نجمة إلهية
بمناسبة الذكرى السابعة والخمسين
لِمولد الدكتور داهش
ماري حدَّاد
إلى ما فات من السنين اعود، إلى السنين الحافلة بالوقائع والأحداث غير المألوفة على الإطلاق. لقد كنتُ، في ما مضى من ايام حياتي، أنتظر دائمًا الحدث الجلل، أنتظر الأمر الخارق؛ فقد يأتي، ولا يخيب أملي. ولقد أقبل حقًا ما كانت تطلبه روحي.
كانت مشاهد الحياة تتوالى في سكون: الموت، والولادة، والقران، والحِداد، والابتهاج، وحوادث الأيام... فلم يكن ثمة ما يستثير النفس بعد. لكن الحدث المُزلزل وقع ذات يوم، وضربني كالصاعقة.
كانت الشمس يومذاك تشرق وتغيب كعادتها. وكانت النيرات، وفيها القمر، تأهل السماء بدوام حضورها وكان ثمة نيازك ومذنَّبات، في بعض الأحيان، وكسوف وخسوف؛ وكان، في أحيان أخرى، ما يشبه تفجّر كواكب مختلفة في ليالي الصيف فكأنها عراك الملائكة في الأزمنة السحيقة.
لكن نفسي لم يكن ليتغير فيها شيء؛ فقد كنت في سكونِ ترقُّب. وما لبث أن وقع الحدث المزلزل. ولقد أعلن لي بعبارات أقل ما فيها أنها تثير العجب. أهذيان وجنون وشطط! ما الذي يرويه لي ذلك الغرّ الهرم الساذج الذي خدع، ولا ريب؟ قلتُ ساخرةً: "لا، لن أُخدع أبدًا". ولكن إصرار الشيخ النقيّ السريرة وإلحاحه انتصرا على السخرية، إذ إنه كان سليم الطويَّة حقًا. وعمدتُ إلى لقاء العظيم الذي أعلنه حليم دموس.
لقد وقعت عيناي على ذلك الرجل، فإذا به كالآخرين منظرًا. ولقد تشبثتُ، منذ ذلك اليوم، بحقيقته التي كانت تشعُّ في كل ما يقوله ويقوم به. كان يتكلّم، ثم يؤيد بالظاهرات المتجدِّدة أبدًا صحّة ما يقوله. ما الحياة؟ ما الموت والولادة؟ ما التقمُّص؟ وخلود النفس، ما الدليل القاطع عليه؟ أنَّى لنا وقد تقدمتنا كتب الأديان المقدَّسة جميعًا، وهي كثيرة، كما تقدمنا العهدان العتيق والجديد – أنَّى لنا أن نثبت ثانيةً خلود النفس لِمَن سلوا الله، فما يعرفونه إلا ألفاظًا جوفاء، في حين أن أعمالهم وأيَّامهم كلها تجحد وجوده؟
الدكتور داهش بين ماري حداد وزوجها جوج حداد
بيد أن سلاح الدكتور داهش يأتي على كل شكّ. ذلك أن الروح تؤيد تعاليمه، فتُظهر، على يديّه، قوتها الخارقة...
ثم أي كاتبٍ على مر العصور تأتى له أن يبلغ كما كتاباته، وسمو فكره، وتعبيره عن العدالة؟
إنه نور من يشاء أن يستنير. فهو يقف حياته ومواهبه الإلهيَّة على خدمة بشرية لم تُدرك، حقًا عظمة الإنسان، والأصل الإلهيّ لما نُدِبَ إليه.
منذ أن عرفت الدكتور داهش قبل أربعةٍ وعشرين عامًا وهو هو في قوَّته اللامحدودة، بالغُ العظمة في ما يأتيه، وطيد العزم في تعاليمه. إنه صخرة تهيمن على الزمان والأحداث، ولن تَني هيمنتها تتسع.
نحتفل اليوم بذكرى مولده، وها أنذا في ارتباك: أية كلماتٍ أتخيَّر ليوم عيدٍ، كلمات تنطق بالجمال والعظمة، وبمجد نجمةٍ تطلع في أفقِ الأرض؟ النجمة تتألق وتشع، وتخاطب قلوبنا بلغةٍ إلهيَّة. وهي ذات شعاعاتٍ بعيدةٍ ترسل حزمًا ن نور، مهرجان ألوانٍ تنساب وتتمازج مشبِّبة بها، فتصدح النغمات المؤتلِفة بأجملِ الألحان. ولقد حيَّت النجمة إحدى الحوريات الساحرات، وهي إلهة فائقة الحسن، كما انعطفت السماء عليها.
السماء بستان نجوم... أنا بستاني، وعندي بستانُ نجوم. مدّي لي، يا أختاه، يد العون، فنقطف إضمامة زهور من بستان نجومي القائم في الأعالي.
ثمة زهرةُ الحبِّ الإلهيّ؛ إنها نجمة متوهِّجة. سأقطفها، وأضفرُ من حولها طاقة زهور. وثمة زهرة الأركيديا الفائقة النفاسة على الأرض. لنقطفها بنورها المتعدد الألوان. سوف تضفي على ذكرى المولِّد أشعَّتها العجيبة.
لقد التقيت الملائكة في بستان نجومي، فساعدوني في القطاف. لم يدعوا شيئاً إلاَّ جنوه: الألماس، والزمرد، والياقوت الأحمر والأزرق، وسوى ذلك من فرائد مكوكبة كثيرة. كانت نجومُ بستاني تعطر الكون كلّه، وكانت إضمامتي تغني فرحها.
على أن ثمة دارةً كانت تنتظرُ أن يأزف حينها: فقد كانت مجرّتنا تؤلّف سبحةً، وكانت أيدٍ إلهية تعبثُ بحبَّاتها، "لآلئ السماء التي ليس لتلألؤها الخالص نظير"؛ ذلك أن كل ما في البحار والمحيطات إن هو إلا حصى لأبناء الأرض الصغار.
مُدِّي لي يد العون، يا أختاه، فنعقد بالمجرَّة إضمامتنا المكوكبة؛ فإن هذا العقد الخلاَّب لجدير به يوم عيد. سيكون الإكليل الذي يعصبُ جبهته، وستواكبه قلوبنا وأشواقنا*.