وفاةُ مُجاهدة بطَلَة
أنتوانت، شقيقةُ مؤسس الداهشية،
تنتقل إلى الملإ الأعلى
في 13 كانون الأول (ديسمبر) 1996، بارحت شقيقةُ مؤسس الداهشية، السيدة انتوانت (يوكابد)، أرض الشقاء إلى الملإ الأعلى، يحيط بها لفيفٌ من الداهشيين الأوقياء ممَّن عرفوها وأكبروها، وبينهم كريمتها ليلى وقرينها الشاعر الداهشي موسى نجيب المعلوف، وذلك في العاصمة اللبنانية.
ولدت أنتوانيت في بيروت عام 1911، بعيد انتقال أسرتها إلى لبنان من القدس، حيث ولد شقيقها قبل عامين.
وبعد وفاة والدها، موسى العشي، الذي عمل في المطبعة التابعة للجامعة الأمريكية ببيروت، في 25 كانون الأول (ديسمبر) عام 1920، وضعت مع شقيقها سليم (الاسم الذي عرف به الدكتور داهش في صباه) في مدرسة الميتم الأمريكي في بلدة غزير (فوق جونيه بلبنان)، وذلك في أوائل عام 1921. لكن في حين أن شقيقها لم تتجاوز مدَّة تحصيله المدرسي ستة أشهر، انصرف بعدها إلى تحصيل المعرفة الواسعة بنفسه، فقد تابعت هي وشقيقاتها الدراسة في طرابلس ثم في فلسطين حيث كانت تقيم خالتهن.
كانت أنتوانت مولعة بقراءة الكتاب المقدس، كوالدتها السيدة شموني المُلقبة بـ"الشريفة"؛ كما كانت تنزعُ نفسها إلى العُزلة، لأنها لم تجد في ما يهتم به الناس من قيم مادية زائفة ما يُشبعُ نفسها التواقة إلى الروحانية.
في أواخر عام 1929، وافقت مؤسس الداهشية إلى باريس، ثم إلى مصر في ربيع عام 1931. ومنذئذٍ لازمت شقيقها، رجل الروح الخارق، وساندته في جهاده، وحدَبَت عليه تعزيه وتؤاسيه في أمراضه ومتاعبه ومصاعبه، حتى كانت شبه مُتنسكة له، لا تطل على الناس إلى إذا استدعت الضرورة.
وقد أكبر الدكتور داهش وفاء شقيقته له، مثلما أكبر حياتها الفاضلة، فكتب لها قطعةً وجدانية بالغة التأثير بعنوان "إلى شقيقتي أنتوانت"، وذلك بتاريخ 29 تموز 1936؛ مما ورد فيها:
عندما يغدرُ بي الجميع،
تبقين أنتِ لي مثالاً للوفاء،
وعنوانًا رائعًا للإخلاص والإخاء،
تضحِّين براحتكِ في سبيل سعادتي وهنائي!
عندما يحيقُ بي مرض تذرفين سخين الدموع،
وأنتِ تضرعين إلى القوة المُوجدة أن تشفي أخاك.
عندما تَهمي عيناي الدموع،
تُسرعين إلى منديلك اللطيف،
كي تزيلي القطرات المتساتلة من عيني المُثقلتين بالأحزانّ!
عندما تنتابُني الخطوبُ، تسرعين بلهفة ولوعة،
للتَّسرية عن نفسي المُحطَّمة المسكينة!
عندما يبلغك نبأ مكدر،
تودين لو تستطيعين الحضور على جناح البرق،
لتزيلي أسبابَ شقوتي وبلائي!
وعندما يسقط من يديك الأمر،
وتعجزين عن بلوغ المرام،
تهرقين دمعك الغزير بحرقة ومرارة!
ولكن، كلا، كلا.
إن شقيقكِ، يا أختاه،
شقيقكِ الذي تعرفينه جيدًا،
ما يزال (قويًا) كل (القوة)،
مثلما عهدته في السابق،
إن لم يزدَدْ مضاءً في العزيمة،
وصلابة في الآراء.
فاطمئني، لأن أعداءه أعجزُ عن أن يستطيعوا الإيقاع به.
وسترين لمن سيكون الفوزُ في "النهاية"
آه! شقيقتي!
فدتكِ روحي،
إذ أنتِ حياتي.
ويوم فجعت أنتوانت بإبعاد الرئيس اللبناني بشاره الخوري لشقيقها خارج الأراضي اللبنانية، في 9 أيلول (سبتمبر) 1944، أجرت اتصالات جريئة مع المسؤولين لتعرف مكانه وهل ما زال قيد الحياة؛ لكن مساعيها فشلت. فأرسلت، حينئذٍ ثلاث برقيات: إلى رئيس الجمهورية، وإلى رئيس الوزارة، رياض الصلح، وإلى رئيس مجلس النواب، صبري حماده.
وقد ورد في البرقية الأولى:
فخامة الشيخ بشاره الخوري رئيس الجمهورية اللبنانية في عهدكم السعيد يختطف لبناني من قبل رجال الأمن اللبنانيين ويذهبون به إلى جهة معلومة.
فباسم الدستور الذي أقسمتم له يمين الإخلاص، أطالبكم أن تحموا لبنانيًا من ظلم رجال الأمن اللبنانيين.
أما هذا اللبناني المجهول محل إقامته فهو أخي الدكتور داهش. أحملكم شخصيًا كل مسؤولية تنتج عن اختطافه على هذا الشكل الذي لم يسبق له مثيل حتى في القرون الوسطى.
أطلبُ باسم القانون والدستور معرفة مقره والاجتماع إليه حالاً
انتوانت
وما إن تسلم بشاره الخوري برقية الأخت المفجوعة بأخيها المجهول المصير حتى أصدر أمرًا باعتقالها. فقبض عليها في 28/9/1944.
وحوكمت المُجاهدة البطلة. ونزولاً عند رغبة الرئيس الباغية، حكم عليها بالسجن عشرة أيام، بدل أن تبرئها المحكمة وتساعدها في معرفة مقرّ أخيها. وقد أطلق سراحها في 8/10/1944. ومع ذلك لم يعجب الحكم بشاره الخوري، فطلب استئنافه ضدها، إذ كان يتمنَّى هلاكها في السجن. وقد دافع عن السجينة البطلة المظلومة القانوني الجريء، فؤاد رزق، دفاعًا مشرفًأ.
ولما علم الدكتور داهش بسجنها وهو في مقرِّه الخفيّ، أرسل إلى محاميها الكبير رسالة مؤثرة تروي ما أُصيب به من مظالم على أيدي زبانية الرئيس الطاغية. مما ورد فيها:
أما الأمر الذي حزَّ في نفسي، وترك آثاره المؤلمة في روحي، وكشف الستار عن طغمة الأشرار الفجَّار فإذا بهم على حقيقتهم الوضيعة، فهو أمر السجن الذي صدر على شقيقتي الملتاعة التي طلبت من الرئيس الذي أقسم أمام مجلس الأمة على أنه سيسير في طريق الشرف والاستقامة والضمير الحيّ وأنه سينفذ بنود الدستور روحًا ومعنى، فكانت النتيجة – ويا للعار بل يا للشنار! – أنه أمر بسجنِ امرأة ضعيفة، لأنها تطالبه بمعرفة مقرِّ شقيقها المظلوم! فيا للبطولة العظيمة! ويا ويلهم من يوم الدين، كم سيكون حسابهم أمام ربِّهم القهَّار عظيمًا!...
وقد أكبر مؤسس الداهشية موقف شقيقته في مواضع مختلفة من مؤلفاته، وأهدى إليها كتابه "الإلهات الست" بقوله تحت عنوان "البطلة":
إلى رفيقة جهادي ضد حُثالة المجرمين المرتكبين وتقديرًا لبطولتها الضيغميَّة الخالدة ضد السفاح الباغية واعترافًا بمناصرتها للحق ومهاجمتها العنيفة لاعتداء الطاغية
إلى شقيقتي أنتوانت أقدم كتابي هذا.
داهش
ولما ورده خبرُ مرضها عام 1980، وكان بعيدًا عنها، أمضى عشرة أيام في قلقٍ عظيم عليها، ودوَّن مشاعره في عشر سداسيات مُسجعة في كتابه "المهند الباتر"، منها هذه السداسية، وهي بعنوان "ضراعة":
أي إلهي وخالقي، وفاطر الكائنات طرًا،
لك أرفعُ دعائي
في ساعة الضيق والسدة أهرعُ إليك
مرددًا ضراعتي وندائي
شقيقتي ألمَّ بها داءٌ عياء، فاشفها يا مُبدعي،
فأنت ألفي ويائي
الحزنُ خيم على ربوعي،
فسارعتْ بالتساتل دموعي، واستبدَّ بي بلائي
وأختي داؤها دائي، لذا عظُمَ استيائي،
فأبرئها من دائها أبرأ من دائي
ويا رب العرش المُهيب، لا تكن عني نائيًا،
فأنت أرضي وسمائي.
لقد عرفتُ الفقيدة الغالية عن كثب، فعرفتُ فيها الإباء والترفع عن السفاسف، والفضيلة غير مموهة، والفكاهة الحلوة دونما تبذل، كما عرفتُ فيها الألمعية، والجرأة، والشعور الرقيق، وحضور البديهة، وقوة العزيمة، والخاطر السريع الذي يومُض كالنيزك، والهيبة الفطرية التي تنضحُ بها جلالُ النفس لا الأمجادُ الدنيوية المجلوبة. ولو كان للفضيلة والروحانية سماءٌ منظورة، لكانت الفقيدةُ فيها من أبهى دراريها.
لقد اقترن اسم أنتوانت (يو كابد) باسم رجل المعجزات الباهر، وإلى جانبه سيبقى في سجل الخلود ما دامت الأرض تدور حول الشمس.
د. غازي براكس