الدكتور فريد أبو سليمان
نسيجٌ فريدٌ هو الأنقى والأرفع
بقلم الأستاذ حافظ ابراهيم خيرالله
صيف 1996 أطلَّ عليَّ في غرفتي، حيث كنتُ أمارس مسؤولياتي في إحدى الصحف وفي مُلحقها. لم أكن أعرفه، ولا كنتُ أعرفُ أنه ينتمي إلى مدرسةٍ فكرية يعطيها كل ذاته. ما كان يريده منّي هو أن أتعرَّف على دكتور كنتُ قد قرأتُ عنه ولم أقرأ له، وسمعتُ بأخباره من ماضٍ بعيد. بل كنتُ أظنّ أن الرجل مات من سنين في مؤامرة غامضة ربَّما كانت في لبنان أو في سوريا أو حتى في إيران. هو الدكتور داهش من يريدُني الدكتور فريد أبو سليمان أن أتعرَّف عليه وأقابله، وأتحدَّث إليه وأستمع إلى ما عنده. في ذلك الصيف، كنتُ أسلّي القراء في "الملحق" الأسبوعي بقصص المشعوذين والسحرة والمُتذاكين على الناس من على مسارح الاصطياف في شتَّى الأنحاء اللبنانية.
الدكتور فريد قعد عندي ساعة، فأوجد قضية. نعم، في البلد سحرة ومشعوذون يمارسون البهلوانيات على عقول الناس. ولكن، نعم، في البلد شخصٌ له قدراتٌ خارقة، وشخصيةٌ مرموقة، ورصانة قلَّ نظيرها، واحترامٌ يفرضُ نفسه. وهذا هو السيد سليم العشي المعروف بالدكتور داهش الذي ألف العشرات من الكتب في الإبداع الفكريّ بمعظم تفرّعاته. وإزاء تعجّبي مما كان يقوله عن الدكتور داهش، ولا سيَّما عجبي من أنه لا يزال على قيد الحياة، وعجبي من أن له دائرة واسعةً، تزدادُ اتساعًا، من مريديه الذين يجلُّونه ويحترمونه ممَّن هم في مهن الطب والمحاماة ومن أهل الشعر والنثر والأدب وبقية الفنون الجميلة، فقد انتهينا إلى تلاقي الأفكار على وجوب قيامي بزيارةٍ للدكتور داهش بمعيَّته.
الزيارة حصلت وطالت على امتداد ساعات. وبعدها حصلت زيارات وزيارات على مدى سنوات إلى أن فرقتنا الحربُ في لبنان، خاصة أن منزل الدكتور داهش كان في منطقة "استراتيجية" للتلاحم والاقتتال والقنص والقصف وبقية ما تعلَّمناه من تعابير تصرفات المجانين. هذه الزيارات فتحت عقلي على تواجد مُذهل لصفوةٍ من الناس حول شخص ومبدأ وفكر وعقيدة، وجعلتني أرقبُ باهتمام بالغ ما كان يجري أمامي من مسرى حياتي عند أشخاصٍ تبيَّن لي أنهم ذروةٌ في الأخلاق والتصرّف والتعاطي مع الناس وفي ما بينهم. وصفُ هذه السنوات وهذه اللقاءات يطول، وهو الآن ليس موضوعنا.
واحدٌ من مكاسبي الكبيرة في مهنتي كصحافي كان تكرار اللقاءات الثنائية مع الدكتور فريد أبو سليمان عبر السنوات اللاحقة، مع أننا طالما التقينا كذلك في منزل الدكتور داهش. ما أدهشني في شخص الدكتور فريد ذاك الاحترامُ المُذهل الذي كان يكنّه للدكتور داهش ويثبتُه له. للسن احترام، وللمقام احترام؛ وهذا على الرأس والعين. لكن الدكتور فريد كان من نسيجٍ فريد هو الأنقى والأرفع. الدكتور داهش عنده كان كل شيءٍ على هذه الأرض. وتنفيذ ما هو واجبٌ وأصول ولياقة ضمن أسس المبدأ والعقيدة كان، عنده، نمط عيشٍ وحياة.
ناقشته وتحديته وحاولت حشرة في الزوايا، فإذا هو صخرةٌ من صوان. تعمدتُ السخرية والتفاهة والاستهزاء، ولو في إطار الأداء المسرحي، لعلِّي أستفزه لإخراجه أو لزحلقته من وقارة في الحديث عما يعتقده أو عما يمارسه من دقّةٍ ومسؤولية في تعامله مع الناس أو مع مرضاه أو حتى معي أنا، فإذا هو ماسةٌ من النوع الأفضل مخفية تحت ما هو عالقٌ فيها قبل الحك، ومستورة في ما هي فيه حتى لا يظهر جوهرُها لمن لا يفهمُ قيمتها.
تعلَّمت منه، عبر سنوات لقائنا، أن الحديث الخافت الرائق الراقي المهندم الخالي من النفاق والكذب والاستزلام والاستنفاع يبقى أقوى من الجيوش الجرارة أو الخطب النارية أو النقاشات التي تهترئ فيها الأصواتُ بلا نتيجة. كأننا، هو وأنا، كنا على علمٍ بأنَّ ما حصل لاحقًا من اقتتال في لبنان لم يكن ليوصل أحدًا إلى شيء، اللهم إلا تشرّذمنا وتشرّدنا في بقاع الدنيا.
وتعلمتُ منه كذلك صوابية تنفيذ تلك المقولة إن "المعاملة" هي الأساسُ في العلاقات البشرية. نعم، كنا نعرفُ ونردِّد أن "الدين معاملة"، لكننا كنا نوسعها إلى مناحٍ أخرى حتى نعطيها، في فهلويتنا، طابع "علمنة المعاملة". رشده وثق في السعي إلى الصواب. وتأملي وتحليلي لما هو فيه طابعٌ وطبعٌ كانا يقودانني دائمًا إلى محاولة التبصّر قبل الإقدام.
الحربُ فرَّقتنا في الجغرافيا. الدكتور داهش صار في أميركا، والدكتور فريد بقي في لبنان، وأنا صرتُ في بريطانيا. من الدكتورين تعلّمت أمورًا كثيرة، ولهما حفظتُ جميلاً وافرًا، ولو أنني – وبلا تملُّقٍ لأحد، بعد كل هذه السنوات – لا أدعي أنَّني انضممت إلى المدرسة الداهشية، ولأسبابٍ قد تكون جزءًا من تكويني النفسي.
الدكتور فريد صار في ذمَّة الله، وقد سبقه الدكتور داهش. الدكتور فريد يبقى في ذهني صاحب مدرسةٍ تطبيقية في أصول التعامل بين الناس، وفي اعتماد وسائل الإقناع، وفي التركيز على الحجَّة والمنطق. صحيح أنه أخذ الخطّ الرئيسي من الدكتور داهش، لكنه طبَّق أفضل فهم له، واتَّخذ مسرى في حياته كم أتمنَّى لو أن كثيرين يطبقونه على أنفسهم.
رحمة الله عليكَ، يا دكتور فريد؛ فعليك وعلى أمثالك تجوز الرحمةُ الحقَّة*.