التلفزيون
من أقاصيص زينه حداد
ترجمة سمير الحداد
ويتمكلني ليل أزرق. السماء بلونها الداكن، المليئة بالأفلاك المُنيرة تسحر عينيّ. هذا المساء، الأفكار لا تفارقني البتّة، ويأخذني الإعجاب بنيّرات الله التي كانت تتألق وتسطع أنوارها على صفحة مياه البحيرة القريبة.
رؤوس الأشجار تتعالى، ترمق القبة المقدَّسة بإعجابٍ. وتدرك الطبيعة اللغة السماوية أفضل من البشر وتستجيب لإشاراتها بلغةٍ لا نفهمها نحن، وتتلو الأناشيد وتتذكر حضور جميع الأنبياء الذين جاءوا إلى الأرض، فبصمة وتأثير رجال الله حاضران دومًا حتى وإن كان أهل الأرض يدنسونهما بتصرفاتهم الدنيئة.
احاديث أهل الأرض وتصرفاتهم تسجَّل على الدوام على أمواج أثيرية لا طاقة لنا على ادراكها أو رؤيتها. فالأزهار والأشجار، كل قطره مياه، كل حبةِ رمل، كل شيء، كل ما في هذا العالم ينحني أمام المُبدع الأكبر ويعرف مُرسليه.
عندما نزور الربوع الجميلة يأخذنا جمالها الساحر، بل أكثر من ذلك، يأخذنا الصمت في حالٍ من الاحترام والإجلال المُطلقين. الجمال قربان يقدم أمام الله، هو صلاة، والصمت ملاذ للتأمل والتأمل سفر إلى البعيد البعيد.
وتستلهم الطبيعة النجوم الكثر التي تهمس بكلماتِ جميع القديسين رافعةً الشكر والحمد لله العليّ. المويجات الخفيَّة تتدفق بالكلمات وآذان الكواكب المُرهفة السمع تتلقى وتسجِّل كل شيء.
وتتوالى الأجيال، جيلاً إثر جيل بدءًا من العصر الحجري حتى بلغنا القرن العشرين، قرن الحضارة أو عصر الطاقة الكهربائية التي تتيح لنا الإفادة من جميع أنواع الآلات التي لم تكن موجودة من قبل. إنه عصر غاية في الغنى، خصب بالاختراعات إذ يمكن للباحثين أن يعتزوا ويفتخروا باكتشافاتهم التي هي أبعدُ من كل قياس. إنما يجب الاقرار بأن الاختراعات هنا على الأرض إنما تتحقق بإرادة لا أرضيّة، إنما يوحى بها في الوقت المراد لتحقيقها. وتتناهى الينا هذه الاكتشافات الرائعة من كواكب مُوغلة في البعد حيث الحضارة أكثر تطورًا من حضارتنا وهي موجودة منذ الزمن، وما هو بحوزتنا ليس سوى أنموذج بسيط لما هو موجود في تلك الأماكن المُتألقة التي تتجلَّى فيها عظمة الله، أضف إلى ذلك أن أعظم الحضارات إنما تتولد من القلوب النبيلة.
الخير والشر، الجمال والقبح، الذكاء والبلاهة، المحبَّة والكره مُتناقضات، وجهان لكل مزية، طرفا نقيض، هذه المُتناقضات كانت منذ كانت الأرض.
فبالتوازي مع الحضارات البنّائة هناك حضارة هدّامة تصِلنا من عالم أوكل إليه أمر معاقبة الكواكب التي تعصى القوانين الإلهية، ولكل عقاب أوان. فالإفراط في اقتناء الأسلحة الفتاكة سيكون سببًا في القضاء على الحضارات التي بناها أبناء الجنس البشري الذين سيكونون هم من صنعوا بأيديهم اسباب دمارهم.
وبانتظار الكارثة، يتملكنا الإعجاب بنجمات الله، ربّات الوحي لكواكبنا، فهي عالمة بأدقّ اسرار أرضنا إذ أن مويجات الضوء توصل إليها كلّ ما يتعلق بأرضنا، فتصنع الأفلام وتأخذ الصور الفوتوغرافية تسجل عليها أفكار البشر والحيوان والنبات وكل ما فيه نأمة من حياة، حتى المادّة الجماد، فهي حيّة أيضًا.
إن مُجرّد كشف هذه المعلومة لنا يدخل الرعب في القلوب، إلا أن عالمنا سيبقى غير مبالٍ، مُتماديًا في شكّه وقلّةِ إيمانه حتى تحلّ بنا الكارثة الكبرى فتتفتت المادة عندئذٍ"، غير أن لبّ هذه المادَّة نفسها سيبقى خالدًا.
الثقافة العميقة على تلك العوالم التي حباها الله باختراعات لا يحدّها خيال والتي تحظى على مساعدة العديد من الكواكب، تدوّن كل ما يدور على امتداد أرضنا وذلك كما سبق أن أخبرتكم آنفًا أنه لا يمكن أن تمرّ فكرة أو تخطر بيال وتفلت من رقابة أجهزة التسجيل الحسَّاسة.
أهل العوالم الخارجية ليسوا بخاملين ولا بمتوانين، وهم يطبقون أوامر العوالم العلوية بأمانة مؤدين مهامهم بكل دقّة. أما نحن فنتناسى أعمالنا السيئة وآثامنا طوال اقامتنا على هذا الكوكب، الأرض.
غير أن هذه الأدوات المُتطورة، المُحفزات الأمينة للذاكرة تضم تاريخ حياتنا منذ أن ولدنا وحتى مماتنا بالإضافة إلى أنها تُعيدنا بالذاكرة إلى تقمصاتنا السابقة. فبعد وفاقنا، يحضر كوكب هن عبارة عن شريطٍ مُسجّل كشريط الفيديو، يحضر أمام محكمة سماوية ويكشف أمامها سجل وجودنا بكامل مراحله، منذ التكوين وحتى النهاية، فتحكم المحكمة على أعمالنا فتكافؤنا أو تجازينا. جميع هذه الأفلام محفوظة في سجلات هي بدورها محفوظة في عالمٍ خاص.
هذا هو شأن الأرض، أما هناك في المجرَّات البعيدة غير المرئيية، ينتظم العديد من النجوم عددًا كبيرًا من الباقات تضمُّ كل واحدة منها العديد من النجوم توجهها كوكبة كبيرة من الكواكب وتكون مرشدة لها.
جميع هذه السماوات فراديس ساحرة، البعض منها أبيض اللون، متوهِّج. الحدائق نظمتها يد سماوية، الحجارة، من تلك المتناهية في الصغر إلى الأكبر حجمًا، منحوتة بأزاميل أمهر نُحَّأت. ويده المقدسة تمثل مجد وعظمة هذا الفن الخلاَّق، ففي باطن هذه اليد العملاقة تمتدُّ بحيرة تنعكس عليها، كما على مرآة، شعاعات مُنيرة من العديد من الشموس يرتسم ائتلافها قوس قزحٍ لا أبهى ولا أجمل، وخيوط الضوء هذه نفسها تكسو الفراديس ألوانًا على هواها. ويعمُّ الحبور في هذه الأماكن الساحرة حيث تقيم حضرات سماوية؛ فراديس يعجز الكلام عن تصوير ووصف جمالاتها، فقارئ هذه الكلمات وسامعها سيبقى يخامره الشكّ في هذه الأوصاف إلى أن يأتي يوم يستطيع فيه التيقُّن من صحتها وواقعيتها.
وترتحل في السماوات غابات شاسعة تمتدُّ أو تضمر بارادتها دون أن يتبدَّل شكلها. وتتهادى ممرات من الزنابق التي يرتسم بداخل كل منها وجه ملائكي، وترقص وتتمايل مع النسيمات التي تدندن بالألحان والأناشيد، وتردد أنغام الساروفيم الأناشيد ويبثّ الهواء عبق البخور في كل مكان، ويجمع الحمام والترغلّ ورودً حمراء يحملها بمناقيره إلى معبد مقدَّس تُقام فيه الصلاة، وتلقي هذه الطيور بتقدماتها فوق نار مُقدَّسة خالدة دأبها تمجيد وتكريم الله.
وتنشرُ النار المُتوهجة أذكى العطور على السنتها التي لا تصيب أحدًا بأذى، بل إن النفوس ترودها وتتطهر بوهجها المقدَّس. عندئذٍ ترتفع حزم الأزهار المتوهِّجة وتشكل غطاءً للسابحين بين السنة اللهب التي تحتضنهم بفرح ومحبّة.
هذه النجوم تجمعها روابط أو شعاعات خفية، والكواكب الأم تبث الرسائل إلى كل هذه الجواهر التي هي في عهدتها. كل هذا كوكب مُنير، تلفاز يبث على شاشاته أخبار العوالم المُحيطة به وتبقى الأفلام تدور باستمرار، وتمرَّ معلومات وثائقية واحدة تلو الأخرى وحكايات من العديد من العوالم يأسر جمالها المُحببُ العيون.
وتتوالى المشاهد لا حدّ لها ودون توقف، ساحرة جاذبة المُتفرجين، فالتلفاز يبثُّ باستمرار وبلا انقطاع برامج متنوعة لا يقلّ واحدها جمالاً عن الأخر.
ويتجسد العديد من الكتب التي وضعها أعظم كتّاب هذه الأماكن، وتروح تلك الآلة العملاقة تسردها بطريقة مصوّرة. وبالأسلوب عينه، أي بواسطة الآلة العظيمة، يصل العديد من الوصايا إلى المجموعات المُختلفة من النجوم، فنسمع أحاديث وشروحات عددٍ كبير من الأنبياء ورجال الله. ويستمتع بنشوة إلى الرسالات البعيدة، ويقومون كل من عالمه الخاص بزيارة الفراديس القريبة. وتعمُّ الغبطة ويبلغ الحبور السماوات، وتقرع الأجراس وينشد ملائكة الله أناشيد الحبور.
ويلتقط التلفاز أحيانًا أخباراً عن أرضنا ويعود فيبثها في أرجاء مُحيطه. ويشيخ سكان العوالم البعيدة بأنظارهم ناقمين على ما يرونه من دناءات عالمنا الذي يشبهونه بشيطان ابليسي يقولون بأنه سيّد كوكبنا الحزين، ومع ذلك تحتفظ الآلات البعيدة بقصّة عالمنا بحذافيرها.
أيتها الأرض، يا أم الرذائيل، أنت تحتضنين جرائمكِ في أحشائكِ، لقد لعنكِ الله فسِجِلُّ آثامك يخبر عن دناءاتك منذ الخلق وحتى يومنا الحاضر. لذا فجميع الأنبياء الذين عاشوا ها هنا والذين كرسوا ذواتهم لسبب وجيه، تعرّضوا للهزء والإساءة، استشهدوا وقتلهم الطغاة، أبناء الجحيم. السماء تصرخ: العدالة، العدالة! فدم الأبرياء يجب الانتقام له.
الدكتور داهش، النبي الحبيب، آخر من يزورنا من السماء، يجسِّد في شخصه الحلم والمغفِرة. لقد كان حملاً ذبيحًا نبذته ثلة من البائسين. وها التلفاز السماوي يبث فيلم استشهاده. ومادت ذرى الله الطاهرة لمعاينتها الآلام والعذابات التي سيمَها وعاناها وتحملها النبي الحبيب.
العقاب، العقاب!
أيتها الأرض، أيها البشر، لا يمكنكم أن تنكروا جرائمكم لأن الله لا ينسى، إنه يصبر ويصلح. إن تلفاز الله سوف ينعش ذاكرتكم وسيحكم عليكم بحسب أعمالكم.
إذا كانت أرضنا، بوسائل تملكها، قادرة على إرسال الرسائل إلى بلدان مختلفة بواسطة الأقمار وعلى تلقي مثلها، فلا عجب إذًا عما يمكن أن تفعله العوالم العلوية، لكننا لن نستطيع أن ندرك ذلك لأن تبيانه رهنٌ بالأزمان الآتية.
هكذا، وعلى نقيض العوالم العلوية حيث لا يسود سوى الفضائل الجميلة، نحن، وللأسف، ليس لدينا سوى أسوأ العيوب التي تسير بنا نحو هلاكنا.
فالإكتشافات المُدمّرة لها الغلبة، فقد حقَّقت انتصارها، وساعة اللعنة لا بدّ آتية، ستُحقَّق بحرفيتها ولن يتمكن الإنسان من معاينة حضارة الأرض المُحبّبة سوى في المجرّات اللامرئية، فهذه الحضارة لن تنيده بعد الآن ويا للأسف إلا ساعة الحكم الأخير.
الأنبياء لا ينتمون إلى الأرض، فهم غرباء عنها. النبي هو الهامٌ مباشرٌ من لدنِ الله، لكن عماوة بني البشر تحول دون اعترافهم واقرارهم بأن الأنبياء هم رُسُل الله المقدَّسين. عندئذٍ ينزل الحكم الذي يُدين الخطأة وعديمي الإيمان فيلقى بهم في غياهب الظلمات.
التلفزيون هو بحق الشاهد الأمثل على أعمالنا، ناهيك عن المُتعة التي يقدمها لنا.
نرفع الشكر إلى المجد الإلهي ففيه نجد في هذا المدى المجهول، نجد من لا نهاية له.