفعال وأقوال يسجّلها التاريخ عليها وعلى من يأتونها في سجلّ العار الأبديّ. ومن كلّ ذلك يبدوا أنّ القوم لم يتّعظوا ، ولم يتوبوا . وكيف يتّعظون ويتوبون وأعمالهم المتجليّة في هذه الحرب اللبنانيّة القذرة تشهد عليهم أنّهم مجرمون، بل شياطين متجسّدون! أجل . انّ الحرب الأهليّة اللبنانيّة هي غضب الهيّ . انّما هذا الغضب الالهيّ لم يكن افتراء من العناية الالهيّة ، بل انبثق من النفوس التي ضلّت سبيل الرشاد ، ومسخت التعاليم السماويّة في الأديان المنزلة ، وسخّرتها لمآربها للوصول الى المال والجاه والسلطان الدنيويّ الكاذب الزائل . حتّى الكتّاب والمعلّقون والصحافيّون الأكثر عقلانيّة لم يروا بدّا من أن يعلنوا في كتاباتهم ، أثناء استمرار الحرب المدمّرة وفشل جميع الحلول في وقفها ، انّ هناك لعنة الهيّة . واذا كانت الشعوب شرقا وغربا تعيد النظر بتاريخها ، وتعترف بأخطائها ، لتستفيد منها في تقويمها وفي عدم معاودتها ، فانّه على اللبنانيّين أيضا أن يعيدوا النظر في تاريخهم ، وفي هذه القضيّة بنوع خاصّ ، فيدركوا انّ خلاص وطنهم من محنته ، وتأمين مستقبلهم واستقرارهم فيه ، يتمّ عندما يرجع الجميع الى القيم الروحيّة والانسانيّة السامية ، فيقلعون عن الشرور والمظالم ، وعن العصبيّة المذهبيّة البغيضة ، ويقنعون بأخوّتهم بعضهم لبعض ، محترمين حقّ كلّ فرد منهم في الفكر والعقيدة وسواها من الحقوق والحرّيّات ، نابذين الانقياد الأعمى لتقاليد رجعيّة بالية ، ومنفتحين على الأفكار الاصلاحيّة الجديدة بشجاعة وثقة بالنفس وبالغد . ويوما بعد يوم ، سيدرك اللبنانيّون أنّه كما كان الحكم الظالم على سقراط العظيم جريمة عصره ، وكذلك محاكمة السيّد المسيح والحكم عليه ، فانّ جريمة اضطهاد الدكتور داهش انّما هي : " جريمة القرن العشرين ." ذكرى مؤلمة بغيضة هذه القطعة مأخوذة من كتاب "سفاح لبنان النذل" في مثل هذا اليوم المشؤوم من العام الماضي، وفي الساعة العاشرة ليلاً منه، حدثت معركة الدرج المروِّعة على مدخل منزل الأخ جورج حداد، وما تبع ذلك من جلد وإهانة وشتم بذيء، ثم ذهابي مخفورًا برجالِ التحرّي إلى مدينة حلب، وسيرنا طوال الليل، فوصولنا في صباح اليوم الثاني إلى حلب. إن هذا اليوم سأخلده على لوحة صدري، بل سأحفظه منقوشًا بأحرف نارية في أعماق قلبي! إنَّ هذا اليوم قد اصبح قطعةً لا تنفصلَ من نفسي، وجزءًا لا يتجزأ من روحي! سأذكره حتى يواريني جدثي ولن أنساه... كلا، كلا... إنني لن أتمكن من نسيان هذا اليوم الإغبر الإهاب الكالح الجلباب! سأذكره في أفراحي وأتراحي، في انكساري وانتصاري، في ذهابي وغيابي، في يقظتي ومنامي، بل حتَّى في حياتي ومماتي! يا أيها اليوم الكئيب ! بل يا يوم الحزن البالغ والأسى المُميت! يا يوم الشؤم، الغارق في النحس المُتدفّق! لانتَ أشأمُ من الموت، وأشدُّ وحشةً من الضالّ في صحراء التيه! سأذكُركَ أيها اليوم البغيض، وألعن ذكراك الأليمة! سأذكركَ في كل فجرٍ وعشية! سأذكركَ في كلّ لحظة من لحظات حياتي ولن أنساك! سأذكركَ، وسأذكّر جميعَ مريديَّ ومحبيَّ بأن يقتصّوا ممَّن سبَّبوا لي أشدَّ الآلام في تاريخك هذا سأطلبُ منهم أن ينقشوا تاريخكَ البغيض في أرواحهم المُتألمة كي ينتمقوا من كل مشتركٍ بمحنتي المؤسية، وإن لم تمكنهم الظروف من الاقتصاص من الآباء، فمن الأبناء والذراري، حتَّى يمحق كل من اشترك بإذاقتي الآلام ومن جرعني كأس الهوان في يومك الرهيب. آه، يا أيها اليوم البغيض! كم تكرهكَ روحي، وتتمنَّى فناءك. بيروت، 9 أيلول 1945 ذكرى اليوم المشؤوم بمناسبة مرور عامين على الاعتداء الغادر الذي ارتكبهُ المجرمُ الباغية وزبانيتهُ الأدنياء يا يوم التذكارات اللئيمة والذكريات الأليمة! ويا عنوان الشرور العظيمة وينبوع الجريمة! لأنت أشرّ يومٍ في الأيام، وأوغد الشهور رغم كرور الأعوام. فيك يا يوم الشؤم تآمر عليَّ أعدائي اللؤماء، وفي ساعاتك الأولى تآزرت عليَّ شراذم الأدنياء. وقد طغى الباطل على الحقّ، فيا للحقِّ الذي مُحِق، إذ فازت قوات الغدر والخيانة، ولكن إلى حين. نعم الى حين، يا يوم الأبالسة والشياطين. نعم يا يوم الثامن والعشرين من شهر آب البغيض، نعم نعم. ستجلجلُ نواقيسُ العدالة مُعلنةً ساعة الانتقام، وستُشهر السيوف من أغمادها من لم يقيموا وزنًا للأعراض. وسيزورُّ الجميع عن هؤلاء الزعانف وسيُقابلونهم بالازدراء والإعراض. إن ساعة الانتقام يا ماجدا ستُجلجل قريبًا جلجلة الرهبوت، وستُصلصلُ بأصواتها الجهنمية طالبةً الانتقام العادل الذي لا مفرَّ منه وستحصدُ نيران انتقامي الرهيب فلولا أعدائي المذعورين المرعوبين، وسأُنكّل بهم تنكيلاً رهيبًا، وسأبطش بهم بقسوة ووحشية مدمية، مما ستتحدث عنه الأجيالُ الزاحفة والآجالُ الجارفة. وسيقصُّ الآباءُ على الأحفاد أنباءَ هذا الانتقام المُخيف، وهم مُنتشون بغبطة الفوز الذي منحته لي السماء العادلة المُنتقمة. وستُدوِّن بُطُونُ التاريخ أنباء هذه المأساة الرائعة كي تكون عبرةً من السلف إلى الخلف. يوم الأربعاء، في 28 آب 1946 الويل للمجرمين من يوم الانتقام المروع إذ سأبطشُ بهم بطشًا عنيفًا وأفترسهم افتراسًا مُخيفًا تهديد مزلزلٌ ومُبيد بلسان مارس إله الحرب عندما تدقُّ ساعةُ الحساب الرهيبة، سأدقُّ أعناقَ المُجرمين الوصوليين دقًّا هائلاً وسأُمزقُ قلوبهم المُفعمة بالجرائم تمزيقًا مُروعًا، وسأمزجُ الصَّاب والغسلين المريرين الكريهين مذاقًا، وأسكبهما في أفواههم التي لا تنطق إلا بالكذب الشائن والإفك المُبين. وإنني أُقسِمُ، غير حانث، بأنني سأُنكِّل تنكيلاً مُخيفًا بكلِّ من تدخل في هذه الجريمة الوحشية المُنكرة المُستنكرة، جريمة تجريد مؤسس الداهشية من جنسيته اللبنانية بالظلم والعدوان. وسأُهرِقُ الدماءَ الغزيرة من عيونهم الجاحظة هلعًا ورُعبًا من يوم الهول، عوضًا عن الجموع. وستُخيم سُحُبُ الهموم، وتتكاثف جيوشُ الغموم، مُعسكرةً فوق ربوعهم الخرِبة، إذْ سيدمرها انتقامي الهائل تدميرًا عاصفًا. إنَّ ساعة الانتقام لا شكَّ زاحفة. وستنقضُّ كالصاعقة المردِّمة فلا تُبقي ولا تذر. نعم، إن ساعة الحساب تدنو، ومن زرع جريمةً فسيحصد فناءً تامًّا، وهذا عدلٌ وحقّ. فيا ساعة (الانتقام) هيا أسرعي، كي أُذيقَ المُجرمين ما يستحقونه من أفدح الآلام الصارخة، مما سيُسجله القدر بأحرفه النارية، فيخلَّد هذا الانتقامُ المُخيف ما خُلِّد الزمان، وتُدوّن بطونُ التواريخ أنباءَ هذا (الانتقام) المُرعب، كعبرة خالدة على مر الدهور وكرِّ العصور. وسيقرأها الوصوليون الأذلاءُ والظالمون للأبرياء، فتهلع قلوبُهم، وترتجفُ ركبهم، وتصطكُّ أسنانُهم، من هول الانتقام العادل. إيه يا يوم الانتقام الحبيب على فؤادي، لأنتَ البلسمُ الشافي لأتعاب روحي القلقة من طول الانتظار لذلك اليوم العصيب على أعدائه الرعاديد. اسرع أسرع لأزلزلهم، اسرع لأقوضهم، وأجعل عامرهم بلقعًا خرابًا، وقفرًا يبابًا، وأصوَّحُ ديارهم، وأدكّها دكًّا، وأُذُرها رَمادًا. وستتمَّ هذه النبوءة الرهيبة المُخيفة الأحداث المُقوضة في عام 1975 والأعوام التي تلي هذا العام المزلزل. إذْ ستندلعُ الحربُ اللبنانية، فلا تبقي ولا تذر. أول كانون الثاني 1948 وداع عام 1948 عامُ الجريمة العُظمى المروعة بماذا أودعك أيها العام الخائض في أوقيانوس الإجرام؟ إذْ في مطلعك الفاحم الدجنّة ارتُكبت أفظع جريمة مُرعبة. تلك الجريمة التي روعت الدنيا بأسرها ودكت أُسسها دكًا. لقد تقوَّضت أعمدة الفضيلة، وألحدت العدالة في جدثها السحيق الأغوار، وتوارى الحقُّ غائصًا في أعمق الأسحاق خجلاً واستحياءً. وكيف لا تتقوض أعمدة الفضيلة، ولمَ لا تُلحد العدالة في أغوارها، ولماذا لا يتوارى الحق وينطوي على نفسه أسفًا وخجلاً بعدما أطلق الجاني الأثيم (جوادس) شقيق (يهوذا) الاسخريوطي الخائن رصاصة على (نبي) الإنسانية ورسولا ومصلحها الأمين(غاندي)! تبًا لك أيتها الإنسانية الخائنة، وسحقًا لوجودك المُخزي. بل لُعنت أيتها البشرية الضالة في آثامها، الغارقة في دياجير فجورها، السابحة في بحار شرورها. ألم يكفك أنك قتلتِ من استطعت من الأنبياء المُرسلين، ورجمتِ ما قدرتِ من المُصلحين الذين حاولوا إصلاحكِ عبثًا... أولئك الذين قدموا لك باقاتٍ من ورود الروح العطرة الأريج، وحاولوا هدايتكِ، فكانَ نصيبهم التقتيل والتقطيع والتفظيع. أولم تُشبعي نَهمكِ من صلب السيد المسيح ورؤيتك إياه معذّبًا على خشبة الصليب لا لذنبٍ جناه، ولكن مكافأة له على تعاليمه السماوية وتحمُّله قسوة الحياة وشظف العيش في سبيل خلاصكِ أيَّتها المُجرمة. أوَلم ترتوي من دمائه القانية الزكية التي أُهرقتُ ظُلمًا وعُدوانًا، حتى جئتِ اليوم يا أيتها البشرية السفاكة المُتعطشة دومًا لهدر وشظف العيش في سبيل خلاصكِ أيَّتها المُجرمة. فهدرتِ دمًا زكيًا لم يجد الزمان بمثله منذ ( الفين من الأعوام). لُعنتِ أيتها البشرية الفاسدة، وسربل الله اسمكِ بالعار، وطوقَ ايام حياتكِ بالذُّل والعاب والهوان. ووالله إن هذه الجريمة اللعينة الصارخة بالمنكر الشنيع قد لوثت صفحات أيامكَ يا عام 1948، فاصبحت سُبَّةً في جبين الدهر. توارَ، توارَ يا عام الشؤم، وافنَ من عالم البشر الملاعين، واعلم أن اسمكَ قد خلَّده التاريخ بحروف جهنمية لا ولن تنسى، وكلما تُذكر فيها ستنصبُّ عليكَ ملايين من اللعنات الأبليسية. لُعنتَ ايُّها العام مدى الآجل والآزال. بيروت، منزل الرسالة الداهشية 31 كانون الأول 1948 بقلم ماري حدّاد الداهشيّة ستة وعشرون عاماً توارت منذ رحلت إبنتي ( ماجدا الفتيّة ) من عالمنا الفاني , سافحةً دمها القاني كاحتجاج على الجريمة المرعبة التي أوقعها المجرم بشارة الخوري رئيس الجمهوريّة أللبنانيّة بمؤسس الداهشيّة في عام 1943 حتى 1952 . وقد إنتحرت إبنتي ( ماجدا ) لتسمع صوتها للرأي العام اللبنانيّ والعالميّ , ولتوقظ ضمير الرأي العامّ . وكانت وفاتها في 27 كانون الثاني 1945 ؛ لأنّ جريمة تجريد الدكتور داهش من جنسيّته اللبنانيّة ما كان ليقدم عليها بشارة الخوري لو لم أعتنق الداهشيّة أنا وقريني السيّد جورج حدّاد وكريماتي أندره وزينة , ثمّ الفقيدة الغالية ( ماجدا ) قاطنة الفراديس الإلهيّة . إنّ بشارة الخوري هاله وهال زوجته إعتناقي مع جميع كريماتي وقريني وصهرنا جوزف حجّار الداهشيّة , إذ تفانينا في سبيلها مما جعل بشارة الخوري زوج شقيقتي لور يصدر مرسوماً جرّد بواسطته الدكتور داهش من جنسيّته البنانيّة وأنف الدستور في الرّغام ! وإذ ذاك أصدرت عشرات الكتب السوداء مندّدةً بالعمل الإجراميّ الذي إرتكبه رئيس الجمهوريّة , شارحة مراحل الجريمة النكراء , ووزّعت هذه الكتب السوداء سرّاً على الشعب اللبنانيّ الذي كان يستيقظ ليرى طرق بيروت وقراها قد فرشت بالكتب السوداء وفيها تفاصيل الجريمة الهائلة . وقد سجنني بشارة الخوري مدّة عام كامل قضيته مع المجرمين والمرتكبين القبائح , إذ لم يكفه إنتحار إبنتي المفدّاة ماجدا , بل تكملةً لأحزاني الهائلة وإتماماً لأشجاني المرعبة زجّني في أعماق السجون . والسجن كان حريّاً بمن إعتدى على الحرّيّات وعلى الدستور اللبناني الذي أقسم يمين المحافظة عليه , وكان أول من حنث بيمينه ومزّق أشلاءه , وبعثرها الى جميع الجهات . إنّ التاريخ لا يرحم . والتاريخ قد سجّل مراحل هذه الجريمة بعشرات الكتب التي ستملأ الخافقين ليقرأها جميع شعوب الأرض ويلعنوا من إرتكبها مثلما لعنوا وسيلعنون من إعتدوا على السيّد المسيح . إنّ الحمامة الذبيحة ماجدا حدّاد التي قدّمت نفسها قرباناً لن يذهب دمها هدراً . وما دام رجل واحد أو سيّدة تقرأ كتاباً واحداً من سلسلة الكتب السوداء التي صدرت والتي ستتوالى طبعاتها ما دامت الأرض أرضاً والسماء سماءً , فسيبقى دمها المسفوح هو الدليل لمن سيقرأ تلك الكتب التي تشرح مراحل الجريمة الشنعاء الرهيبة . إنّ ذكرك , يا ماجدا , لا ولن يبرح خاطري . ونبلك أراه مائلاً دوماً أمامي . ولطفك لن أرى له مثيلاً أيّتها اليمامة الذبيحة . ورقّتك , ويا لها من رقّة لا يمكنني وصفها . وتضحيتك سيذكرها الداهشيّون , وسيخلّدونها في بطون كتبهم التي سيؤلفونها . وخيالك لن يبرح أفكارهم . لقد كنت , يا ماجدا , في إبّان صباي , عندما أطلقت الرصاصة على صدغك فأردتك . واحرّ قلباه عليك ! والآن مضى , منذ تلك الدقيقة , ستة وعشرون عاماً بما كانت تحمله من أهوال مرعبة وأثقال رهيبة . وقد تقدّم بي العمر وفعلت السنون فعلها الذريع بي , ولكن هذه السنين المنصرمة لم تستطع إزالة صورتك التي حفرت في قلبي , ولن تمحى حتى ولو طواني الموت بين ذراعيه الرهيبتين . فإليك , الى روحك النقيّة , إلى فتنتك التي ضمّها اللحد بين جنبيه , إلى حماستك الملتهبة في سبيل الرسالة المقدّسة , إلى شبابك الريّان الذي طواه اللحد في أعماقه الرهيبة . إلى روحك البهيّة التي أصبحت تعاين اللّـه في فراديسه الخالدة ببهجاتها التي لا يمكن لقلم بشريّ أن يصفها , ضارعةً إليه أن يجمعني بك قريباً لأحيّي بطولتك التي سجّلها التاريخ بين دفّتيه ! وإلى اللقـاء أيّتها الشهيدة الغالية ! بيروت , 20 شباط 1971 ماري حدّاد الداهشيّة سيف الحقيقة الرهيف بقلم الكتور داهش منذ سبعة وعشرين عاماً مضت , أطلقت ( ماجدا حدّاد الداهشيّة ) الرصاص على صدغها وضحّت بحياتها , وذلك إحتجاجاً على الظلم الرهيب الذي أوقعه أقرباؤها بي , إذ جرّدت من جنسيّتي , وأبعدت , وشرّدت في مشارق الأرض ومغاربها . ولور قرينة بشارة الخوري رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة , يومذاك , هي خالة ماجدا حدّاد الداهشيّة . وفي أواخر عام 1942 , إعتنق الداهشيّة كلّ من ماري حدّاد وقرينها جورج حدّاد , وكذلك كريماتها : ماجدا الشهيدة , أندره , وزينة , كما آمن بها صهرهما جوزف حجّار قرين السيّدة أندره . وقد حاول أقرباء آل حدّاد أن يبعدوا السيّدة ماري وقرينها وكريماتها عن مؤسس الداهشيّة , واستعملوا كافة الطرق , ففشلوا وكان فشلهم ذريعاً . وإذ ذاك صدر مرسوم النفي والإبعاد . فما كان من ماجدا صاحبة العقيدة الداهشيّة الراسخة إلاّ الإحتجاج الصارخ , إذ أطلقت الرصاص على صدغها مضحّية بحياتها الغالية في سبيل إيصال صوتها للرأي العام , إستنكاراً لهذا النفي المجحف والتشريد الذي تجاوز حدود القانون والدستور . إنّ هذه المأساة المرعبة قد مضى عليها سبعة وعشرون عاماً , وما تزال كأنّها ( إبنة ساعتها ) . وستمضي آجال وتتصرّم أجيال , وستؤلّف كتب كثيرة شارحة مراحل هذه المأساة الهائلة . والشعوب القادمة ستكون الحكم إذ ذاك , ويكون التاريخ القول الفصل . وسوف يميّز الصالح من الطالح . وسيكون حكمه صارماً ولكن عادلاً . وبما أنّني أعتقد إعتقاداً راسخاً بخلود الأرواح , وأنّها تنتقل بعد الوفاة الى عوالم مادّية أخرى , إذاً بوسعي أن أ}كّد تأكيداً جازماً أنّ الحساب لم يسدّد بيني وبين من إرتكب الشرّ الفاضح , وأنّ الإقتصاص سيبتدىء فور إنتقالي من عالم المادّة الدنيويّ هذا . وسيكون الحساب عسيراً , وسيدفع الثمن غالياً . وإذ ذاك تنتصر العدالة بعد أن يساط الظلم سوطاً رهيباً , إذ لكلّ جريمة ثمن ستدفعه عاجلاً أم آجلاً . وإنّ ربّك لبالمرصاد . وما أروع الكلمة الخالدة التي تفوّه بها الأديب الروسي العالميّ تولستوي , إذ قال : إنّ اللّـه يمهل ولكنّه لا يهمل . وإذ ظنّ المعتدي أنّه قد نجا بعدما انطلقت روحه من عالم الأرض ولم يقتصّ منه على ما إرتكبه من أهوال جسيمة , فظنّه باطل وتخيّلاته وهميّة . وستوقظه الفجيعة التي ستنقضّ عليه إنقضاض الصواعق في عالمه الذي أوصلته إليه أعماله الرهيبة . وليثق الجميع بأنّ كلّ آت قريب . ومن يتهكّم بأقوالي هذه , فإنّما يتهكّم بنفسه وغبائه الشديد . وإنّي أسأل بدوري , من أين أتيت أيّها العلاّمة العارف الغارق في العلوم والفلسفات . ولكنّه سيصمت , ولن يستطيع إعطائي الجواب . وما دام الإنسان يأتي ولا يعرف من أين كان مجيئه , فما أحراه أن يجهل إلى أي مكان ستكون عودته , عند إنتهاء أيّامه على أرض الشقاء هذه . ولكنّي أعتقد إعتقاداً راسخاً أنّ كلّ إبن أنثى سيذهب , بعد وفاته , الى عالم ماديّ آخر , ويبدأ , هناك , حياةً جديدةً أخرى . وهكذا يتسلسل موته وبعثه من عالم الى عالم حتى يبلغ عالم الروح , بعدما يكون قد تدرّج في سلسلة إختبارات وتجارب هائلة , وبعدما تكون روحه قد بلغت الكمال , بعد سلسلة مرورها في عوالم عديدة . هذا هو رأيي الخاص , ولكلّ رأيه الخاصّ . وإنّي أستشهد بالآية القرآنيّة القائلة : ( إنّك لا تهدي من أحببت . إنّ اللّه يهدي من يشاء ) . والسلام . بيروت في 15 – 2 – 1972 داهش ترجمة مذكّرات الشهيدة ماجدا حدّاد يوم السبت , بين الساعة التاسعة والنصف والعاشرة ليلاً, طرق بابنا؛ فأسرعت لأفتح, فشاهدت رجلين عند الباب الخارجي, في أسفل الدرج, فسألتهما : ما تريدان ؟ فأجاب أحدهما : نريد أن نكلّم أنطوانيت " شقيقة داهش " لأمر ضروري . فلم أفتح لهما وقلت : أنطوانيت ليست هنا . وبعد دقائق عادت الطرقات, فنظرت وأنطوانيت من النافذة وسألنا : من الطارق ؟ فأجاب صوت معروف منّا : أنا الدكتور داهش . وسرعان ما تبيّنا الدكتور داهش, وكان واقفاً بين مفوّضين من مفوّضي الأمن . قال : أنزلي يا أنطوانيت, أريد أن أكلّمك . فشعرت بالخطر يهدّد النبيّ, فخلعت حذائي وهرعت هابطةً الدرج حافية, تلحق بي أنطوانيت وأمّي . وبلغنا أسفل الدرج, فوثبت أنطوانيت على أخيها تعانقه, وأنا أمسكت بيده وعانقته . وبدرت منه حركة يروم بها النجاة من المفوّضين , فأدركت مرماه؛ ولأتيح له فرصة الصعود على الدرج وثبت على المفوّض محمّد علي فيّاض, وأكرهته بجميع ما أملك من قوّة على الوقوف بالباب ؛ بينما بذلت أنطوانيت جهدها في إنقاذ أخيها من المفوّض الآخر . فهدّدني محمّد علي فيّاض بمسدّسه وصاح بي : دعيني, وإلاّ أطلقت عليك النار . قلت : إفعل . فأطلق الرصاص في الجوّ إرهاباً, وتسنّى له فتح الباب , فانسلّ منه عدّة أفراد من رجال الأمن , ودحرجوا النبيّ على الدرج بأيديهم وأرجلهم وقد شهروا مسدّساتهم, واستطعت أن أمسك بالنبيّ , فضممته الى صدري بكلّ ما أوتيت من عزم, وعلا صوتي فيهم : لن تمسكوه وأنا في قيد الحياة ! وأصبحت أنا وهو كتلة واحدة تتدحرج من درجة الى درجة حتى الرصيف, بل حتى قارعة الطريق . إذ ذاك وقفت أقاومهم, وكان عليهم أن يتألّبوا ستة ضدّي لإنتزاع النبيّ منّي, بعد أن أصيبوا بعدّة لكمات . وحاولت أن أصعد الى السيّارة التي طرحوه فيها فرموا بي الى الأرض , وانطلقت السيّارة , فالتفتّ حولي, فإذا الطريق يمتلىء برجال الأمن والكتائب وغيرهم .فأمعنت بشتمهم في وجههم, وركضت وشقيقة النبيّ في الشارع حافيتين . وركبنا سيّارة وعدنا سائقها بأن ندفع له فيما بعد, واتّجهنا الى السراي . وهناك ترجّلت وسألت : أين رجال الأمن ؟ فأقبلوا هازئين بنا . قلت : لقد أتوا في هذا الليل , بالدكتور داهش ليقتلوه , فإذا أصيب بسوء فإنّ خمسة عشر شخصاً مسؤولاً سيقتلون, غداً . خمسة عشر داهشيّاً سيقضون عليهم . جميع الداهشيّين لا يأبهون بالحياة . فأنذروا المسؤولين أنّ بشارة الخوري سيكون الضحيّة الأولى . وعدنا الى السيّارة, فقلت لسائقها : إندفع بنا الى سجن الرمل . ومررنا أمام منزل النبيّ , فدعوت السائق الى الوقوف لأدخل المنزل وآتي منه بمدية من مدى المطبخ , على الأقل . ونزلت أنا وأنطوانيت . فإذا بقوّة من الجند تحرس المكان وتمنعنا من ولوج الباب . ولكنّنا إستطعنا , بعد جهد, الدخول . فهرعت الى المطبخ, وهناك لقيت منشاراً قديماً, فأخفيته في صدري وشددت عليه زنّاري دون أن يبصرني أحد . وأراد الجند منعنا من ركوب السيّارة وحدنا, فبكت أنطوانيت وناحت, بينما عمدت أنا الى شتمهم, وشهّرت بالمسؤولين المجرمين, ونعتّهم بالجبناء, وهدّدت أعضاء الحكومة, وبشارة الخوري , والخائن محمّد علي فيّاض . ةإذ لم يحر الجنود جواباً عمدوا الى ضربي, ثمّ قادونا في سيّارتنا الى مخفر البسطة . وهناك نزلنا وأنا أعترض وأحتج عالياً على الظلم والعدوان, وأهدّد بالإنتقام . فاحتشد جمع من الناس, وأمامهم جميعاً رحت أشتم بشارة الخوري, ولور شقيقة المجرمين والأفاعي لا شقيقة أمّي . فقادني شرطيّ الى حجرة سوداء نتنة قائلاً لي " سأحبسك مع الجرذان, هنا, طوال الليل . فأجبت : الجرذان عندي خير من مجتمعكم, مجتمع هؤلاء المجرمين, إنّها أشرف منكم جميعاً, وليلة أمضيها في هذه الزنزانة لأحلى عندي من ليلة أمضيها في رئاسة الجمهوريّة عند المجرمة خالتي . وإنّي أكرّر تحذيري : إذا أصيب الدكتور داهش بأيّ أذى فأنّ خمسة عشر شخصاً سيقتلون غداً . فعادوا الى ضربي, وقال أحدهم : ما داهش غير سافل قذر ! فقلت : عليك أن تطهّر شفتيك – أنت وغيرك – قبل أن تتلفّظ باسم داهش المقدّس . فأنتم مجرمون تضطهدون هذا الرجل مثلما اضطهد جدودكم موسى ويسوع وحمّداً , وجميع الأنبياء الآخرين . فانبرى أحد رجال الأمن يقول : هذه شقيقته, لكن أنت من تكونين حتى تدافعي عنه ؟ وانهالت شتائمهم عليّ . فأجبت : إن حقارتكم لشديدة فلن تستطيعوا فهم معنى النبل , وإنّ قذارتكم لكبيرة فلن تستطيعوا أن تدركوا أنّ بوسع الإنسان أن يدافع عن قضيّة العدالة وقضيّة رجل بريء إضطهد بظلم وجبانة , دفاعاً لا تسيّره الأغراض الدنيئة . وبعد عدّة مكالمات هاتفيّة من هنا وهناك, وبعضها الى رئاسة الجمهوريّة, أخلوا سبيلنا, وجعلوا السائق ورفيقاً له كان بجانبه مسؤولين عنّا . وطلبت من السائق أن يسير بنا الى جونية, فرفض وقادنا الى منزلنا وقد طوّقه الجند . فأوعزت إليه تكراراً بمواصلة المسير, فتابع تقدّمه غير راض , حتى إجتاز رجال الأمن, ثمّ توقّف رافضاً متابعة السير . فقلت له : إذهب الى المنزل مع أنطوانيت, فهناك تدفع لك أجرتك . فمانع ورفيقه وحالا دون نزولي . وعبثاً خاطبتهما وحاولت إقناعهما . وإذا بأربعة من الجند يقتربون منّا , فتملّصت فجأةً, وانطلقت في ركض حثيث, واهتديت الى سيّارة تقودني الى جونية . وبدت لي الطريق طويلة, طويلة. وكنت أسائل نفسي : ترى, ما الذي فعلوه بالنبيّ الحبيب؟ لقد أرهقه المجرمون الأنذال على الدرج ! هل أصيب بجروح ؟ لكن من المؤكّد أنّه أصيب برضوض . إنّ العقاب الذي ينتظرهم لن يكون كافياً مهما عظمت ويلاته . وشعرت بأنّي عاجزة, وتراءى النبيّ لي مضنىً, جريحاً, مريضاً, فوددت أن أمزّق جسمي بأظفاري, وتمنّيت أن تنقضّ نيران السماء على مدينة بيروت فتحرقها . ولم أكن أعرف منزل الدكتور خبصا, لكنّ أمراً عجيباً حدث : فقد وقفنا أمامه لنسترشد إليه َ وصعدت اليه بقوى خائرة, واستعدت عزيمتي بشربي النبيذ الخالص مع الدكتور خبصا وعقيلته أوديت . ثمّ ركبنا سيّارة الطبيب , وشخصنا الى منزل الأستاذ إدوار نون في عاليه , فبلغناه لدى الساعة الثانية والنصف صباحاً . وايقظ الدكتور خبصا الأستاذ نون, فارتدى ثيابه, وعند الساعة الثالثة كنّا في دار فؤاد الخوري شقيق بشارة الخوري . فكلّفته أن ينقل الى أخيه رسالتي الشفهيّة هذه : " إذا لم يطلق سراح الدكتور داهش فإنّ ويلات لا تحصى ستنقضّ عليه وعلى أسرته " . وقلت له أيضاً : " يزعمون أنّ الدكتور داهش يعاشر نساء السوء . حتى لو كان زعمهم صحيحاً فعلى بشارة الخوري أن يبدأ فيهتمّ بنساء السوء اللواتي في عائلته , أولاً " . ماجــدا حــدّاد الاستاذ جبران مسّوح يرسل تحريرين
جبران مسّوح هذا الصّحفيّ النبيل الذي تطوّع فاحتضن القضيّة الداهشيّة ، ونشر بمجلّته أنباء الجريمة المروّعة التي ارتكبها الباغية بشارة الخوري في سلسلة مقالات ناريّة انقضّت على رأس بشارة وذويه انقضاض الصواعق المدمّرة . وقد أرسلت ماري حدّاد الى مسّوح مجموعة الكتب السوداء التي نشرها الداهشيّون عن جريمة تجريد مؤسس العقيدة الداهشيّة من جنسيّته اللبنانيّة لأن ماري حدّاد وعائلتها الداهشيّة عظم الأمر شقيقتها لور وشقيقها ميشال شيحا وبشارة الخوري وهنري فرعون , فجرّدوا داهشا من جنسيّته وشردوه . وإذ ذاك أعلنت الحرب بين هذه الشرذمة الباغية على الحق والداهشيّين , وراحت الصّحف في الوطن والمهجر تنشر أنباء الجريمة فيتلهف الجمهور الى مطالعتها . وقد أرسل جبران مسّوح الى بشارة المرتكب الجريمة والى رياض الصلح تحريرين يراهما القارئ منشورين بخطّ يد مسّوح , ننشرهما للذكرى وللتاريخ الذي سجّل اسم السفاح بشارة الخوري بين دفتيه , فيقرأ الناس أنباء جريمته المزلزلة فتلعن ألسنتهم مرتكبها . ومثلما سجلت جريمة الاعتداء على المسيح البريء هكذا سجّلت الجريمة التي ارتكبها بشارة الخوري . وستبقى وصمة عار أبديّ على جبينه الملطّخ بعار الاعتداء الشائن . وهكذا خلّد اسم بشارة الخوري إذ حشر نفسه بين زمرة كبار المجرمين الآثمين . داهش والداهشيّة أسرار القضيّة التي هزّت أركان العهد البائد بيروت – لمراسل العالم العربي – ما كاد العدد الأخير من ( العالم العربي ) يوزّع في لبنان وسوريا حتى تخاطفته أيدي القرّاء بلهفة بالغة ، وطالعوا بنهم وشوق شديدين ما تنشره السيّدة ماري حدّاد الداهشيّة عن أسرار اضطهاد زوج شقيقتها بشارة الخوري الذي خلعه الشعب وما أنزله من تنكيل وارهاق بالداهشيين طوال حكمه المجرم الذي امتدّ تسع سنوات طويلة . وقد اتّصل بي الكثيرون وبلّغوني أن أشكر صاحب مجلّة ( العالم العربي ) لافساحه صدر مجلّته الحرّة لنشر أنباء هذه المأساة الداهشيّة ، وأعلموني بتشوّقهم الشديد لمعرفة أسباب اضطهاد داهش الأساسيّة ، فاتّصلت بدوري بالأديبة السيّدة ماري حدّاد التي سلّمتني هذه المذكّرات الثمينة التي أرسلها بدوري الى مجلّتكم كي تنشر فيها . فيطّلع العالم العربي على حقيقة الأسباب والدوافع التي حدت ببشارة الخوري لارتكاب تلك الجريمة التي دوّت أنباؤها في ارجاء المعمور ، وسيخلّدها التاريخ بين دفّتيه كوصمة عار . انها قضيّة القرن العشرين ومأساته الأليمة . الى كلّ مغترب لبنانيّ أذيع هذه الحقائق المروّعة المرعبة . كان للجريمة الرهيبة ، التي أقدم عليها الشيخ بشارة الخوري رئيس الجمهوريّة الأثيم ، وقع عاصف في المهجر . وهناك عشرات من الصحف العربيّة وسواها نشرت أنباء هذه الجريمة الشائنة ، وعلّقت عليها بما بلغ اليه علمها . ومنذ أيّام وافانا البريد برسالة من الكاتب العربيّ المعروف الاستاذ جبران مسّوح صاحب مجلّة ( المختصر ) التي تصدر في ( بونس أيرس ) ، ففضضتها وطالعتها . واذا بهذا العربيّ الأبيّ يطلب منّا تفصيلات وافية عن أسباب ومسبّبات تجريد الدكتور داهش من جنسيّته اللبنانيّة ، كي ينشر عنه للمهاجرين المتعطّشين لمعرفة أسرار هذه الوصمة السوداء ، واللطخة الهائلة التي وصمت بشارة الخوري وزوجته ، وشقيقها ميشال شيحا ، وهنري فرعون الذي أمسكه حرس الليل في حالة مريبة مع أحد الغلمان ... وللحال بادرت وكتبت الى الأستاذ مسّوح التحرير الذي سيطالعه القارىء الكريم . وهكذا كانت نتيجة الظلم الشنيع ، والاعتداء الفظيع على بنود الدستور ، ودوس بشارة الخوري على موادّه المقدّسة ، بعدما أصغى لنصائح ميشال شيحا ، ورضخ لأوامر زوجته لور ؛ فذاع عملهم الشائن في كلّ مكان ، وتحدّثت به الركبان ، في لبنان وخارج لبنان . فاليكم يا أبناء المهجر هذه المأساة الصارخة طالعوها ، واطّلعوا على خفاياها ، وليحدّث الصديق صديقه ، والرفيق رفيقه عمّا ارتكبته وترتكبه هذه العصابة الشرّيرة . ففي نشركم هذا تؤدّون أجلّ خدمة لأبناء وطنكم من مقيمين ومغتربين . وامنعوا الراغبين في العودة الى الوطن ، في هذا العهد الفاسد ، حتّى يقضي الله على هذه الطغمة الأثيمة بعد أن تتردّم ترديما ، وتتحطّم تحطيما ، ولا تعود ويقوم لها قائمة ؛ بل تصبح في حياتها الآتية حائرة هائمة . أمّا الآن فاليكم تحرير الأديب جبران مسّوح صاحب مجلّة ( المختصر ) ، وهذا نصّه : بونس أيرس , 27 كانون الثاني 1946 سيّدي أرسلت اليكم مع البريد نسخة من مجلّتي ( المختصر ) كهديّة لكم . وفي العدد الثاني نشرت شيئا عن حادث الدكتور داهش , وكيف نفته الحكومة وجرّدته من جنسيّته اللبنانيّة بمساعي ميشال شيحا , شقيق عقيلة رئيس الجمهوريّة الذي انساق بدوره لكردينال ومطران . فالذي أرجوه من فضلكم أن تخبروني عن هذا الحادث كلّ ما لديكم من التفاصيل ,حتّى اذا نشرت عن هذا الموضوع أكون قد نشرت حقائق مأخوذة عن مصدر وثيق . ماذا عمل الدكتور داهش حتّى استحقّ الاعتقال والنفي والتجريد من الجنسيّة ؟ ما هي سلطة الكردينال والمطران حتى يتدخّلا في شريعة البلاد , ويؤثرا على السلطة الحاكمة ؟ لماذا انفصلت العائلات المظلومة عن الكثلكة , وأبرقت الى ( البابا ) في ( روما ) عن انفصالها بسبب اضطهاد داهش ؟ جميع هذه التفاصيل أرجو الإفادة عنها بكلّ صراحة ودقّة عند سرد الحوادث ليكون للكلام قيمته , أي لا تدعوا للغاية أو التشفي سلطة عليكم عندما تكتبون إلي ّ. واني بأنتظار جوابكم لأنشر كلّ ما يختص بهذا الموضوع الخطير واقبلوا شكري واحترامي . جبران مسّوح وهذا هو تحريري اليه ردّا على رسالته الاستفساريّة : لحضرة الصحافيّ القدير والأديب النحرير جبران مسّوح المحترم تحيّة عطرة أرسلها من لبناننا المكبّل , الى ابن المهجر الحامل شعلة الثقافة والحريّة ، في بلاد غمرتها أنوار المدنيّة . أمّا بعد ، فأبدأ رسالتي بالثناء على أريحيّتكم ، ونخوتكم الشهمة ، بالاهتمام في قضيّة الدكتور داهش ، ونشر شيء عنها في مجلّتكم ( المختصر ) دفاعا عن الحقّ المهضوم ، وعن العدالة التي عبثت بها الغايات . وهذا ممّا يؤكّد لنا نبالة أخلاقكم ، لأنّ المظلوم قلّ أن يجد مناصرا لوجه الله في أرض طغت عليها ( المادّة ) ، وفي عالم كلّ ما يجري فيه مبنيّ على المنافع الخسيسة ، وعلى المآرب الحقيرة . وفي اهتمامكم بهذه القضيّة ، واعلان فصولها ، تكونون قد خدمتم ليس المبادىء القويمة فحسب ، بل جميع أبناء المهجر ، وذلك باعطائهم فكرة صادقة عمّا يجري في بلادهم من طغيان وارهاق واضطهاد ، وظلم واستبداد ، في عهد الخوري رئيس الجمهورية اللبنانيّة ، وفي عهد زمرته التي يطلقون عليها رسميّا اسم ( الكتلة الاستقلاليّة ) . وكم كان الأمر أقرب من الحقيقة لو أطلقوا عليها النعت الذي ينعتها به الشعب بأكمله ألا وهو ( الشرذمة المجرمة الاستغلاليّة ) التي ضجّت البلاد من فظائعها الرهيبة ، وفضائحها النتنة ، وجرائمها المروّعة ، ونشرت الصحف المحليّة والعربيّة عن مآسيها ومعاصيها الفصول الطوال . وأنتم بلا شكّ مطّلعون تمام الاطّلاع على هذه الوقائع الصادقة الصادعة . أمّا القضيّة التي طغت بفظاعتها على جميع الجرائم المرتكبة ، حتى أصبحت محطّ اهتمام كلّ فرد ليس في لبنان فقط ، بل في جميع الأقطار العربيّة ، فهي قضيّة الدكتور داهش ، تلك الحادثة الهائلة التي لم تسجّل مثلها حتّى قرون الهمجيّة ، وأجيال الاستبداد والتنكيل في عصور محاكم التفتيش المدلهمّة . وبما أنكم تطوّعتم للدفاع عن الرجل المظلوم ، وطلبتم التفاصيل عن مصادرها الأصليّة ، كي تطلعوا عليها الرأي العامّ في المهجر ، فها انني أجيبكم عليها لأنيركم عن حقائق الأمور ، وعمّا هو مكشوف ومستور . وجميع ما أكتبه اليكم ، وجميع ما نشرته في مؤلّفاتي ( أي الكتب السوداء ) التي بعثت بها اليكم لا يعبّر الاّ الشيء القليل عن الحقيقة المؤلمة ، ولن يستطيع أن يصف الآلام الجسام ، والعذابات العظام التي حلّت بنا بسبب استبداد حكومتنا ، وعلى رأسها ( دكتاتور لبنان ) الطاغية بشارة الخوري ، هذا المجرم الأصيل . فليس في القول مبالغة . والوقائع هي أمام الجميع تثبت مراحل الظلم ، وتخفي الأحزان النفسيّة ، والآلام الروحيّ’ التي لا يشعر بها الاّ من ابتلى بهذه المظلمة . داهش يعود قريبا الى لبنان جريدة الأسواق 14/2/1953 هذه أول رسالة كتبها داهش الى أصدقائه في لبنان بعد اعادة الجنسية اللبنانية اليه وقد أعلن فيها عزمه على المجيء : بغداد في 7 شباط 1953 تحية وسلام وبعد ، فقد وصلتني برقيتكم المؤرخة في 6 شباط والتي تعلمونني فيها أن جنسيّتي التي هي حق صريح لي ولكل لبناني قد أعادتها الىّ حكومة الامير خالد شهاب . وعليه آمل ان تبلّغوا شكري للصديق النبيل الامير خالد شهاب لاعادته العدل الى نصابه ، والحق السليب الى أربابه . انّ الدستور اللبناني يكفل حق الحرية التامة لكل لبناني – ضمن القوانين التي تسري على الجميع سواسية – وأنا قد اغتصب الوصولي بشارة الخوري حقوقي التي يكفلها الدستور ، هذا الدستور الذي أقسم أنيحافظ عليه بصفته رئيسا للجمهورية – ولكنه حنث بيمينه الباطلة ، وحطّم بنود الدستور ، وداس على أشلائه الممزقة . انّ الحريّة منحة سماوية يهبها الله لمخلوقاته ولا توجد أية قوّة أرضية تستطيع حجبها عن أي مخلوق : وان أعجب لأمر فعجبي هائل لوقوف الصحافة موقف اللامبالاة وعدم الاكتراث حول أمر نزع جنسيتي . مع ان واجب الصحفيين – والصحفيون أصحاب رسالة سامية – أن يدافعوا عن الحريات دفاعا جبارا ويزلزلون بأقلامهم النارية ارتكابات أي وصولي يبغي على الحرية ، ويكبلها بقيوده الاجرامية . وان صمتوا ولم ينافحوا عن العدالة الصريعة بأقدام الباطل ، والحرية المدوسة بسنابك البغي والعتيّ ، اذن فانّ سيف ديموقليس الذي يحمله الباغية المعتدي يكون أبدا مرهف الحدّين ومعلّقا فوق رؤوسهم لكي يهوي بأيّة لحظة يراها ذلك الجاني مهشّم القوانين ، والعابث بالحريات ، والمستهتر بالدساتير . وثق بأنه لو حدث في اوروبا لاي فرد – كائنا من كان – ما حدث معي ، وهذا مستحيل حدوثه في البلاد الاوروبية ، قلت اذا وقع المستحيل واعتدى أي حاكم على جنسية أي فرد ، مهما صغر شأنه وضؤلت مكانته ، اذن لثار الشعب ثورة كاسحة ماحقة ساحقة ، ولسقطت الحكومة ، ولدكّ عرش المعتدي ولثلّ بغيه ، ولتحطّمت أريكته ، ولزجّ في أغوار السجن بعد محاكمة علنية وتشهير سافر تتناقل أنباءهما صحافة الدنيا بأسرها . وها هو التاريخ يضمّ بين دفتيه أنباء الثورة الافرنسية التي دكّ فيها الشعب سجن ( الباستيل ) وحطم الملكية المعتدية على حقوق الشعب فاضمحلّت تلك الملكية ودكّت أركانها دكّا عاصفا حتى يوم يبعثون.... والآن ، آمل من أخي الاستاذ حليم ، بصفته وكيلا عني ، ان يبادر فيخرج لي تذكرة هوية لكي أستطيع العودة الى وطني الذي سلخني عنه الباغية المعتدي ، هذا المعتدي الذي شهّرت أنباء جريمته المروعة في الخافقين ، وتحدّثت عنا ألسنة الخلق فسلقته بألسنة حداد وفضحت جريمته وهتكت ستره ومزّقت سريرته ، فعرف الجميع من هو المجرم المرتكب ومن هو البريء . وأكبر برهان ، وأثبت دليل على نعتي ايّاه ( بالمجرم الوصولي ...) هو تلك الثورة الشعبية اللبنانية الكاسحة التي انصبت على رأس ( بشارة الخوري ) وذلك لعظم ما ارتكبه من الشرور والمعاصي ضدّ الشعب اللبناني ، واغتصابه لثروة البلاد ، وامتصاصه لدماء الشعب ، واعتدائه على الأحرار الأنفار من أبنائه الأخيار الذين لا ولن يرضخوا لجرائمه المعروفة ، فنكّل بهم تنكيلا شائنا . نعم ، لقد ثار الشعب عليه ثورته الكاسحة ، فاذا به بين غمضة عين وانتباهتها وقد دكّ عرشه وفقد الى الأبد أريكة حكمه ...وهكذا تم سقوطه بعدما خلعه الشعب وطرده ، فأصبح الوصولي أسطورة يتندّر الخلق بأخبار مساوئها التي لا يحصيها عدّ ... واذ أودّعك وأترقّب هويّتي اللبنانية ، أقول حقّا لقد صدق الشاعر العربيّ القائل : وما من يد الاّ يد الله فوقها وما ظالم الاّ ويبلى بأظلم المخلص داهش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ملاحظة : حقيقة الأمر أنّ الدكتور داهش كان في بيروت ، وفي منزل آل الحدّاد الذي كان لا يبعد أكثر من 40 مترا عن القصر الجمهوري ، حيث كان يقيم الطاغية الباغية بشارة الخوري ، ولكن قصدا للتعمية ونظرا لظرف الدكتور داهش الخاص ورد في الرسائل أنها تصدر عن حلب أو بغداد الخ .. داهش يهاجم بشارة الخوري نشرت جريدة " الجهاد " في عددها الصادر بتاريخ 24/3/1953 ما يلي : اليوم عاد !! الرجل الذي شغل الناس شهورا بحالها في عهد الشيخ بشارة الخوري ، واتّهموه بحمل شبح الجنون الى عدّة شخصيّات سياسية ونسائية ، يفتح قلبه لأول مرّة بعد ظهوره من جديد ، واسترجاعه الجنسية اللبنانيّة ، ويتحدّث عن نفسه ، وعن جلساته الروحيّة ...والظواهر الخارقة للطبيعة التي استطاع تحقيقها على رؤوس الأشهاد ! كان ولا يزال أشبه بالاسطورة ! اسمه – كما يقول المقرّبون اليه – سليم العشي ...ولقبه ، كما يعرفه الناس في ثلاثة أرباع الدول العربيّة والشرق الأوسط ، هو الدكتور داهش . قيل منذ سنوات انّه اختفى نهائيّا .... قيل أيضا انّه اغتيل على حدود ايران ، وانّ اتباعه في البلاد العربيّة قطعوا لأجله الحدود ، واتّشح اكثرهم بالسواد . ثم ظهر فجأة ...وعادت الابتسامة الى شفاه الداهشيّين من جديد : لكنّه هذه المرّة كان شخصا آخر !...انّه يهرب من عدسات التصوير . يغلق بابه في وجوه الصحفيّين . يعتذر عن مقابلة غير المرغوب فيهم ، ويختفي من درب كلّ من يحاول الاستطلاع أو التجسّس عليه ! ولكنّ الرجل ما لبث ان تكلّم : قال الرجل الذي تبدو على محيّاه مسحة من الطيبة : " نفتني حكومة بشارة الخوري في البداية الى بلدة " اعزاز " القريبة من مدينة حلب ! وبعد ذلك أفلتّ من الرقابة في بلدة " اعزاز " وهربت الى العراق ، ثم استقرّ بي المقام في بلاد العجم حيث نزلت في ضيافة عائلة ايرانية تعتنق المذهب الداهشيّ " . ألم تأت بظواهر روحانية في العراق أو ايران ؟ كانت في الواقع جلسات سريّة . فقد كنت في عداد المختفين !
أوكتو بلا سم ! وعدنا نسأل الدكتور داهش : هل صحيح انّك تخترق الجدران ؟ انني منحت قوة روحية تتيح لي القيام باعمال خارقة وذلك لاثبات وجود عالم آخر . وعاد الدكتور ابو سليمان يقول : أنا والاستاذ أدوار نون نشهد بأنّ الدكتور داهش يخترق الجدران بكلّ سهولة . فقد ذهبنا ذات مرّة لزيارة أحد الأصدقاء ، عندما هممت أنا والاستاذ نون برنّ الجرس ، اختفى الدكتور داهش ، ووجدناه داخل المنزل ...قبل أن يفتح الباب ! وسألنا خارق الجدران : بماذا تفسّر هذه الظاهرة ؟!.. كما قلت قوّة تمنحني ايّاها ...الارواح ! هل أحضرت لأحد الأشخاص شيئا من بعيد ؟ خذوا باريس مثلا . لقد عاد الدكتور خبصا من العاصمة الفرنسية ، بعد أن أنهى فيها دراسته الطبيّة ، وجاء إلي يتحدّاني ...ويطلب مني أن أعيد اليه في بيروت مفكّرة تهمّه جدا فقدت منه في باريس ! وهل أعدتها اليه ؟ بكلّ تأكيد. وكان ذلك في جلسة روحيّة ! بماذا تفسّر هذه الظاهرة ؟ لا أملك وسيلة تفسيرها . انّها ظاهرة خارقة للطبيعة ! طهرا ...بك دجّال ! ودخلنا مع الدكتور داهش في حديث آخر ، فسألناه : هل تعرف الدكتور طهرا بك ؟ أجاب باستخفاف : أسمع به ! هل له شيء من قوّتك ؟ بل هو مشعوذ دجّال ، قام رفيقي الدكتور أبو سليمان بكشف ألاعيبه ، وفضح أساليبه حتى في التلفزيون . انّه يعتمد في شهرته على مائدة المسامير التي ينام عليها دون أن تخترق المسامير ظهره ! وبماذا تفسّر هذه اللعبة ؟ مسألة بسيطة . انّ كثرة المسامير وملازمتها لبعضها البعض ، تجعلانها متوزّعة على الجسم ، بحيث لا تخترقه ولا تترك عليه أكثر من علامات ! ما دمت فريد عصرك ...فلماذا اضطهدوك في عهد الشيخ بشارة بدلا من أن يكرّموك ؟ كل ذنبي مع الشيخ بشارة ، ان السيّدة ماري حدّاد ، شقيقة زوجته لور اعتنقت المذهب الداهشي . لقد اتهموك يومها بافتتان الناس ! الناس أحرار اذا افتتنوا بي ...ما دام ذلك لن يلحق بهم أيّ أذى ! قالوا عنك انّك تغرّر بالنساء ! هذه دعاية مغرضة اشاعتها الصحافة اللبنانية بتحريض من بشارة الخوري ومن الاكليروس المسيحي اثناء العهد البائد . قالوا أيضا انّك تسبّبت في جنون بعض الناس ! مجرد اشاعات لتأليب الناس عليّ ، ومنعهم من مساندتي اذا ما فكّر المسؤولون في اضطهادي ! لكن للتاريخ يجب أن يقال ان بشارة الخوري جنّ عقابا له على اضطهادي وتجريدي من جنسيتي وذلك بقوّة روحية . والآن ؟؟ لقد عدت الى سابق جنسيتي ، وصدر قرار باعادتها إلي ، ونشر القرار في الجريدة الرسميّة ! وقل جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا . دعوى خطيرة تقيمها ماري حدّاد ماري حدّاد الداهشيّة تقدّم عريضة لرئيس الحكومة جريدة الشرق 27 تشرين الثاني 1952 أشرنا في عدد أمس الى الوفد " الداهشي " الذي قابل حضرة رئيس الوزراء السيد خالد شهاب مطالبا بالسماح للدكتور داهش بالعودة الى لبنان ، ويقول أحد مندوبينا المحليين أن السيدة ماري حدّاد شقيقة السيدة لور ، قرينة السيد بشارة الخوري رئيس الجهورية السابق ، وقد قدّمت لرئيس الوزراء عريضة تطلب فيها مقاضاة صهرها السيد بشارة الخوري وشقيقها السيد ميشال شيحا ، وشقيقتها السيدة لور ، وتطلب محاكمتهم علنا على زجها في السجن دون حقّ أو عدل نكاية وانتقاما لتمسكها بعقيدة لا يريدون أن تدين بها . وفي العريضة المذكورة تتّهم المذكورين أعلاه بأنهم داسوا الدستور والأنظمة وأوردت أسبابا عن الغاية من اعتقال الدكتور داهش وتجريده من جنسيّته اللبنانية وابعاده عن لبنان الى الحدود السورية فالتركية ، ممّا كان سببا في نشر سلسلة الكتب السوداء التي كانت أول مسمار في نعش عهد السيد بشارة الخوري . ويقول أحد أركان الداهشيين أن محاكم لبنان ستشهد أول دعوى من نوعها يماط اللثام فيها عن كثير من الأسرار الرهيبة التي لم تتصل بأحد . رسالة الدكتور حسين هيكل الأولى ها هو نصّ رسالة الدكتور حسين هيكل بالحروف المطبعيّة سيّدي الأخ الكريم الدكتور داهش حفظه الله وأبقاه . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . حمل إلي الأخّ الوفيّ الاستاذ حليم دمّوس رسالتك . وحمل إلي معها طائفة من آثارك وما نشرته السّيدة ماري حدّاد عن الاضطهاد الذي أنزله بك خصومك لأنك دعوت المسيحيين الى الايمان بنبوّة محمّد المرسل وقرآنه الكريم المنزل . واني لشاكر لك من صميم قلبي ما أثبتّه في رسالتك إلي عن كتاب ( ولدي ) . فقد أعدت به أمام بصيرتي عهدا لا أنساه ، شاكرا لك أن ذكّرتني بما كتبه ( جون ستيوارت ميل ) في كتابه عن ( الحريّة ) . هذا الكتاب الذي تلوته وتدبّرته صدر شبابي ، فحلّت مبادئه من نفسي محلّ العقيدة والايمان وهدتني سبيلي الى اليوم ، وجعلتني أرى المصارحة بالحقّ أقدس واجب على كلّ من يؤمن بانسانيّته ، ودفعتني لأكرّر في كلّ مقام قول النبيّ العربيّ الكريم : " الساكت عن الحقّ شيطان أخرس " . لقد ذكرت لك في الكتاب الذي حمله اليك عنّي أخونا الاستاذ حليم دمّوس أنّني أرى تجريد أيّ انسان من جنسيّته وزرا منكرا ، واثما فاحشا يلجأ اليه الطغاة لمآربهم الاستبداديّة . والتجريد من الجنسيّة لرأي يراه صاحبه أشدّ نكرا وأعظم وزرا . فجنسيّة المرء بعض حياته . فهي الصلة المقدّسة بين المرء ووطنه . وهي التي تتيح له أن يتمتّع بالحقوق التي يكفلها له الوطن . وكلّ عقاب وان عظم لا يساوي التجريد من الجنسيّة . بل انّ عقوبة الاعدام على فداحتها لأهون من التجريد خطبا ؛ لأنّ صاحبها يدفن في ثرى وطنه منسوبا الى بني وطنه ، ثم يتمتّع ذووه بعد انتقاله من بينهم باعزاز رفاته . فان مات مظلوما لرأي رآه كان متاعهم أوفى وأوفر لأنّ صاحب الرأي هو النبراس المضيء الذي ينير السبيل أمام الانسانيّة حتى بعد ثوائه في قبره . ألم تذكر في رسالتك ما أصاب ( سقراط ) هذا الفيلسوف الضخم والمعلّم الأوّل الذي أعدم مظلوما ، فزاد الظلم ذكره رفعة على رفعة ، على مدى الأجيال . فهنيئا لك يا أخي ما نزل بك من ظلم لأ،ّك حاولت ان تحارب التعصّب المذموم فحاربوك ، وحاولت أن تجمع كلمة بني الانسان في ظلّ الأخوّة بين أهل الأديان جميعا فاضطهدوك وشرّدوك ... ومن حقّك ، وأنت في منفاك ، أن تتمثّل بقول السيّد جمال الدين الأفغاني : أنا عشت لست أعـدم قوتـا واذا مـتّ لســت أعــدم قبــرا همّتي همّة الملوك ونفسي نفس حرّ لا ترتضي الأسر قســرا ولقد طالعت ما كتبته السيّدة ماري حدّاد في مذكّراتها التي نشرت في مجلّة (الرابطة الاسلاميّة ) ، وفي كتيّبها عن الداهشيّة ودعوتها الى الايمان بالنبيّ العربيّ والقرآن الكريم . فرأيتها تذكر فيهما أسماء كان لأصحابها شأن معك في عهد الرئيس ( ألفرد نقّاش ) . وتذكر أشخاصا آخرين كانت لهم يد في اضطهادك . ومن هؤلاء وأولئك من أعرفهم حقّ المعرفة . وسأنتهز فرصة مقامي في لبنان لأتّصل بهم وأثير الحديث معهم في الموضوع حتى تكتمل لديّ صورته ، ولكي لا يقال ، من بعد ، انني سمعت طرفا وأغضيت عمّا سواه . فاذا تمّ لي ذلك فسأثير مسألتك أوّل ما أعود الى مصر كما أثار الفيلسوف الفرنسي ( فولتير ) قضيّة ( كالا ) حتى بعد الحكم باعدامه . واني لأرجو أن أوفّق في اعادة الحقّ الى نصابه ، وفي ازالة ما يترتّب على تخفّيه من آثام لا يقرّها دستور ولا عدل . وكن على ثقة أيها الأخ الكريم بأنّ النصر للحقّ لا محالة . وانّ الله على الظالمين ، يده فوق أيديهم وسلطانه جلّت قدرته فوق كلّ سلطان . وكم يسعدني لو استطعت أن ألقاك قبل عودتي الى مصر فأستمتع لحديثك . كما أرجو أن تتاح لي الفرصة لأقرأ من آثارك ما حمله إلي الأخ الوفيّ حليم دمّوس ، فتزيد قراءتها ويزيد لقاؤنا وشائج الصلة بيننا قوّة ومتانة . أبقاك الله وقوّاك على أداء رسالة ألقى بها عليك القدر الرحيم هدى لمن يبتغون الحقّ ويسلكون طريقه . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . محمد حسن هيكل رسالة الدكتور حسين هيكل الثانية هوذا نصّ الرسالة بالحرف المطبعيّ تسهيلا لقراءتها : ضهور الشوير في 16 سبتمبر( أيلول ) 1951 أخي الودود الدكتور داهش بك تحيتي الخالصة اليك . سلّمني أخونا الاستاذ حليم دمّوس رسالتك الثانية . وكم وددت كما وددت لو أنّها كانت بخطّ يدك . فالخطّ كالأسلوب عنوان صاحبه . شفاك الله ممّا ألمّ بك . وقد طالعت كتابك ( مذكّرات دينار ) ، فأخذت بتصويره وانطلاق أسلوبه ، وشاقني أن أطّلع على كتاب لك تصوّر في دعوتك الانسانيّة الى عالم أفضل . وقد أخبرني الاستاذ حليم أن ذلك سيكون قريبا ان شاء الله . فالأمور مرهونة بأوقاتها . تحدّثت الى كثيرين بينهم عزّ الدين بك العمري والدكتور رئيف أبي اللمع عمّا أصابك ، فعرفت أنّ صلة أسرة حدّاد بحرم رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة كانت سبب تجريدك من جنسيّتك وابعادك عن وطنك . واني لأرجو أن أساهم في رفع الحيف عنك جهد ما أستطيع . أشكر لك اقتراحك وضع طتاب عني وعن مؤلّفاتي . وأعترف لك بأنّني أؤثر أن أدع الحكم على آثاري لجيل مقبل ان قدّر لهذه الآثار أن تبقى من بعدي ، على أنّني أدع لك وللاستاذ حليم دمّوس أن تفعلوا في هذا الشأن ما تشاؤون ، مشكورين أجزل الشكر . والأن أودّعك ، فاني مرتحل الى مصر في أسبوع . ورجائي أن أقرأ من خطّ يدك ما يطمئنني على صحّتك ، وأن أراك على ضفاف النيل ان شاء الله . ودمت لأخيك حاشية : سرّني أمس أن زارتني السيّدة ماري حدّاد وكريمتها والطبيبان الدكتور خبصة والدكتور أبو سليمان مع الاستاذ دمّوس . وقد أهدتني السيّدة ماري رسمين من صنع يدها بأمركم . شكراني لكم جميعا . حسين هيكل . رسالة الدكتور داهش الأولى أرسلت مع الشاعر حليم دمّوس حلب في 30 تمّوز 1951 حضرة الأديب الكبير الدكتور محمّد حسين هيكل باشا أخي الحبيب ، واسمح لي بأن أدعوك بهذا الاسم الحبيب على فؤادي ؛ لأنني – والله شهيد على ما أقول – قد عرفتك منذ أعوام موغلة في القدم ، اذ طالعت ما خطّه يراعك الساحر منذ كنت يافعا . نعم ، لقد قرأت كتبك منذ نعومة أظافري ، ولم يكن في مقدوري يومذاك أن أبتاعها لفقري المدقع ، فكنت أستأجرها وأرتشف محتوياتها بشغف عجيب . وكذلك نهلت من بيانك العذب المورد شابّا ، وانكببت على التهام مؤلّفاتك القيّمة كهلا . وأيم الحق , كانت لي غذاء سماوّيا , وزادا روحيا , بل كانت لي الروح والراح . وكلّما كنت أزداد من هذا الراح شربا أراني قد ازددت معرفة وحكمة وصحوا . نعم , يا أخي الحبيب , لقد رافقتك في مراحل مؤلفاتك التي هي مفخرة للمكتبة العربية , وتاج ثمين يزين هامتها ما خلدت دنيا الأرض وخلدت أمّ الضاد . وهكذا يكون الدكتور هيكل باشا قد أسدى للأدب الرفيع يدا بيضاء لا ولن تنسى على مر الدهور وكرّ العصور . كما أنني كنت أطالع مجلّتك الراقية " السياسة الأسبوعية " من الدفّة الى الدفّة , وما زلت أحتفظ بهذه المجلّة القيّمة مجلّدة . كما اني احتفظ بمجموعة كتبك التي أعدّها ثروة أدبيّة ثمينة قيمة بالفخر والاعتزاز التاميّن . إذن , ألا يحق لي أن أدعوك بأخي الحبيب , وأنا من كنت وما زلت أتغنى بأسلوبك الرائع وبيانك المشرق ووصفك الأخاذ الذي يهيمن على المشاعر الحسّاسة بعدما شبعت دنيا العروبة من الأسلوب الكتابيّ المائع الذي لا روح تسري فيه فتحييه . لهذا آمل من أخي الأديب العروبة أن لا يستهجن مناداتي إيّاه بأخي بالنسبة لعدم مساعدة الظروف بالاجتماع به لتمكين أواصر الصداقة الأخويّة المتينة العرى فيما بيننا . ومن هو الشخص – وهبه متحجّر العاطفة ، صخريّ القلب ، فولاذيّ الأعصاب – الذي لا يترب ويحلّق في الملإ العلويّ بعد قراءته لوصفك السحريّ العجيب ، لمغرب الشمس بين بودابست وفيينا ، وذلك في كتابك القيّم " ولدي " في الصفحة 278 : " ظلّت المعركة السماويّة حامية الوطيس زمنا لم نر فيه المتحاربين ولم نر غير أثارها الدائمة التغير يتغالب فيها الدم واللهب والفضة والذهب . وكأنما كان هؤلاء الملائكة والجنّ فنّانين في قتالهم فلا يرضون أن يتناثر من دمهم ولهبهم ومن فضّتهم وذهبهم الاّ المقادير التي تبدع في السماء أبهى الصور وأكثرها أخذا باللبّ ولعبا بالفؤاد . فهذا الشفق الملتهب بالحمرة القانية شقّ طريقه من خلاله شعاع متورّد كأنّما الشمس تعود أدراجها كي تعيد الى النهار المحتضر حياة ونشاطا ، ثم لا يلبث الشعاع أن يخبوا لتندلع في نواحي السماء الداكنة الزرقة ألسنة كأنّها في حمرتها ألسن الثعابين الضّخمة المخفوفة ، ويبدو في الجانب الآخر قوس قزح بألوانه السبعة ، ثم يختفي ثم يبدو من جديد ، ثم اذا اللهب القاني قد غمر ألسنة الثعابين ، وامتدّ حتّى أحاط سحبا مجاورة بأطواق من نار . ثم اذا هدنة في المعركة السماويّة يشعرك بها بدء انحلال الدماء ، واستحالة لون السماء الى شيء من الزرقة ، ثم ما نلبث أن نرى صورة أخرى للمعركة بدت في الجانب الشرقي من السماء حتى لكأنّما لهذه الحرب ميادين مختلفة مثلما كان للحرب العظمى . ولقد كان هذا المغيب حقّا مغيبا أعظم ، وكان هذا الشفق ممّا يتضاءل أمام جلاله كلّ شفق . وشدّت أنظارنا الى السماء أثناء هذه الحالات جميعا ونحن ذهول ، شرد لبّنا في عبادة هذا الابداع ، مفتونون به عن كلّ ما يتخطّاه القطار من سهل أو جبل ، ناسون أنّ ثمّ أرضا ، وأنّ نقطع أبعاد هذه الأرض الى غاية نقصدها . ولم نتبادل أثناء ذلك الاّ عبارات الاعجاب بما جدّ في السماء ، جديد يهتزّ الفؤاد لروعة جماله . ولم يوقظنا من ذهولنا الاّ أن تبدّت عمائر فيينا يحجب بعضها بعض السماء . هنالك أدركنا أن في الحياة شيئا غير ما كنّا نشهد . وأسفنا لهذا الذي أفسد علينا بهرنا وذهولنا ، والذي نبّهنا الى الزمن وفراره ، وان كانت الطبيعة قد عنيت بأن تهوّن علينا من أسفنا ، فلم تقم عمائر فيينا الاّ ساعة آذن المغيب بالانحدار في غيابات الليل وظلماته " . هذا بعض ما وصفته بقلمك الجبّار الذي تنثال منه سلافة الرقّة البالغة منتهاها ، فحيّاك الله وبيّاك . وهل بأمكاني أن لا أنتشي برحيق الغبطة والسرور وأندمج في لجج الانشراح والحبور بعد هذا الوصف العجيب الذي تعجز عنه الاقلام اللّهمّ ما خلا قلمك الذي برهن ويبرهن وسيبرهن أن من البيان لسحرا ؟ وان أنس فلن أنسى ، يا أخي ، قطعتك الوصفيّة التالية أيضا ص 337 من كتاب "ولدي" : " وقد رنّت الشمس نحو الغرب واحمرّ نورها . انظر الآن الى قمم الثلج . يا لبهاء الجمال الباهر ! ... ما أشدّ هذا العيد سحرا ! استحال الثلج وردا ، فالورد عسجدا ، فالعسجد دما ، فدكّن الدم حتى أظلم . ويستحيل الثلج في هذه الألوان مبطئا متمهّلا ، والأنظار اليه مشدودة حتى لا يفوتها منه منظر . والقمر يحبو من وراء الثلوج متورّدا ليستحيل هو الأخر ورويدا رويدا الى لون الذهب . والسماء من وراء ذلك تضرب فيها أشعّة الشمس وتطوّق ما بها من سحب بمثل ما تصبغ به الثلج من ألوان . بين هذه المناظر كلّها تائه اللبّ ، مشرّد النفس ، مسحور ، تتردّد بين الخوف أن ينتهي العيد ، وبين الرجاء أن ترى استحالات أخرى في لون الثلج وفي ضياء القمر " . بل ماذا يمكنني أن أقوله عن هذه القطعة الوصفيّة أيضا وأيضا ( صفحة 347) من كتاب " ولدي " : " استدرت مع الصخرة فاذا بالمنظرين السابقين من مناظر المساقط دون هذا المنظر الثالث روعة بمراحل . واذا بي أعود أدراجي صائحا بزوجي أن تنزل لترى . ويضيع صوتي في خوار الهدير فلا تسمعه . وأصعد ما صعد حتى غدوت الى جانبها وأنا أكرّر الصياح : تعالي تعالي ، انّ ما ترينه هنا ليس شيئا . انّ الجمال كلّ الجمال في المنظر الثالث ! وهبطنا معا ، واجتزنا الصخر ، ووقفنا تتحرّك في صدورنا آهات الاعجاب والتقديس . لم يبق جسر ، ولم تبق صخرة ، ولم يبق ماء ، وانّما هو زبد ورغاء يندفعان بقوّة أشدّ قوّة في هذا الالتواء ، فيخال للانسان أنّ الصخر سيميد ، وأنّ الأرض ستنشقّ ، وستسقط السماء ، وتنهد الجبال هدّا . وهذا الزبد والرغاء ينبعث من قوّة انحدارهما رشّاش كأنّه البخار امتلأ به الجوّ كلّه أمام النظر . فكأنّما النهر كلّه بخار لا ماء فيه . والدويّ الهائل يزلزل السمع ويزلزل النفس ، ويزلزل الوجود كلّه زلزالا عظيما . والشمس في السماء تحاول أن تخرق السحب لبعث بشعاع الى هذا المنظر فيستحيل الشعاع رشاشا وبخارا كأنه بعض هذا الماء الهائج في أنحداره , وكأنّ له ما للماء من دويّ وزئير . ونحن والذين يجيئون يشهدون هذا المنظر وقوف نقدّس القوة الهائلة تقديس إعجاب بل عبادة . وكيف لا نقدّسها ولم يبق لنا عاصم منها غير هذه الصخرة قد تتحطّم تحت سلطانها فاذا نحن هباء . ويصيبنا , الوقت بعد الوقت منها , رشاش فنستريح له كأنّه ماء زمزم او ماء بعض البقع المباركة , أليس هو أثر هذه القوة الطبيعية الكبرى ؟ أليس مظهر عظمة الوجود في بعض أركانه ؟ أوليس كلّها مظهرا للعظمة مقدّسا , ورشاش العظمة مقدس كالعظمة ذاتها . وله على الأقل قداستها . وأطلنا الانتظار أمام هذه الصورة البديعة من الصور المساقط حتى كادت موليات النهار تنذرنا بضرورة الإسراع بالأوبة . لكنّ منظرا رابعا ما يزال . ويجب أن نهبط اليه . فهبطنا . أتراني مستطيعا وصف كل شيء من هذا الذي نرى ؟ لقد أصبحنا لا نرى من المساقط إلاّ رشاشا يندفع اندفاع القذيفة يكاد يحطّم ما أمامه تحطيما . على أنّ هذا الرشاش انتشر أمامنا فأصبح عالما استغرق كلّ حواسّنا وكلّ حديثنا وكلّ تفكيرنا . واستبقانا أمامه زمنا جاء خلاله جماعة تقدّموا على سلّم من الحديد الى ناحية . فاذا بهم امتدّت اليهم منه ألسنة أرجعتهم القهقرى في خيفة وإعجاب . وفي هذه اللحظة تكشّف بعض السحب فاذا الشمس قد انحدرت وراء الجبال , وأرسلت من أشعّتها ما ألهب الأفق . لكنّ الرغاء والرشاش لم يعبأ بهذا اللهب وبقيا في ناصع بياضهما وكأنهما يقذفان الى لجة النهر ثلجا مندوفا ما يكاد يصل الى اللجّة حتى يستحيل ماء مثلها له زرقة كزرقتها . ولمّا آن للنفس أن تستجم لتبتعث هذه المناظر البديعة النادرة في أطواء نفسها عدنا أدراجنا وقد تولاّنا من البهر ما ألقى علينا من وجوم الصمت بما لا يستطاع معه لأكثر من ألفاظ الاعجاب بقدس الجمال في أحد مناظر الطبيعة البديعة . وارتقينا طريقنا حتى كنّا عند المقاعد فاذا الناس قد بدأوا ينصرفون اذ كانت لجّة الليل قد بدأت تدعوهم الى الأنصراف واذا كان مطلع القمر متأخرا تلك الليلة . وانصرفنا نحن الآخرين نحدّث أنفسنا ويتحدّث كلّ الى صاحبه بما تكنّه نفسه وبفاحش ما يدعو اليه حكم النظرة الاولى من خطأ ". أيّها الشاعر , أيّها الأديب , بل أي أخي الحبيب ! لقد ضربت بسهم وافر من الأدب فأصبح أطوع لك من البان . وأصدقك القول ان ما هذا بالوصف . كلا .إنّه موسيقى الآلهة يعزفها جوبيتير ربّ الأرباب لباقة من القيان ( الأولمب ) وغيد (البارناس )وكواعب جنّة جنّات الخلد . إنّه وصف يأخذ بمجامع القلوب ويسمو بالروح فتحلّق عاليا , هناك بعيدا وراء العوالم المجهولة حيث تحيا الطمأنينة , وتسود العدالة , وترتع السعادة في مدينة السلام المقدّسة . آه ما أبدع وصفك ! وما أشدّ وقعه العظيم على كلّ من لهم آذان فتسمع وأعين فتنظر . وحقّا لأنت جدير بأكثر من هذه المكانة الأدبية السامية . وإني أضرع الى الباري جلّت قدرته أن يبقيك ذخرا للأدب العربيّ الرفيع الذي رفعت من شأنه وبوأته عرشه الجديد . أي أخي الحبيب ! هل تسمع دعاء من أحبّك قبل أن يعرفك شخصيّا ، ومن يتمنّى أن يجتمع بك فتتمّ أمنيته اذا أتيح له لقاؤك . وبعد فماذا أقول ؟ هي ساعة سعيدة في تاريخ حياتي عندما قدم الشاعر العزيز الأخ حليم دمّوس حيث أقيم وسلّمني رسالتك التي كانت مفاجأة جدّ مفرحة لي . هذه الرسالة التي ختمتها بخطّ يدك الكريمة فقلت : " أرجوك وقد أخبرتني أنك ذاهب للقاء الدكتور داهش في حلب الشهباء أن تبلّغه خالص تحيّتي وتقديري أعماله مما ذكرته لي الخ . " فيا أخي ! انّ لساني عاجز عن ايفائك حقّ الشكر عليّ نحوك . كما أنّ بياني أعجز من أن يتجاسر حتى من الدنوّ لنوافذ هيكل أدبك البالغ قمّته المشمخرّة أبدا نحو العلاء . نعم . لقد كانت رسالتك الكريمة كالترياق تسكبه الآلهة على أفئدة الحزانى والموؤدين فتعيد اليهم الأمل المفقود . وهكذا كانت رسالتك إلي في وحدتي التي أقاسي من حنظلها الشيء المرير دون أن أتذمّر بعد ذلك الظلم الرهيب الذي أقدم عليه الشيخ بشارة الخوري رئيس جمهورية لبنان ، اذ اعتدى على الدستور اعتداء منكراً فأقدم على تجريدي من جنسيّتي اللبنانيّة ، وذنبي الوحيد هو أنني جعلت من لهم بي صلة من اخوان وأخوات أن يؤمنوا بنبوّة محمّد وأنّ قرآنه الكريم مُنْزَلْ . وكان بين الذين آمنوا بهذا القول الحقّ السيّدة ماري حدّاد الداهشيّة وقرينها وكريماتها الثلاث ، والسيّدة ماري حدّاد هي شقيقة السيّدة ( لور ) عقيلة رئيس الجمهوريّة . واذ ذاك قامت قيامة بشارة الخوري كما ثارت ثائرة السيّد ميشال شيحا صاحب جريدة ( له جور ) LE JOUR الافرنسيّة وهو شقيق السيّدة ماري حدّاد . وكذلك اهتاج هنري فرعون وهو قريب السيدة ماري حدّاد . وشقيقة هنري فرعون قرينة السيّد ميشال شيحا . نعم ، قامت قيامة هذه الأقنوم الرباعي فهدّد بالويل والثبور وعظائم الأمور ، وقد قاموا بالمستحيل لكي يخرجوني من البلاد ، ولكنّهم لم ينجحوا مع بذلهم الجهود الجبّارة في هذا السبيل . فقد رفضت حكومة ( ألفرد نقّاش ) ، وكان ، يومذاك ، رئيسا للجمهوريّة – أي في أواخر عام 1942 – رفضت اخراجي من البلاد . وقد أفهم فخامة النقاش يومذاك ميشال شيحا ( وهو صديقه الحميم ) ، كما أفهم بشارة الخوري وزوجته ( لور ) وهنري فرعون أنه لا يمكن اخراج رجل بريء من البلاد بمجرّد أنّ عائلتهم اعتقدت بأنّ محمّد نبيّ مرسل وقرآنه الكريم منزل . ودار دولاب الزمان ، واذا ببشارة الخوري يصبح رئيسا للجمهوريّة بعد بضعة أشهر من محاولاتهم الاجراميّة مع النقّاش . واذ ذاك ابتدأ الاضطهاد بصورة رهيبة . وقامت قيامة دوائر التحرّي والبوليس والعدليّة ليجدوا أيّ مأخذ قانونيّ على داهش ( أي عليّ ) ولكنّها فشلت بأكملها . واذ ذاك ( أي بعد فشلهم من الناحية القانونيّة ) ركبوا مركبا خشنا ، اذ أرسل هنري فرعون وميشال شيحا شرذمة من الرعاع لكي يغتالوني في عقر داري ن وكان ذلك في 28 آب من عام 1944 ، ولكنهم فشلوا في الاغتيال . وللحال حضرت شرذمة من رجال البوليس واستاقوا المعتدى عليه الى دائرة الشرطة . أمّا المعتدون فأطلقوا سراحهم . وأدخلت الى سجن الرمل مدّة 13 يوما . وفي منتصف ليل 13أيلول من عام 1944 حضر مدير البوليس ومحمّد علي فيّاض مفوّض منطقة البرج الى السجن حيث السجين البريء ، وأركبوني في سيّارة ، وأبعدت الى حلب ، وهناك أطلعوني على تجريدي من جنسيّتي اللبنانيّة . وهكذا تخطّى بشارة الخوري القوانين الموضوعة ، وداس على أشلاء الدستور وبعثرها ! والنوّاب ن نوّاب البلاد ! ...بل نوائب لبنان ...لم يرفع أيّ منهم صوته بالاحتجاج على هذه الجريمة الصارخة التي لم تجر على غرارها جريمة تساويها بقسوتها وبشاعتها . وهل من المعقول أن مجلس ( 25 أيّار ) يرفع صوته بالدفاع عن الحرّيات المعتدى عليها وهو المجلس الذي ولد مزوّراً وعاش بصورة لا تشرّفه بكثير أو بقليل . وهذا يعرفه الجميع . واليوم عندما أطلعني أخي العزيز حليم دمّوس على رسالتكم الكريمة له تمثّلت للحال كلمتكم الحكيمة ، وتمعّنت بفلسفتها البعيدة الأغوار . أولست أنت القائل في كتابك "ولدي " ( صفحة 7 ): " لكنّا في الحياة ألاعيب يعبث بها القدر . ولئن بلغنا على الحياة ما بلغنا من جاه ومكانة ، ولئن امتلأت نفوسنا بما امتلأت به من عاطفة وفضيلة ، فلا يفتنا أنّا من القدر هاته الألاعيب ، وأنّ عبث القدر بها بعض حقّه . وانّا اذا أردنا أن نسمو على الحياة فنحدّق بالقدر وجها لوجه فلن يكون ذلك بالسخط منه والحقد عليه ، ولكن بالاذعان له والتسليم بحقّه والرضى بكلّ ما يصيبنا من جانبه . على أنّ أفدح ما تصيبنا به الحياة غير جدير أن يترك من الأثر في نفوسنا الاّ ما يذره أعظم ما يسرّنا . وكما أنّ السعي والعمل أكبر مسرّة في الحياة تزيدنا رضى على رضانا وغبطة على غبطتنا بكل خير نناله , فالسعي والعمل هما كذلك أكبر عزاء عن أفدح سجن وأجل كارثة . وكذلك قلت في الصفحة (13) من كتابك القيّم ما يلي : " وأنا من هؤلاء . فليس يسيغ عقلي أن ينهزم الإنسان أمام حادث من حوادث الحياة أيّا كان جلاله وأن يهن ويضعف . وإذا اضطرّ الإنسان للوقوف أو التراجع يوما فليس وقوفه ولا تراجعه هزيمة تدكّ ركن عزمه " . فيا أيّها المعلم الحكيم , أصدقك القول انني ما انهزمت منذ يوم الجريمة التي ارتكبت بحقي . وها قد مضى عليها اليوم سبع سنوات طويلة , ولن أنهزم بأذن الله تعالى حتى ينتصر الحقّ وينهزم الباطل , إنّ الباطل كان زهوقا . إنّ العدالة تقضي بوجوب مجازاة الطاغية الذي طغى وبغى وتكبّر وتجبّر . وعلام كانت كبرياؤه ؟ بل علام كان طغيانه ؟ إنهما كانا على عدم الاعتراف بنبؤة محمد ! يا لهزل الزمان ويا لهوان الأيام ! وهل هذا شيء يصدّق ؟ إنّه الحقيقة التامّة . انه الواقع الذي لا مرية فيه . واأسفاه ! ولكن . هل تصدّى العالم الإسلامي لهذا الطاغية فأوقفه عند حدّه ؟ وهل قامت الصحافة بواجبها حول هذا الأمر الجلل ؟ وهل ثار الرأي العام اللبنانيّ على هذه الجريمة التي أصبحت معروفة لديه معرفة تامّة ؟ لا يا سيدي . لا يا أخي !... لم يقم أيّ منهم بواجبه . فلا العالم الإسلامي تحرّك . ولا أهتزّ قلم واحد من صحافته . إن لم يكن دفاعا عن بريء مظلوم فعلى الأقل لأجل نبيه الكريم الذي يدين بدينه الحنيف . كما أنّ الرأيّ العامّ اللبنانيّ الهزيل الذي تنقصه الثقافة التحرّرية لم يأبه للأمر , مع العلم أنّه اذا أصيب أيّ مواطن لبنانيّ بظلم فادح كهذا فكأنّ الجميع أصيبوا به . إنّ الدستور اللبناني , يا أخي , أشبه ببيت عنكبوت واهي الخيوط لا يقوى على مجابهة النسيم الخفيف خوفا من تمزيقه , بل ملاشاته ودكّ آثاره دكّا . ومن العار أن نقول إننا شعب ديمقراطيّ دستوري ما دمنا لا نطبّق القول بالفعل , وما دام في لبنان ظلم خطير هائل كهذا . كما أنّ المؤسف والمخيف جدّا هو عدم اهتمام النوّاب برفع حيف صريح كهذا ! وا أسفاه ! وبعد كلّ ذلك يتبجّحون بالقانون , والدستور , والعدالة !.. حديث خرافة يا أم عمرو ... إنّها كلمات جوفاء لا معنى لها , ولا رابطة تربط بعضها بالبعض . إنها كلمات مفكّكة المعاني , ركيكة المباني ما دام القانون لا يطبّق إلاّ بطريقة كيفية تجرّ وراءها المآسي والكوارث وأخطر الحوادث . واذا تأكد لك , يا أخي , أنّ لي شقيقة ووالدة وأنني كنت المعيل لهما , وأنّ شقيقتي أبرقت ثاني يوم أبعادي عن لبنان وتجريدي من جنسيّتي بالظلم والاعتداء الشائنين ... أبرقت الى بشارة الخوري تطلب اليه إعلامها عن مقرّ أخيها - ( لأنهم أبعدوني تحت جنح الظلام دون أن يعلموا عائلتي بمكان وجودي ) – لكي تذهب الى محل منفاي وتقاسمني مصيري , فهل تعرف , يا أخي الدكتور هيكل , ماذا كانت نتيجة برقيّة شقيقة ملتاعة على مصير شقيقها البريء ؟ كان أنّ بشارة الخوري أوعز الى العدليّة أن تلاحقها . فألقت العدليّة ( العادلة ) القبض عليها وزجتها في سجن النساء جزاء لها على التياعها . هذه هي الحقيقة التي يعرفها الجميع في لبنان وفي المهجر .وهكذا كان مصير شقيقتي . وا أسفاه ! أمّا المصيبة العظمى والطامة الهائلة فهي موت والدتي الحزينة لأجلي . فقد برّح بها الحزن , وثقلت عليها وطأة الأشجان , فانتقلت الى عالم آخر غير عالم الأرض الرهيب . ماتت وهي تصعد آهات الشجن الرهيب على وحيدها البريء . والوحش ... نعم يا سيّدي , الوحش الضاري لم يرتو بعد من دماء ضحاياه ! لقد ضحك عندما بلغه نبأ الوفاة . وكان ضحكه ضحك الفوز والانتصار على عدوه الذي علّم شقيقة زوجته أنّ محمد نبيّ كريم , وأنّ قرآنه المبين منزل حقّا . وليت الأمر اقتصر على هاتين الضحيّتين البريئتين ( شقيقتي السجينة ووالدتي التي توفّيت ألما وحزنا ) , فقد سبق وانتحرت الشابّة (ماجدا حدّاد ) كريمة السيّدة ماري حدّاد احتجاجا على تجريدي من جنسيّتي اللبنانيّة , لأنها أمنت مع شقيقتها ووالديها بنبؤة محمد (ص) . وبما أنّ آلها من الكاثوليك المتعصّبين المتمسّكين بتعاليم بابا روما وكنيسته , لهذا قامت قيامة ذويها عليّ فجرّدوني من الجنسيّة وشرّدوني . وهكذا كانت ضحايا بشارة وزوجته وميشال شيحا وهنري فرعون ثلاثة . هنا تذكّرت أيضا أنّني قرأت في كتاب " ولدي " ( صفحة 28 ) ما يأتي : " فأمّا هذه البقاع القاحلة فأخْوَف ما تكون ساعات الظهيرة ، وحين الضوء فيها يبهر الأبصار . اذا تولّت الشمس عنها بدأت تأنس اليها . ثم كان لك من نجمها ، وان غاب القمر ، سمير وأنيس . سبب هذا ، فيما أخال ، أنّ الأحياء أشدّ ما يخشى الحيّ ، وأنّ الانسان أخوف ما يخاف منه الانسان . فظلمة الأحياء الآهلة لباس لكلّ ألوان الغدر والغيلة واللؤم والجريمة . أنت في كلّ خطوة لك فيها معرّض لغادر يسلبك مالك أو حياتك ، ولكمين تنصب حبائله لشرفك او نفسك . والنور وحده هو الكفيل بهتك الكثير ممّا تخاف من غدر الغادر ولؤم اللئيم . " . فيا أيّها المعلّم الحكيم . أيّها الصادق الأمين الكريم ! ما أصدق وصفك وما أحكم قولك ! انه الحقيقة التي لا تشوبها شائنة . انّ خبرة الأجيال أكّدت ما ذهبت اليه وما دوّنته في كتابك الثمين . وهنا خطر لي قول الشاعر الضرير البصير القائل : "عوى الذئب فاستأنست بالذئب اذ عوى وصــوّت انســان فكــدت أطيــر " انّ الاضطهاد العظيم الذي أصبت به هو لأجل تعاليمي التي لا ولن أحيد عنها قيد أنملة ، حتى ولو بذلت روحي في هذا السبيل الذي أدعو اليه . فالمال ، والعظمة الكاذبة ، والغرور ، والمجد الوهميّ ، والسيادة المسيطرة ، والجبروت والطغيان ، هي حلم الجميع ومبتغى الكلّ ، وأمنية البشريّة ، منذ فجر تاريخها المعروف حتى يومنا هذا ، وحتى فناء كوكبنا الأرضيّ . لهذا تراني الآن مواكب الانسانيّة المندثرة وهي لا غاية لها الاّ السيطرة والاثراء والطغيان . أمّا العدالة ، أما الرحمة ، أمّا المساواة ، أمّا التضحية والمفاداة فهي كلمات طنّانة فارغة . وليس من يهتمّ بتبنّيها بصورة صادقة . ولكنّهم يتّخذونها ستارا لغايات يريدون تنفيذها بواسطتها . هذا ما حاولت افهام اخواني ايّاه ، وما غرسته في نفوسهم ، فكان ما كان من الظلم الرهيب الذي نالني . وعندما طالعت الصفحة 97 من كتابك " ولدي" قرأت ما أثلج فؤادي ونزل عليه بردا وسلاما . اذ قلت لا فضّ الله لك فاها : " كما انّ المجد والمال وكلّ ما ينظر اليه الناس على أنه غاية من الغايات التي يسعون اليها قد تجتمع كلّها للرجال ثم لا تكفي مع ذلك حتة لطمأنينته الى الحياة ، فيفرّ منها جميعا ويطلب الراحة في أحضان العدم يصل اليه من طريق الانتحار " . ثم قلت في الصفحة 151 : " وأين يلتمس الناس سرّ الحياة ان لم يلتمسوه في الموت وهو غاية الحياة ومدى ما يصل اليه علمهم منها . أو لم ينفق كثير من المفكّرين والفلاسفة أعمارهم في استكناه ما بعد الموت ؟ ". فأين هي جريمتي اذا كنت أحاول بما خصّني الله به من شعور الهاميّ أن أحاول مثلما سبق الكثيرون سواي أن ألج الى ذلك السرّ المصون علّني أفتح بعض مغاليقه ؟ وهل التشجيع بتجريد الجنسيّة والتشريد ؟ هذا الأمر الذي لم يقدم عليه جنكيزخان ، وتيمورلنك وغيرهم من أباطرة الظلم والجبروت في العصور المظلمة . انّ هذا القرن يخجل أن يطلق عليه اسم ( القرن العشرين ) بعدما ارتكبت فيه مظالم بشعة شوهاء كهذه . اذن بات من حقّي أن أردّد ما سبق وردّدته أنت يا أخي في كتابك "ولدي"( في الصفحة 157 ) اذ قلت : " وفزعت لهذا المنظر ، وجاهدت كي أمحوه من أمامي . فعدت الى نفسي أحتمي بها من هول ما تلقى الانسانيّة . وليس كالنفس حصن اليه يفزع العقل والخيال يدّرعان به من خطوب الوجود . وتساءلت : أليس في الحياة الى جانب هذه الصّور الرهيب منظرها صور ذات بهجة ؟ أوليس الى جانب الحزن مسرّة ، والى جانب الألم أمل ؟ انّ الذين تدهمهم الهموم يجدون عنها في حكمة الحياة وفي لهوها عزاء ". ثم ما كان أروعك وأحكمك عندما قلت في الصفحة 158 : " ما لنا اذن نجزع من الموت ونهابه ؟ أم أنّا في الحقّ لا نجزع منه لأنفسنا وانما نجزع لما يحول بيننا وبين ما اعتدناه وألفناه . والحياة وكلّ ما فيها عادة . ولعلّ سائر صور الوجود عادة كالحياة الانسانيّة . ولعلّ للنبات وللجماد نوعا من الحسّ بالحياة ان اختلف عن حسّنا فهو أوفر عقلا وأسمى حكمة . وهذه الحيوانات الأخرى التي تتشابه وايّانا في نوع الحسّ بالوجود لها من سليقتها ما يبعد بها عن الألم . فهي لا تشعر به الاّ اذا أصابها ما يسبّبه . فاذا انقضى عادت الى مرحها في الحياة ومتاعها بها . ولم تخلق لنفسها ما نسمّيه نحن عالم الذكرى نملأه بالصّور المثيرة للحزن والشّجن ". فيا أخي الحبيب ! هذا ما قلته أنا بالحرف الواحد . وهذا ما أعلنته لمن تبعني من اخواني فسلهم . سلّ أيّا منهم عن رأيه في الجماد والنبات والحياة والموت يجبك بما سبق ودوّنته أنت في كتابك العظيم . ترى هل يقدم جلالة الفاروق على اضطهاد لأنك قلت : " ولعلّ للنبات وللجماد نوعا من الحسّ بالحياة الخ ..."؟ وهل تجرّمك السلطات المصريّة على رأيك الذي دوّنته بيراعك وضمّنته كتابك ؟ أمّا هنا في لبنان فقد نكّل بي بشارة الخوري ليس لأني قلت انه ربّما كان للنبات وللجماد نوع من الحسّ ....اذ لو جرّدني من جنسيّتي لو قلت هذا القول فربّما ماشاه الرأي العام وقال : انّ بشارة محقّ بتجريده لجنسيّة داهش لأنه نطق كفرا بوضعه حياة حسيّة للنبات للجماد . أمّا وقد تمّ تجريدي من جنسيّتي وتشريدي في أربعة أقطار المعمور لأجل افهامي من تبعني أنّ محمّدا نبيّ ، فهذا يجوز في عرف اللبنانيين ، وهو حقّ لا يأتيه الباطل من الأمام أو الوراء . ويا للهول العظيم !. والآن ، لنذكر ما يفهمه كلّ انكليزي وافرنسي وأميركي في عهدنا الحديث من معنى ( الحريّة ) ، فنقول انهم يفهمون أنّ الحريّة هي أن لا يخضع المرء الاّ للقوانين ، فلا يتّهم ، ولا يسجن ، ولا يعدم ، ولا يهان على أية صورة كانت بارادة شخص أو عدّة أشخاص . وهي أن تكون له الحقّ بابداء رأيه ، واختيار صنعته وممارستها ، والتصرّف بثروته كيفما شاء . وهي أن يغدو ويروح دون استئذان ، وأن لا يكون عرضه للمراقبة الصارمة ، ولا يقدّم حسابا عن أسباب ذلك . هي أن يكون له الحقّ بالاجتماع مع غيره امّا للتحدّث عن أعماله ، وامّا للاشتراك في البحث عن مذهب يختاره هو رفاقه ، وبتخصيص ساعاته وأيّامه للأشغال التي يميل اليها وتلذّ له . وأخيرا هي الحقّ في ممارسة جميع الأعمال المشروعة ومشاركة الحكّام بحفظ النظام وتقرير الأمن . هذا ما يفهمه ويسير عليه الأجانب . أمّا نحن الشرقيين فانني أعترف والأسى يهزّ كياني أنّنا بعيدون عن هذا الأمر بعد الثريّا عن الثرى . وللتدليل على صحّة قولي أضع بين يديك الفصل الثاني من كتاب " الحريّة " لمؤلّفه جون ستيوارت ميل ( ترجمه طه باشا سباعي ، ص 36 ) ، وهذا الفصل تحت عنوان " في حريّة الفكر والمناقشة " . لماذا ينبغي اطلاق حرّية الفكر والمناقشة " قد مضى بحمد الله ، ذلك الزمان الذي كنّا بحاجة الى الدفاع عن حرّية النشر واقامة الدليل على أنها ضمان لازم لحماية الأفراد من مظالم الحكومات المستبدّة ومفاسد الحكومات المختلّة . فغنيّ عن البرهان أنه لا يسوغ لسلطة تنفيذيّة أو تشريعيّة غير متّفقة المصالح مع الأمّة أن تعرض على الناس ما تراه مناسبا ، وأن تعيّن لهم ما يجوز سماعه من المعتقدات والأقوال . وهذا مبحث قد وفّاه الكتّاب السابقون حقّه من الشرح والاستقصاء ، فلا حاجة بنا الى زيادته ايضاحا وتوكيدا . نعم ليس يخشى اليوم في بلد من البلاد الدستوريّة أن تحاول الحكومة كمّ الأفواه وغلّ الأقلام ما لم تكن مدفوعة الى هذا العمل برغبة الجمهور الذي يجعل الحكومة سلاحا لتعصّبه وآلة لتنفيذ مآربه . فلنفرض ، اذن ، أنّ الحكومة متّفقة مع الأمّة كلّ الاتّفاق ، وأنّها لا تحدّث نفسها مطلقا باستعمال وسيلة من وسائل الضغط ما لم يكن تنفيذا لمشيئة الشعب . فهل اذا شاء الشعب ذلك كان عمله جائزا مشروعا ؟ اني أنكر عليه ذلك أيما انكار، فلا أعترف له بهذا الحقّ ، ولا أراه مصيبا في استعمال هذا الضغط سواء بنفسه أو بواسطة الحكومة ، لأنّ هذه السلطة غير مشروعة في ذاتها . ولا يجوز لأيّة حكومة أن تستعملها البتة ، سواء في ذلك أشرف الحكومات وأرفعها ، وأخسّها وأوضعها . وهي اذا صدرت بمشيئة الشعب وموافقته كانت أفظع وأشنع ممّا لوصدرت برغمه ومعارضته . فلو أنّ الناس قاطبة أجمعوا على رأي واحد وخالفهم في ذلك فذّ لما كان لهم من الحقّ في اخراسه أكثر ممّا له من الحق في اخراسهم لو استطاع الى ذلك سبيلا . اذ لا يقدح في أهميّة الرأي قلّة المنتصرين له وكثرة الزارين عليه . ولو كان الرأي متاعا خاصا لا قيمة له الاّ عند صاحبه ، وكان الضرر المترتّب على الحرمان من التمتّع به لا يتناول غير مالكه لكان في المسألة مجال للتمييز ، ومتّسع للتفريق ، ولكان هناك بون شاسع بين وقوع الضرر على فئة قليلة ووقوعه على فريق عظيم . ولكنّ الأمر بخلاف ذلك . فانّ المضرّة الناشئة عن اخماد الرأي لا تقتصر على صاحبه ، بل تتعدّاه الى جميع الناس حاضرهم وقادمهم . وما هي في الحقيقة الاّ سلب النوع البشريّ برمّته وحرمان الانسانيّة بأسرها من شيء فائدته لعائبيه ورافضيه أوفر منها لمؤيديه وقابليه . ذلك أنّ الرأي ان كان صوابا فقد حرم الناس فرصة نفيسة يستبدلون فيها الحقّ بالباطل ويبيعون الضلالة بالهدى . وان كان خطأ فقد حرموا كذلك فرصة لا تقلّ عن السابقة نفاسة وفائدة . وهي فرصة الازدياد من التمكّن في الحقّ والرسوخ في العلم على أثر مصادمة الحقّ بالباطل ، ومفارقة الخطاء بالصواب . ونحن باحثون في كلّ من هذين الفرضين على حدة ، فانّ لكلّ منهما ما يخصّه ويناسبه من الأدلّة والبراهين . فأوّلا – نحن لا نستطيع أن نكون على يقين من فساد الرأي الذي نحاول اخماده . وثانيا – اذا فرضنا أننا على يقين من ذلك فاخماده لا يكون حسنة يرجى خيرها بل سيّئة لا يدفع شرّها . الشطر الأوّل من الحجّة : لننظر ، اذن ، في الفرض الأول . قد يجوز أن يكون الرأي المراد الغاؤه صائبا . لا شكّ أنّ الذين يريدون اخماده ينكرون صحّته ويجزمون بخلطه . ولكنهم غير معصومين من الخطأ ، وليس لهم حقّ الفصل في الأمر بالنيابة عن سائر البشر ، ومنع كلّ امرىء خلافهم من ابداء حكمة فيه . فاذا هم رفضوا استماع رأي ، لا لعلّة سوى انهم واثقون من فساده ، فكأنّهم يدّعون أن يقينهم هو اليقين المطلق . ولا نزاع في أنّ كلّ اخراس للمناقشة معناه ادّعاء للعصمة . ولو لم يكن هناك الاّ هذه الحجّة العامّة لكفى بها دليلا قاطعا ، وبرهانا ساطعا على خطاء القائلين بتقييد حريّة الفكر والناقشة " . ثم اليك ما ورد في الصفحة 48 تحت عنوان " ضرب الأمثلة على ما تقدّم " حيث قال : " أقول انّ تحريم الدفاع عن رأي ما لأننا قد حكمنا عليه بالفساد أمر لا يخلو من العواقب الوخيمة . ولكي أزيد ذلك وضوحا وبيانا يجمل بي أن أحصر البحث في موضوع بعينه على سبيل التمثيل . ولكي يكون البرهان أقطع والدليل أنصع سأنتخب أقلّ الموضوعات موافقة لصالحي حيث يكون الدفاع عن حرّية المناقشة من أعسر الأمور ، لأنّ الأدلّة التي يتعيّن على طالب الحرّية تفنيدها تعتبر على أعزّ جانب من المنعة سواء من حيث الصدق ، أو من حيث المنعة . فلنفرض ، اذن ، أنّ الرأي المطعون في صحّته هو الايمان بوجود الله والحياة الأخرى أو أي عقيدة من العقائد الأدبيّة التي أجمع الناس على صحتها . انّ الجدال في مثل هذا الموضوع يعطي الخصم المتحامل مزيّة كبرى . فانه لا بدّ قائل لي ( وكثير ممّن لا يرغبون في أن يتّصفوا بالتحامل سيقولون ذلك في ضمائرهم ) : أهذه اذن هي العقائد التي لا تراها ثابتة ثبوتا كافيا لتسويغ حمايتها بصولة القانون ؟ أتعدّ الايمان بوجود المولى سبحانه وتعالى أحد الآراء التي يكون في الاقتناع بصحّتها ادّعاء للعصمة ؟ رويدك يا صاحبي ، أنا لا أقول ان في الاقتناع بصحّة العقيدة – مهما كانت – ادّعاء للعصمة . بل أقول انّ ادّعاء العصمة هو اجبار الغير على قبول رأينا في العقيدة دون الترخيص لهم في سماع ما قد يقوله الفريق المعارض . فهذا الافتئات هو ما أسمّيه ( ادّعاء العصمة ) . وأنا أحتجّ أشدّ الاحتجاج ، وأعترض كلّ الأعتراض على هذا الادّعاء . وان كانت الغاية منه حماية أعزّ عقائدي وأقدس مبادئي . ولا أزال أقول وأكرّر أنّه مهما بلغ اقتناع المرء بفساد رأي من الأراء ، مهما بلغ اعتقاده بضرره وسوء مغبّته ؛ بل مهما بلغت يقته بمخالفته للدين والأدب ، فلا يجوز له – بناء على هذا الاعتقاد الفرديّ ، وان كان معزّزا بالشعور العامّ في مصره أو عصره – أن يحرّم سماع الدفاع عن هذا الرأي ؛ والاّ فقد أدّعى لنفسه العصمة . ولا يقلّل من فساده هذا الادّعاء ، أو من خطره ، اجماع الناس على اعتبار ذلك الرأي منافيا للدين أو مناقضا للآداب . فان تلك هي الحال التي يكون فيها لآدّعاء العصمة أوخم العواقب وأوبل المضرّات ... نعم ، في أمثال هذه الحال بعينها قد ارتكب السّلف ما ارتكب من الغلطات المشؤومة والفعلات الشنيعة التي لا تزال كلّما ذكرت تراع من فظاعتها القلوب ، وتقشعرّ من هولها الأبدان . وهذه بعينها هي الظروف التي وقعت فيها تلك الحوادث الشهيرة والخطوب الفاجعة اذ كان القوم يتّخذون القانون سلاحا لاستئصال أفضل الناس وأشرف العقائد . فنالوا مع الأسف بغيتهم من الأفراد ، ولكنهم عجزوا عن القضاء على بعض العقائد فبقيت الى اليوم وصارت بدورها سلاحا لمحاربة الخارجين عليها أو الذين يفهمون من نصوصها خلاف ما يفهم الناس منها . قصّة سقراط لا يعدّ الكاتب مسهبا مهما كرّر على مسامع البشر أنه كان في غابر الزمان رجل يسمّى ( سقراط ) قام بينه وبين أهل عصره نزاع طار ذكره في الخافقين ، وحدثت بينه وبين أولي الأمر في عهده صدمة لا يزال صداها يرنّ في مسمع الجديدين . ولد ذلك الرجل في عصر حافل بالعظماء ، وفي بلد حاشد بالنبلاء . فلم يكن ظهوره بين تلك الأنوار الباهرة والأطواد الشامخة ليغضّ من سناه ، أو ليخفض من علاه ، بل كان بشهادة أعلم الناس به وبعصره أطهر أهل زمانه خلالا ، وأكرمهم خصالا . وليس منّا من يجهل أنّ هذا الرجل هو الرأس والقدوة لكلّ من أتى بعده من دعاة الفضيلة وأنصار الحكمة ، وأنه هو الذي ألهم ( أفلاطون ) تلك الروح الشريفة العالية ، وعلّم ( أرسطاليس ) تلك الفلسفة العادلة الصادقة . وكلّنا يعلم أنّ هذين الحكيمين هما الينبوعان الرئيسيّان ، والمصدران الأوّلان اللذان منهما تشعّبت جميع المذاهب الفلسفيّة ، وعنهما تفرّعت كلّ المبادىء النظريّة . فهذا الاستاذ الأكبر ( سقراط ) الذي يمشي على أثره كلّ من جاء بعده من كبار الفلاسفة وعظماء المفكّرين ، والذي لا يزداد ذكره على مرّ الأيّام الاّ جدّة وبهاء وانتشارا . والذي اذا جمعنا كلّ من شاع صيته وطار ذكره من حكماء اليونان ، ثم وضعنا صيتهم في كفّة ، وجعلنا صيته في كفّة ، لرجّحت كفّته على كفّتهم ، وغطّت شهرته على شهرتهم . أقول انّ هذا الحكيم الكريم قد رماه مواطنوه بتهمة الالحاد وفساد الأخلاق ، فحاكموه بين يدي هيئة قضائيّة اقتنعت بادانته وحكمت باعدامه . اتّهموه بالالحاد لأنّه كان ينكر الآلهة الذين تعترف الحكومة بوجودهم . بل كان لا يؤمن بآلهة على الاطلاق كما يزعمون . واتّهموه بفساد الأخلاق لأنّه كان يغوي الشبّان بتعاليمه ومبادئه . ولدينا كل ما يحملنا على الاعتقاد بأنّ المحكمة التي نظرت في قضيّته اقتنعت من صميم الفؤاد بصحّة هاتين التهمتين . وكذلك حكمت بالاجرام والاعدام على من كان أولى الناس ، في عهده ، بالاجلال والاكرام وأخلقهم بالتبجيل والاعظام ". من هنا تدرك مقدار الجريمة الهائلة التي ارتكبها الشيخ بشارة الخوري رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة وزوجته وشقيقها ميشال شيحا وقريبهم هنري فرعون . هذه الجريمة التي هزّت أركان العدالة هزّا عنيفا ، وقوّضت دعائم القانون في لبنان ، وهشّمت جسم الدستور اللبنانيّ تهشيما فظيعا . ولن يفوتني بهذه المناسبة أن أذكر لك أنّ السيّدة ماري حدّاد الداهشيّة ( أي شقيقة عقيلة رئيس الجمهوريّة ) لم تقف مكتوفة اليدين أمام هذه الجريمة النكراء الرعناء ؛ اذ سرعان ما انتضت قلمها ، وراحت تروي للرأي العام اللبناني والعالميّ مراحل هذه الجريمة الشنعاء . وقد كتبت وطبعت ووزّعت عشرات الكتب والنشرات السوداء ضمّنتها تفاصيل الجريمة من ألفها الى يائها ، كلّ ذلك تحت امضائها الصريح . فجنّ جنون بشارة وعائلتها فألقوا القبض عليها وزجّوها في السجن هي وقرينها وسائر الداهشيين . وقد نال الشاعر حليم دمّوس نصيبه من الاضطهاد الرهيب اذ سجن مثلما سجن بقيّة الدهشيّين الثائرين على الظلم مدّة تسعة أشهر وراء القضبان الحديديّة التي كانت جيدرة بأن تضمّ المجرمين الحقيقيين ، لكنها عدالة الأرض التعسة ! أمّا القضاة الذين حكموا هذه الأحكام الجائرة بضغط من أسيادهم ، فيا ويلهم من يوم الحساب الرهيب ! أي أخي الحبيب ، لقد أطلت عليك فعذرا . ولكنّه الألم الصامت ، الألم الذي يسير في عروقي ممتزجا بدمائي هو الذي دعاني لهذا التطويل بقصد افهامك حقيقة الأمر لتكون مطّلعا على تفاصيل الجريمة المرتكبة بقدر الامكان . لهذا ، انني أستحلفك بروح الملاك ( ممدوح ) الطاهرة التي بلغت حيث الرفيق الأعلى ، هناك حيث تتمتّع بما لا يمكن لقلم أن يصف ما تحويه تلك الربوع العلويّة من مفاتن وبهجات – أن تكتب ما يوحيه اليك ضميرك الحيّ حول هذه الجريمة الرهيبة وهذا الاعتداء الوحشيّ في بلد ديمقراطيّ يدّعي أنه يحكم بواسطة الدستور وهو بريء من هذا الاتّهام براءة الذئب من دم ابن يعقوب . ومن لي غير الدكتور هيكل يبلّغ نبأ هذه الجريمة الى آذان العالم العربيّ قاطبة ليعلموا أيّة جريمة ارتكبت بحقّ شخص قال انّ محمّدا نبيّ مرسل ، وقرآنه الكريم كتاب منزل ، فنزلت عليه صواعق الظلم المزلزلة فدكّت عائلته دكّا ، وسجنته ، وجرّدته من جنسيّته ، وشرّدته ، وسجنت شقيقته ، وأماتت قهرا والدته . انّ طلبي اليك هو عادل وحقّ . لهذا أملي فيك عظيم ، أمل من ينصر الحقّ على الباطل ، متمثّلا بالقول المأثور القائل : " لا يهزّ الظالمين صوت أشدّ من صوت جماعة متّحدة " ، ومتأكّدا أنّ للكرامة والحرّية ثمنا فادحا ، كما أنّ السكوت على الذلّ هو أشدّ فداحة . ولو لانت عزيمتي ووهنت ارادتي لخررت أمام الذي أدعوه بحقّ ( مجرما خطيرا ) . ولكن قوّة ارادتي ما كان لها أن تهن أو تلين ما دمت صاحب حقّ ، وحقّي واضح وضوح الشمس في رابعة النهار . لهذا يجب عليه هو أن يخرّ أمام الحقّ الذي يعلو ولا يعلى عليه . أما كلمتك الأخويّة في تحريرك للأخ حليم دمّوس القائل فيها : " انك مستعدّ لأن تتحدّث مع رئيس الجمهوريّة بشارة الخوري فيما أصابني ، وبوجوب ردّ الجنسيّة اللبنانيّة إلي " أشكرك من صميم الفؤاد على اهتمامك النبيل هذا ، وجوابي عليه للأخ الحبيب هيكل باشا هو : انّ الحقّ يؤخذ ولا يستجدى وهنا يطيب لي أن أحدّثك عن نفسيّة بشارة الخوري حول هذا الموضوع فأقول : لقد بلغني من مصدر ثقة مطّلع على الأمور ، وله صلة تامّة بالقصر الجمهوري ، قال : " انّ بشارة الخوري أعلن لأصدقائه والموالين له : : اذا تجرّأ مجلس الوزراء وحدّثني بوجوب اعادة جنسيّة داهش فانني أقيل الوزارة حالا بما لي من حقّ دستوريّ يمكّنني من اقالتها . وكذلك اذا لمست رغبة من بعض النوّاب المعارضين لاثارة قضيّة جنسيّة داهش فانني لن أتردّد في حلّ المجلس واجراء انتخابات جديدة . ولن أمكّن داهش من استعادة جنسيّته على الاطلاق " . ولا يخفى عليك أنّ أهل البلاد بأجمعهم يعرفون هذا الأمر ولا يشكّون فيه مطلقا ، وهو اذا اتّفق لأحدهم وتحدّث أمام ( بشارة ) باسمي ، فانه يصاب برجفة راعدة ، ويصفرّ وجهه فاذا عليه مسحة الأموات . فمن هنا تدرك ، يا أخي ، مقدار الغيظ والحفيظة اللذين يتأكلان صدر رئيس الجمهوريّة ليل نهار ، ويفتكان به ما لا يستطيع أخطر الأعداء فعله به . وعلى هذا ، واذا كتب لي الحظّ أن يثير الأخ الدكتور هيكل باشا قضيّتي على صفحات الصحف المصريّة الحرّة ، فانني أؤكّد أنّ الرعديد بشارة يرتعد من الخوف عندما يعلم العالم الاسلامي بقلمك البليغ أسباب تجريده ايّاي من جنسيّتي فيتراجع رأسا ، لا عملا بالقول المأثور " الرجوع الى الحقّ فضيلة " ، كلاّ وألف كلاّ ، ولكن رجوعه يكون عن خوف وهلع قتّالين من العالم الاسلامي الذي لا يرحم من يهين نبيّه العظيم . أمّا هنا في لبنان التاعس العاثر الحظّ فانّ نوّاب الأمّة لم يتجرّأ أيّ منهم على اثارة قضيّة جنسيّتي خوفا من اغضاب صاحب السلطان ، ومن غضب صاحب الصولجان . فانّ مصالحهم المادّية ستتأثّر بسخطه ، وهذا ما لا يريدون التفكير به مطلقا . وانني أضع كبرهان أمام ناظركم الكريم هذه الكلمة الصغيرة التي نشرتها احدى الجرائد البيروتيّة في زاوية ( نقداتها ) . ومن مطالعتها يتأكّد لكم مقدار احترام الرأي العامّ لمجلس ( 25 أيّار ) التعيس . قالت الجريدة بتاريخ 6 تمّوز 1951 تحت عنوان " مثل بومة سليمان " : " جاء في نوادر الأدباء : لمّا جمع سليمان الحكيم الطيور وتكلّم معها عن أحوالها ،سأل البومة : لماذا رأسك كبير ؟ قالت : لأني شيخة . قال : ولماذا ذنبك صغير ؟ قالت لأني فريخة . فاستغرب الملك سليمان جوابها ، وطردها من أمامه قائلا لها : انك كاذبة في ما تقولين من رأسك الى ذنبك . وهؤلاء المدافعون عن جريمة ( 25 أيّار ) وما رافقها من عار وشنار ، هنا وفي الخارج ، مثل بومة سليمان : كاذبون في كلّ ما يقولون من رأسهم الى ذنبهم " . - طائر- والان ، ها انني أختم رسالتي اليك ، وبودّي لو أستطيع الاجتماع بك ، اذن لبلغت غاية ما أصبو اليه ، آملا أن تتيح الأيّام المقبلة هذه الفرصة السعيدة . واذ أودّعك أقول : الحرّية الشخصيّة – بل والحريّة العامّة – ليست لعبة لتمنعها الحكومات أو الأشخاص ذوو السلطان والنفوذ بسبب ضغائن وحزازات تتأكّل صدورهم التي تعشّش فيها الأرقاط السامّة . نعم ، هي ليست ملك يمينهم لتمنعها متى شاءت ، وتمنحها متى طاب لها ذلك . بل هما ( أي الحرّية الشخصيّة والحرّية العامّة ) حقّان طبيعيّان للأفراد وللأمّة بمنزلة الحياة . وما علمنا أنّ انسانا على الأرض يدّعي لنفسه حقّ اعطاء الحياة ومنعها الاّ الله . والله جلّت قدرته خلق الناس بأجمعهم أحرارا . ألا رحم الله روح الخليفة العظيم عمر بن الخطّاب الذي خلدت حكمته اذ قال : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا " ! أي أخي الحبيب ، انّ أحبّ الجهاد الى الله كلمة حقّ تقال لحاكم ظالم دفاعا عن حقّ هضيم ، سلبه ايّاه ذلك الشيطان الرجيم . والسلام على روحك الكبيرة وأدبك الذي لا ينضب له معين . واذ أودّعك أقول : مشيناهــا خطــى كتبــت علينــا ومـن كتبــت عليــه خطــى مشاهــا وليحفظك الله للعروبة والاسلام رسالة الدكتور داهش الثانية الى الأديب الكبير ردّا على رسالته المؤرّخة في 9 آب ( أغسطس ) 1951 حلب في 15 آب 1951 أخي الكريم الدكتور حسين هيكل باشا حفظه الله وأبقاه . هي ساعة سعيدة عندما قدم الشاعر العزيز الأخ الداهشيّ المجاهد حليم دمّوس ، وسلّمني رسالتك التي كانت مفاجأة سارّة لي . ولقد طالعتها بشغف عجيب وأنا في وحدتي التي تحمّلتها سبع سنوات ونيّفا بعد ذلك الظلم الرهيب الذي أصابني ، والذي تحدّث به الركبان . أما المسبّب للتجريد من الجنسيّة فهو ما ذكرته أنت في رسالتك . وقد شاركه في ذلك ثلاثة أشخاص من أفراد عائلته وأقربائه . وقد ظنّوا أنهم قد بلغوا الغاية بعد فعلتهم الرهيبة والتي هي وصمة هائلة سيسجّلها التاريخ بين دفّتيه بقلمه المرعب الذي لا يراعي فيه الاّ الحقّ . ولكنّ ظنونهم خابت ، وآمالهم تبدّدت ، وأحلامهم الجميلة سرعان ما تبخّرت . اذ كانت النتيجة مخيفة جدّا . كيف لا وقد صمّمت يومذاك ، ماجدا حدّاد أن تغتال المجرم . وعندما عرفت بعزمها وتصميمها التامّين أرسلت آمرها بأن لا ترتكب جريمة القتل ... فأسقط الأمر في يدها وانتحرت . وكان انتحارها كاحتجاج صارخ على تجريدي من جنسيّتي . وذنبي الوحيد هو أنني جعلت من لهم صلة بي من اخوان وأخوات أن يؤمنوا بنبوءة محمّد , وبأن قرآنه الكريم منزل . وكان على رأس من أمنوا بهذا القول الحقّ السيدة ماري حدّاد الداهشيّة وقرينها وكريماتها الثلاث . والسيّدة ماري حدّاد هي شقيقة ( لور ) عقيلة رئيس الجمهوريّة . والمنتحرة احتجاجا على التجريد هي كبرى كريمات السيّدة ماري حدّاد المجاهدة الجبّارة . ومنذ انتحرت الشهيدة ( ماجدا ) برزت الفاجعة المؤسية ، وظهرت أولى نتائج التجريد ، بسبب عقيدة الداهشيين الذين هم أحرار باعتناق ما يشاؤون ما دام الدستور يحمي عقائد المواطنين ، ويردّ ببنوده عنهم كيد الكائدين .... وتبعت فاجعة الانتحار سلسلة كتب سوداء أصدرتها السيّدة ماري حدّاد اذ شرحت فيها أسرار تجريدي من جنسيّتي والأسباب الحقيقيّة التي أدّت الى هذا التجريد والتشريد القسريّين . أي أخي الكريم ، أمّا قولك انّك مستعدّ لأن تتكلّم مع المسؤول الأساسيّ عن وجوب ارجاع جنسيّتي السليبة إلي ، فانني أشكرك على اهتمامك بهذا . ولكنّني أجيب أخي حسين هيكل قائلا : " انّ الحقّ يؤخذ بالقسر والاغتصاب ولا يستجدى استجداء " . والأيّام كفيلة باظهار حقيقة هذا القول . انني صاحب حقّ ، وحقّي واضح وضوح الشمس في رابعة النهار . والحقّ يعلو ولا يعلى عليه . لهذا فانني أرجو من الأخ الكريم أن لا يكلّف نفسه مؤونة التحدّث مع المسؤول الأوّل عن التجريد . وسيأتي اليوم الذي يدفع كلّ من ظلم وتجاوز الحقّ حسابا عمّا ارتكبه وجاءه من حسنات وسيّئات . وسيكون الجزاء من نوع العمل . فالجبان ، والعديم الشرف ، والساقط النفس هو من لا يحاسب الطغاة حينما تدقّ ساعة الحساب . والتاريخ يعلّمنا أنه ما من ظالم غاشم الاّ ولاقى شرّ الجزاء الرهيب . وسيجرّع المظلوم ظالمه كأس الذلّ والمهانة حتى الثمالة ....وأنا لا أشكّ بأنّ ساعة الحساب ستدقّ أعاجلا كان هذا أم آجلا . وعند ذاك سأدقّ أعناق أعدائي دقّا مزلزلا . ويومذاك ستجلجل نواقيس الهلع ، وسيعمّ الرعب والجزع في أفئدة كلّ من اعتدى على حقّي المقدّس الذي وهبني ايّاه الله كحقّ طبيعيّ أنعم به مثلما ينعم به كلّ مخلوق من مخلوقات الباري جلّت قدرته . ورحم الله الخليفة العادل عمر بن الخطاب الذي راحت كلمته قولا مأثورا اذ قال :" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا ؟!" أخي الدكتور المنافح عن الحقّ الهضيم . بعدما طالعت رسالتك الكريمة تمثّلت للحال الكلمة البليغة القائلة : " أحبّ الجهاد الى الله كلمة حقّ مدوّية تقال بوجه حاكم ظالم فتدكّ كبرياءه ، وتحطّم صلفه ، وتصفع خيلاءه ، فتظهره قزما حقيرا وامّعة مرذولا" . نعم يا أخي ، انني أشبّه الحقّ بقطعة من الفلّين الذي لا ولن يمكن أن تغرقها هوج الأمواج الغضوب مهما زمجرت الرياح العاصفة ، ومهما ثارت الأمواج العنيفة الهادرة بجبروت . نعم ، مهما تألّبت عليها العواصف الغضوب فانها تبقى طافية على وجه المياه المزبدة ... أعود فأقول : لقد تبخّرت آمال من جرّدوني من جنسيّتي ... اذ ظنّوا أنّه بعد ابعادي ستترك ماري حدّاد وعائلتها عقيدتهم الداهشيّة . وقد خابت آمالهم اذ ازدادت العقيدة تغلغلا في أعماق أعماقهم . وصقلت سلسلة الاضطهادات أرواحهم فازدادت رسوخا . وبوتقت نيران المظالم نفوسهم فطهّرتها بلهيبها المقدّس فازدادت شعلتها تألّقا . وتأصّل الايمان في كيانهم فزادوه تشبّثا . وهكذا باء خصومي بالخسران المبين . وقبل أن أختم تحريري اليك أضع بين يديك كلمة صغيرة واختصرتها من الفصل الثاني من كتاب " الحريّة " لمؤلّفه ( جون ستيوارت ميل ) ، ترجمه طه باشا السباعي ، وذلك لكي تعلم – وأنت تتأكّد هذا دون ريب – كيف ينظر الأجانب الى الحريّة ، وكيف يقدّسونها بعد الله . جاء في الصفحة 36 تحت عنوان " في حريّة الفكر والمناقشة " : "لا يجوز البتّة لأيّة حكومة من الحكومات أن تعتدي على أيّ فرد من أفراد الشعب لأجل تعاليمه ومبادئه وعقائده سواء في ذلك أشرف الحكومات وأرفعها ، وأخسّها وأوضعها . وهي اذا صدرت بمشيئة الشعب وموافقته كانت أفظع وأشنع ممّا لو صدرت برغمه ومعارضته . فلو أنّ الناس قاطبة أجمعوا على رأي واحد ، وخالفهم في ذلك فرد فذّ ، لما كان لهم من الحقّ في اخراسه أكثر ممّا له في اخراسهم لو استطاع الى ذلك سبيلا ، اذ لا يقدح في أهميّة الرأي قلّة المنتصرين له ، وكثرة الزارين عليه . ولو كان الرأي متاعا خاصّا لا قيمة له الاّ عند صاحبه وكان الضرر المترتّب على الحرمان من التمتّع به لا يتناول غير مالكه لكان في المسألة مجال للتمييز ومتّسع للتفريق ، ولكان هناك بون شاسع بين وقوع الضرر على فئة قليلة ووقوعه على فريق عظيم . ولكنّ الأمر بخلاف ذلك ، فان المضرّة الناشئة عن اخماد الرأي لا تقتصر على صاحبه بل تتعدّاه الى جميع الناس حاضرهم وقادمهم . وما هي في الحقيقة الاّ سلب النوع البشريّ برمّته ، وحرمان الانسانيّة بأسرها من شيء فائدته لعائبيه ورافضيه أوفر منها لمؤيّديه وقابليه . ذلك أنّ الرأي ان كان صوابا فقد حرم الناس فرصة نفيسة يستبدلون فيها الحقّ بالباطل ، ويبيعون الضلالة بالهدى . وان كان خطأ فقد حرموا كذلك فرصة لا تقلّ عن السابقة نفاسة وفائدة ، وهي فرصة الازدياد من التمكّن في الحقّ ، والرسوخ في العلم ، على أثر مصادمة الحقّ بالباطل ، ومقارنة الخطأ بالصواب " الخ ... أمّا قصّة الفيلسوف ( سقراط ) والحكم الظالم الذي صدر عليه ، وتقديس الأجيال لذكراه فذلك أشهر من أن يعرّف . وقد حفظ التاريخ أسماء الحكّام والقضاة الذين حاكموه ، تذكرهم الأجيال باللعنة الأبديّة ، وتستمطرهم الألسنة غضب الله ما دامت الأرض أرضا والسماء سماء . ;وهكذا دوما يعيد التاريخ نفسه ، ويحشر الطغاة الأثمة اسماءهم في السجلّ الأسود لتعود الألسنة فتمطرهم باللعنات جزاء وفاقا . واذ أختم رسالتي بشكرك أودّ أن تزداد صلات صداقتنا بالرسائل التي سنتبادلها معا . والسلام عليكم من المخلص . داهش حاشية : في كلّ البلدان الراقية يكون القضاة سياج الحرّيات المهدّدة من الحكّام والمتنفّذين . ويقف في وجوههم شاهرا سيفه ذا الحدّين لبتر رغباتهم وردّ كيدهم الى نحرهم ، وانقاذ من يريدون افتراس حرّياته ، ودوس حقوقه ، والاعتداء على حقّة بباطلهم . هذا هو موقف القضاة النزيه العادل . أمّا هنا في لبنان فانظر ، يا أخي الدكتور هيكل ، ماذا كان موقف قضائه الذليل الخاضع والمهان الخانع : لقد كلّف المجرم الأوّل ( يوسف شربل ) المدّعي الاستئنافي العام أن يلاحقني ، وأن يتّخذ كلّ ذريعة مهما كانت وكيفما كانت لآجل ايقافي موقف المتّهم . ففشل ( شربل ) رجل القانون والمؤتمن على العدالة ، ومهشّم القوانين ، والراقص على أشلاء الحقوق الهضيمة . نعم فشل في مهمّته ممّا اضطرّ المجرمين لأن يرسلوا إلي شرذمة من الرعاع ، فاعتدوا عليّ في عقر داري ...وللحال برز رجال الشرطة واعتقلوني ، وأطلقوا سراح المجرمين الذي أرسلهم خصومي الأدنياء في نفوسهم ، وكلّفوا صنيعتهم المستنطق نديم حرفوش الذي وضع ضميره في ذمّة الأبالسة . وراح هذا المستنطق المسخّر لوجدانه ينفذّ مآرب الطغمة الوصوليّة ، وذلك لقبوله الانضمام الى معسكرهم الشرّير ، وتحقيقه المضحك المبكي مع الأبرياء وهو متأكّد من أمر المؤامرة المجرمة المبيّتة التي ارتكبت باطّلاعه واطّلاع ريئسه ( يوسف شربل ) المدّعي الاستئنافي العامّ . فيا لعار لبنان بقضاة مسخّرين لارتكاب الآثام وطمسهم للحقّ واعلائهم للباطل . ولكن ، ثق يا أخي حسين هيكل ، بأنّ جريمة هذين القاضيين لن تموت ....وسيدفعان ثمن جريمتهما بحقّي وحقّ سواي كاملة غير منقوضة .... والأيّام القادمة ستؤكّد لك أنه ما من حق ضاع ووراءه مطالب . وما من ظالم الاّ وسيكتوى بالنار الصاهرة المذيبة عندما تدقّ ساعة الحساب الرهيبة الهائلة . بقي ( ميشال شيحا ) وهو خال ( ماجدا حدّاد ) التي انتحرت احتجاجا على جريمة تجريدهم لجنسيّتي بالاعتداء الصارخ ... انّ هذا المخلوق قد دمّر بغبائه العظيم عائلته المتعجرفة تدميرا تامّا ، وشهّرها تشهيرا رهيبا . فهو المسبّب الحقيقي لانتحار ابنة شقيقته المأسوف عليها ( ماجدا حدّاد ) . وهو المسؤول عن سجن شقيقته المجاهدة ماري حدّاد ، وسجن قرينها الداهشيّ جورج حدّاد . وهو المسؤول عن المأساة المدمّية التي حدثت منذ ثماني سنوات حتى اليوم .... انّ هذا المتعجرف المغرور قد ذهب الى ألفرد نقّاش عندما كان رئيسا لجمهوريّة لبنان عام 1943 ورجا مرارا وتكرارا أن يبعدني عن لبنان .... واستحلفه باسم الصداقة التي تربطه به منذ سنوات أن ينفّذ هذه الجريمة ....فرفض فخامة ( النقاش ) يومئذ طلبه رفضا باتّا ..... وعندما اعتلى ( بشارة الخوري ) الحكم – وبشارة مقترن بشقيقة ميشال شيحا المدعوّة ( لور ) – اذ ذاك طرب لهذه الفرصة السانحة ، وبالمؤامرة مع صهره وشقيقته نفّذت الجريمة اذ أرسلو شرذمة الرعاع فاعتدت عليّ ، ثم اعتقلوني وأبعدوني عن البلاد ، وجرّدوني من جنسيّتي رغما عن القانون ، ورغما عن الدستور حامي الحرّيات المهدّدة بأمثالهم . وأخيرا ليتأكّد أخي حسين هيكل أنّ ( ميشال شيحا ) سيذوق من المرّ والصاب والغسلين أضعافا مضاعفة ممّا أذاقنيه . أمّا الآن فكفاه عارا أنّه سبّب مقتل ابنة شقيقته ، وسجن شقيقته ماري حدّاد الأديبة الفنّانية . وسجن صهره ، والتنكيل بكريمتي شقيقته الداهشيّتين ، ثم اصدار شقيقته سلسلة من الكتب السوداء الرهيبة التي شرحت فيها مراحل جريمتهم الشوهاء الشنعاء ، ثم تبرّؤها من الانتساب اليهم . هذا تمّ بسبب هذا المتعجرف القاحل الفكر ، الماحل التمييز ، والذي يقول عن نفسه انه أنبغ من أنبته لبنان منذ كان لبنان ...يا للغرور الأعمى ، ويا للسخف والعته ، ويا للجنون المطبق ! أمّا المستقبل فهو الذي يتكفّل بتأديب هذا المجرم العديم العاطفة والذي نكب نفسه ونكب عائلته . واذا كان حرّا بنكبة ذويه فهو وشأنه الخاصّ ...أما أنّه ينكبني وأنا الغريب عنه قلبا وقالبا ، جسما وروحا ... فهذا ما سوف يؤدّب عليه تأديبا صارما جدّا . وقد قال السيّد المسيح : " بالكيل الذي تكيلون به يكال لكم ويزاد " . وهذا ما سيتمّ دون زيادة أو نقصان . والسلام عليكم من المخلص . داهش
|
جريمة القرن العشرين
- Details
- Category: جريمة القرن العشرين