أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

قصص غريبة و أساطير عجيبة

الجزء الأول

الحق  أحق أن يتبع

بقلم الدكتور داهش

بتاريخ 10/3/1976، و في الساعة الثالثة و النصف بعد الظهر، وصلت إلى نيويورك ابلطائرة الجامبو. ومكثت في أميركا عامين و نصف العام. و بأثناء إقامتي فيها كتبت معظم هذه القصص و الأساطير و عددها 85 قصة و أسطورة سيضمها مجلدان.

 و هي المرة الأولى التي أكتب فيها هذا النوع من الأدب الحافل بشتى الصور العجيبة الغريبة.

و القصة يعالج فيها الكاتب أحداث الحياة ووقائعها الحافلة بشتى الغرائب التي هي مزيج من الخير و الشر. و في النهاية يخرج بعظة و نتيجة تحضّ على الخير و تشجب الجريمة.

والقارئ لقصصي و أساطيري سيذهل لحكمي الصارم على كل ما تزخر به الحياة من شؤون و شجون.

 و سيرى أنني قسوت بحكمي على المرأة و الرجل أيضاً. و لكن الحقيقة أحق أن تذكر دون أن يسدل عليها رداء عاره، متسربل بشناره.

إن على الكتاب واجباً مفروضاً هو قول الحقيقة دون سواها. فلماذا يحاول الجميع صياغة قصصهم بإلباسها رداء الفضيلة،بينما الرذيلة هي السائدة في ربوع دنيانا!

عليهم أن ينقضوا انقضاض النسور على فرائسها، و قول الحق الصريح الواضح دون محاباة أو مواربة.

لهذا يرى القارئ أن حكمي على أبناء الكرة الأرضية من رجال ونساء هو حكم صارم، و لكنه حقيقي.

فأنا لا أتحامل عليهم تحاملاًً  غاشماً، إطلاقاً. و لكني أصف واقعنا الحياتي الحافل بالمعاصي، و المطوق الجميع حتى النواصي.

فالغش هو الاسائد، و الباطل سوقه رائجة،والاعتداء لا ينكره منكر، و الفساد متفشّ في عواصم الكرة الأرضية بأسرها، والفسق و الفجور مسيطران على الجنس البشري بأسره، و الأطماع حدث عنها ولا حرج، و كسب المال، و لو بطريق الحرام، غاية و ليس وسيلة، و الرذيلة صرعت الفضيلة، والشر بسط جناحيه وراح يرود أرجاء الكرة الأرضية، نافثاً فيها سمومه الرهيبة. و قد استجاب له أبناء الغبراء بقضهم و قضيضهم.

هذه هي الحقيقة، و الحقيقة لا يستطيع إنكارها إلا كل جاحد كاذب.

لهذا يرى القراء أن قصصي موسومة بهذا الطابع الذي لا يرحم رجلاً ولا يبرئ امرأة من الأوشاب و الاوزار الواقعية. و أنا لا يهمني آراء الغير إطلاقاً إذا كانت تشجب رأيي، فما كتبته عن السلوك البشري أؤمن به إيماني بوجود الخالقي، إذ إنه حقيقة واقعة، و بذله نفسه عن الآخرين، و تمسكه بالفضيلة المثلى، إنه:

غاندي نبي القرن العشرين

وبانطلاق غاندي إلى عالم الأرواح النقي التقي، أقفل الباب إذ لم يأت إلىعالمنا رجل صلاح آخر يماثله إطلاقاً.

وغاندي رحل عن دنيانا في الساعة  الثالثة بعد ظهر الجمعة الواقع في 30 كانون الثاني 1948، تاركاً أرضنا الغارقة في أقذارها و دناستها المشينة. و يوم مصرعه هلعت نفوس كبار رجال العالم و سياسييه، و غمر الحزن النفوس و ساد الذعر الأفئدة، و راحت صحف الدنيا ترثي أعظم رجال الكرة الأرضية.

وها إني أعيد نشر الكلمة التي صدرت في جريدة"الدفاع" الفلسطينية، بتاريخ شباط 1948، إذ قالت تحت هذا العنوان:

غاندي-نور وروح!

"من الغرب  و الشرق تجاوبت الأصداء تعليقاً على خسارة العالم بغاندي. و ما سبق في هذا العصر، أن شاع الحزن في نفوس الملايين على رجل، شيوعه على معلم الهند ومحررها ووالدها. و هذا وحده كاف لإيضاح تلك المنزلة التي كان يحتلها المصلح العظيم في نفوس الشعوب و الأفراد. و هو برهان، كذلك، على أن الشرق ما زال يدفع إلى العالم بالمصلحين ذوي الدعوة الإنسانية الشاملة.

لقد كان غاندي أرق و ألطف من أن يواجه بالقتل. كان نوراً له ما للنور من طبيعة الإضاءة في الظلام. و في عالمنا جوانب مظلمة كبيرة، فكان غاندي ساطعاً فيها باستمرار يهدي الحائرين، أقوياء و ضعفاء، إلى طريق الخلاص.

و في دنيا تفتقر إلى التضحية و المحبة، كان غاندي يلقي الدروس الرائعة فيهما. و حسبه أن احداً لم يستطع الرقيّ إلى مستواه. و إلى أن يستطيع الناس ذلك، سيبقون في حاجة ماسة إلى الاستقرار و سكينة النفس.

وما نحسب أذناً في هذه الدنيا لم يطرق سمعها اسم غاندي. و هو اسم رحيم ينزل على القلوب رخيماً كالغنم، عذباً كالفرات، مهيباً كالقداسة."

فغاندي من امجده، و غاندي من أجله و أقدسه.

وبانطلاقه من ربوع دنيانا قضي على الفضيلة، إذ لم أر في عالمنا من يتشبث بناصيتها. فالجميع عبيد لشهواتهم البهيمة، كما هم عبيد لمصالحهم و عن يكن على آلام سواهم ممن يعتدون على حقوقهم ليكونوا الفائزين بالغنيمة الملوثة بطاعون الاغتصاب الدنيء.

وأخيراً، إنني أعلن بصوتي الجهوريّ قائلاً:

إن عالمنا مصاب بطاعون الشرور المحيقة، و قاطنوه أشرار فجار.

فيا ويلهم، يوم حسابهم، و هم يتقلبون بين أشداق النار الأبدية الاتقاد، جزاء وفاقاً.

الدكتور داهش

بيروت، في 4 كانون الثاني 1979

توطئة

بقلم غازي براكس

هوذا الدكتور داهش الذي تفرد بين الناس بأعماله، يتميز بين الادباء بخوارق قصصه!

وإذا كان هوميروس قد عرف بأساطيره الميثولوجية؛ و فولتير بقصصه الغريبة الاحداث، و دانتي برحلاته إلى النعيم و الجحيم، و إدجار ألن بو بأقاصيصه العجيبة، و جول قرن برواياته الخيالية، و تولستوي بتصوير الحياة الواقعية، فإن الدكتور داهش استطاع أن يجمع فيه ميزاتهم جميعهم، و يتفوق عليهم بما وهبه الله من خصائص روحية فريدة تتيح له غماطة اللثام عن أسرار الحياة و الموت و ألغاز الوجود المادي و الروحي.

فبعد كتابه المعجز " مذكرات دينار" الذي هو أشبه بأوذيسّة القرن العشرين، يطلع الدكتور داهش على العالم الأدبي بخمس وثمانين قصة موزعة في جزءين. و هي قصص قصيرة جذابة، من أي جانب أتيتها عدت منها وملء راحتيك جنى لن ينسى مذاقه اللذيذ العجيب!

فان نشدت المتعة و التسلية و جدتها في موضوعاتها الطريفة، و أحداثها الغريبة و حبكها المشوقة المثيرة، و عقدتها المحيّرة المربكة،وحلها المدهش المذهل. و إن توخيت الفائدة و العبرة لقيتهما حيثما مررت،بلا وعظ مملّ أو إرشاد مزعج أو إسهاب مسئم. فالحياة هي التي تتكلم بألسنتها اللامحدودة، و تنطق بأحداثها اللانهائية، فإذا أنت محمولفي زورق الخيال، فوق أمواجها المتدفقة، تارة متهادياً،  طوراً مندفعاً، تشهد تحوّل الأسباب إلى نتائج و البذور إلى ثمار، في شريط من الأفراح و المآسي، و الآمال و الآلام، و الدمع و الابتسام، حتى لكأنك تسيح بين الآزال و الآباد، و قد تجمعت الحياةبين يديك نهراً خالداً!

تجول المؤلف في عالم الأرض. و الدهشة مستبدة بك، فكأنك لم تعرف الناس و لم تألفهم! فوجوههم غير التي عرفتها، بعد أن سقطت عنها الأقنعة! و حقيقتهم غير التي ألفتها، بعد ان بدت عارية، وكالحربة تطعنك في الصميم!

فالمرأة تغلب الشهوة الجامحة على رغباتها، و الخيانة على تصرفاتها،و  الرياء يقود خطواتها، ومع ذلك، فعرشها في الأرض لا يتزعزع، و سلطانها على قلوب الرجال لا يتضعضع! و إن وجدت صادقة مخلصة فلا تكون من طينة الأرض لكن هابطة من بعض الكواكب القصية!

و الرجل يهيمن الطمع عليه، و تطوقه الغيرة، و يحف به الغدر و الظلم. فإن اطمان قلبك إلى امرئ فأكبرت أعماله و حمدت سيرته، فسرعان ما تكتشف أن هذا النور ليس من ذلك الظلام، و أنه كالذهب بين الرغام!

وقد يخطر على بالك أن الحياة قد تكون أصابت المؤلف بلطخات منها سوداء.فأظلمت نظراته، و قست عليها عباراته،واشتد تشاؤمه فتوهم أن الشر قد تسلطن على الأرض، و المفاسد قد عششت و فرخت في قاطنيها، لكنك لا تلبث أن تدرك، إذا كنت من ذوي الألباب، أنه أصاب بتصويره الفذ كبد الحقيقة، لأن رايتها هي رايته، و محجتها هي غايته،فهو رجل العدل و الصدق، و كلامه هو الفصل و الحق، و إنما نحن نعيش في مخادعة أنفسنا، نزين وجه الحياة القبيح حتى لا نفجع ببشاعة وجوهنا. في حين انه يصدقنا القول و التصوير و إن جرحتنا مدية الحقيقة، من أجل أن يقينا مخاطر الحياة المخيفة، و يعلمنا الأمثولة الشريفة.

و يعرج خيال المؤلف بك إلى الكواكب و العوالم العلوية، فتفتح امامك أبوابها الدهرية، و ترفع حجبها الأزلية، فإذا أنت تجوس ربوعها السعيدة، تشارك قاطنيها النشوة العظمى، و تدهش لأسرارها المذهلة، و أساليب حياتها العجيبة، فتوقن،إذ ذاك، بأن سعادة الأرض ليست إلاّ وهماً زائلاً و ظلاً حائلاً إزاء سعادتها الدائمة، و تدرك ان الحضارة البشرية ليست سوى درجة في سلّم الحضارات الكونية،إذ تكشف لك جوانب قليلة من علوم الكواكب الباهرة، فتتوق لأن تحرز نصيباً، و لو هزيلاً، من سامي معارفها، و حظاً، و لو ضئيلاً، من نعيم لذائذها.

و يفتح لك صاحب الكتابأبواب الجحيم، فتتعرف إلى أبالستها و قد تجسدوا في الأرض بشراً أسوياء، فساكنوا الناس و خالطوهم، حتى إذا  ما اطمأن هؤلاء اليهم، كشف زبانية الجحيم عن حقيقتهم المرعبة، فكانت المأساة المفجعة!

أو يفتح لك أبواب  القبور، فيطفر أمواتها يغرون الغواني بالقصور، حتى إذا دقت ساعة الحساب، و أسفر الميت عن وجهه الرعاب، حلّ العقاب و أي عقاب!

و تجول مع المؤلف في رحاب الطبيعة، فإذا أرضها وفضاؤها، نباتها و حيوانها جميعها كائنات عاقلة تدرك و تشعر و تريد، و تعاني الصراع بين الشر و الخير، فتعجب، إذ ذاك، من انك لست العاقل الوحيد بين الكائنات، و ترهف  أذنيك لتلتقط همسات قد تبوح بها عرائس الانسام و القصب، أو طوائف الخضار و ألواح الخشب. و تغلغل بصيرتك- و قد شحذها لك المؤلف-إلى جواهر الأشياء، تكتشف معانيها الخفية و العلاقات بينها و بين الناس، فإذا الكل قائم على ناموس التقمص و على قانون العدالة الإلهية التي لا يختلّ ميزانها.

و تعترضك في أحداث التاريخ ثغرات تودّ أن تملأها، و أسئلة تتمنى الإجابة عنها، فإذا المؤلف يعطيك الجواب الشافي و التعليل العجيب اللذين لا يقدر عليهما إلا الرجل العجيب.

هكذا، يرى القارئ نفسه، وهو في سياحته الاخاذة، مدفوعاً إلى أن يعيد النظر في مفاهيمه التي ورثها عن الاجيال البائدة، و في اعتباره لنفسه و لحضارته. فليس الإنسان دائماً هو الأفضل بين المخلوقات حتى الأرضية منها فقد يفضله الكلب أحياناً، ذلك بأن القيمة الحقيقية هي للسيال حيثما هو و ليس للإنسان. و السيال- تلك الطاقة الإشعاعية الخفية الحية المشتركة بين الكائنات جميعها- قد يرتقي و قد يتسفّل حسب الميل الذي يحركه، ومسؤولية ارتقائه أو انحطاطه يتحملها هو وحده. أما الحضارة البشرية فليست سوى حلقة صغيرة في سلسلة الحياة الكونية المتصاعدة حتى اللانهاية.

وعلى ضوء ذلك، تكشف هذه القصص سر علاقات العوالم بعضها ببعض، و سر تفاهم الناس أو اختلافهم، و هناء الأزواج أو أشقائهم...فقد يرد ذلك إلى تلاقي سيالاتهم في دورات سابقة، كما إلى توافقهما أو تناقضها. فقد يعيش الفقيران سعيدين، و الغنيان شقيين، و قد يلهم الإنسان سيال من عالم علويّ، أو يوسوس له سيال من عالم  سفليّ!

وقصص الدكتور داهش تمتاز بالعمق، على بساطة أدائها. و عمقها في أنها تنقلك من الاحداث العارضة إلى الجوهر، و تفتح بصيرتك فترى الحياة بأبعادها الحقيقية واستمراريتها الأبدية التي هي أعجب من الخيال. من هنا أن الخيال في هذه القصص جله حقيقة واقعية، لكنها تخفى عن عيون البشر العاديين.

وهذا الأدب القصصي ينقلك إلى ما يعادل الفلسفة الحية، الفلسفة التي ليست بشعوذات فكرية أو افتراضات متناقضة وهمية، إنما  هي الحقيقة العارية التي أتيتك على أجنحة الخيال فتبهر عينيك، فلا يبقى ماثلاً أمام ناظريك إلا ميزان العدالة الإلهي!

وطرافة هذا الأدب ليست في البهلوانيات اللفظية، و الاستعارات البيانية، و الزخارف البديعية، و التدجيلات الفنية التي كثيراً ما يلجأ المحدثون إليها حينما يأخذهم هوس التجديد،بل هي في أفكاره السامية العجيبة، و موضوعاته الفريدة المبتدعة، و في إزاحة الستر عن حقيقة موجودة و ليست مخترعة،لأن حقائق الحياة كالقوانين الطبيعية يماط اللثام عنها. لكنها في صميم الوجود كائنة؛ و فضل الأديب العبقري في أنه يستطيع أن يحطم قشور الحياة لينفذ إلى لبابها، فيرى، إذ ذاك،ما لا  يراه الذين ينظرون بعيون وجوههم فقط.

أخيراً، لا غنى عن الإشارة إلى أن العالم الطريف العجيب الذي يقدمه الدكتور داهش، في الأرض و البحر و الفضاء، و في داخل الأشياء، ليصلح أن يكون مادة غنية خصبة للسينما و التلفزيون. و لن فيها التشويق و الإثارة،و التعليم و الإفادة، و العمق و البساطة. فهي قصص خارقة من رجل خارق. إنها ألف ليلة و ليلة القرن العشرين كتبت بأسلوب حيّ أخاذ بجمال بساطته، لتكون متعة  وفائدة للكثيرين.

غازي براكس

بيروت  4 كانون الثاني 1979

معركة حقيقية واقعية

يا لهول ما سأكتبه! و ما أرهب حقيقته المروّعة!

لقد جنّ نجل الدكتور ج، و فقد عقله و تاه رشده، و تقلّصت معرفته، ثم ذابت قوة ملاحظته، و لم تلبث حتى توارت واضمحلت إذ استقرت في عالم الغيب و المجهول!

لقد ذهبت إلى منزل ج، و ذلك في 7 نيسان 1953 ليلاً. واجتمعت بنجله المضعضع العقل. فماذا رأيت؟!

رايته في حالة رهيبة، بل جد خفية. وحالما استقرت عليّ نظراته الجاحظة برهبوت، هاجمني مثلما يهاجم الذئب الكاسر فريسته، و النمر البنغالي طريدته، و الأسد الإفريقي صريعه ليسكت بواسطته صراخ جوعه. فتماسكت و إيّاه مكرهاً، و تباطشنا بوحشية مدماة، فتقاذفني وتقاذفته، و جذبني بأعصاب فولاذية ليهصرني بجنون صارم، فلم أمكنه من بغيته،، بل تبوتقت عزيمتي، فإذا بي  أجدني ألعب به كالكرة. فازداد من الغيظ أضعافاً، و خرج الزبد من فيه، و راح يقذفه بوجهي بغزارة. و ما عتّم أن حاول قضم انفي، فرطمته برأسي على فكّه، و إذا بدمائه تنبثق من فمه حمراءقانية، فتلطّخ رأسه بذلك السائل الرهيب!

وفجأة جلجل من الفتى المخبول عويل هائل فنحيب...وثارت أعصابه بصورة جنونية جارفة يريد تقطيعي و تمزيق أوصالي فلذات فلذات، لشدة غيظه و عظم حفيظته الهائلتين! و تشنجت أعصابه و توترت كالحبال المجدولة، وراحت صرخاته تدوي فترجعها جدران غرفته التي كان حبيساً بين أركانها.

وبغتة رأيتني اندفع بأعنف ما يختزنه جسدي من قوى، و باعظم ما تمدني بع أعصابي المتشنجة من صلابة، و أطلقت العنان لصوتي المزلزل، بعد أن فتحت له كوى صدري. و أذنت لصواعقي أن تقصف ما شاء لها القصف العنيف، و لزمجرتي أن تنقض عليه ما شاء لها النقضاض المخيف!

وكالقنابل راحت هذه الحمم تتساقط عليه باستمرار كتساقط الحمم، و كأن من يصبّها عليه هو نفسه إبليس الرجيم! فارتاع الفتى التائه العقل ارتياعاً عظيماً، وما عتّمت أن هدأت أعصابه لخوفه الهائل. فارتخت عضلاته، و ترنحت أعطافه،وانجابت الحجب الكثيفة عن عقله لمدة وجيزة كانت كافية لأن أدفع به إلى فراشه، و أنا أتابع زعقاتي لأخيفه و امنع ثورة اعصابه الهائلة من العودة إليه.

فجلس على الفراش، وهو يئن، و يتوجع، و يبكي بحرقة هائلة، و يتفجّع، و يطلب الرحمة ، مردداً: الرحمة الرحمة، و إياك أن تقتلني-ليعود فيضحك ضحكات جنونية، فتبدو نواجذه، ومن تحتها أسنان لطختها دماء اسودت عليها، فأصبح لون تلك الأسنان بين الاحمر المسود و الأبيض الذي تشوبه صفرة متسخة من مختلف بقايا الطعام.

و زعقت زعقة هائلة أخرى أخرجتها حنجرتي الفولاذية، آمراً بها إيّاه ليتناول حبة الدواء المنومة. ففعلت هذه الزعقة الهائلة فعلها، وارتجف خوفاً،وازدرد الدواء بوجل ملموس. و بعد قليل استرخت اطرافه، و ثقلت أجفانه، و هدأ عن الحديث المضحك المبكي لسانه، و ما عتم أن ولج في عالم أحلامه.

وما كدت أتأكد من نومه العميق، بعدما سمعت بأذني ما يخرجه بأنفه من الغطيط حتى أسرعت إلى الماء فاغتسلت، و أزلت ما علق من غبار هذه المعركة الشيطانية الهائلة التي لا تصدق.

ثم حزمت حقيبتي تمهيداً لأعود، في مساء الغد القادم، من حيث اتيت، خوفاً من أن أقتل أو أقتل. و العياذ بالله من شر الجريمتين.

فيا خالقي،وواهب الحياة للخلائق، لرحم برحمتك هذا الشاب، وامنحه الشافء التام العاجل.

بيروت،13 نيسان 1953

يا للهول و ماذا أقول؟...

إن قلمي، لا بل أقلام فطاحل الكتاب بأسرهم لأعجز من أن يستطيعوا وصف رهبوت ما شاهدته بأم العين عندما اجتمعت بابن العزيز جورج. و يا لها من حقيقة رهيبة تئن من هولها الروح، و تنسلخ ألماً من رهبوتها النفس!

شاب في ميعة الصبا، و عنفوان العمر، يقفز قفزات جنونية متواصلة، و يثب في جميع أنحاء الغرفة، و يدور كرقاص الساعة باستمرار، ليعود فيستلقي أرضاً كي يدور دوران البلبل الذي يلعب به الأطفال. ثم يتفجّر باكياً و ينتحب بمرارة عجيبة، ثم ينوح بشهيق و زفير غريبين، ثم يهدأ لدقيقة لا تزيد، ليعود فيزمجر كالرعود القاصفة، و الرياح العاصفة، ثم يتحفّز للوثوب فالانقضاض على كل من يكون أمامه ليمزقه تمزيقاً و يردمه ترديماً.

وفي هذه اللحظة تغرق عيناه في غياهب المجهول، و ينظر إليك نظرات بلهاء رهيبة تحمل في طيّاتها الخوف العميق لمن ينظر الفراغ الهائل الذي تسبح فيه تلك العينان الضائعتان في عالم الأبدية المجهول بألغازه اللانهائية الأبعاد!

ثم ينتصب بتمرد و ثورة جارفين، و يهدد و يتوعد كل من يقترب إليه أو يلمسه بأنمله. و إذا أتيح لك وضع يدك على يده، فإنك تظن أنك تلمس بركان فيزوف للحرارة العظيمة المنبعثة من أعصاب هذا الفتى الضائع العقل، المسلوب النهى، المتعتع برشده، و الفاقد لبصيرته. فيهاجمك ليرديك، و تهاجمه لتردعه عن ثورة و تلطف له من هيجان أعصابه. و يحتدم أوار المعركة الجهنمية و أنت تشعر بأنك تقاوم ليس فتى يافع الإهاب ، غض الشباب، بل يتأكد لك أنك تتعارك مع عشرات الأبطال المحترفين ممن قست قلوبهم، واشتدت عضلاتهم، و تفولذت أعصابهم، فأصبحت حرفتهم المصارعة المستديمة دوماً و أبداً.

و إن قدر لك أن تغفل لحظة، أو تهن قواك لبرهة، فإنك تتأكد بأنك ستكون ضحية هذا الشاب المضيّع للعقل،بما وهبه من قوة خارقة مما اختزنته أعصابه من مئات السيالات الغريبة عنه و المحتلة لأعصابه، و القاطنة في نفسه، و السارية بروحه. وعند ذاك يتأكد لك أن نهايتك  قد دنت، و ساعتك قد أذنت بالرحيل، فتستعد بخوف و ذعر لأن تودع دنياك دون أن تتزود ما فيه الكفاية من دينك. و عند ذاك فإن خالقك يجازيك بعد أن يدينك.

و عندما تخور قواك و تصبح فريسة لأن تصرع بين ذراعي الفتى السليب العقل، تأتيك النجدة ممن يكونون قد أسرعوا على زمجرة رعود المجزرة الهائلة و بروقها المومضة الخاطفة، فيتعاونون بقضهم بقضهم  و قضيضهم عليه، و بشق النس يتغلبون على الفتى، بعدما تكون ألسنتهم قد تدلّت، و نفسهم قد اوشك أن يبلغ نهايته،و أرواحهم كادت تبلغ التراقي،و بعد ان يكونوا قد استعملوا كفوف أيديهم فصفعوا بها المسكين صفعات مزلزلة على وجهه، و ركلوه بأقدامهم ركلات مدمية على جميع أنحاء جسده، لا حباً بإيذائه و تأديبه، و ليس لكراهية تقطن في طيات صدورهم ضده. لالا، و أيم الحق لا. و إنما هم مرغمون على ذلك التصرف حباً بإيقاظه و إبعاد الثورة الجنونية عنه، و إعادة صوابه، للحظات، إليه، لكي لا يرتكب ، وهو في تلك الحالة الجنونية  الهائلة جريمة قتل رغماً عنه. فيقسون عليه،للحظات لينقذوا أنفسهم و ينقذوه- و إن يكن لهنيهة- مما ابتلي به بإرادة السماء العلمية بأسرار الخفاء و المجهول.

و هكذا تمضي الأيام و حالته هي هي إن لم تزد خطورة على خطورة، و رهبوتاً على رهبوت.

ومما يزيد ثورة الأعصاب، حتى تكاد تتفجّر و تتمزق شذر مذر، ذلك العويل الهائل، و النشيج المروّع، و البكاء المدمى، و الشهيق والزفير المزمجران اللذان يخرجهما كل من والده ووالدته المصابين بهذه النكبة الفادحة بوحيدهما و املهما في هذه الدنيا.

فيا خالقي، و يا واهب الحياة لكل ذي نسمة، يا من تعرف أسرار الأزل و الأبد، أنت العليم بما تكنّه كل نفس قبل أن ترسلها إلى عالم الأرض التاعسة، أرض البؤس و الشقاء، و العناء و البلاء. أنت انظر من عليائك نظرة العطف الأبويّ و الإشفاق الإلهي، وارحم هذا الشاب، و أنقذه مما ألمّ به رغماً عن تاكدي انه يستحق ما أصابه، مثلما نستحق ما أصابنا و يصيبنا، لأن عدالتك عدالة حقة  ، إذ تجازي كلاً حسب استحقاقه دون زيادة أو نقصان. وضع بلسم عزائك، يا الله، على قلبي والديه بشفائك ابنهما، و فلذة كبدهما، فيسعدوا في أيامهما القليلة الباقية لهما على هذه الأرض، أرض الدموع و الأحزان، و الحسرات الفائضة و الأشجان.

آه! استمع، يا الله، واستجب، أنت يا أرحم الراحمين. آمين.

بيروت، 20 نيسان 1953

غرام الامبراطور نابليون

عاد نابليون ظافراً مكللاً بالغار، و ذلك بعد فراره من جزيرة ألبا، إذ إن الجيش الذاهب للقبض عليه ألقى سلاحه عند قدمي أمبراطوره، و حمله على الأكتاف.

فعاد إلى عاصمته بطلاً صنديداً لا يقف بوجهه مغامر.

و أقيمت حفلات التكريم له، و أولمت وليمة دعي إليها عظماء المملكة و كبار ضباط الجيش.

وممن حضروا الوليمة الشيد هنري كوتيه وابنته اللعوب بوليت ذات التسعة عشر ربيعاً.

كانت بوليت رائعة الجمال، ريانة الصبا، ذات عينين دعجاوين ينبعث السحر منهما. و إذا ابتسمت قتلت لفتنتها العجيبة! و قد لفتت الأنظار بشعرها المتهدل الاخاذ المنسدل على كتفيها الرائعتين! و جلست مع الجالسين ينتظرون قدوم أمبراطورهم العظيم.

قدوم الأمبراطور

وعزفت موسيقى الترحيب بمقدم الأمبراطور تحف به حاشيته و قد ارتدوا أفخر ما لديهم من حلل مزركشة موشاة برتبهم العسكرية.

فنهض الجميع  إجلالاً له. فحياهم مبتسماً برفع يده، ثم عاد فأدخلها تحت معطفه. وبعد تناول الطعام سمح الامبراطور بافتتاح حلبة الرقص.

 و عزفت الموسيقى...وعلى أنغامها اهتزت الخصور، و عقدت الأصابع.

بوليت الفاتنة

وحانت التفاتة من الأمبراطور إلى حيث تجلس بوليت، فبهره جمالها الأخاذ و سأل من تكون هذه الصبية؟

-إنها بوليت، يا مولاي، وهي ابنة هنري كوتيه مدير بنك الاعتماد الاقتصادي، و هي وحيدته.

فهزّ الإمبارطور  رأسه و غيّر مجرى الحديث.

وانتهت المأدبة، و توقف الرقص، وانصرف الجميع إلى منازلهم.

نابليون وحلمه العجيب

استغرق نابليون بونابرت بالتفكير العميق، فقد شغلت هذه الحسناء أفكاره، و لم يستطع النوم.

-يا الله! هي هي بنفسها! فهذه الحقيقة أغرب من الخيال!

لقد شاهدتها مراراً في أحلامي وكنت أظنّ انها أضغاث أحلام، فإذا بها حقيقة مجسدة! و ليل الأمس شاهدتها بأثناء نوم وهي تغالب الأمواج و برفقتها فتاة، و الأمواج تغالبهما، ثم انقلب الزورق بهما وابتلعهما اليمّ و هي تقبّل صورة بيدها لم أتبيّن معالمها. و العجب بالأمر أنني شاهدت نفسي طائراً فوق جثتيهما و الأمواج ترتفع كالجبال! ترى، ماذا يعني ما شاهدت في حلمي العجيب.

الإمبراطور يتنكر

لقد طار النوم من عيني الإمبراطور ولم يستطع إليه سبيلاً، فنهض وارتدى ثيابه و تنكر.

وعندما حاول الخروج تبعه حارسه الذي لا يفارق له ظلاًّ.

-مولاي أنا خادمك الأمين، مرني فأطيع.

-رافقني من بعد، و إياك أن تعلم أي مخلوق عن زيارتي الليلية هذه طوال حياتك.

-أقسم لك بخالقي و بشرفي العسكري على أن هذا السر سيرافقني للقبر يا مولاي العظيم.

وسار الإمبراطور  وهو يعتلي فرسه، و حارسه أتبع له من ظلّه.

مفاجأة مذهلة

وأخيراً وصلا إلى منزل متوسط الكبر تحيط به حديقة صغيرة، و قرع الأمبراطور الجرس، وانتظر ، فلم يفتح الباب. فأعاد قرعه ثانية و ثالثة و رابعة، إذ كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل.

و اخيراً فتح الباب، و سمع صوت يقول:

-من هذا الطارق الثقيل في ذه الساعة المتأخرة من الليل؟

ولحسن الحظ كان من فتح الباب – السيد كوتيه-إذ إن الخادمة ذهبت إلى منزلها قبل ساعات لحادث طارئ في بيتها. و ما شاهد السيد كوتيه وجه زائره حتى فغر فاه من الدهشة، و ذهل من هذه المفاجأة الصاعقة غير المنتظرة و صاح:

-مولاي مولاي، أغفر لي زلّتي، أغفر كلمتي- الثقيل- فأنا يا مولاي لو زارني الملاك جبرائيل لما فوجئت بزيارته كمفاجأتي بزيارتك لمنزلي المتواضع. فهذا شرف عظيم لا تأتي الأيام بمثله.

وتنحّى مفسحاً له الطريق. فدخل الامبراطور المنزل يرافقه حارسه، و قد اشأبّ شارباه كعلامة لرجولته. و قال الإمبراطور لحارسه:

-انتظرني في هذه الغرفة.

و أكمل سيره مع السيد كوتيه إلى الصالون الانيق.

بوليت الجميلة تذهل

وما كاد يجلس حتى دخلت بوليت الجميلة و هي تعرك عينيها  أيقظتها الأصوات المتصاعدة. و ما شاهدت الأمبراطور حتى جحظت عيت=ناها، و بدت الدهشة العظمى على وجهها فغيرت ملامحها.

-مولاي نحن لا نستحق زيارتك لمنزلنا. فأنت أعظم عظيم في كل  أوروبا، ونحنعاديون. إن شرف عظيم لنا ستخلّده الأيام.

والد يتجلبب بالشرف الأثيل

وانسحب والدها إذ عرف بالبديهة سبب زيارة الأمبراطور لمنزله،و أن ابنته ستلعب دوراً بارزاً في حياة الأمبراطور معبود فرنسا.

دهشة بوليت العظمى

-بوليت إن عظماء أوروبا بأسرها يزحفون وهم يسعون لمقابلتي. و أنا أتيت لمنزلك لأجل الاجتماع بك. أو تدرين، يا بوليت، أنك استوليت على تفكيري مذ شاهدتك في المأدبة الامراطورية ؟ ز هل تعلمين أنني ما استطعت النوم إطلاقاً و انا أفكر بك! و ستدهشين إذا أكدت لك أنني شاهدتك مراراً و تكراراً في منامي. و الآن أصبحت الاحلام حقيقة واقعة بعدما شاهدتك بالمأدبة فذهلت!

-مولاي ماذا أسمع؟ مولاي، هل أنا في حالة يقظة واقعية أم تراني أشاهد حلماً سيزول ويتبدد في حال يقظتي!... كاد أجن، أكاد أفقد عقلي...ساعدني، يا إلهي، فقد اختلط عليّ الأمر!

وكان ما كان مما لست أذكره

و جثت امام نابليون، فأنهضها و قبّل يدها بشغف ووله عظيمين. ثم أمسك كلتا يديها، و نظر إلى عينيها طويلاً وهو يتملاهما بلذة ووجد فائقين. و كانت بوليت  =ترتجف من الفرح، ومن الدهشة المثيرة، وما عتمت أن قالت له بصوت خافت:

-إنني احبك بكلّ ما تعنيه كلمة الحب، و أشعر بأنني لن أستطيع الحياة بدونك، بعد اليوم فكلمة منك تحييني، و كلمة أخرى تميتني.

-وأنت يا بوليت، لن أشعر بالسعادة بدونك. فمنذ هذه الدقيقة أصبحت مديناً لك بسعادتي.

والتقت الشفاه...وكانت قبلة ثائرة...قبلة مجنونة...قبلة مذهلة لا يمكن لقلم أن يصف مقدار لذتها العظمى...واستسلمت بولت للأمبراطور بكلّ ما لديها من أنوثة مغرية.

بوليت تقسم أنها ستكتم

غادر الأمبراطور منزل معبودته ومالكة لبّه في الساعة الخامسة فجراً يتبعه فارسه الأمين. و عاد إلى قصره وهو سعيد بما حققه في ليلته هذه.

وقبل مغادرته لمنزل السيد كوتيه جعل حبيبته تقسم له برب السماء على أن تكتم علاقته بها كتماناً تاماً لأسباب ذكرها لها، مؤكداً لبوليت أن هذه الأسباب تراءت له بالحلم. فقد قال له الصوت بأثناء نومه:

-إذا لم تتقيد بما فهمتك  عنه، إذ ذاك تفقد عرشك وينتهي  أمرك.فوعدته بولت بكتمان الأمر طوال حياتها.

واترلو أزالت مجد نابليون

وتكررت انتصارات نابليون، فخضع ممالك، و أزال عروشاً و أذلّ شعوباً، و أباد جيوشاً، و رفع أقواماً، و خفض آخرين.

و أخيراً كانت معركة واترلو هذه المعركة التاريخية المشؤومة عليه، و التي ذهب ضحيتها خمسون ألف قتيل من الطرفين. كما كانت السبب في فقيده لعرشه واضمحلال ملكه، ثم نفيه إلى جزيرة سانت هيلانة.

وهناك ذاق الأمبراطور الامرّين من حاكم الجزيرة النائية هدصن لو، و هذا الحاكم الإنجليزي الحلف الذي جافى الأمبراطور العظيم الذي قلب له القدر ظهر المجنّ بعد ذلك المجد الباذخ.

أما بولت فكادت تجنّ و تفقد عقلها لهول المصاب الفادح الذي أصاب منها مقتلاً.

ففي إحدى الليالي استقلت زورقاً استأجرته، واصطحبت ابنتها من نابليون، وانطلقت فيه بعرض البحر تريد أن تذهب إلى جزيرة سانت هيلانة حيث أسد فرنسا  سجين الإنكليز.

لكن القدر القاسي كان لها بالمرصاد، إذ اهتاجت الأمواج و أرغت و أزبدت لهبوب عاصفة عنيفة. و بلحظة انكفأ القارب بطناً لظهر، و ابتلع  البحر في أعماقه بولت الفاتنة وابنتها هنريت.

ومن أغرب الغارئب و أعجب العجائب أن موت بولت وابنتها وقع في اللحظة نفسها التي انطلقت فيها روح الأمبراطور العظيم!

فيا لسخرية الأقدار!

واشنطن الساعة الثامنة

من صباح 4/3/1976

ظلمة قبيلة المردة

كانت قبيلة المردة هي السائدة و المتحكمة بشؤون الشعوب التي بسطت حكمها عليها. و كانت احكامها صارمة تنفذ بقسوة و عنف بالغين.

والقوانين التي  تصدرها دار الاشتراع لم ير التاريخ لها مثيلاً بالغرابة البالغة منتهاها. فقد حرّم أحد القوانين تناول الفواكه وما تنتجه الحقول و الجبال من مختلف انواع الأزهار على مختلف أنواع الأزهار على مختلف أشكالها و ألوانها.

فلا تستطيع يافع أن تزين شعرها بوردة، و لا تستطيع كاعب ان تضع ضمة من الورود في وعاء يزين المنزل ويبعث البهجة فيه.

كانت الأثمار الحلوة المذاق ملكاً حلالاً لقبيلة المردة البطاشة. فكلّ من له حقل تحمل أشجاره الفواكه عليه أن يجنيها و ينطلق إلى المبنى المختص بتلقي هذه الفواكه التي يحملها جميع أبناء هذا الشعب المغلوب ليسلموها إلى المسؤول  عن هذا المبنى.

ومن ثم توزع هذه الفواكه على أفراد القبيلة كبيرهم و صغيرهم.

فرح للحظات

و أقيمت الأفراح في منزل الثري مادي، إذ إن ابنته ناهالي ستقترن بالشاب دوباري بعد حب جارف استمرّ عاماً كاملاً.

فهرعت الوفود إلى منزل مادي لتقديم التهنئة و الاشتراك بأفراح العرس القائم على قدم  وساق.

وعزف العازفون ، و أنشد المنشدون.... وكانت ناهالي كزهرة ندية وقد ارتدت ثوب العرس الصيفي، فخفقت قلوب وارتعشت أفئدة لصباها العجيب.

و تقدم دوباري نحو حبيبته ناهالي و بيده تفاحة حمراء قدمها إليها ، قائلاً لها:

-إن حواء قد غرقت آدم و جعلته يأكل التفاحة. وها أنا اعكس الآية فأغريك بالتفاحة لتاكليها.

فافترّ ثغر ناهالي بابتسامة عذبة، و قضمت التفاحة، وناولتها إلى حبيبها فقضمها، أيضاً، وهو جذل ضاحك. فصفق الجميع، و صاحوال معاً:

-ليهنأ الحبيبان الفتيان.

مأساة رهيبة

و أبرق الجو و أرعد، وعلت ضجة هائلة تبعتها صلصلة سيوف ولعلعت أصوات ثائرة غاضبة، مرغية مذبدة، مهتاجة مهددة:

-الويل لكما أيها اللعينان.

وكانت هذه الأصوات المهددة صادرة عن رجال الشرطة الخفية من المردة وقد اندثوا بين الحضور.

فاقتادوا العروسين المذعورين بينما كانت الصفعات تتوالى عليهما بقسوة ووحشية. و أدخل كلاهما إلى السجن. و في اليوم الثاني حكم عليهما بالإعدام، و نفّذ الحكم أمام الآلاف المحتشدة لمشاهدة هذا الظلم المخيف دون أن يجرؤ أي منهم على التفوه بأية عبارة احتجاج. و ألقيت الجثتان  في حفرة خصصت للمحكومين الذين يجري إعدامهم إذا ثبت أنهم تناولوا أية ثمرة من الثمرات الحلوة المذاق، أو اقتطفوا أي نوع من الأزهار واحتفظوا بها دون ان يسلموها إلى المسؤول عن تسلّم باقات الورود و طاقات أنواع الأزهار المختلفة ليزين المردة بها منازلهم.

الله يمهل ولا يهمل

واستمر هذا الظلم أعواماً عديدة و سنين مديدة. و ضجت الشعوب التي تحكمها قبيلة المردة، و رفعوا ضراعتهم إلى الخالق الموجد طالبين أن ينقذهم من هذا الضيق العظيم و الضيم المقيم.

وسمع الله لصلواتهم، واستجاب لدعائهم، و حقق لهم آمالهم.

حقاً إن الله يمهل  و لا يهمل.

ففي فجر أحد الأيام  ذهل الشعب المحكوم ذهولاً عظيماً، إذ استيقظ الجميع على أصوات راعدة هادرة، و دويّ هائل يخيف تفجره الجبابرة!

فهرع المردة وهم يحملون أسلحتهم ظاانين أن العدو قد هاجمهم في عقر دارهم. واجتمع الألوف منهم وهم يدويون في  حلقة مفرغة إذ لا عدوّ يشاهدونه، ولا مهاجم ليقطعوه!

وفجاة ، و امام نظر الألوف الهالعة، جعل هؤلاء المردة يتقلصون شيئاً فشيئاً حتى أصبح كل منهم بحجم ذبابة كبيرة و كانت يصدر منهم طنين تسمعه الآذان المرهفة!

الجزاء الإلهي

وسمع صوت جبروتي ملأ الآفاق، قائلاً لهم:

-لقد أحلتكم إلى نحل، و أذنت لكم أن تطوفوا الحقول و الجبال و السهول تبحثون عن مختلف انواع الأزهار لتجنوا منها عسلاً و شهداً يكون طعاماً لمن ظلم ممن كانوا تحت نيركم.

ومنذ تلك الدقيقة خلقت النحلة التي لم تكن معروفة في عالم الأرض.

وكل من كان يحمل منهم سلاحاً تحول سلاحه إلى الحمة التي يلسع بها.

ومنذ تلك الهنيهة ابتدات جماعات النحل تجوب الغابات والفيافي بحثاً عن الازهار لتجني منها عسلاً شهياً.

أما  ناهالي فبعد أن توفيت جعلت مليكة النحل يلتفون حولها ليحموها بأرواحهم و يقدموا لها الغذاء الملكيّ، و هي أكبرهم جسماً و أطولهم عمراً.

الولايات المتحدة الاميركية الساعة الثالثة فجراً

تاريخ 24/4/1976

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.