أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

قصص غريبة

وأساطير عجيبة

الجزء الثاني

الدكتور داهش

                       دعد أجمل فتيات الصّحراء

دعد ! ربيبة الصّحراء وسمراؤها الدعجاء !

قوامها أهيف ، وردفها ثقيل ،

ووجهها وضّاح ، وعنقها يسبي العقول !

وفمها كالخاتم ، وشفتاها معسولتان ، وصباها يذهل !

وفتنتها تحيي وتميت !

انها أبهى فتيات قبيلة عنز وأروعهنّ !

وألطف ربيباتها وأرقّهنّ !

فدعد ذات الربيع الثامن عشر ، هذه الغادة الخفرة استحوذت على عقول شبّان القبيلة فباتت شغلهم الشاغل ، وحلمهم الدائم .

وتغنّى بمفاتنها شاعر القبيلة مهنّد اليستقي فحلّق وأبدع . وكان الشبّان الهائمون بحبّها العارم يردّدون قصيدته الغنائيّة التي تشيد بجمالها العجيب ولطفها الذي لا يبارى .

                         نشيد مهنّد اليستقي

دعد ! أيّتها الكاعب اللعوب ،

لقد ذهلت الصّحراء بمفاتنك ،

وتعشّقتك رمالها الذهبيّة .

انّ جمالك العجيب

أشرق على ربوع هذه الصحراء الممتدّة فبهرها .

واذا بأنباء حسنك الفردوسيّ النادر

بلغت الشمس في فلكها – فذعرت !

ذعرت من قصيدة الشاعر الذي يقول :

انّ جمالك يا دعد يتفوّق على جمال أشعّة الشمس النورانيّة .

فاستاءت ذكاء ، ثم هبطت من عليائها ،

وألقت بأشعّتها على مضارب خيام قبيلتك .

واذا هي تذهل من روعة قوامك العجيب

وبهاء وجهك الفردوسيّ المهيب ،

فضلا عن مفاتنك المذهلة بروائها !

فعشقتك وأحاطتك بأشعّتها السحريّة .

فازداد جمالك جمالا وبهاؤك بهاء .

انّ القوافل التي تغذّ السّير ،

تقطع القفار ، وتجتاز الفيافي ،

وتعبر المفاوز المترامية الأبعاد ،

وهي تحدو ، على ظهور نوقها وابلها ،

مردّدة اسمك ، متغنيّة بجمالك ،

متشوّقة لمشاهدة وجهك الفردوسيّ!

فقبيلة عنز دونك ما هي الاّ رماد خاب .

فأنت التي تحدّث الركبان عن صباك الريّان .

ولولاك لكانت قبيلتك نسيا منسيّا .

سيدور الزمان دورته الأبديّة ،

وستتلاشى الأعوام

وتفنى القرون

ولن يجود الزمان بدعد أخرى

تجاريك بمفاتنها ،

يا أروع حوريّة ،

هبطت الى عالمنا من فردوس النعيم المقيم !

                              فتنتها خلبت الألباب

واقتتل شبّان القبيلة لأجلها اقتتالا ضاريا ، كلّ منهم يريدها لنفسه . ودعد غير آبهة بأيّ منهم . فقلبها الفتيّ لم يخلبه خالب . انّ قلبها خليّ من الحبّ وحبيبها المجهول ما يزال في ضمير الغيب .

وطارت أنباء فتنة دعد الخلاّبة بين كلّ قبائل العرب ، فتحدّثوا عنها في مضاربهم . فهم فخورون بأن يكون هذا الجمال وهذه الفتنة قد حطّا رحالهما ، مستضيفين احدى فتيات العرب الصيد . فهم يمتّون اليها باللغة والعادات وسكنى الصحراء .

                              أمير قبيلة عميرات

وبلغ أمير قبيلة عميرات أنباء جمال دعد واسمه سيف القضاء وكان شابّا بمقتبل العمر . فتعشّقتها أذنه قبل أن تتدلّه بها عينه النقّادة .

وكان هذا الأمير الفتيّ متضلّعا من العلوم الخفيّة ، فاضّا لأسرارها ، فاتحا لمغاليقها ، دارسا خفاياها ، ملمّا بكلّ صغيرة وكبيرة منها .

واختلى باحدى الليالي ، في مضربه ، وأحيا الليل منقّبا في كتاب قديم مخطوط ، راغبا معرفة حظّه مع هذه الحوريّة اللعوب .

                           وشدّ رحاله حيث الحبيبة

وبعد أسبوع شدّ رحاله الى حيث تعيش دعد بكنف والدها في مضارب قبيلة عنز . وأخيرا ، وصل سيف القضاء برفقة حاشيته ، وحطّوا رحالهم بضيافة والد دعد واسمه مونّق اليخزمي . ورحّب المضيف بضيفه الكبير ، وأكرمه اكراما بالغا . فالأمير سيف القضاء شهرته بين قبائل العرب مستطيرة ، والمامه بعلم الغيب بلغت أنباؤه كلّ كبير وصغير من العرب .

فهم يحترمونه ويجلّونه ، ويهرعون اليه في ملمّاتهم مستنجدين بعلمه الغيبيّ ، وخبرته الروحيّة التي ضرب فيها بالسهم المعلّى ، وتمكّن منها تمكّنا تامّا فأصبحت له أطوع من العجين !

وذبحت الخرفان ، ونحرت العجول ، وتحلّق شبّان القبيلة وفتياتها حول هذا الأمير الخطير . وأقيمت له حفلة طرب وغناء تخلّلها رقص تبارى فيه الشبّان بخيولهم وأسلحتهم وهم على صهوات جيادهم العربيّة المطهّمة .

                          حب فغرام فعشق فهيام

وكانت دعد كالشمس المشرقة ، وفتيات القبيلة كالأقمار الدائرة بفلكها . فهي درّة يتيمة لا يجود الزمان بمن تضاهيها حسنا ورقّة وقتنة يجلّ الوصف عنها فيقصّر . وما التقت نظرات الأمير الشابّ بدعد حتى ذهل عن نفسه ، وتاه عن حسه ، وابتدأ يهبط ويعلو نفسه !

انه في حلم رائع ! وليس ما يراه حقيقة راهنة .

انّ هذه الفتاة الخلاّبة وهذا الجمال الفردوسيّ لا يمكن أن يوجدا في عالمنا الدنيوي . وما هي الاّ ملاك سماويّ هبط الأرض ليزرع فيها الفتنة التي لا تبقي ولا تذر .

                         وعشقته مثلما عشقها

وأصيبت دعد بما أصيب به سيف القضاء . ففور مشاهدتها ايّاه خفق قلبها به حبّا واشتعل غراما والتهب ضراما .

انه حبيبها الذي انتظرته طويلا . وها قد ألقت به الأقدار بين يديها . فيا لسعادتها العارمة !

وردّدت بقلبها دون شفتيها : أيها الأمير الحبيب انّ شبابك الغضّ قد فتنني ، ورجولتك أسرتني ، فأنا لك بقلبي ولبّي ، وأنت من سأهبك حبّي ، يا من لا أستطيع الحياة دونك أيّها الحبيب الحبيب .

                           كان بجسمه معهم وبروحه معها

كان الأمير يشاهد الرقص والاحتفاء به ، وهو موجود بالجسم مع مكرّميه ، أمّا روحه فكانت تحوّم حول حبيبته المفدّاة دعد فاتنة النجوم وساحرة الشموس .

ولم يستطع النوم اطلاقا ، وكذلك دعد . لقد ظلاّ مستيقظين ، والنوم أعجز من أن يستطيع السيطرة عليهما . فقلبه يقرع قرعات الحبّ العارم . وكل منهما يودّ لو يكون البادىء بالمجيء الى حبيبه . ولكن أنّى لهما ذلك , وأمامهما صعاب لا يستطاع خرقها . فعادات العرب مقدّسة ، وشهامتهم يضرب بها المثل . والويل لمن يجتاز عقباتها الكأداء .

                            وتمّ زواج الحبّ

ومكث الأمير أسبوعا كاملا حافلا بالتكريم لدى مونّق اليخزمي ، والد فاتنته دعد . وبنهايته باح لوالدها أنّه يبغيها لتكون زوجة له . فسرّ والدها لمكانة الأمير المرموقة , وعقد قرانه عليها ، وأقيمت الأفراح سبعة أيّام بلياليها .

وكم من شبّان القبيلة تحسّروا عليها ، واكتأبت أفئدتهم حزنا وأسى ، لأنّهم باؤوا بالخسران ، بعد أحلامهم الذهبيّة التي توارت حتى يوم يبعثون .

                 وعاد الأمير الى عشيرته برفقة معبودته

وودّع سيف القضاء والد دعد والقبيلة المضيافة ، وعاد بحاشيته وزوجته دعد الى مضاربه بصحراء سوريّة ، وابتنى لحبيبته ومعبودته قصرا منيفا لم ير الزمان أبرع أو أروع من هندسته المبدعة . وكانت مقابض الأبواب من الذهب النقيّ توشّيها الحجارة الكريمة . وطلب من أشهر مثّال أن يصوغ لمعبودته تمثالا ذهبيّا ترصّعه اليواقيت والماس والزمرّد ، فاذا هو فتنة للناظرين اليه .

وكان القصر الأعجوبة تحيطه غابة جميلة أشجارها ، رائعة أزهارها ، مذهلة بتغريد أطيارها الصادحة .

ومضى عام كالحلم ، والأمير يحظى بحبّ معبودته دعد المغناج ، هذه السمراء المبدعة المفاتن .

                             وحمّ القضاء الذي لا يرحم

وفي فجر اليوم الأوّل للعام الثاني دخلت دعد ، وقدّمت القهوة الى حبيبها المفدّى ، كعادتها اليوميّة . واذا بها تجده جثّة هامدة . فقد اختطفه ملاك الموت منها !

لم تعول ولم تنتحب لهول الصدمة المدمّرة .

وعندما تأكّد لها موته وعدم استطاعته العودة اليها شهقت شهقة الموت ، فاذا هي بجانبه جثّة هامدة !

              كتبتها بالسيارة المنطلقة بي من نيويورك الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر تاريخ 16/5/1978

                                    هوفاميا

                                الفصل الأوّل

                                مولد هوفاميا

أي الهات الشعر والفنّ والجمال ،

ويا ربّات البرناس المقدّس ،

ويا أيها الآلهة العظام في عليائكم ،

تغنّوا بفتنة هوفاميا الحوريّة الحوراء ،

وأذيعوا أنباء محاسنها .

واشدي يا ايونيه بمفاتنها المضعضعة للعقول ،

وردّدي يا دوريس المبدعة أخبار صرعى هواها ،

وقتلى حبّها وأموات صدّها وجفاها .

وغرّدي أيتها الطيور الجميلة بفرح وسرور ،

واصدحي يا بلابل الرياض ببهجة وحبور .

وترنّح أيها الورد الجوري ، واملأ الفضاء بعبقك المحيي .

وترنّمي أيتها الأزهار البرّية ,

فقد ولدت أفتن كاعب في البريّة ،

هوفاميا هوفاميا ،

منافسة أفروديت ربّة الفتنة والجمال ،

وذات الرّقة الفائقة والدلال !

ولتسعد أرضنا الشقيّة

بولادة هذه الغادة الالهيّة .

                             معجزة خارقة

ورفع ملك الهند جوشام صلاته الحارّة الى الخالق شيفا ليهبه ذرّية . فزوجته الملكة بليوتي التي يفنى بحبّها عاقر .

وأقيمت الصلوات في المعابد ، ورفعت التضرّعات بتبتّل لعلّ الاله شيفا يرزق الملك العظيم مولودا سواء أكان ذكرا أم أنثى .

وفي الهزيع الاخير من الليل اصطكّت أركان القصر الملكيّ ، وومضت بروق رائعة بدّدت الظلمات المدلهمّة .

وظهر في الفضاء فتاة يزري جمالها بالبدور الساطعة ، وهي جالسة على غيمة ناصعة البياض ، وبيدها زهرة لوتس صفراء اللون . كما وضع حول رأسها اكليل من هذه الزهرة الفاتنة بألوانها العديدة .

ودهشت الجماهير من هذه المعجزة التي أيقظتهم وجعلتهم يغادرون أسرّتهم ، ويحدّقون الى الفضاء . فاذا كلّ منهم مبهور لمشاهدته هذه الغادة السماويّ’ وهي تحيّيهم وتبتسم لهم ، قائلة :

-         قريبا ، وترونني بينكم يا أحبّائي .

ثمّ اختفى هذا المشهد المعجز ، وسادت الظلمة الأرجاء ، فسجد الجمهور ورفع صلواته لشيفا خالق الخلائق ومبدع الكائنات .

                             وولدت العاقر

وأقيمت صلوات الشكر لشيفا في معابد الهند قاطبة ، طولا وعرضا . وقد ولدت الملكة طفلة رائعة الفتنة ، واستجيبت صلوات الملك وشعبه .

فأقيمت الأفراح التي استمرّت 40 يوما ، ووزّعت الصدقات ، ونحرت الذبائح ، وأتخم الفقراء ، وضحكت وجوههم بعد تجهّمها الطويل ، ووهب الملك الأراضي للفقراء والمعوزين منهم ، استبشارا بطفلته البكر .

وكان الوالدان يحيطان طفلتهما بأكبر عناية وأعظم اهتمام ، فهي ريحانتهم التي أضفت عليهما سعادة كبرى ، وأغدقت في جنبات القصر فرحا متواصلا .

وما شبّت عن الطوق حتى أحضر لها أساتذة وأستاذات يلقّنونها العلم والحكمة ، ويرضعونها لبان المعرفة . وكان جمالها الخارق حديث الهند من أقصاها لأدناها .

وأطلق والداها عليها اسم هوفاميا – أي زهرة الربيع الفاتنة .

وبلغت هوفاميا سنّ الثامنة وهي محفوفة بالخدم والحشم ، لا تردّ لها رغبة ، فكلمتها قانون مطاع .

                                والدهر قلّب

وزحفت جيوش زوزاسترا ملك الفرس ، واجتاحت جحافله مدن الهند الحصينة . وكانت فيالق فرسانه منتشرة كالجراد . فزوزاسترا طامع بكنوز الهند وخيراتها العميمة .

وأبيدت جيوش الملك جوشام ثمّ أصيب بسهم أرداه قتيلا ، مبكيّا عليه . فنكّست الأعلام ، وانتحبت الهند بقضّها وقضيضها عليه ، اذ كان أبا رحيما وبارا بشعبه . ولكن هكذا قضت ارادة الله ، ولا مردّ لقضائه الالهيّ .

وممّا زاد المأساة هولا وفاة الملكة بليوتي التي صعقت عندما بلغها نبأ مقتل مليكها وسيّدها .

                     منزل أمنع من عقاب الجوّ

وقبل أن يحتلّ الغزاة القصر الملكيّ ، غادر القصر كاتم أسرار الملك وخادمه الوفيّ جوبال المتهالك والمتفاني بحبّ الملك .

فقد رأى الخطر محدّقا بهوفاميا ، ففرّ بها في حلكة الليلة المشؤومة التي قتل فيها والدها الملك العظيم ، وواصل سيره على حصان أصيل ، وهو يحتضن هوفاميا ذات الأعوام الثمانية بين ذراعيه . ودامت سفرته عشرة أيّام ذاق خلالها الأمرّين ممّا لاقاه من عقبات منهكة بسفره الطويل .

أخيرا ، وصل الى حملايا . فهناك سبق للملك الراحل أن ابتنى بين شعاب هذا الجبل الشامخ منزلا متواضعا تحيطه حديقة صغيرة رائعة . وهذا المنزل تحجبه غابات كثيفة من الأشجار المتشابكة . وعبّدت طريق ضيقة يصل المرء اليها راجلا ، وعليه أن يسير بحذر كلّي خوفا من سقوطه الى الوادي السحيق الأغوار .

والطريق ملتوية متشابكة . فحينا يسير المرء بخطّ مستقيم ثم يتعرّج ، وحينا يهبط الدرب ليعود فيصبح طريقا متصاعدة ثم مستقيمة .

وحينما يبلغ المرء المنزل يجده أمنع من نسور الفضاء ، فهو في مأمن تامّ لا تراه العيون ، اذ انّ الصخور الضخمة العاتية تحجبه تماما عن الأنظار الفضوليّة ، وفيه كلّ ما يحتاج اليه المرء . وقد أمر الملك ببنائه تحسّبا للطوارىء . ولو لم يذهب ضحيّة السهم السامّ لحطّ رحاله فيه ، بعد اجتياح بلاده ، ولكن سبق السيف العذل .

                          هنا ترعرعت هوفاميا

في هذا المنزل عاشت هوفاميا اليتيمة ، وكان جوبال يلقّنها العلوم فهو حجّة فيها . واكتملت أنوثتها ، وضجّ جمالها ، وتفتّحت مفاتنها ، وازداد حسنها . وكان جوبال أتبع لها من ظلّها ، فهو يرافقها الى أيّ مكان تقصده في هذا الجبل الشامخ الذرى . فالحملايا يعتبر أعلى جبال الدنيا ، فعلوّه 29 ألف قدم . وفي الشتاء رياحه عنيفة مخيفة ، وأمطاره بالغة الغزارة ، وبروقه تومض فتضيء جنبات هذا الجبل الأشمّ ، مظهرة خفاياه ، مبدية زواياه . وحيواناته ضارية تجوب شعابه ، وترود أوديته السحيقة ، باحثة عن فريسة تفتك بها ، موردة ايّاها موارد التهلكة . ولكنّ المنزل المنيع من الصعب أن يصل اليه أيّ حيوان ضارّ ، فهندسته رائعة للغاية . فقد احتاط مهندسه لكلّ كبيرة وصغيرة فيه ، وخصوصا أنه بني في جوف الجبل الشديد الخطورة في فصل الصيف ، فكيف به في فصل الشتاء !

فعندما يغلق الباب الحديديّ المتين ينفصل عن العالم تماما ، ولا يستطيع الوصول اليه سوى نسور الفضاء وعقبان السماء . وكان الصخور الجبّارة تمنع الرياح الهوجاء بفصل الشتاء أن تصل الى المنزل ، فهو آمن تماما .

كما في هذا المنزل المتقن الهندسة حديقة داخليّة صغيرة ، ولكنّها فاتنة للغاية . وقد أبدع مهندسها بتخطيطها العجيب .

وكانت هوفاميا قد وضعت بقفصها الكبير مجموعة من طيور جبل حملايا ، ألوانها عجيبة وتغريدها يأخذ بمجامع القلوب . وكانت تقضي وقتها بالاصغاء لصدحها العجيب المتواصل .

                           وزحفت الأعوام زحفا عجيبا

ستّ سنوات توارت منذ قدمت هوفاميا الى هذا المنزل المعجزة . وقد شبّت الآن عن الطوق ، وأصبحت في عامها الرابع عشر .

بينما جوبال أصبح عمره 75 عاما ، وقد أمسى مسنّا أثقلت كاهله الأيّام .

وأخوف ما يخافه جوبال أن يدهمه الموت فتمكث هوفاميا وحيدة فريدة في هذا الجبل الرهيب . انه لا يستطيع أن يفكّر بهذا الأمر المرعب الذي كان يقضّ عليه مضجعه ويؤرقه دوما .

أما هوفاميا فقد أصبحت فتنة تبهر الناظر اليها ، وتذهل مشاهدها ، فيسبّح الله لهذا الجمال السماوي العجيب . لقد استدار نهداها ، وامتلأ فخذاها ، وكان أنفها الدقيق ، ووجهها الصبوح الرقيق ، وفمها الأحوى ، وشفتاها المعسولتان ، وقوامها الأملود ، وخصرها النحيل ، وعنقها المستطيل ، وردفها الثقيل ، ودلالها المحبّب ، تستهوي النفوس ، وترنّح العقول .

انّها وحيدة بجمالها ، فريدة بمفاتنها ، عجيبة برقّتها ! فيا لها من غزالة نافرة اتّخذت لها هذا الجبل الأشمّ لتحيا في ربوعه ، بعيدة عن مساوىء الناس وأطماعهم وغشّهم وتدليسهم . فما هي الاّ ملاك سماويّ طاهر ونقيّ !

                          واخترم الموت جوبال

في اليوم السادس والشهر الخامس من العام السابع لوجودهما  بهذا المنفى ، اخترم الموت جوبال ، فحزنت هوفاميا حزنا هائلا ، وسفحت الدموع الغزيرة على مربّيها ووالدها بالتبنّي .

لقد أصبحت وحيدة فريدة في أرض الشقاء ووادي الدموع .

ووضعته في حفرة سبق لمهندس المنزل أن جهّزها مع حفرتين أخريين . وبضغطها على زرّ في الحائط أغلقت الحفرة اذ سقطت فوقها صخرة ، وذلك بطريقة ميكانيكيّة . ودوّنت هوفاميا يوم وفاته ، وهي باكية ملتاعة فقالت :

أي جوبال العزيز ،

أيّها الوالد الراحل ،

انني أرثيك بدموع عينيّ ،

وبدماء قلبي الحزين .

لقد رحلت أيّها الوفيّ ،

وتركتني وحيدة فريدة ،

في مكان ناء

لا أرى فيه مخلوقا بشريّا .

انّ حكمة الخالق قد أمرت فولدت ،

وليتني لم أولد في عالم الأرض ،

عالم الشقاء والبؤس والعناء .

وكم أتمنّى أن تقف ضربات قلبي

لأعود فأجتمع بك ،

يا أوفى الأوفياء .

فوداعا يا جوبال العزيز ،

وداعا والى اللقاء .

                          كتب الهند المقدّسة

كانت هوفاميا تطالع الأوبانيشاد والرامايانا والمهابراتا ، كما كان المنزل يحوي كتبا عديدة تبحث في العلم والأدب والشعر والتاريخ والرحلات وغيرها . فكانت تمضي الوقت بقراءة الكتب حتى حفظتها عن ظهر قلب وأصبحت حجّة فيها .

كذلك كانت تقضي شطرا من يومها بالاصغاء لصداح الطيور والاعتناء بها ، ثم بالعمل في الحديقة الصغيرة والاعتناء بالورود والرياحين التي كانت تضفي جمالا أخّاذا يبهج هوفاميا الفاتنة .

                               الفصل الثاني

                 ثورة كاسحة ضدّ الفاتح الفارسيّ

وتحكّم ملك الفرس برقاب الهنود واستعبدهم ، واختلس خيراتهم ، واستحوذ على كنوزهم في المعابد الهنديّة المقدّسة .

فضاق الشعب ذرعا من هذا الفاتح الظالم الذي لا يرعى عهدا . ففي العام التاسع لاجتياحه الهند أعلن الأمير الهنديّ بوتام الثورة على الغاصب ، فاشتعلت الهند بأكملها ، وابتدأت حرب العصابات تدوّخ الفاتح . فذعر ملك الفرس ، وطاشت أحلامه ، وخصوصا أتته أخبار اجتياح الاسكندر لبلاده فارس ، فعاد مسرعا اليها ، وهو مهيض الجناح ، والخوف يقطن في كبده ويقضّ عليه مضجعه .

وهكذا رفع النير الاستبداديّ عن الهند ، بعد استعمار تسعة أعوام لاقى فيها الشعب من الأهوال ما لاقى ، ولكنه فاز بالنهاية وظفر .

                        رحلة صيد بالحملايا

وجلس بوتام الشابّ على العرش ، وهادنه الدهر ، فازدهرت الهند بأيّامه . اذ أمر أن تشقّ الشوارع ، وتبنى القصور والمتاجر ، وترمّم الأبنية الني هدمتها جيوش ملك فارس . ونعم الشعب ببحبوحة كان يفتقر اليها .

وبعد مضيّ عام كامل على استرجاع استقلال الهند ، نظم الملك رحلة صيد ، ودعا اليها النبلاء والكبراء والوزراء ورجال الحاشية ، واستصحب ، بقافلته عشرة فيلة ، ومئة كلب صيد ، وعشرات من الصقور المدرّبة ، وخيولا عديدة .

وسار هذا الحشد ، ووجهته حملايا هذا الجبل الأشمّ ، وقضوا أيّاما حتى بلغوه وتسلّقوه .

وابتدأ الصّيد في شعابه ، وتفرّق الحشد في أرجائه همّهم الصيد الوافر ، والتمتع بمشاهد يشرف عليها هذا الجبل من قننه ، وتفرّقوا جماعات جماعات ، وكلّ منهم طامع في أن يصيب من الصيد أكثر من رفيقه .

                          والتقى بوتام بهوفاميا

وانفرد بوتام بسيره اذ استرعت نظره طريق ضيّقة عرف بنظره النقّاد أنّ يدا بشريّة قد مهّدتها وليست من فعل الطبيعة ، فسار عليها ، وكانت هي الطريق التي تقود الى منزل هوفاميا .

ورافقه كلبه المفضّل المدلّل شوباق المعتاد على الصيد في شعاب الجبال ومسارب الأودية الصعبة المسالك .

وظلّ سائرا على الطريق الضيقة ، وكاد يتعذّر عليه سلوكها لضيقها ، فتارة كانت مستقيمة وطورا متعرّجة ، حينا تهبط وحينا تعلو . أخيرا ، وبعد معاناته المشاقّ ، وصل الى فسحة من الأرض تقوم فيها صخور جبّارة ، فبلغها ، وما عتّم أن فغر فاه عجبا ممّا رآه .

لقد شاهد وراءها منزلا متواضعا تحفّ به حديقة صغيرة جميلة ، وسمع غناء شجيّا تردّده حنجرة فتاة رخيمة الأنغام . فأشار لكلبه شوباق أن لا يأتي بحركة ، وفهم الكلب ما يريده سيّده ، فحرّك ذنبه وصمت . واقترب الأمير لناحية الغناء ...وكم كانت دهشته كبرى وذهوله عظيما !

لقد شاهد قتاة بمقتبل العمر ، جمالها لم تر مثله العيون ، وفتنتها لا تقاوم ، واغراؤها يكبّل الأنبياء بكبوله ، ويسقطهم بشراكه المعسولة . فتسمّر ...ولكن صعدت منه آهة قسريّة سمعتها هوفاميا ، فنهضت مبغوتة مذعورة ، ومأخوذة مشدوهة .

وتمتم الأمير بغمغمة خافتة وبنبرات متلعثمة :

-         من تكون أيّها الملاك السماويّ .

وتضرّج وجه هوفاميا حياء ، وأجابت :

-         انني فتاة بشريّة يا سيدي ، ولست بملاك .

وكان صدر الأمير يهبط ويعلو لدهشته من هذه المفاجأة العجيبة البالغة الاستغراب ، وكذلك هوفاميا .

وتمالك الأمير نفسه ، وقال لها :

-         هل تسمحين لي بالجلوس على هذه الصخرة .

-         لا مانع لديّ . وهل لي أن أعرف من أنت ؟ وكيف وصلت الى منزلي الخفيّ ؟

-    أنا رائد جبال ، ومن متسلّقيها . وقد قادني القدر لكي ألقاك . فما أنت الاّ غزالة شاردة اتّخذت الجبل لها مقاما .

وازداد احمرار وجهها ، فاذا هي كوردة جوريّة مخضلّة .

لقد شعر الأمير بحبّ جارف يجتاح كيانه ، ويتملّك روحه ، لهذا الرشأ المذهل المفاتن . وتمنّى لو يستطيع الجثوّ أمامها والتوسّل اليها أن تهبه حبّها العظيم ، وأن تمنحه قربها الدائم .

ولكنّه تردّد لكي لا تذعر منه فتفرّ .

ولو عرف بأنّ حبّه قد تمكّن من فؤادها لأقدم على فكرته ولنفّذها .

                     دهشة بوتام العظمى

-    لماذا تقطنين هذا الجبل الشامخ المنفرد ، أيتها الحوريّة الهابطة من فردوس النعيم ؟ وهل أنت بمفردك أم يشاركك المكان آخر ؟

-    اني بمفردي بعد موت جوبال . ومنذ أربعة أعوام أعاشر الطير ، وأجاور الأزهار في الليل والنهار .

-    ألا ترغبين بمغادرة هذا المكان المنفرد ، وتعيشين في لاهور أو بومباي أو في أية مدينة أخرى ترغبينها ؟ ومن أنت ؟ ومن هما والداك ؟

-    أمّا والدي فهو الملك جوشام الذي قتله سهم مجرم عندما احتلّ ملك الفرس بلادي الهند المقدّسة ، وكنت ، يومذاك ، في عامي الثامن .

وقفز الملك بوتام ، والدهشة العظمى مرسومة على وجهه ، والذهول مرسوم على ملامحه ، وهو يردّد :

-         يا لله ! لقد وجدتها ! لقد وجدتها ! فالشكر لك أيّها الاله شيفا مالك العوالم ومكوّن الكواكب .

                          وعرفت هوفاميا أنّه الملك

وقصّت هوفاميا على بوتام كيفيّة مجيئها مع والدها بالتبني جوبال حتى وصول الملك بوتام اليها . وحمرة الخجل تصبغ وجنتيها :

-         هل لي أن أعرف من هو محدّثي ؟

ما كادت تنهي عبارتها حتى علت ضجّة كبرى ، اذ وصلت الحاشية وكانت تبحث في كلّ مكان عن مليكها حتى وجدته .

وأحنى الجميع رؤوسهم ، وحيّوا مليكهم ، فعرفت هوفاميا أنه مليك البلاد بعد والدها . وكان سرورها كبيرا . فمن أحبّته هو أعظم رجال الهند قاطبة .

وبوتام كان قد أخبرها عن هزيمة ملك الفرس وفراره عائدا لبلاده ، بعدما بلغته أنباء وصول الاسكندر لفارس . فحمدت الله وتنفّست الصعداء .

                                 وتزوّج الحبيب حبيبته

وقبلت هوفاميا أن تغادر منزلها الجبليّ المنيع ، فالحبّ دفعها لهذا الاختيار المحبّب . ووصل الرّكب الى العاصمة ، وعرف الجميع أنّ ابنة مليكهم الراحل قد وجدت حيّة بعدما ظنّ الجميع أنها لاقت حتفها . كما عرف الشعب بحبّ مليكهم الجديد لابنة مليكهم السابق ، فكان ابتهاجهم كبيرا .

وأضيئت الفصور ، وعمّت البهجة والأفراح البلاد بأسرها ، فزواج مليكهم سيتمّ اليوم .

وأنيرت المعابد ، ورفعت صلوات الشكر ، ونحرت الخراف ، ووزّعت اللحوم على الفقراء ، وألقيت الدنانير الذهبيّة بكثرة في الطرقات ، فتهافت عليها الجميع أغنياء وفقراء . وزيّنت المتاجر ، وارتدى الجميع أبهى حللهم ، فاليوم عيد الهند الأكبر ، عيد زواج مليكهم بأروع فتاة هبطت الأرض منذ آدم وحوّاء .

                          وماتت هوفاميا

مضى عشرة أشهر على هذا الزواج الفخم الضخم ، وحبّهما يزداد اشتعالا وناره تذكى ضراما ، فهما جسدان تحتلّهما روح واحدة .

ووضعت هوفاميا مولودا ذكرا تهلّل له بوتام ، وطربت له البلاد ، وأقيمت أفراح ليس لها مثيل . ولبست العاصمة ثوبها البهيّ ، فالجميع أسكرهم الخبر وأطربهم الطفل . ولكنّ الناعي نعى لهم الهة الفتنة هوفاميا !

فيا للمصيبة المروّعة ! ويا للهول الصاعق !

فقد قضت وهي تضع مولودها !

فماتت البسمات على الشفاه ،

وصعق بوتام من هول الخبر المفزع ، وفقد عقله .

لقد أصبح مليك البلاد مجنونا خطرا !

                              الفصل الثالث

                            بوتام فقد عقله

كان جنون الملك بوتام خطرا للغاية . فهو يمزّق كلّ ما تقع عليه يداه ، ويحطّم أيّ اناء يكون بمتناول يده ، ويعتدي على كلّ من يراه أمامه . فاضطرّوا لأن يقيّدوه ليدرأوا عن أنفسهم شرّ جنونه ، وليمنعوه من الانتحار .

ومضى ستّة أشهر وهو بهذه الحالة المؤسفة المؤسية ، فشعر ذقنه طال للغاية ، وتهدّل شعر رأسه ، ورقّ عوده ، وشفّ جسمه ، وأصبح خيالا ، فهو جلد على عظم .

وكان تائه النظرات ، شارد الأفكار ، مضطربا في سيره ، حزينا بمنظره ، دامع العين ، ملجلج الصوت ، فحالته تعيسة كل التعاسة .

وتشاور الوزراء والكبراء ماذا يمكنهم فعله ، والملك قد أصبح لا عقل يهديه ، ويجب أن يكون للمملكة ملك آخر .

                      رجل الأسرار الخفيّ

واستأذن الحارس كبير الوزراء ، وأعلمه بوجود رجل يطلب بالحاح مقابلة رئيس الوزراء لأمر هامّ للغاية . فأدخلوه اليه ، وسأله الوزير :

-         من أنت ؟ وماذا تريد ؟

-         أنا يا سيّدي بامكاني شفاء المليك واعادة عقله اليه .

-         هل تهزأ بي ؟

-         معاذ الله ! وان لم أستطع شفاءه فما عليك الاّ أن تأمر باعدامي . فحياتي رهينة لديك .

فدهش رئيس الوزراء للغاية ، وقال له :

-         وبأيّة قوّة ستشفيه ؟

فأجابه :

-    منذ نعومة أظفاري وأنا مكبّ على دراسة العلوم الخفيّة ، فأصبحت لا تخفاني منها خافية . وقد برعت بعلم التنويم المغنطيسيّ ، فاتقنته اتقانا تامّا . فأنا أوحي للملك أو لسواه أن يأتمر بأمري حينما أسلّط عليه قوّتي المغنطيسيّة ، فأبرئه . وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان .

-    لا بأس من اجرائك التجربة على الملك وشفائه بواسطة علمك ، ولكن حذار ، فالسيف سيقطع عنقك اذا لم تنجح .

-         اتّفقنا .

قالها الرجل الخفيّ بنبرة قويّة تؤكّد صدق كلامه .

                  وانطلقت روح بوتام تجوب الكواكب

وأدخل على المليك المقيّد بسلاسل حديديّة ، فحدجه رجل الأسرار بنظرة نافذة ، وأمره أن ينام نوما مغنطيسيّا عميقا .

واختلجت عينا الملك ، ثم هيمنت عليه القوّة المغنطيسيّة فاستغرق بنوم عميق .

وسأله رجل الأسرار :

-         هل أنت نائم أيها الملك العظيم ؟

أجابه :

-         نوما عميقا وهنيئا .

-         وماذا تطلبه منّي أيها الملك الجليل ؟ سلني ولك ما تريد .

-         أريد أن تريني هوفاميا ، فحياتي بدونها يفضّل عليها ظلام القبور

-    لك ما تريد . واني آمرك أن تحلّق بروحك الى كوكب المتاهة الكبرى ، ففيه أرواح من لم يمض على موتهم أكثر من عام .

وتقلّص وجه الملك بوتام ، وتوتّرت أعصابه ، وانتفخت أوداجه . ثم قال :

ها انّ روحي تخترق أجواز الفضاء بسرعة تفوق سرعة النور أضعافا مضاعفة . وها انّي أمرّ بكواكب وسدم ومجرّات يعجز لساني عن وصفها . وها هي المذنّبات تشقّ فضاء السموات ، ودويّها المردّم للكائنات يمزّق أذنيّ تمزيقا مروّعا .

فقال له رجل الأسرار :

-    أكمل طريقك ، ولا تأبه لما تراه ، ولتكن غايتك بلوغ المتاهة الكبرى . فهناك محطّ رحالك اذ تتحقّق أحلامك .

واستمرّ بوتام يصف البروق ووميضها الخاطف ، والرعد القاصف ، ومسالك النجوم في مساربها ، والرجوع في دروبها ، والشموس النيّرة ، والأقمار المشعّة ، والعواصف الكونيّة ، وعويل رياحها القاصف ، ودمدمة الذرّات الكونيّة وهي تدوّي في أرجاء اللانهايات الأزليّة .

وكان الوزراء والعظماء صامتين ، وكأنّ على رؤوسهم الطير جاثم ، مشدوهين ، مذهولين ، وعيونهم جاحظة ، محدّقة الى مليكهم في رحلته الكونيّة الروحيّة .

                                  في المتاهة الكبرى

وقال الملك بوتام :

-    ها قد ولجت كوكب المتاهة الكبرى ! فيا للمشهد العجيب ما أروعه ! وما أشدّ بهاءه ! وما أغرب أشجاره ، وأفتن أطياره ! فكلّ ريشة من أيّ طائر لونها يختلف عن الريشة الأخرى ، فهو مجموعة من ألوان سحريّة تأسر الألباب . أمّا تغريدها فيا له من تغريد سماويّ تسكر النفس من سماعه ، وتحلّق في الملكوت الأعلى ، مسبّحة خالق هذا الكوكب المدهش .

واقترب من بوتام هوتار حارس الكوكب القصيّ ، ومنعه من السير في شوارع مدينة الموتى . وأمره بالعودة ثانية الى الأرض ، قائلا له :

-         لم تأت ساعتك بعد ، فعد الى أبناء قومك .

بكى بوتام فاخضلّت لحيته لعظيم نواحه ، وقال لحارس الكوكب :

-    رحماك أيّها الملاك الكريم ، فحياتي دون معبودتي هوفاميا لا معنى لها ، فارحمني واجمعني بها ، جمعك الله بأحبّ من اختارته روحك النبيلة .

-    هذا ليس باستطاعتي ، يا بوتام ، فمن المستحيل تجوالك في عالم الموتى ، عالم المتاهة الكبرى .

ومرّت الالهة بنديا الهة الموتى بقرب الحارس وبوتام ، وبرفقتها حبيبها الاله ماساثي ، وهو الذي يحاكم أرواح الذين بلغوا هذا الكوكب ، وسمعت استرحام بوتام للحارس هوتار ورفض هوتار توسّلاته ، فرجت حبيبها أن يسمح لبوتام أن يجتمع بمالكة قلبه وسالبة لبّه هوفاميا ، مدّة أقصاها عشر دقائق . فنزل عند رغبتها ، اذ كانت لديه أثيرة ، ولا يرفض لها طلبا مهما عظم .

                           والتقى بوتام بهوفاميا

وسار بوتام مع الحارس ، فقاده الى حديقة رائعة الفتنة انما هي جنّة الفراديس الخالبة للألباب .

وكانت هوفاميا جالسة تحت شجرة فردوسيّة بجانب غدير يترقرق ماؤه . وكانت الطيور ذات الألوان المتعدّدة تحوم على كتفيها وتسمعها أغاريدها الفردوسيّة المبدعة !

وما كادت هوفاميا تراه حتى صرخت صرخة الفرح الكبرى . وبتام ندّ صيحة أعظم من صيحتها ، وضمّ أحدهما الآخر بشوق هائل لا يعلو عليه شوق مهما عظم .

-    هوفاميا ! لقد أصبحت حياتي ظلاما بعد رحيلك عنيّ . ففقدت عقلي ، وأصبحت تائها غريبا عن حياة الدنيا . تتراءين لي ليلا ونهارا فأردّد اسمك العذب ، وأنت لا تجيبينني . والآن قد اجتمعنا ، ولن أنفصل عنك أبد الدهر .

-    بوتام ! أيّها الحبيب المفدّى ، انّ هذه الجنّة الغنّاء لم تبدّد أحزاني ، ولا أزالت أشجاني ، لأنّك لم تكن معي . وهذا الفردوس الغارق في النعيم المقيم كنت أراه جحيما تحيط بي نيرانه المتأجّجة لفراقي عنك .

والآن ، قد اكتنفتني السعادة الخالدة ، فدعني أدفن رأسي بصدرك ، أيّها الحبيب ، ولننعم في هذا الفردوس ، معا ، حتى أبد الآبدين .

ووضع شفتيه على شفتيها ، وضاعا في عالم الحبّ الحافل بالبهجات السماويّة واللذاذات السرمديّة .

                 وعادت روح بوتام الى الأرض مكرهة

كان الوزراء والعظماء يشاهدون مليكهم بوتام يضمّ بين ذراعيه الهواء . ويقبّل الفضاء ، وهو يتحدّث مع هوفاميا التي لا تراها عيونهم . فيزداد عجبهم ، ويستبدّ بهم الاستغراب الشديد .

فيسأل رئيس الوزراء رجل الأسرار :

-         ومتى ستوقظ المليك ؟

فيجيبه :

-    لقد انتهت الدقائق العشر التي منحها مليككم من حاكم كوكب المتاهة الكبرى وسأعيده ، الآن ، الى الأرض .

وأمر رجل الأسرار الملك بوتام أن يعود الى الأرض ، فندّ صيحة عظمى ، رافضا العودة اطلاقا .

لكنّ ارادته كانت مقيّدة بارادة رجل الأسرار ، فأمره أن يعود . فعادت روحه مرغمة على أمرها ، مكرهة ، وأمره أن يستيقظ . ففتح عينيه ، والتفت يمنة ويسرة ، ثمّ صرخ بصوت عظيم :

-         هوفميا ، لقد فصلوني عنك أيتها المعبودة .

وحدّق بعينين جاحظتين الى رجل الأسرار ، قائلا له :

خذ مملكتي ، وأعدني الى حبيبتي ومعبودتي هوفاميا . رحماك أعدني اليها ، وكفاني آلاما جسيمة لا تطاق . ارحمني وأعدني اليها ، وخذ كلّ ما أملكه من حجارة كريمة وقصور أنيقة ، وضياع أثيرة . رحماك ، ألا تسمع ؟

ثم جعل ينتف شعر لحيته ، ويقطع شعر رأسه ثم يرطمه بالحائط ، والوزراء والحاشية لا ينبسون ببنت شفة لهول المشهد المفاجىء . وأخيرا ، رطم رأسه بقوّة عظمى على الحائط فتهشّم ، وفاضت روحه الى بارئها .

وحدث هرج ومرج عظيمان اغتنم فيهما رجل الأسرار الفرصة ، فانسلّ هاربا من القصر .

وعندما ثاب للقوم رشدهم ، بحثوا عنه فلم يجدوه .

وهكذا كانت نهاية ملك الهند بوتام . فلعلّ روحه اجتمعت ، بعد انطلاقها ، بروح معبودته

                   هوفاميا

      بدأت كتابتها في الساعة العاشرة صباحا , وأنا في السيارة الذاهبة بي إلى مطار كندي , ثم في أثناء عودتي إلى نيويورك . وقد أنهيتها في الساعة الواحدة بعد ظهر 17\5 \1978 , وأنا بالسيارة .

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.