من رَحَمِ الله ورحمته
من رحمِ المحبَّة ولد، حيث إضطُهِدَ وصُلب، من أبٍ عزيزَ النفس ، كريمٍها يعلِّمَ الناشئة الوعي، ولم يعمِّر طويلاً بعد ولادته، ، وأمٍّ جليلة إلتزمت وصايا الله، تزرع الفضيلة عملاً بين أترابها وجيرانها فكان الإبن الصالح، يعلِّمَ نفسه ويؤدِّبها، ليكون مثالاً لنا وللأجيال القادمة من بعده، ولنعرف بأنَّ الله لا يسألنا ما ليس لنا طاقةً به،
وُلِدَ من رحم الفقر، وترعرع في العوَز ، ونشأ في دار أيتامٍ ، ولم ينهلَ من العلمِ سوى أشهرٍ قليلة، كانت كافيةً ليعلِّم الجهابذةَ وأصحاب القلم والعلم ما خُفيَ عنهم وعليهم، فكان نوراً يهتدي به الباحثون في الروح والحقيقة.
عمل طفلاً حين كانت الطفولة إبتسامةً بريئة وضحكةً رنَّانة، ومن شظف العيشِ ركض صبياً خلف رغيف الخبز في أزقَّة الشوارع ، ونافح يافعاً ،يحمل مسوؤليَّة ألأم وبناتها إحساساً بشقاءِها وفي سدِّ حاجاتها ورَفْعِ الحرمان عنها، فكان مُلتزماً تعاليم الله بإكرامِ والديه وقدوةً سبَّاقة في الأخلاق الرفيعة.
يُتمٌ وفقرٌ وقلَّة علمٍ، هي نظرةٌ مُبسَّطة عن أسوأ نشأة في القاموس البشريّ، من هذه الحالة ، وهذا المستوى الأدنى من الحياة الإجتماعيَّة والثقافيَّة تحلَّى ذلك الطفل واليافع والشاب بدماثة الخُلُق، مُلتزماً طريق الفضيلة،عاملاً في سبيلها ومن أجلها، مُتغلِّباً على ميوله ، كابحاً جموح رغباته، ناظراً بعينِ العطفِ على سقوط الإنسانيَّة المدوِّي في عالم الجهل والرذيلة، وبذلك يكون مثلاً أعلى لنا ولغيرنا، بأنَّ لا شيء يقف بوجه الرقي الروحيّ حينما تكون الإرادة صلبة، مبنيَّة على الإيمان المُطلق للإندماجِ بالعزَّة الإلهيَّة، إنَّها سيرة الأنبياء. إنَّه داهشٌ النبيّ.
حين تكون المعرفة الروحيَّة سبباً لمعرفة الذات البشريَّة، عندها فقط لا نقفَ مكتوفي الأيدي أمام ضعفنا الموروث، فلا يكونَ اليتم حاجزاً منيعاً في الإلتزام الأخلاقي، والفقر حجَّةً واهيةً في تطورنا العقليّ، والعوز سدَّاً قاهراً أمام رقيِّنا، والجهلُ حجر عثرةٍ في وجه ثقافتنا، والخوفُ من سلطةٍ سياسيَّةٍ كانت، أم دينيَّة لنشر التعاليم الإلهيَّة في أرض الشقاء والرذيلة.
واللا نكتفي بدفع الثمن عن أعمال يتندَّى لها الجبين حياءً وخجلاً، أتيناها طائعين مُختارين في تقمُّصاتنا الماضية والحاضرة، فالأفكار السوداء تلد الجريمة، والأحفاد كما الأجداد لن يكونوا بمنأى عن دفع الثمن، وعليه اللاَّ نكتفي بنيلِ القصاص العادل لعمل الرذيلة ، فنراوح على هذا المنوال وإلى ما لا إنتهاء. فالواجب يحتِّم علينا العمل والتغيير إلى الأفضل من أجل الخلاص.
طفولةٌ بائسة، وشبابٌ يرزح تحت حمل مسؤوليَّة الأم والشقيقات ، لم يمنعاه من رؤية أمراض القرن العشرين وما يتلوه، فدعى لوحدة الأديان ، وإضطهاده لأجل ذلك ،من قبل رجال الدين والسلطة، هي وصمة عارٍ على جبين البشريَّة جمعاء، ولندرك أنَّه وعلى مرِّ التاريخ كانوا هم مُضطهدي الأنبياء والرسل ، وحتى الفلاسفة والشعراء، وكلَّ من وجِدَ على طريق الصلاح، أجل فهم أعداء الصلاح أينما وجد.
بؤس الطفولة وحرمان الشباب بالإضافة الى ضنَك الحياة، لم يمنعاه من حملِ المسؤوليَّه الكبرى في العمل على نشر الفضيلة والعودة بالتعاليم الإلهيَّة الى جوهرها الروحيّ، والمتجسِّدة برسالةٍ روحيَّة جديدة في عصرٍ يتسابق به العلم والموت مع الإلحاد والرذيلة ، فالثورة العلميَّة والصناعيَّة في أوجها، والموت أقرب إلينا من أيِّ وقتٍ مضى، والصواريخ العابرة للقارَّات ورؤوسها النوويَّة إنتشرت حتى بين الدول الصغرى، فأصبحنا على قابِ قوسين أو أدنى من فناء شامل، يكمنُ في عزَّة نفسِ ملكٍ أو رئيس. والرذيلة تفشَّت حتى بين الصبية وفي مقاعد الدراسة، فأصبحت المُخدَّرات توزَّع كالحلوى على أبوابها، والدعارة لا رادعَ أخلاقيٍّ لها، فهي الحضارة الجديدة التي نتغنَّى بها، ونجاهرُ بأمرها، وكأنَّها الخبز الذي لا نحيا إلاَّ به، أمَّا الإلحاد فحدّْث عنه ولا حرج، وكأن الله لن يبقى إلهاً اذا ما شهدنا لألوهيَّته، حتى أصبحنا نرى في الزعيم والقائد والمعلّم إلهاً نبجِّله ونحترمه، وفي الدينار ربَّاً يقينا شرَّ العوز والفقر والجهالة، فأصبحت الدكتوراه الفخريَّة توزَّع على أصحاب المال والسلطة من رجال سياسةٍ ودين. وأني لأذكرُ بيت شعرٍ :
" فلو لبس الحمارُ ثياب خزٍ لقال الناس يالك من حمارِ "
من رحم الله ورحمته تولدُ الأنبياء والرُّسل، هُداةً لجمعِ خرافه الضَّالة، ولإسم محبَّته تتحمَّلُ في سبيل ذلك شقاء أهل الأرض وعذاباتهم، فلتكن المحبَّةُ أساساً في التعاطي مع الآخر، كائناً من كان، فهي أقصر الطرق الى قلب كلِّ إنسان، بها نجتمع، ومنها ننطلق الى الفراديس الإلهيَّة، المحبَّة هي سرُّ الله في خلقه، المحبَّة هي الخير والتضحيَّة والتواضع، فبها تُبنى الأديان ، وعليها تُبنى الأخوَّة الإنسانيَّة، فيعمُّ السلام والطمأنينة بين البشر. المحبَّة هي الإحساس بالآم الآخرين وعذاباتهم، فنواسيهم في محنهم ونرثي لهم ، ونجدّ الأعذار لمن أساء الينا، فنكون له عبرة وأمثولة، ليعترف بإساءته،
من وصايا النبي الحبيب الهادي: " أُحبّوا بعضكم بعضاً ".
وكلَّ عام وأنتم بخير.
بقلم حسين يونس