رسالة مؤسّس الداهشية
الى المحامي أدوار نون
أخي الاستاذ ادوار نون حفظك الله .
يا أخي انّ ما حدث لي ، وما سأرويه لك لهو أشبه بالأساطير اليونانية .
ومن يقرأ حكايتي يظنّني روائيّا بارعا لفداحة ما أصبت به من الحكومة اللبنانية في عصر الحرية والنور ، والتبجّح بالتمسّك بنصوص القوانين الموضوعة .
والآن أصغ الى قصّتي الواقعيّة ، وبلّغها لآذان الرأي العامّ وللمراجع الرسميّة ، علّك تستطيع انتزاع حقّي السليب من هؤلاء الذين لم يتورّعوا عن دفعي الى الموت لغاياتهم الوضيعة . فشاء لي الله الخلاص ، وأنوفهم راغمة .
بتاريخ مساء السبت الواقع في 9 أيلول 1944 قدم الى سجن الرمل كلّ من مدير البوليس عارف ابراهيم وعمر طبارة ، رئيس دائرة التحرّي ، ومحمّد علي فياض ، كوميسار منطقة البرج ، وطلبوا من الجاويش قيصر الذي كان دور حراسته في ذلك المساء أن يبلّغني أنّ مذكّرة اخلاء سبيلي قد صدرت بحقّي ، وأنّ ادارة السجن ستخلي سبيلي في هذا المساء بشرط أن لا أخبر أيّ سجين أو أيّ شخص آخر من الحرس عن هذا الأمر . وبالفعل حضر قيصر وبلّغني عن هذا الأمر ، وأقسم عليّ ان لا أبلغ أحدا عما سمعته . وهنا داخلني الريب وقلت له :
- اذا كان حقيقة ما تقول ، فلماذا هذا التكتّم ؟ ولماذا لا أخرج الآن ؟
أجاب : " لأن المذكرة لم تصلنا حتى الان " .
قلت له :
- وكيف عرفت بها اذا ؟
قال : " هذا لا يهمّك معرفته ، والمهمّ أن أشخاصا سيحضرون في الساعة العاشرة ليلا ويوصلونك . فقط أكتم هذا كلّ الكتمان " .
أجبته : " اعلم يا قيصر أنني لا أخطو خطوة خارج السجن الاّ اذا حضر كلّ من الدكتور خبصا والاستاذ ادوار نون ، فعندها يتأكّد لي صدق كلامك فأذهب برفقتهم . أمّا اذا حضر سواهم فانها مؤامرة للتخلّص منّي " ....
وغادرته وأنا في أشدّ حالات الانفعال . أمّا هو فعاد يرجوني ويكرّر عليّ كتمان الأمر . وبطبيعة الحال دخلت الى غرفة السجن ، وبلّغت المساجين قائلا لهم : " توجد مؤامرة خطيرة على حياتي ، فانهم يريدون ، مثلما يزعمون ، أن يخلو سبيلي بشرط أن أكتم هذا الأمر ، وقصدهم الحقيقي من هذا الكتمان أنه عندما أخرج ، أو بالأحرى عندما يخرجونني ، اذ ذاك يطلقون عليّ النار ، ويدّعون قائلين : " انّه حاول الهرب وتمكّن من الخروج ، فاضطررنا لأن نطلق عليه النار " ، ويسدل الستار على هذه الجريمة . والآن اعلموا جميعا أنّ هذا الأمر ، اذا وقع ، فواجبكم ان تبلّغوا أهلي وأصدقائي كي يذيعوا للرأي العامّ تفاصيل هذه الجريمة الرهيبة " ....
وقد عرف قيصر بأنني بلّغت السجناء فلم يكن راضيا . وللحال بلّغ بدوره مدير البوليس وزميله عن معرفة جميع السجناء بتفاصيل الحادث ، فأسقط في أيديهم ولم يكونوا ممتنّين .
وفي الساعة العاشرة ليلا فتحت غرفة السجن ، وتقدّم مني قيصر وبرفقته دركيّان ، وقالوا لي : " انهم ينتظرونك كي تذهب برفقتهم " . فمانعت جدّا ، لأنني عرفت بالمكيدة . ولكنّهم أصرّوا الاصرار كلّه . فلم أقتنع وطلبت منه المذكّرة التي تقول باخلاء سبيلي ، وقرأتها .
ثم بالرغم عنّي أخذت الى غرفة المدير . وهناك وجدت من ذكرتهم لك ، أي مدير البوليس وعمر طبارة ومحمد علي فياض ينتظرونني . فطلبت منهم استدعاء أصدقائي ، فمانعوا وقالوا : " نحن نوصلك " . وقد ذهبنا أوّلا الى منزلي ، فشاهدته مطوّقا بعشرات من رجال البوليس ، فدهشت جدّا . ومن هناك قصدنا منزل الأخ جورج حدّاد ، عديل صديقك سابقا ، كي آخذ بعض النقود من شقيقتي ، لأنهم أخبروني أنهم ينوون أخذي الى طرابلس الشام لأمكث فيها مدّة شهر ، ثم يعيدونني الى بيروت .
وعندما وصلنا الى منزل الأخ جورج قرع محمّد علي فياض جرس المنزل ، وأطلّت علينا شقيقتي أنطوانيت . فاستدعيتها للنزول ، ففعلت . ونزلت معها ماجدا ابنة جورج حدّاد . وما شاهد محمد علي نزؤلهما حتى جذبني بشدّة عظيمة ، فحاولت التخلص من جذبه العنيف . وهنا دارت رحى معركة رهيبة استعمل فيها عمر طبارة اطلاق أربع أو خمس طلقات نارية من مسدسه .
وما لبث أن شعرت بضربة من مسدّس محمد علي فياض على أم رأسي ، فهويت الى الأرض لا أعي شيئا من هول الرطمة التي نالتني من يد هذا الوحش الأثيم .
والغريب أنني كنت أسمع الضوضاء والصيحات والأحاديث التي كانت تدور بين المجتمعين ولكنني لا أستطيع أن أتكلّم ، فقد عقد لساني من هول الضربة . وأخيرا وضعوا القيد الحديديّ في يدي ، وحملوني ، ثم ألقوني بسيّارة مدير البوليس الشهم ، بارك الله بأصله السامي .
وأقسم لك يا أخي العزيز بربّ السماء ، وبدم يسوع المسيح الطاهر ، أن الوغد الهمجيّ محمد علي فياض منذ القاني في السيّارة حتى بلعت الى مركز البوليس على البرج ، وهو ينهكني بلطمات عنيفة جدّا على وجهي وفكّي وصدري ورأسي وكافّة أعضائي ، وهو يشتمني بشتائم لم أسمع طوال عمري أحطّ من عباراتها .
وعندما بلغت الى المركز العامّ الذي تعرفه جيّدا ، طلب إلي أن أنزل ، فحاولت النزول ، ولكنّني لم أستطع من عظم ما لاقيته من ضرب مبرّح ، واذا بهؤلاء الوحوش الثلاثة يهوون عليّ بقبضات أيديهم . وانبرى محمد علي يركلني بقدمه بكلّ ما أوتيه من قوّة لأخرج ، فتحاملت على نفسي ، فما استطعت الى ذلك سبيلا ، بل سقطت من الاعياء ، ولم أستطع السير على قدمي . وهنا كان على درج المركز عشرات من البوليس ، فحملوني وأدخلوني الى غرفة رجال التحري التي تقع بالقرب من غرفة عمر طبارة !
وهنا نعم هنا أمسك الوغد محمد علي فياض سوطا غليظا وراح يهوي له على جسمي بصرامة رهيبة خلت معها أنّ روحي قد خرجت من بين جنبيّ ، وتشقّق اللحم متفسّخا ، وانبثقت الدماء من جسدي . وبالرغم من هذا ، فانّه لم يكفّ عن متابعة سوطي بقوّة ، حتى تصبّب العرق منه ، وأصبح يلهث كالحيوان الذي قام باعماله الشاقّة طوال نهاره وليله .
وهنا ألقى السوط من يده ، فأمسكه عمر طبارة وأكمل جلدي بقوّة عظيمة . وعندما تعب من كثرة الجلد تناوله آخر ، فآخر ، فآخر ...حتى ظننت أنهم يريدون اماتتي بواسطة الجلد .
وأخيرا تقدم مني عارف ابراهيم مدير بوليس بيروت الفائق الرقّة والتهذيب وذو الأخلاق الكريمة ...وراح يصفعني صفعات متتاليات بكلّ ما لديه من عزم وجبروت ، فانبثق من فمي الدم ، وما عدت أعي شيئا ، لأنّ الأرض دارت بي ، أو درت بها ، وغاب الوجود من أمامي ...وعندما استيقظت كانت يقظتي على مياه باردة سكبها هؤلاء الجلاّدون عليّ ، وأعادوا الكرّة للمرّة الثانية من جلد وتعذيب ، ثم حملوني الى السيارة ، والشتائم المبتذلة التي يخجل السوقة من التلفّظ بها تنصبّ على رأسي من فم الشريف والحسيب النسيب محمد علي فياض كوميسار منطقة البرج ، هذا الرجل المؤتمن على الأخلاق ، وعلى المحافظة على المن العام . فيا للعار !
والويل لك ايتها الأمّة المنكوبة بمثل هؤلاء السفّاحين الأجلاف !
وفي السيارة ، نعم في السيارة يا أخي ادوار ! ....أركبوني فيها وأنا مكبّل بالحديد ، وجلس عن يميني رجل التحري المدعوّ عبد السلام عيتاني ، والذي جلس عن يساري اسمه سيزاك ستراك ، أمّا السائق فاسمه محمد المكّي وهو ابن الشيخ حسن مكّي ، وهو بوليس تحرّ أيضا ، وقد جلس بجانبه المفوّض عمر طبارة .
وهنا أيضا – بكلّ أسف يا أخي ادوار – أمسك عمر هذا بسوطه ، وراح يسوطني به ، والسيّارة سائرة بنا ، ووجهتها طرابلس ، فتألّمت جدا ، وقلت له : " أليس من العار أن يجلد رجل لم يسىء الى أحد من الناس ، ولم تثبت عليه تهمة ، لا من النيابة العامة ولا ومن رجال الشرطة الخفية ؟ وهب ( لا سمح الله ) أنّ أيّة تهمة ثبتت عليّ ، فهناك محاكم كي تحاكمني بموجب قوانين البلاد ، ثم تحكم عليّ بالسجن ...أمّا الضرب والجلد والارهاق والتعذيب فهذا ممّا لا تستعمله سوى الشعوب الهمجيّة البربريّة " .
وكأنّ كلامي هذا كان حافزا له لتجديد جلدي ، ففعل ، واذا بضربتين من سوطه تقعان على قلبي ، فشعرت أنه قد توقّف عن الخفقان . وسوط آخر هوى به على يدي اليسرى عطّل لي ثلاثة أصابع منها ، فعدت للغياب عن الوعي . وعندما عاد إلي شعوري في الطريق وجدت السيّارة ما زالت تنهب بنا الأرض نهبا ، أمّا أنا فقد كانت هيئتي على الصورة الآتية :
كنت أرتدي قميصا ممزّقا من تأثير المعركة دون جاكيت ، لأنّ محمد علي جذبني منها وخلعها عن جسمي ، ثم ألقاها أرضا وداسها بقدميه . وكان البنطلون ممزّقا أيضا ، ورأسي مورّما من هول اللطمات التي أصابتني ، وجسمي معجونا بعضه ببعض من مئات السياط التي نالتني على أيدي هؤلاء الأجلاف . ووجهي لو شاهده أقرب الناس إلي لما عرفه ، فقد كنت مورّم الوجه ، أعمش العينين ، أشعث الشعر ، وبحالة مؤسفة جدّا يتألّم لها حتى العدوّ .
ولم يكفني كلّ ما لقيته من اضطهاد مثلما يظهر لأنّ عمر طبارة أكمل قذفي بشتائمه المخجلة . ودهشت كيف تقبل حكومة تحترم نفسها بتوظيف مثل هذا المخلوق وأشباهه ...وأكملت السيّارة سيرها وأنا أقول في كلّ لحظة انهم يريدون الآن اطلاق النار عليّ ، والانتهاء من أمري .
وفي الساعة التاسعة صباحا بلغنا حلب ، وهناك رأسا أصعدوني الى دائرة الامن العامّ الافرنسيّة للجيش .
ولمّا كان الوقت باكرا ، لم يكن بعد قد حضر الا موظّف واحد سلّموني له ، فأدخلني الى غرفة النظارة المخيفة ، ثم أغلق عليّ الباب . وبعد نصف ساعة تقريبا فتح عليّ الباب ، وطلب إلي الخروج ، ففعلت ، وأدخلت الى غرفة ثانية ، واذا بي وجها الى وجه مع الحاج توما ، وهو رئيس الدائرة ، وكنت قبل عامين أو أكثر قد اجتمعت مرة واحدة معه بدائرة الامن العام في بيروت ، فدهش عندما شاهدني الدهشة الكليّة ، واستفسرني عن الأسباب ، فأخبرته أن الحكومة اللبنانيّة تريد هكذا ، والسبب هو صداقتي لعائلة جورج حدّاد ، فدهش جدّا .
وهنا تعرّيت ، ودعوته يشاهد آثار الضرب العنيف الذي نالني على يد هؤلاء الأوغاد ، اذ كان ظهري ومؤخرتي وصدري قطعة واحدة من لطخة سوداء ، فذعر الحاج توما ولم يصدّق ما شاهدته عيناه . انّها وحشيّة لم يجر على غرارها الا في تلك العصور المظلمة السحيقة ، عصور محاكم التفتيش الرهيبة . وما لبث أن حضر الجلاّدون الأربعة وسلّموا الحاج توما رسالة بخصوصي ، فقرأها ، وقال لهم : " انّها غير رسميّة " . فقالوا له : " اذن دعه يذهب معنا " ... فاستلموني وذهبوا بي الى سراي الحكومة ، وهناك أصعدوني برفقتهم ورفقة مدير بوليس حلب الى غرفة المحافظ احسان الشريف ، في الطابق العلوي ، وسلّموه رسالة مختومة ففضّها وقرأها . وهذه الرسالة أظنّها رجاء من حكومة لبنان كي تبعدني من سوريا أيضا ، ولا تسمح بسكني في حلب أو سواها من الأراضي السوريّة ؛ فهذا ما فهمته من أشخاص بعد خلاصي من التهلكة التي حفروها لي كي ألاقي بواسطتها حتفي .
وبعد أن تلا المحافظ الرسالة ، ناوله طبارة مرسوم اخراجي من الأراضي اللبنانيّة ، ولم يكن لي أي علم به الاّ في هذه اللحظة . واليك ما جاء في هذا المرسوم الذي لا يستند على قانون ، والذي لا يسمح به الدستور ولا النصوص الصريحة بخصوص الجنسيّة .
مرسوم رقم 1842 K
ان رئيس الجمهورية اللبنانية – بناء على الدستور اللبناني – وبما أن وجود السيد سليم موسى عشي المعروف بداهش في الأراضي اللبنانيّة من شأنه احداث اضطراب واخلال في السكينة العامة ، وبناء على اقتراح مجلس الوزراء ووزير الداخلية – يرسم ما يأتي :
المادة الأولى – يخرج السيد سليم موسى عشي المعروف بداهش من أراضي الجمهورية اللبنانية .
المادة الثانية – يبلّغ صاحب العلاقة مآل هذا المرسوم بموجب محضر ينظّم حسب الاصول .
المادة الثالثة – على وزير الداخلية تنفيذ هذا المرسوم .
بيروت ، في 8 أيلول 1944 الامضاء ( بشارة خليل الخوري)
صدر عن رئيس الجمهورية –
رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية ( رياض الصلح ) .
يبلّغ الى رئاسة الجمهورية – رئاسة الوزارة – وزارة الداخلية – وزارة العدلية – صاحب العلاقة .
وعندما انتهى المحافظ احسان الشريف من تلاوته قال لعمر طبّارة :
" نحن لا نستطيع قبوله في أراضي سورية ما دامت حكومة لبنان لا تقبل به . وكان الأحرى بحكومة لبنان ، ما دام الرجل لبنانيّا ، ان لا تخرجه خارج حدود بلاده ، بل تبقيه في قرية لبنانية لمدّة تحدّدها له " .
فأجابه عمر طبارة :
" انّ الرجل غير لبناني مثلما يزعم " .
فأجبته للحال :
" أنت تتكلّم بغير الحقيقة لأنني لبناني ، وتذكرتي التي تؤكّد لبنانيّتي يعود تاريخها الى عام 1923 " .
فأجابه المحافظ :
- انه لم يجرم في بلادنا ، والقانون لا يساعدني على وضعه في السجن دون جريمة ارتكبها .
- فأجابه عمر : " انني أضعه على مسؤوليتي " .
وهنا انتهت المقابلة ، فرافقوني الى غرفة رئيس فرقة التحرّي في حلب . وهناك جلس عمر المذكور وكتب ورقة قال فيها انه يضعني في نظارة حلب على مسؤوليّته حتى تبتّ الحكومة اللبنانية في أمري .
وللحال اقتادوني الى السجن المخيف ، وهو تحت السراي ، وينزلون اليه بعشرين درجة تحت الأرض . وقد مكثت فيه مدّة ثلاثة أيّام بلياليها . وكان قصدهم أن يميتوني ولا ريب .
أمّا اذا حدّثتك عمّا لاقيته في سجني من ضروب العسف والجور ، وما قاسيته من الجوع والعطش والعري والشتائم ، فان نفسك ستتألّم جدا ، لهذا أجتازه ، وأقول : في صباح يوم الثلاثاء أخرجوني من السجن ، وأصعدوني الى الطابق العلويّ . وبعد أن عرضوني للمسؤول عن أخذ البصمات والعلامات الفارقة ، قام بمهمّته وأخذ بصماتي وعلاماتي الفارقة كأنّني مجرم مزمن ، ثم اقتادوني الى المصوّر ، فأخذ صورتي وأنا بتلك الحالة المحزنة ، ثم أعادوني ثانية الى السجن المظلم الرهيب .
وفي الساعة الحادية عشرة ، أو أزيد ، من صباح يوم الاربعاء أخرجوني من السجن ، وأنا بحالة أقرب فيها الى الموت منه الى الحياة ، وأركبوني بالسيارة التي أوصلوني بها من بيروت الى حلب ، وذهبوا بي الى قرية سورية تبعد عن حلب مسافة 45 كيلومتر على وجه التقريب اسمها اعزاز . وعندما بلغناها اقتادوني الى مخفر الدرك ، واختلوا بقائد الدرك ، ولفّقوا عليّ ما شاء لهم التلفيق ، وأعطوه التعليمات التي زوّدهم بها رؤساؤهم ، ثم عادوا وطمأنوني بأن مصيري قد بتّ فيه ، وبأنني سأمكث مدّة شهر في اعزاز في أي مكان أختاره ، ولكن يجب علي أن أثبت وجودي في كلّ يوم أمام مخفر الدرك .
ثم ودّعوني بعد أن طبع عمر طبارة الخبيث على جبيني ، ويا للسخرية !...قبلة سبق وطبعها يهوذا الاسخريوطي على جبين سيّده قبل تسليمه ليد أعدائه .
أمّا أنا فما كدت أذهب لاسأل عن فندق لآخذ فيه قسطا من الراحة ، وأتناول بعض الطعام ، بعد أن كادت روحي تزهق من شدّة النصب والجوع والعطش طول مدة سجني في بيروت وحلب ، اذا باثنين من رجال الدرك يغذّون السير في أثري , وللحال وصلوا إلي ، وألقوا القبض عليّ ، وأفهموني أني بتّ أسيرهم ، وأنّ سيارة تنتظرني لتقودني الى الحدود التركية .
فدهشت جدّا ، وأبيت أن أصدّقهم . فاقتادوني الى المركز ، وهناك أطلعوني على قرار رقمه ( 413 ) أصدره عليّ ، علي ما يظهر محافظ حلب ، وهو يقضي باخراجي من الحدود السورية ، وادخالي ضمن الحدود التركية التي لا تبعد عن اعزاز أكثر من خمسة أو ستة كيلومترات .
فذعرت ، وعرفت بالمؤامرة الرهيبة ، ورفعت عيني الى السماء أستمطرها اللعنات على أصحاب الضمائر الميتة .
وهذا القرار يقول في فقرة من فقراته : " اذا وجد في أي وقت من الأوقات الدكتور داهش ضمن الأراضي السورية فانه يلقى القبض عليه ، ويحاكم ، ثم يسجن عملا بقانون قمع الجرائم " .
وبعد توسّلات عديدة قبل القائد أن أمكث ليلتي في اعزاز ، فأدخلوني السجن أيضا فبتّ ليلتي بضيافته . وفي الصباح الثاني ، وبعد الظهر منه ، اقتادوني الى الحدود التركية ، ليدخلوني فيها .
أمّا قصد الحكومة اللبنانية ، من وراء اتّفاقها مع الحكومة السورية على ابعادي من بلادها السورية وادخال الى الحدود التركية ، فهاك أسبابه :
عندما يشاهدني الحرس التركي سيطلق النار عليّ ولا شكّ ، أو أنهم يحاكمونني ، ثم يحكمون عليّ بالاعدام كجاسوس نظرا لظروف الحرب ، وخصوصا لأنهم سيدفعون بي الى داخل الحدود دون أن يسلّموني للحكومة التركية تسليم اليد .
ولو فرضنا المستحيل ونجوت من الاعدام ، فالقانون التركي يقضي بأن يسجن من يلقى عليه القبض ضمن حدوده مدّة ثلاثة أشهر ، ثم يخرج الى خارج الحدود . وهكذا ان نجوت من الاعدام فانهم يحكمون علي بالسجن مدّة ثلاثة أشهر ، ثم يخرجونني الى الحدود ، فيلقي رجال الدرك السوريّ عليّ القبض ، ويسجنونني المدة التي سيحكم عليّ بها ، وفي نهايتها يبعدونني الى الحدود التركية ، فيعاد تمثيل هذه المأساة الى ما شاء الله ، ويقضى عليّ في السجن .
والآن انني أطلب منك يا أخي ادوار أن ترفع قضية على ( الحكومة اللبنانية ) لعملها الغير القانوني ، وترفع قضيّة على من اعتدى عليّ منهم ، وأن تدع الأستاذ حليم دمّوس ينقل رسالتي هذه على نسخة ثانية ، ويرفع بواسطتها بدوره قضية على الحكومة وعلى المعتدين ، وأن تجري اللازم مثلما يخوّله لك القانون كموكّلي .
وفي الختام سلام من المتألّم .
حلب في 12 تشرين الاول 1944
صديقك
الدكتور داهش