المهاتما غاندي
رسولُ الإنسانيَّة المُعذَّبة
منذُ خمسين عامًا، وتحديدًا في 30 كانون الثاني (يناير) عام 1948، اغتالت يد الشرِّ رسولَ الإنسانيَّة المُعذَّبة، المهاتما غاندي، فاهتزَّ كل ضمير حي في العالم لمصرعه.
لقد جاهد غاندي من أجل قضية العدالة في بلاده، وفي العالم، كما لم يجاهد إنسان، فتألَّم وصبرَ وصمدَ في وجه طُغاة الإنكليز، كما في وجه العصبية الشريرة العمياء في بلاده، حتى انتصر على أكبر إمبراطورية في عصره بسياسة اللاعنف والتقشف والثَّبات على الحق. وما كان لينتصر على أعداء الهند المرهوبين لو لم ينتصر، أولاً، على نفسه الانتصار الأروع، حتى ليحقُّ القولُ إنه كان لملايين في العالم أشبهَ بتجسدٍ ثانٍ للسيد المسيح. فمنذُ ألفي سنة لم يكن لأمثولة التضحية والفداء التي قدمها يسوع الناصري للعالم صورة أروع من الصورة التي جسَّدتها حياةُ غاندي.
لقد جسَّد المهاتما الإنسان الكامل في أرضٍ جُبِلَت بالنقائص. وجسَّد الإنسان الصالح في أرضٍ تسَلْطَنَ الشر عليها، فجمع صفاء الروح إلى الإخلاص للحقيقة، إلى التضحية حتى الفداء، إلى التمسُّك الشديد بالقيم الروحية، وفي رأسها التواضع والعفة والجهاد من أجل انتصار العدالة.
وليس صدفةً أن يحمل قاتلُ هذا الإنسان القديس اسم "جوادس" الذي حملهُ خائنُ المسيح.
وفي الذكرى الخمسين لمصرعه ننشرُ الكلمة المؤثرة التي كتبها فيه، عامذاك، مؤسسُ الداهشية.
وداع عام 1948
عام الجريمة العظّمى المروِّعة
بماذا أودّعك أيها العام الخائض في أوقيانوس الإجرام؟
إذْ في مطلعك الفاحم الدجنة ارتكبت أفظع جريمة مُرعبة.
تلك الجريمة التي روَّعت الدنيا بأسرها ودكَّت أسسها دكًا.
لقد تقوَّضت أعمدة الفضيلة،
وأُلحدت العدالة في جدثها السحيق الإوار،
وتوارى الحق غائصًا في أعمق الأسحاق خجلاً واستحياءً.
وكيف لا تتقوَّض أعمدة الفضيلة،
ولم لا تُلحد العدالة في أغوارها،
ولماذا لا يتوارى الحقّ وينطوي على نفسه أسفًا وخجلاً
بعدما أطلق الجاني الأثيم (جوداس) شقيق (يهوذا) الأسخر يوطي الخائن رصاصة على (نبيّ) الإنسانية ورسولها ومُصلحها الأمين (غاندي)!
تبًا لكِ أيتها الإنسانية الخائنة، وسحقًا لوجودك المُخزي.
بل لُعنت أيتها البشرية الضَّالة في آثامها،
الغارقة في دياجير فجورها، السابحة في بحار شرورها.
ألم يكفك أنك قتلت من استطعت من الأنبياء المُرسلين،
ورجمت ما قدرت من المصلحين الذين حاولوا إصلاحكِ عبثًا...
أولئك الذين قدموا لكِ باقاتٍ من ورود الروح العطرة الأريج،
وحاولوا هدايتكِ، فكانَ نصيبهم التقتيل والتقطيع والتفظيع.
أولم تُشبعي نهمكِ من صلب السيد المسيح
ورؤيتك إياه معذبًا على خشبة الصليب
لا لذنبٍ جناه، ولكن مكافأة له على تعاليمه السماوية
وتحمُّله قسوة الحياة وشظف العيش في سبيل خلاصكِ أيَّتها المُجرمة.
أولم ترتوي من دمائه القانية الزكية التي أهرقتُ ظلمًا وعدوانًا،
حتى جئت اليوم يا أيَّتها البشرية السفاكة
المتعطِّشة دومًا لهدر دماء الأنبياء والقديسين،
فهدرت دمًا زكيًا لم يُجِدْ الزمانُ بمثله منذ (ألفين) من الأعوام؟
لُعنتِ أيتها البشرية الفاسدة، وسربل الله اسمكِ بالعار،
وطوق أيام حياتكِ بالذُّل والعاب والهوان.
ووالله إن هذه الجريمة اللعينة الصارخة بالمنكر الشنيع
قد لوثت صفحات أيامك يا عام 1948،
فأصبحت سُبَّة في جبين الدهر.
توارَ، توارَ يا عام الشؤم،
وافنَ من عالم البشر الملاعين،
واعلم أن اسمك قد خلَّده التاريخ بحروفٍ جهنمية لا ولن تنسى،
وكلما تُذكر فيها ستنصبُّ عليك ملايين من اللعنات الإبلسية.
لُعنتَ أيها العام مدى الأجال والآزال.
بيروت. منزل الرسالة الداهشية
31 كانون الأول 1948