قُطبٌ داهشيّ يغيب عنَّا
انتقال الدكتور فريد أبو سليمان من أرض الشقاء
أمورٌ كثيرةٌ في الحياة هي أشبهُ بالألغاز والأسرار كانت تحيِّرُني وأنا في عنفوان الشباب ولا أجد لها تفسيرًا: نشأةُ الحياة، حقيقة الموت، أصل الكون، الأمراض والعاهاتُ تصيبُ الأطفال والصالحين، الحروبُ والكوارث الطبيعية تحصد النفوس بلا تمييز إلخ. وكان يلحُّ عليَّ دافعٌ قويٌ لمعرفة الأجوبة.
قيل لي: ليس لك إلا الرجل العجيب، الدكتور داهش؛ فلديه وحده مفتاحُ الأبواب الموصدة. سألتُ كيف الوصولُ إليه؛ فتأتى لي من قادني إلى الدكتور فريد سليمان. كان ذلك منذ أربعين عامًا.
كانت عيادته في مبنى سينما روكسي القريبة من ساحة الشهداء في بيروت. دخلتُ إليه مزهوًا بما حصّلت من ثقافة وأنا في السادسة والعشرين من عمري؛ فاستقبلني بلطافةٍ ووجهٍ بشوش، وأسرَني كما أخجلني، وهو الطبيبُ المشهور، بتواضعه الشديد.
سألته متى تعرَّف إلى الدكتور داهش؛ فأجاب: "في الفصل الأخير من عام 1942". ثم روى لي عدة مُعجزاتٍ شاهدها تتمُّ على يديّ رجل المُعجزات الشهير، وقال لي:
"يا أخي غازي، الدكتور داهش هو نعمةٌ إلهية عظيمة. فمن يتعرف إليه ويعرف حقيقته تكن السماءُ قد باركته وأنزلت نعمها عليه. بعد أن أيقنتُ أنه الهادي الروحيّ الحبيب الذي أرسلته السماء لهذه البشرية التاعسة، تركتُ أهلي وأمجادَ الدنيا الباطلة، والتحقتُ به. ألم تقرأ في الإنجيل ما قال المسيح: "مَن أحب أبًا أو أمًا أو أخًا أو أختًا أكثر منّي... فلا يستحقني؛ ومَنْ يُحببني يحمل صليبه ويتبعني"؟".
والحقيقة أنني لم أعرف شخصًا نفَّذ قول السيد المسيح مثلما نفَّذه الدكتور فريد أبو سليمان. فقد انقطع إلى خدمة الرسالة الروحية الجديدة ومساعدة مؤسسها حوالى ستين عامًا. ولم يتح لأحد من الداهشيين الرجال أن يلازم الدكتور داهش كما أتيح لهذا الطبيب الوفي المُخلص لمبادئ الداهشية. والمُتنسِّك من أجلها، والباذل نفسه ووقته في خدمتها، إذ إنه أمضى في ملازمته رجل الروح والمُعجزات زهاءَ 38 عامًا.
وعندما بدأ الرئيس اللبناني الأسبق، الطاغية بشاره الخوري، اضطهادَه للدكتور داهش وأقطاب الداهشية، تعرض الدكتور فريد أبو سليمان للتهديد والوعيد، وأطلق الرصاص على سيارته؛ لكن العناية الإلهية أنقذته. وقد خيَّرته الحكومة الباغية بين أن تزيد راتبه الشهري بصفته طبيبًا رسميُا، أو أن يُقال، ففضل الإقالة على التخلِّي عن مبادئه الروحية وإيمانه بوحدة الأديان الجوهرية.
ولو تتجسَّدُ البراءة الطفولية، لكان أحد تجسُّداتها؛ ولو يرمز إلى الوداعة بإنسان، لكان أحد رموزها،ولو يكون للتنسّك صورةٌ حقيقيَّة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكان إحدى صُوره، إذ أمضى حياته الطويلة عازبًا، زاهدًا، مُتمسكًا بالقيم الروحيَّة.
كان يخدمُ المرضى بقلبٍ مُحب، ويخدمُ الداهشيين والداهشيات ويرشدهم مُسديًا لهم النصائح التي تقيهم العثرات بفرحٍ وشكرٍ لله، لأنه لم يرَ أسمى من المحبَّة والهداية.
بدءًا من عام 1960 أخذ يحضرُ كثيرًا من الجلسات الروحية التي كان يعقدها الدكتور داهش.
فأتاحت له معاينته المُعجزات الروحية التي كانت تحدث في أثناء انعقاد الجلسات أن يدوّنها مع خوارق كثيرة أخرى شاهدها أو التقطها من أفواه شهودها. وقد كانت حصيلةُ ذلك كتابٌ ضخم.
كذلك نُشِرَ له كتابٌ بعنوان "في رفقة الهادي الحبيب"، روى فيه قصة إيمانه ومعاناته أيام الاضطهاد، وأوضح ما استفادة من تعاليم العقيدة الروحية الجديدة. كذلك روى تفاصيل من حياة الدكتور داهش بادئًا بأصل أسرته؛ فكان شاهدًا صادقًا أمينًا.
وقد تميَّز بفضحه الدائم للمشعوذين الذين يدَّعون امتلاك قوى خارقة خارقة للقوانين الطبيعية. وكان أشهرهم المدعو طهرا الذي استقدمه بشاره الخوري ليضلل الرأي العام.
لقد توفي الدكتور فريد أبو سليمان عن عمر تعدّى الخامسة والتعسنين، وذلك في منزل الرسالة الداهشية ببيروت، في الساعة الثامنة (بتوقيت لبنان) من مساء يوم الأحد الموافق العشرين من نيسان عام 2003.
إن كل من سمع بخير وفاة الراحل الكبير، وعرف خلالَه الحميدة، وأخلاقه النبيلة وسيرة حياته الشريفة، حزنَ عليه حُزنًا بالغًا. وأُسرةُ الداهشيين المُنتشرين في أرجاء العالم ترفعُ دعاءها الحار إلى الله – عز وجل – ليرفع درجة الفقيد الروحية ويمتِّعه بجنَّةٍ علويَّة.
الدكتور غازي براكس