أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

قصص غريبة و أساطير عجيبة

الجزء الرابع

بقلم الدكتور داهش

الذئاب المفترسة

ووليمتها المرعبة

نحن في شهر كانون الثاني عام 1850، بمدينة بوليانا سينايا الروسية.

الثلوج تنهمر بغزارة فائقة! و الزمهرير قاتل مبيد! و العاصفة تزأر! و البروق تومض! و الرعود تقصف بدويّ متواصل مخيف!..

وكانت فرقة من الجنود عدد أفرادها 150 جندياً يمتطون 75 حصاناً وهم يغذّون السير ليبلغوا المدينة التي تبعد عنهم 60 ميلاً.

وكان الناظر إليهم يظنّهم تماثيل من الثلج، إذ كان الثلج يغمرهم غمراً لاستمرار هطوله.

وكانت الساعة السادسة مساء، و لن يبلغوا المدينة إلا و يكون الليل قد ضرب سرادقه عليها و غمرها بظلماته المدلهمّة.

وكان كلّ جندي متدثّراً بمعطف سميك ليقيه غائلة زمهرير روسيا الرهيبة بقرّها القاتل في هذا الفصل من الشتاء القارس.

جيش الذئاب العرمرم

وفجأة سمع عواء رهيب مزّق الفضاء تمزيقاً، و كان خارجاً من غاب كيف. ثم انقشعت الظلمات التي ابتدأت تغمر الكون في هذه الساعة عن جيش لجب وعرمرم من الذئاب المفترسة، و هي تطلق عواء هائلاً يبعث الخوف  و الرهبة العظمى في كلّ ما يطرق صداها أذنيه!

يا الله! إن عددها لا يقلّ عن الألف ذئب!إنه جيش من الذئاب الكاسرة و قد أضرّ بها الجوع الكافر!

و هجمت أرتالها على الجنود، فذعرت الخيول، واضطربت صفوفها، و تمزّقت شذر مذر...و تشتّتت لجهات عديدة دون أن يستطيع ركابها أن يهدّئوها من ثائرتها لاهتياجها و خوفها المرعب.

و سقط من سقط من الجنود لجموحها...فالتهمتهم الذئاب بضراوة ووحشية.

هياكل عظمية

و بعدما تفرّقت صفوفهم لجموح الخيل، سهل على الذئاب مهاجمتهم. و قد استطاع عدد من الجنود إطلاق نيران بنادقهم على الذئاب المفترسة، فقتلوا منهم ما يزيد عن ثلاث مئة ذئب!

و لكنهم، أخيراً، عجزوا عن حماية أنفسهم لكثرة أعداد الذئاب، و جميعها ضارية.

وانقشعت الملحمة المخيفة عن إبادة هذه الفرقة بقضّها و قضيضها!و أسفرت المعمعة عن ساحة كبرى و قد فرشت بهياكل الخيول العظمية، و كذلك هياكل الجنود المئة و الخمسين!

و لم ينج منهم أحد على الإطلاق!

حتى الذئاب التي قتلت برصاص الجنود جرّدت من لحومها إذ افترستها الذئاب الباقية لشدّة جوعها البالغ.

الحادث واقعيّ

في اليوم الثاني دهشت القيادة لعدم وصول الجنود إلى ثكناتهم! فأرسلت فرقة آلية لترى ما الخبر.

وإذا هم يشاهدون ركاماً من العظام التي تخلّفت عن وليمة الذئاب المرعبة!

و هذا الحادث الواقعيّ المخيف نشرت أنباءه الصّحف الروسيّة، و سجّلته إضبارات الحكومة الروسية.

وهو من أفظع و أرهب ما حدث في روسيا.

بيروت الساعة الثامنة

من ليل 20/1/1980

جزيرة الأحزان

-1-

كان شاباً وسيم التقاطيع، مفتول العضلات، رائع المحيّا، أنيق الملابس، مصفف الشعر، يرتدي من الأجواخ أجودها نوعاً، و يمارس الرياضة باستمرار، حتى برع بها براعة كبرى؛ وقلّ من جاراه الرياضة الهامة.

لقد انتصر في ثلاث مباريات، و أحرز قصب السبق على منافسيه؛ فصفقت الأكف لانتصاراته الباهرة.

و أصبح حلم العذارى: و كل منهن تود لو يتاح لها أن تمغنطه بأنوثتها، فيصبح أطوع لها من البنان. و لكن...

ما كلّ ما يتمناه المرء يدركه                         تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

فقد كان اهتمام جيروم منصرفاً للرياضة، إذ خصص لها وقته بأكمله، وبرع بفنون المصارعة، و كل ما يتعلق بالقوة البدنية من فنون متشعبة عنها.

-2-

في 10 حزيران 1860، امتلأت شوارع مدينة بلهام بالاعلانات الملصقة على الجدران، تحدد فيها المباراة التي سينازل فيها المصارع المحترف ماكملان الرياضي الشاب جيروم.

وبتاريخ 15 حزيران 1980،امتلأت القاعة العظمى بآلاف المتفرجين، وقد انقسموا فئتين:فئة منهم تؤيد ماكملان،و الأخرى تراهن أن الكاسب سيكون جيروم.

ورفع الستار؛ و إذا بالبطلين وقد تسلّح كل منهما بعضلاته المشدودة العروق. و اعطيت الإشارة للبدء،فاندفع كل منهما  نحو الآخر بقوة وعزم و جبروت صارم؛وانقشعت الملحمة عن فوز جيروم فوزاً ساحقاً.

وإذا بالأكف تواصل التصفيق الحاد. وقفز عشرات من الشبان للمسرح، وحملوا البطل وهم يهنئون على انتصاره الساحق.

وباء ماكملان المحترف بالفشل الذريع ، و كانت دموعه تتساقط رغماً عن محاولته منعها من التساتل.

-3-

وممن حضر المباراة الثري المعروف ألكسندر روكفلر، بصحبة وحيدته ناتالي، و هي لم تتعد الحادية والعشرين.

وكانت غادة غيداء، مليحة القد، مستديرة الوجه، ذات عينين خضراوين، وخصر نحيل، و صدر ناهض،وجيد عاجيّ، وشعرها الأشقر مستطيل.

وكانت كل نظرة من نظراتها الفاتنة تحيي وتميت.

لقد كانت قبلة الشبان، فكل منهم كان يتمنى أن يحظى بقلبها. و لكنها كانت حتى تلك الساعة، خالية الوفاض، من هذه الناحية، إذ لم تعثر على بغيتها، ولم تلتق بأمنيتها. كان قلبها خالياً من الهوى  و تباريحه و الوجد وما يرضيه أو يضيمه.

-4-

عندما وثب جيروم كالنمر المفترس على خصمه ماكملان، واحتمله بين ذراعيه، و ألقاه كالكرة على حبال الحلبة، فارتد بعنف وسقط أرضاً،و الدم يتدفق من فمه لضراوة قذفه الجبروتي...إذ ذاك أعجبت ناتالي بجيروم إعجاباً كبيراً، و خصوصاً عندما شاهدته دائم التبهنس و اليقظة التامة لكل حركة من حركات خصمه الضليع بفنون المصارعة كمحترف. وراعها عضلات جيروم المتوترة وقوتها، وعنفوانه، و شبابه الريان، وجمال جسده الرياضي المجتذب للنظر. و إذا بقلبها يخفق بشدة؛ وتوردت وجنتاها؛ وكانت كلها عيوناً ناظرة لحركات من استهواها بفتوته النضرة، و بقوة زنديه المفتولين.

-5-

وطلبت من والدها أن يعرفها إلى البطل، بعد انتصاره على غريمه وقهره إياه. و إذاه يقول لها:

-كم من المرات أحببت أن تنتخبي لك رفيقاً للحياة من عائلة تتساوى بمركزها مع عائلتنا؛ و لكنك أعرضت ولم تجاريني برغبتي. لهذا،ألفت نظرك- يا من لا أحيا إلا لها؛ لأنك حبي الوحيد، بعدما رحلت والدتك من عالم الأرض، وانطلقت إلى عالم الفراديس-ألفت نظرك لأن يكون إعجابك بهذا الرياضيّ الفائز، كإعجاب أيّ من الحاضرين، بقوة عضلاته وإلمامه بفن المصارعة. و لكن، إياك ثم إياك أن يذهب بك الظنّ أنني أرضى أن تكوني له عروساً على الإطلاق. و ثقي أنني أفضل أن أفقدك على أن أراك زوجة لشخص عاديّ، لا شأن له يذكر في المجتمع الأرستقراطي، و في عالم المال الذي هو  عصب الحياة بالكرة الأرضية.

-6-

وجمت ناتالي، و لم تنبس ببنت شفة.

وغادر والدهاا لمكان، بعدما تأبط ذراعها. وكانت المركبة الأنيقة تنتظرهما. وعندما جلسا بمقعديهما انطلقت الجياد تنهب الأرض بهما نهباً؛ووصلا لقصرهما المنيف. وكانت تحيطه حديقة غناء، أشجارها باسقة، و أطيارها صادحة، و أزهارها بديعة،وورودها مذهلة.

ودخلت ناتالي لغرفتها، و أغلقت بابها، ثم أخرجت من محفظتها الإعلان الذي وزّع على الجمهور، وفيه صورة البطل جيروم. وراحت تحدق النظر إلى رسمه، و هي تتمتم باسمه.

-7-

وطال غيابها على غير عادتها. و إذا بوالدها يقرع باب غرفتها،ففتحت الباب. فسألها أبوها عن عدم مجيئها لتناول العشاء،فاعتذرت منه قائلة له: إنها متعبة، و ليست جائعة.

وعرف والدها سبب عذرها؛و لكنه صمت و الغيظ يكاد أن يخنقه، و عاد أدراجه وهو يرتجف كعصفور بلّله المطر!

ثم لم يستطع أن يهدّئ أعصابه؛إذ ما كاد يصل لمائدة الطعام، حتى امسك بصحن و ألقاه على الأرض بقوة، فتحطم وتبعثر شذر ومذر. وكان يحرق الأرّم وهو محمّر العينين، منتفخ الأوداج!

وكم كانت دهشة الخادم عظيمة مما رآه، فكادت عيناه أن تخرجا من محجريهما!

-8-

في صباح اليوم الثاني، تسلّم السيد ألكسندر برقية من لندن تنبئه بوجوب سفره إليها،فوراً؛ فألكسندر قد ابتاع 300 سهم من مصرف فكتوريا، و ثمن كل سهم ألف جنيه استرليني؛ويجب عليه لإنجاز ابتياعها أن يكون شخصياً في لندن.

وللحال اتصل بشقيقته الصغرى،وطلب أن لا تفارق وحيدته، بأثناء غيابه في لندن حتى يوم عودته.وودّع ابنته و شقيقته،وغادرهما بالعربة إلى الميناء، ليبحر إلى انكلترا.

-9-

كانت دولي شقيقة ألكسندر ذات أربعة و عشرين عاماً. و هي طويلة القامة، نحيلة العود، ومتوسط الجمال.

وكانت،حتى هذا العمر، لم تتزوج. و قد أسرّت ناتالي بسرها، فقالت لها أنها تحب شاباً من عائلة فقيرة،و هي ترغب بأن تتزوجه، ولكنها موقنة بأن شقيقها إذا عرف برغبتها،فإذ ذاك ستكون الطامة الكبرى.

ورجت ابنة أخيها أن تكتم هذا الامر عن والدها، خوفاً من النتائج السيئة. فشقيقها يرغب بشاب من عائلة ثرية و عريقة بالحسب و النسب. ووجدت ناتالي أن الفرصة سانحة لها لتعلمها بأنها تعلّقت بالشاب الرياضيّ جيروم، فأطلعتها على سرها. واتفقت الاثنتان أن تجتمع كل منهما بمن أسر فؤادها.

-10-

في 25 حزيران 1860 تسلّم جيروم تحريراً من إحدى الثريات المعجبات بالمباراة التي حضرتها وانتصر فيها جيروم على خصمه.

وها هي الرسالة التي تسلمها:

إلى السيد جيروم آدامس

بتاريخ 15 حزيران الحالي، حضرت حفلة المصارعة التي انتصرت فيها على خصمك، و بما أنني من المغرمات بالرياضة منذ نعومة أظافري، لهذا أدعوك للعشاء في منزلي، مساء 30 حزيران 1860.

ولي الأمل أن تبلغني قبولك لهذه الدعوة.

ناتالي ألكسندر روكفلر

-11-

دهش جيروم دهشة عظمى لهذه الدعوة الفجائية من فتاة مراهقة هي حلم كل شاب؛فثروتها أسطورية.

وراح يضرب أخماساً بأسداس ،ويردد قائلاً: هل أنا حالم، أم تراها حقيقة واقعة؟! وبادر، فور تسلمه للتحرير فأرسل لها رقعة يشكرها فيها على دعوتها الكريمة، و يعلمها بأنه سيكون ضيفها في 30 حزيران ليلاً.

وكتم الأمر عن والديه و شقيقته الوحيدة. وراح يعدّ الأيام، و يتمنى أن تفنى ليستطيع الاجتماع بمن أصبحت مدار تفكيره.

-12-

في ليل 30 حزيران 1860، وقفت عربة أمام قصر ألكسندر روكفلر المنيف، وغادر جيروم العربة. فاستقبله الخادم الزنجي لصالون الاستقبال.

وكم كانت دهشة جيروم عند مشاهدته للوحات الزيتية الثمينة، وللتماثيل الرخامية و العاجية  و البرونزية الموضوعة  بأناقة تامة في زوايا الغرفة.

وكان السجاد العجميّ البديع النقوش يزين الصالون الفسيح، و الأضواء الساطعة تحيل الليل إلى نهار ساطع.

-13-

بعد انتظار ربع ساعة، دخلت ناتالي برفقة عمتها الشابة؛فنهض جيروم وحيّاها، و قبّل يد كل منهما، ثم جلسوا جميعهم.

وسألته ناتالي قائلة:

-كم كان عمرك عندما استهوتك الرياضة؟

أجابها:

-كان عمري أربعة عشر عاماً. و ها قد مضى عليّ عشرة أعوام، و أنا أواصل التمارين، حتى برعت بها، وألممت بخفاياها. و لهذا انتصرت على خصمي الذي يكبرني بعامين.

وإنني  أشكر الظروف التي قادتك لحضور المباراة؛وإلاّ لما استطعت الاجتماع بك.

-14-

وجلس الجميع إلى مائدة الطعام. و كانت الأنواع الشهية عديدة، فأكلوا مريئاً، و شربوا هنيئاً، و تحدثوا ما شاء لهم الحديث الذي امتد وتشعب.

وبعد العشاء، جلسوا على البلكونة المشرفة على الحديقة الغناء، و قد طاب المكان والزمان لهم. وراحوا يتنادمون، و يتحدثون، و كأنهم يعرفون بعضهم بعضاً، من1 أعوام عديدة.

وكان الخادم الزنجي يوافيهم بالمشروب تباعاً. وقد نفحته ناتالي بقبضة من الجنيهات الذهبية الوهاجة، و طلبت منه أن يكتم أمر زيارة جيروم عن والدها.

فأجابها:

-اعتبري أن فمي مغلق بخيوط، كما أنني أعمى أيضاً.

-15-

كانت ليلة فرح عارم لكليهما؛إذ غادر جيروم قصر ناتالي في ساعة متأخرة من الليل، بعدما أودع روحه بين يدي آسرته الشابة.

وكذلك ناتالي لم يغمض لها جفن؛إذ استهوتها فتوّة جيروم، فأصبح حلمها الوحيد؛ كأنما كان ذا صلة بها منذ أعوام.

وجيروم، أيضاً، استعبدته بأنوثتها،فأصبح مدنفاً بها. ولاحظ أهله سهومه، على غير عادته، فدهشوا، و لم يعرفوا الأسباب و المسببات.

-16-

طال غياب ألكسندر شهرين و نصفاً، عاد بنهايتها إلى بلهام.

وفور دخوله إلى القصر، غمر بزنديه وحيدته ناتالي، و أغرقها بقبلاته المشتاقة لها، و أعلمها بأن خيالها لم يفارقه إطلاقاً.

كما لاحظ أن وجنتيها المتوردتين قد ازداد جمالهما جمالاً،وفتنتهما فتنة. و شكر شقيقته على اهتمامها، طوال مدة غيابه عن وحيدته؛إذ كان جاهلاً أن هذه الشقيقة قد أدخلت من تحبه إلى قصر أخيها؛ و غرف هذا القصر البديع شاهدت من وقائع غرام هذه الأخت فنوناً عجيبة غريبة، لم يجر على غرارها ما رواه لنا كتاب "ألف ليلة و ليلة" إطلاقاً. إنهن النساء!..فالويل للرجال من مكرهنّ و تبذلهنّ!..

-17-

مضى أسبوع على وصول السيد ألكسندر روكفلر. و في اليوم الثامن، ليلاً شعر ألكسندر بحركة في غرفة ابنته؛ و كانت الساعة الثانية عشرة، منتصف الليل.

وكان ألكسندر ماراً بجوار غرفة ابنته؛إذ غادر سريره،لأن النوم لم يزوره، و أراد أن يذهب إلى المكتبة، ليطالع كتاباً ما دام النعاس لم يدخله إلى فردوسه. و المكتبة بجوار غرفة ناتالي. و إذا به يسمع حركت أثارت انتباهه.

طرق الباب فلم يجبه أحد. فعاد و طرق الباب، ثانية، واستمر الصمت، أيضاً!

و أدار أكرة الباب، و إذاه مقفل من الداخل! فداخلته الشكوك، لأن ابنته اعتادت أن تنام دون أن تقفل الباب إطلاقاً.

-18-

وقرع الباب بعنف. و إذا به يسمع صوت ابنته:

-من الطارق؟

-من يكون غيري، يا ناتالي؟ و لماذا أنت موصدة بابك؟ و لم تتلكئين بفتحه؟!

و إذا بضوضاء واضحة يطرق صداها أذنيه! و بعد قليل فتح الباب؛ و كان الظلام سائداً.

و أدار الزر الكهربائي، و سألها:

-لم لم تضيئي الغرفة؟!

أجابته:

-كنت نائمة و استيقظت على طرقك للباب. و كنت بين النائمة و اليقظى، لهذا تأخرت بفتح الباب.

-ولكنك اعتدت أن تبقيه مفتوحاً؛ فلم أغلقته؟

فما حارت جواباً.

-19-

وحانت منه التفاتة إلى النافذة؛ و إذاه يجد دفتراً يكاد يسقط على الحديقة؛ فأخذه و فتحه؛ و إذا فيه مواعيد حفلات  رياضية ففهم كل شيء.

و أضاء الخارج، و تفحّص النافذة، فوجد أن بعض أغصان  من الشجرة المجاورة للنافذة قد كسرت. إذاً لقد هرب من كان في غرفة ناتالي، و هبط على الشجرة.

لقد وضح كل شيء، الآن وعرف من كان ضيف ابنته!

وهاله الأمر جداً، واحتقن وجهه و خرج الزبد من شفتيه!و هدد ابنته و أعلنها أنها لم تعد وريثته قط.

ثم حشرج!..إذ لهوزل الحادث داهمته ذبحة قلبية قضت عليه.

-20-

وهال الأمر ناتالي! إنها فاجعة عظمى لا مثيل لها! و أغمي عليها، بعدما صرخت بخوف عظيم!

وهرع الزنجي على صراخها،فإذاه أمام كارثة هائلة!

واستدعي رجال البوليس، فذهلوا أمام الطامة  الكبرى!

واستقدموا الطبيب...فأعلن موت ألكسندر بنوبة قلبية صاعقة، و فحص ناتالي، فأعلن أنه لا خطر عليها، و لكن يجب الاعتناء بها.

وكانت ليلة ليلاء، رهيبة الأحداث ومفجعتها!

-21-

في اليوم الثاني، استنطق البوليس ناتالي فقالت إن والدها شعر بألم فجائي بقلبه، فوافاها لغرفتها. و عندما حاولت استدعاء الطبيب له، أصيب بالنوبة القاضية، فأغمي عليها. و عندما عادت لوعيها، شاهدت رجال البوليس في المنزل.

و قيّدت الحادثة كحادث قضاء و قدر.

و اطلق سراح ناتالي؛فعادت إلى المنزل، و هي تكاد تفقد صوابها، لرهبة المأساة الدامية!

-22-

بعد اسبوع من هذه المأساة المحزنة، قدم أحد رجال التحري إلى قصر ألكسندر. وكان والد ناتالي قد توسّط لهذا الشاب، فعيّن بوظيفة في سلك التحري،و ذلك منذ عام. وكان يزرو القصر، في كلّ شهر. و سبق لناتالي- عندما عرفت أنه بحاجة لمبلغ من المال ليطبب والده- أن نفحته بخمسين جنيهاً؛ فحفظ لها هذا المعروف. لهذه زارها في قصرها، و أبلغها  أن رجال البوليس قد وجدوا دفترأ بجيب والدها، عندما زارتهم للمنزل، ليلة الحادث؛ و قد فحصوا الدفتر،ووجدوا اسم جيروم الرياضي مدوناً فيه، و سيتحرون هذا الشخص سراً علهم يربطون بين الحادث المؤسف ووجود هذا الدفتر مع والدها. و قال لها:

-ربما سيستدعونك أنت، أيضاً، لسؤالك عن سبب وجود هذا الدفتر بجيب والدك.

-23-

كادت ناتالي تصعق، عند سماعها هذا النبأ  المخيف! فشكرت روبي الذي انصرف، و هو يحذرها، قائلاً لها:

-ربما أوقفوك على ذمة التحقيق، و كذلك جيروم؛فانتبهب.

وفي اليوم نفسه، ليلاً ذهبت إلى منزل جيروم، وأنبأته بما عرفته. فاضطرب خوفاً عليها، و خوفاً من أن تلوك الألسنة اسمها. و تأكد له أن البوليس عندما يعرف بأنه سبب موت ألكسندر، فطامته ستكون كبرى، و الفضيحة لا شك عظمى!

-24-

وقرّ قراره فوراً.

فهو يعرف صديقاً مخلصاً له الإخلاص التام. و هذا الصديق بحار، و لديه قارب بخاري؛ فلم لا يستنجد به، بلهام برفقة حبيبته ناتالي؟

و انبأها بعزمه. فقالت له:

-نفّذه فوراً.

وانطلقا إلى صديقه ليلاً، و أبلغاه رغبتهما.

ومضى نهار اليوم الثاني بتجهيز القارب الكبير. فوضع فيه أطعمة عديدة من علب المستحضرات المختومة، و عدة أنواع من الخبز، ثم بضع صفائح من الوقود تكفي لمدة.

وفي اليوم الثالث كان كل شيء جاهزاً للإبحار.

-25-

في 6 تشرين الأول 1860، أبحر القارب ( النسر)، ليلاً من مدينة بلهام، وهو يستضيف كلاً من جيروم و ناتالي.

وكات السماء صافية ، و النجوم ترصع السماء اللانهائية. و كانت ضربات قلب ناتالي تقرع كجرس الكنيسة بعنف بالغ. وبالوقت نفسه، كان جيروم مضطرباً؛ فهو يسير بالقارب دون وجهة معلومة، و يخوض البحر للمرة الأولى.

وكان صديقه قد وضع لهما فراشاً واحداً في القارب المتسع.؛ و لكنهما أمضيا الليل دون نوم. و جيروم أطلق العنان لمحرك القارب، فسار بأقصى سرعته، و هو يقاوم الأمواج الهوجاء الشامخة بعنفوانها كشموخ الجبال الرفيعة الذّرى.

-26-

 وابتدأ الليل يلفظ أنفاسه...وكانت ناتالي بجوار جيروم لا تفارق له ظلاًّ و إذاها تقول له:

-جيروم، أيها الحبيب الحبيب، كفاك إجهادك لنفسك، و حاول النوم؛ فالليل ابتدأ بالنحسار، وها هو الفجر يزحف بطلائع جيوشه الجرارة.

-ناتالي، أيتها المعبودة المفداة، نحن الآن، وديعة في هذا المحيط الشاسع، تتوزعنا شتى المشاعر. و ثقي بأنني لا أخشى شيئاً، على الاطلاق؛ورغبتي الوحيدة هي المحافظة على راحتك؛ فأنت سعادتي التي كانت مفقودة، و قد وجدت بوجودك.

وتلاقت الشفاه، و ضمت ذراعاه ذراعيها، ثم اضطجعا متعانقين...

-27-

عندما استيقظ الحبيبان، كانت الشمس تملأ رحاب المحيط الثائر الأمواج. فنهضا، وقبّل كلاهما الآخر بشوق بالغ.

و إذا بموجة عاتية تضرب القارب، و تملأه بالماء؛ فإذاه يهتز بعنف بالغ. و خيّل لجيروم أن ألواح القارب قد تفككت، فهلعت نفسه، و أصيب بخوف شديد؛ و إذاه يضم ناتالي يريد حمايتها من الخطر المحدق المفاجئ.

وتتالت الأمواج تضرب القارب دون رحمة أو هوادة. و كان القارب يتراقص يمنة و يسرة، ثم يعلو ليعود فيهبط...وناتالي تغرف الماء بوعاء كبير، و تلقيه في البحر، يساعدها جيروم بعملها الشاق.

-28-

و أخيرا، وبعد ساعات خالاها دهوراً، هدأت ثائرة البحر الراغي الراعد. فتنفسا الصعداء، و حمدا خالقهما.

ودعاها لتناول الطعام،فازدرداه كيفما  اتفق، بسبب استمرارهما في العمل بإفراغ الماء الذي دخل إلى القارب.

وعلت صرخة ناتالي مدوية! فذعر جيروم. و إذاها تشير له بإصبعها. فجحظت عيناه لمشاهدة كلب البحر الضخم يتبع قاربهما و هو جاد بسيره بجوارهما!

ثم ظهر كلب آخر أضخم جثة من الأول وهو يحثّ السير كقذيفة مندفعة بجبروت!

وطمأن جيروم حبيبته قائلاً:

-إن هذين الوحشين ينتظران أن نلقي لهما طعاماً ما، فلا يهولنّك الأمر.

-هب أنهما هاجما قاربنا وارتطما به،  أو ليس هذا خطراً جسيماً يا جيروم؟

-وهو ما تقولين. و لكنهما لم يفعلا. و عناية الله ستبعد عنا خطرهما، أيتها الحبيبة.

-29-

ومضت الأيام يلاحق بعضها بعضاً،وهما يضربان في مهامه المحيط، الساكن حيناً، و الثائر أحياناً و ليل أليل يشملهما، ليعود النهار الأبلج فيحتويهما.

وقلّ الزاد، و نفدت الأطعمة، و تبخرت المؤونة، إذ مضى منذ إبحارهما في ذلك الليل البهيم، وشهر  ونيّف!

و قد بلغت روحهما التراقي. و توزعتهما المخاوف؛ فهما يجهلان مصيرهما تماماً، و طوال هذه المدة الحافلة بالأهوال، لم يبلغا يابسة ما! يضربان في عرض البحر، بطريقة عشوائية.

-30-

ومضى أسبوع آخر حافل بالمتاعب المتواصلة. و بنهايته لم يبق لديهما لقمة واحدة يتبلغان بها. كما نفد الماء، أيضاً وهنا الطامة المخيفة.

وهلع جيروم، وتوزعته الهواجس، و كاد أن يصاب بجنة!..فركع بخضوع، و رفع صلاة حارة للخالق المهيمن، و طلب منه أن ينقذهما من هذا الخطر الداهم.

وشاركته ناتالي الصلاة بحرارة و إيمان فائقين؛ وكانت دموعها تتساتل على خديها، و هي واجفة القلب، مضطربة الجنان، قلقة على مصيرهما الذي بلغاه.

-31-

ثلاثة أيام أخرى مضت عليهما دون أن يتذوقّا أي طعام؛ فهو مفقود تماماً.

و انزل جيروم سلاًّ صغيراً في البحر، و كان قد وضع بداخله قطعة حديدية لتجعل السل يغوص في الماء.

وعند رفع السلّ، كانت فرحته عارمة، إذ علق بسله سمكتان كبيرتان  كانتا كبركة عظمى و نعمة فائقة.

وسرعان ما وضعاهما على النار، حتى نضجتا. و التهماهما بلذّة فائقة لا تجارى.

وبقيت معضلة الماء تمضهما؛ فبخلال الأيام الثلاثة، لم يتذوقا أية قطرة من الماء؛ فجف حلقهما،و أصبحت حياتهما يهددها خطر الموت عطشاً.

واضطر أن يشربا من ماء البحر، و لكنهما عادا فقذفاه من جوفهما، لمرارته و ملوحته الهائلة.

-31-

وهبّت عاصفة مجنونة مروّعة. و إذا بالأمواج تثور و تعلو كالجبال المشمخرّة. و عزفت الرياح بعنفوان رهيب...وإذا بالقارب لعبة من العاب الأطفال!

ثم هطلت الأمطار، و دوّت الرعود،وولولت بأصواتها الشيطانية!

كانت ليلة حندسية مهولة المخاوف، رهيبة النتائج.

وانفجرت صاعقة مزلزلة فككت عرى القارب، فإذاه ألواح تحملها جبابرة الأمواج الغضوب!

لقد دنت ساعة الموت، و الموت لا مفرّ منه لكل ما أوجده الله على الكرة الأرضية.

-33-

في هذه الدقائق الحافلة بأرهب ما يمكن أن يتخيّله  مخلوق، كان جيروم يضمّ بين ذراعيه حبيبته ناتالي، و هو مسلوب العقل، مضعضع النهى! و ناتالي متشبثة به بقوة فائقة؛ فمصيرها مصيره.

وعندما ابتلعها البحر، و هما متضامان ، فقذفتهما موجة ثائرة جبارة؛فإذاها يصطدمان بأرض صلبة. و لكن الظلمة الدامسة منعتهما من مشاهدة المكان الذي استقر فيه.

وتحسس جيروم المكان بيديه، فإذاه أرض لا شك فيها. و فعلت ناتالي مثله.

وكانت الرياح تعزف بجنون...فحبت، و حبا مثلها...و إذا بهما يصطدمان بشجرة، عرفاه من أغصانها.فحمدا الله على نعمة إنقاذهما من أشداق الموت الأكيد.

-34-

لم يذوقا النوم...

وابتدأ الفجر ينبلج. و هدأت ثائرة العاصفة. و كانت ثيابها غارقة بالماء. و البرد القارس عضّهما بنابه الذي لا يرحم.

وعندما أضاء الفجر الكائنات، وجدا نفسهما في أجمة كثيفة الأشجار، تملأها الأثمار؛ فأكلا حتى امتلأ بطانهما من شهيّ الأثمار اللذيذة.

ثم ارتويا من ينبوع عذب الماء، و حمدا خالقهما لهذه النعمة التي أسبغها عليهما.

وقبّل جيروم حبيبته، و قال لها:

-حمداً لرب السماء لنعمة وجودك معي، يا من لا أحيا إلا بها و لها.

وضمته لصدرها بشوق عارم، و قالت له:

-أنت كنزي الثمين، يا من همت به هياماً لانهائياً.

-35-

وتفحّص الحبيبان المكان...وكانت الشمس قد ملأت الآفاق...وتجوّلا بأرجاء الجزيرة التي لا يسكنها أحد.

وكانت الأرانب تفرّ منهما. كما شوهد سرب من الغزلان يرعى...فشاقها منظر خشف لطيف يمتص ثدي أمه. و عندما اقتربت منه ، هربت الغزالة، وخشفها أتبع لها من ظلها.

وابتدأ جيروم يجمع العيدان الكبيرة، و الأغصان الجافة، وقال لها:

-سأبني لك عشاً جميلاً.

وساعدته بعمله. و بعد ساعات من العمل، أنجزا صنع غرفة صغيرة كان سرورهما بها كبيراً؛ فهي مأواهما بهذه الجزيرة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

-36-

وتتالت الأيام، و تصرمت حبالها...وفي خلالها كان الحبيبان قد تجولا في أرجاء جزيرتهما الحافلة بأطايب الأثمار الجنية. وقد اكتشفا كل خفيّ فيها. فهي صغيرة، و خيالية من الوحوش المفترسة.

أما عن طيورها، فحدّث ولا حرج. فأشجارها الغضة تحكي لك عن أغاريد هذه الطيور الجميلة؛فهي لا تكف عن التغريد العذب.

وكم كان الحبيبان يستمتعان بأناشيد هذه الطيور الملونة اللطيفة!

ونظر جيروم إلى عيني حبيبته، و قال لها:

-و أنا أيضاً سأشدو لك كالعصافير ، يا حبيبتي.

ثم أنشدها قائلاً:

-37-

-أنا أنت، و أنت أنا.

فبك، يا معبودتي، نلت المنى.

ناتالي، قبل تعرفي بك،

كنت اتقلب بين أكفّ العنا.

ثم التقيتك، فإذاني غريق الهنا.

جمالك أسرني، و حسنك سباني!

وقوامك أسرني، و شبابك صباني!

ونهدك أذهلني، و حبك أصماني!

فأنت معتقدي،و أنت إيماني،

لأنك شوقي بأفراحي و أحزاني!

و أنت ملاذي بعالمي الفاني.

-38-

وانكب على شفتيها يقطعهما لثماً و تقبيلاً. و كان بها ما به،فإذاها تبادله قبلة بقبلة، و ضمة بضمة، و رشفة برشفة، و رجفة برجفة.

ثم هاما في الغاب يرودانه، و هما ينشدان نشيد الحب و الهوى؛ وكانا كظبيين سعيدين يقفزان بخفة عجيبة، يحدوهما الفرح الطاغي أن يمرحا في رحاب جزيرتهما الحبيبة.

-39-

عندما استيقظت ناتالي في عشها الجميل، كانت دهشتها كبرى، إذ شاهدت حبيبها جيروم جالساً بجوارها، و هو يداعب حيواناً صغيراً، لطيف المنظر، ثخين الذنب. فسألته:

-من أين أتيت به، يا جيروم؟

أجابها:

-ذهبت لأروي ظمئي من الينبوع، و إذا بي أجد هذا الحيوان اللطيف بجوار أمه التي كانت تشرب من الينبوع. و عندما شاهدتني، فرّت وحاول جروها اللحاق بها، فأمسكته، و أحضرته لك.

و سألته عن اسمه ، فقال لها:

-أو لم تشاهدي مثله قبل اليوم؟

أجابته:

-إنها المرة الأولى التي أشاهد فيها هذا الحيوان.

فأعلمها أن اسمه (راكون). فراحت تداعبه و تلاعبه.

-40-

ومضت الأيام يلاحق بعضها بعضاً. و كبر الراكون، و كان أتبع لها من ظلها؛ إذ أصبح أليفاً. و كانت تعتني به، و تطعمه بيدها.

وكان هذا الراكون سريع الحركة، خفيفها، و نشاطه متواصلاً. فهو لا يهدأ لحظة واحدة. وعندما يأكل يتفحّص الثمرة التي سيزدردها بيديه الشبيهتين بيدي الانسان، و يفركها بكفيه مراراً، ثم يزدردها بلذّة.

وكم من المرات رافقها للدغل، و كان هناك يرتقي الأشجار،و يكسّر بعض الأغصان، فطبيعته التخريب المتواصل.

-41-

بعد مضيّ عام على وجودهما بالجزيرة،وضعت ناتالي طفلة جميلة تشابهها من حيث الجمال. وكم كان فرح جيروم بطفلته اللطيفة!

وكان جيروم يراقب البحر باستمرار،لعلّ سفينة ما تمرّ بجوار الجزيرة؛ و لكن أمله لم يتحقق.

-ترى في أي مكان من عالم الأرض تقع هذه الجزيرة التي ألقتنا الأقدار فيها ؟

هذا ما كان يردده جيروم بنفسه.

ونمت الطفلة، و ابتدأت تترعرع و سارت على قدميها، و تعلمت كلمتي"بابا" و "ماما".

وكانت تخاف من الراكون عند اقترابه منها، ثم اعتادت على رؤيته فأصبح نديمها، إذ كان يلعق يديها، و يحوم حوليها، و حركته اللولبية دائمة النشاط و التوثب.

-42-

ومع مرور الأيام، أصبحت الطفلة مراهقة، إذ بلغت العاشرة. ة أطلق أبويها عليها اسم (فاتنة).

وبخلال هذه الأعوام شيّد والدها منزلاً من الاخشاب بمساعدة الآلات التي أنقذها من القارب الذي ألقته الأمواج للجزيرة.

وكم كانت فاتنة متلهفة لسماعها أخبار المدن الضجة بالرجال  و النساء و الأطفال من فم والديها! وكم تحرقت لمشاهدة هذه المدن التي تسير فيها مركبات مقطورة بخيول سريعة الجري!

و قالت فاتنة لوالدها:

-لماذا لا تبني قارباً نمتطيه و نبحر به إلى إحدى المدن لأشاهدها؟

فذهل والدها، و قال لها:

-كيف لم تأتني هذه الفكرة، قبل اليوم؟! و سأحققها لك، إن شاء الله.

-43-

وابتدأ جيروم بجمع الأخشاب ليصنع منها قارباً سيطلق عليه اسم"قارب النجاة".

وجدّ في عمله، تساعده زوجته الحبيبة وابنتهما الصغيرة. وابتدأ هيكل القارب يكتمل، و كان حجمه متوسطاً.

وكم كان سرور فاتنة به! فبواسطته ستذهب إلى المدينة التي طالما تحدث عنها والدها ووالدتها. إن شوقها عظيم لمشاهدتها، و التعرف على أشخاص يماثلون والديها.

و أعلمها أن القارب يكاد أن ينجز، و إذ ذاك سيحملها إلى مدينة أحلامها بواسطته. فطربت فاتنة، و أي طرب، و قبّلت والدها مراراً و تكراراً.

-44-

في فجر 20 آب 1872، نهض جيروم و عزم على الذهاب لاستئناف عمله بالقارب الذي شارف على الانتهاء. و كانت ناتالي تساعده يومياً بعمله.

ودهش لعدم نهوض زوجته، كعادتها و قال لها:

-أيتها الكسولة، هل أضناك مساعدتي بتشييد القارب؟..إذاً سأذهب بمفردي لأنجز عملي به.

ولم تجبه ناتالي. فاستغرب الأمر، واقترب من فارشها و لمس وجهها؛ فإذاه بارد كالثلج! فذعر للغاية، و ناداها باضطراب عظيم:

-ناتالي، ناتالي.

ولكن ليس من مجيب! لقد قضت عليها نوبة قلبية صاعقة، فإذاها جثة هامدة!

-45-

أصيب جيروم بصدمة قاتلة. إنها فاجعة هائلة!..

واعتمد رأسه بيديه، و قد سربله حزن عميق...

وكان عويل ابنته، و نحيبها المحزن المتواصل يمثل المأساة التي زلزلت أركان الأب  و الابنة إذ فجعتهما بأحب ما لديهما في عالمهما الفاني.

-كفكفي دموعك، يا ابنتي الحبيبة، فهي إرادة الله، و لا مرّد لحكم القدر القاسي الذي لا يرحم. فإذا أصابك مكروه، فإنني أضع حداً لحياتي. فارحميني.

وانقطع سيل الدموع من عيني فاتنة رحمة بوالدها المفجوع.

-46-

شهر كامل لم يعمل فيه جيروم بالقارب، لحزنه العظيم على زوجته الغالية الراحلة. و في خلاله كان طريح الفراش للحمّى التي كان فريسة لها في خلال هذا الشهر. و كانت ابنته تمرّضه، و تعتني به، و الحزن يوشحها بردائه البغيض.

و الآن قد تعافى، فعليه أن يواصل تشييد القارب، لينزحا عن جزيرة الأحزان هذه.

-أي ابنتي الوحيدة، و سلوتي الفريدة بعد انطلاق والدتك إلى عالم الخلود السعيد، إنك كنزي الثمين، ومتجه آمالي في عالمي الحافل بالمشقات الرهيبة. علينا أن نواظب على إنجاز القارب الذي سيكون خلاصنا من هذه الجزيرة التي بتّ أكرهها لأن والدتك قضت نحبها فيها.

-47-

ونهض جيروم، وارتدى ثيابه، تتبعه ابنته، و توجها حيث القارب، ليواصلا عملهما ببنائه. و كانت الأخشاب متراصة في مكانها بجواره، منذ شهر، و هو الشهر الذي كان فيه ججيروم مريضاً . و هذا اليوم كانت حرارته متصاعدة.

وقلب جيروم الاخشاب لينتخب منها لوحاً ليثبته بالقارب، و إذاه يصيح بذعر كبير! فقد لدغه ثعبان سام كان يلتجئ بفيء الأخشاب من حرارة الشمس المبيدة.

وانثنى الثعبان على فاتنة لدغها أيضاً و إذا بالراكون الذي لا يفارقها ينقض عليه، و يمسكه من عنقه. ولم يتركه إلا بعد  أن أصبح جثة هامدة. و هكذا أنقذها من موت محتم.

-48-

ولفظ جيروم أنفاسه  ازرقّ جسده من هول تأثير السم الذي سرى في دمه، فأذاقه حتفه.

وارتجفت فاتنة كورقة من مهب الرياح العنيفة، من هول الصدمة المزلزلة! فها هو والدها انطرح أرضاً و قد فارق الحياة!

و بعين الهول البالغ المخاوف، شاهدت فاتنة ثعبانة سوداء تخرج من بين الألواح الخشبية، وتتجه نحوها تريد لدغها.

فصرخت باضطراب عظيم...وإذا بالراكون ينقضّ على الثعبانة. و قبل أن يعضّها  برقبتها، كانت قد لدغته. لكنه رغم  ألمه المميت، عضّها بكلّ ما تبقى له من القوة. و إذاهما يسقطان ميتين، معاً الراكون و الثعبانة.

-49-

و أغمي على فاتنة من هول المشهد.

و تراءت لها رؤيا:

إذ شاهدت نفسها في مدينة أمريكية تدعى " غرينتش". و رأت  راكونها الذي تحبه، تطعمه بيدها، و هو يداعبها بأسنانه التي يعضها بها بلطف كملاعبة فقط، دون أن يؤذيها. و قال لها:

-يا فاتنة، لقد أنقذت حياتك من الثعبانة السامة، وافتديت حياتك بحياتي. و لكن ثقي بأنني سأعود و ألتقيك ثانية، إذ سأتقمص في عام 1980 و ستدللينني دون أن تعرفي السبب، و ستحممينني بيدك اللطيفة، دون ان أنبس ببنت شفة، و سأرافقك بمنزلك مثلما رافقتك بهذه الجزيرة. و تاكدي، أيتها العزيزة فاتنة، أن التقمص حقيقة لا تقبل الشك و الدحض، فالإنسان و الحيوان و الجمادات جميعهم يتقمصون مراراً و تكراراً. و سأعود فألتقيك أكثر من مرة. لهذا أطلب منك أن تدوّني، فور يقظتك، ما أعلمتك عنه الآن.

-50-

واستيقظت فاتنة، و لا يزال تأثير ما شاهدته بالحلم ماثلاً أمام مخيّلتها، وامتثلت لما طلبه منها الراكون، فدونته بحرفيته.

ثم أجالت النظر بعينيها، فإذاهما  تصطدمان بجثمان والدها المسجى أمامها. فعظم عليها الأمر، إذ غنها أصبحت وحيدة فريدة في هذه الجزيرة البعيدة. وتراءى لها مستقبلها المظلم تحيطه ظلمات دجوجية...وسرعان ما أصيبت بصدمة نفسية قاتلة...و إذاها تشهق شهقة عظمى خرجت على إثرها روحها، منطلقة نحو باريها.

غرينتش الساعة 9

من ليل 19/10/1980

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.