أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

طريقُ الارتقاء الروحيّ وفقًا للمفهوم الداهشيّ (4)

دَورُ الإرادة في مُقاومة التجارب

كما في النَّدَمِ وتمييزِ الخير من الشرّ

بقلَم الدكتور غازي براكْس

 

في الأعداد الثلاثة السابقة من "صوت داهش" أوضَحتُ أنَّ الإنسانَ لا يستطيعُ ارتقاءَ المعراج الروحيّ لتَحقيقِ الكمال الإنسانيّ ما لم يجتَز المرحلةَ المُمَهِّدَة له، وهي الارتداعُ عن المُنكَرات التي يُمكنُ إجمالُ دوافعها النفسيَّة بستَّة: شهوةِ المال، شهوةِ الجنس، شهوةِ السلطة، نزعةِ الحسد، نزعةِ الكبرياء، ونزعة الرياء؛ ثمَّ بيَّنتُ أنَّ المصدرَ الأَوَّلَ لتلك الدوافع الخبيثةكما للدوافع الخيِّرة إذا وُجِدَتهو سيَّالاتُ الإنسان نفسُها. غيرَ أنَّ الساعي إلى الكمال الإنسانيّ بوُسعِه تبديد الظلام في طريق حياته باسترشاد منارات الارتقاء الروحيّ الأربعة التي أَجملتُها بحياةِ المُرسَلين والهُداة، والضميِر الحيّ، والعقلِ الهادي المُسَلَّح بالعلم والمنطق السديد، والتعاليمِ الموحاة.

لكنَّ ثمَّةَ مصادرَ أُخرى لكلٍّ منها دورُه المُهمّ في صياغة دوافع الإنسان، هي الفِعلُ الإراديُّ، وتأثيرُ البيئتَين الصُّغرى والكُبرى. والأَوَّلُ سأُتابعُ مُعالجتَه في هذا البحث، بعد أن أَوضحتُ، في العدد السابق، طبيعةَ الإرادة وعمليّاتها، وأَظهرتُ مدى ارتباط الإرادة بالقدَر الشخصيّ، وتأثيرَ تحمُّل الشخص لمسؤوليَّة أعماله في دفع ارتقائه، وكذلك ضرورةَ هيمنة العقل على تصرُّف الإنسان تعزيزًا لقدرته على التمييز والحُكم. كما كنتُ قد بيَّنتُ أنَّ عمرَ الإنسان لا يحولُ دون استمرار تقدُّمه الروحيّ إدراكًا ونزعاتٍ، وأنَّ لطبيعة المثَل الأعلى الذي يعتنقُه الشخص ولمفهوم المُطلَق لديه تأثيرًا بالغًا في تعجيل ارتقائه الروحيّ أو تأخيره.

 


إستنصارُ الله تعالى لمُقاومة التجارب الدنيئة

لقد أدركَ مُؤسِّسُ الداهشيَّة ضعفَ الإنسان، بصورةٍ عامَّة، تجاهَ حاجات الجسد وجواذب الدنيا والوساوس السوداء، فاستحثَّ أتباعَ رسالته الروحيَّة على أن يبتهلوا إلى الله القدير ليُساعدَهم في مُقاومة التجارب الشرِّيرة أو الدنيئة، وذلك بواسطة كتابة "الرموز الداهشيَّة المقدَّسة" والصلوات. وفي كُتُبه "ابتهالات خُشوعيَّة" و"مُذكِّرات دينار" و"مُذكِّرات يسوع الناصريّ" و"بروق ورعود" وغيرها تضرُّعاتٌ وابتهالاتٌ تُساعدُ في مُغالبة الميول الشرّيرة والأَفكار الخبيثة. بيدَ أنَّ "صلاة داهش" التي يبتهلُ فيها إلى الله بلسان كلِّ إنسان تبقى هي الأَشمل على هذا الصعيد. ممَّا جاءَ فيها:

يا أبي وأبا البرايا، ارحَمْ ضَعفَنا الموروث،

شدِّدْ قلوبَنا كي نؤمنَ بقُدرتِك ونُحدِّثَ بعجائبك.

إغرسْ في أعماقنا بذورَ الحبِّ والشفقة والرحمة والحنان.

أبعِدْ عنَّا التجاربَ التي تُريدُ غوايتَنا

وإسقاطَنا في دياجير الخطايا.

سدِّدْ خُطواتِنا في طريق الحقِّ والنور واليقين.

أبعِدْ عنَّا الأَفكارَ الدنيئة، ولا تدَعها تقرُب منَّا.

أنتَ خالقُ البرايا وما فيها، فرحمتُكَ وحنانُكَ

يسَعانِ كلَّ الكائنات، معلومِها ومجهولها.

أشفِقْ علينا، يا ألله،

ولا تُحاسِبْنا مثلما نستحقُّ فنَهلك...[1]

والضعفُ الموروث أَي الضعف النفسيّ تجاه الإغراءات الدُّنيَويَّة والتجارب السُّفليَّةيخضعُ له جميعُ البشر؛ وهو ينتقلُ إلى كلٍّ منَّا بالتقمُّص. فنحن نرِثُ سيّالاتِنا من والدينا مباشرةً أَو غير مُباشرة. ولذلك قد يهلكُ أكثرُنا إذا لم يرحمنا الله فيُشفِق على ضعفنا ويُبعِد عنَّا ما يُمكنُ أَن يُغويَنا ويُسقطَنا. من أجل ذلك كان الابتهالُ إلى الله واستنصارُه ضرورةً لا مندوحةَ عنها للراغب في الخلاص.

وهنا لا بُدَّ من إيضاح. إنَّ استنصارَ الله بصفته نبعَ الرحمة والقدرة لا يعني الاتِّكالَ على عطفه وشفقته دون العمل بوصاياه. ففي خاتمة "صلاة داهش":

أَيُّها الأَبُ العطوف!

كلُّ مَن أَلقى اتِّكالَه عليك وعملَ بوصاياك، وضحَّى من أجل اسمِك، واحتقرَ رغباتِه الأرضيَّة، ونبذَ الدُّنيويَّات، وعطفَ على البُؤساء، وبشَّرَ بعجائبك، وآمنَ بنبيِّكَ الحبيب الهادي، فله السعادةُ والسماء...[2]

وجديرٌ بالإيضاح أنَّ الإيمانَ بـ"النبيِّ الحبيب الهادي" يعني الإيمانَ بأَيَّة رسالة روحيَّة من خلال الإيمان برسولها. فعبارة "النبيّ الحبيب الهادي" تشمل كلَّ نبيٍّ ورسولٍ وهادٍ روحيّ.

إذًا إيمانُ الإنسان من غير تجسيدٍ عمَليّ للمبادئ والتعاليم التي يُؤمنُ بها لا يُؤدِّي إلى الارتقاء الروحيّ ولا إلى استحقاق الرحمة الإلهيَّة. وهذا يقعُ في خطِّ التعاليم القرآنيَّة وفقَ الآية القائلة: {ومَن عملَ صالحًا من ذكَرٍ أَو أُنثى وهو مُؤمِنٌ فأُولئك يدخلون الجنَّةَ يُرزَقون فيها بغير حساب.} (غافر: 40) كذلك في التعاليم المسيحيَّة وردَ ما يُماثلُ ذلك في رسالة يعقوب الأُولى، إذْ قال: "ماذا ينفعُ الإنسانَ، يا إخوتي، أَن يدَّعيَ الإيمانَ من غير أَعمال؟ أَيقدرُ هذا الإيمانُ أَن يُخلِّصَه؟... أَنتَ تُؤمنُ أَنَّ الله واحد؟ حسنًا تفعل. وكذلك الشياطينُ تُؤمنُ به وترتعد...ترَون، إذًا، أَنَّ الإنسانَ يتبرَّرُ بالأَعمال لا بإيمانه وحده... فكما أَنَّ الجسدَ بلا روحٍ مَيت، فكذلك الإيمانُ بلا أَعمالٍ مَيت." (14-26) واقتصارُ الانتماء الدينيّ على الإيمان السطحيّ دون الأعمال الصالحة لدى أكثريَّة المؤمنين، في جميع الأديان، سبَّب انتشارَ الفساد واستعارَ الاقتتال بين العصبيَّات الدينيَّة العمياء القائمة على الجهل والغباء.

 

نجاحُ الارتقاءِ الروحيّ يقتضي

قَهرَ الدوافع والميول الخبيثة والمُقاومةَ المُستمرَّة

ذكَرتُ في حلقةٍ سابقةٍ أنَّ بدايةَ طريق الارتقاء الروحيّ تكونُ في الارتداع عن أعمال الشرِّ والرذيلة، وهذا ما شدَّدَت عليه الأَديانُ جميعُها كما الشرائعُ المدنيَّة. لكنَّ الارتقاءَ الحقيقيَّ يتمثَّلُ في قهر الميول الدنيئة والدوافع الخبيثة التي هي مصادرُ الشرور والرذائل. ومن أجل هذه الغاية أراقَ الدكتور داهش حبرًا كثيرًا تمثَّلَ في قطَعٍ مُضيئةٍ مُنبثَّةٍ في شتَّى كُتُبه. لكنِّي سأكتفي بفقرتَين أقتبسهما من رسالةٍ روحيَّةٍ أوحاها إلى الدكتور داهش روحُ الأَب الصالح نوح بطريقةٍ إعجازيَّة، إذ ارتسمَت الرسالةُ بطَرفةِ عينٍ على بضعِ أوراقٍ بيضاء في جلسةٍ روحيَّة. كما تجسَّدت الحمامةُ التي أَطلقَها نوح من فُلكِه بعد انحسار الطوفان، وبقيَت في منزل الرسالة الداهشيَّة عدَّةَ أَشهر قبل عودتها إلى العالَم الذي هبطَت منه. وقد ألمعتُ إلى هذه الجلسة الروحيَّة ومُعجزة تجسُّد الحمامة سابقًا[3]. يقولُ الأَبُ الصالحُ مُخاطبًا أتباعَ الرسالة السماويَّة الجديدة:

يا أحبَّائي، هنيئًا لكم، وهنيئًا لِمَن يثبتُ إلى النهاية.

وهنيئًا لِمَن يتغلَّبُ على التجارب ويسحقُها بموطئِ قدَمَيه.

وهنيئًا لِمَن يرفعُ عنه المُغرَيات التي ستعترضُ سَيرَ حياته.

وهنيئًا لِمَن يطعَنُ بحربةِ إيمانه ميولَه الضعيفة، ويُميتُها وهي لا تزالُ في مهدِها، قبلَ أن يستفحلَ أمرُها وتقضي هي عليه بغَدرها وخيانتها.

لقد عملتُ في حياتي صلاحًا، فكافأَني اللهجلَّ اسمُهمُكافأةً لا يُمكنُني أن أصفَها لكم (...)

لا يأخُذنَّكم ضَعفٌ أو وَهَن.

قاوِموا التجاربَ الوضيعة.

لا تكِلُّوا ولا تمَلُّوا قبل أن تأتيَ ساعةُ الندم فلا تُجديَكُم نفعًا.

أمَّا الآنَ فالفُرصةُ أمامكم.

لا يفرحْ أيٌّ منكم بأنَّهُ قد عرفَ (الحقيقة) في هذه الرسالة، وبأنَّهُ صارَ بمنجاةٍ من كلِّ شيء، فالتجاربُ العديدةُ لا تزالُ أمامكم. وها قد سبقتُ وأخبرتُكم أن تُقاوموها...[4]

من وصيَّة الروح المقدَّس، روح الأَب نوح، نستنتجُ أنَّ النجاحَ في الارتقاء الروحيّ لا يتمُّ بالابتعاد عن الشرور والمُغرِيات فحَسب، بل بمُقاومة دائبة دائمة للتجارب الوضيعة لا تنتهي إلاَّ بانتهاء حياة الإنسان. فالثَّباتُ يجبُ أن يكونَ حتَّى النهاية. وهذا يتَّفقُ مع قول السيِّد المسيح على لسان تلميذه يوحنَّا: "ومَن غلبَ وثابرَ على خدمتي إلى النهاية أُعطيه سلطانًا على الأُمَم... وأُعطيه أيضًا كوكبَ الصبح."[5]

من أَجل ذلك، ولكي لا يظنَّ المؤمنون بالرسالة الروحيَّة الجديدة أَنَّهم أَصبحوا في مَنجاةٍ من الهلاك بمجرَّد إيمانهم بالدكتور داهش، كانت تهبطُ رسائلُ روحيَّة إلى كلٍّ منهم مُرتسمةً على أَوراقٍ فارغة تكون في قبضات أَيديهم أَو أمامهم، أو يختارونها من "جارور الرموز المقدَّس"[6] وهي مطويَّة مجهولة المضمون من بين عدَّة أَوراقٍ أُخرى مطويَّة مثلها؛ فإذا هي تُخاطبُهم بأَسمائهم، وتُوضِّحُ لهم أُمورًا روحيَّة مُعيَّنة، وتُحذِّرُهم من السقوط. والسقوطُ لا يعني بالضرورة سقوطًا يشملُ جميعَ سيّالات الإنسان؛ فقد يسقطُ سيّالٌ تُسيطرُ عليه نزعةُ الحسَد، أو   الإيذاء، أو آخرُ تُهيمنُ عليه نزعةُ الأنانيَّة أو الكذب، أو ثالثٌ تجرفُه نزعةُ الكبرياء أو التسلُّط والغطرسة أو الافتراء، أو رابعٌ تستعبدُه شهوةُ الجنس، أو شهوةُ المال، إلخ... فالسقوطُ قد يتأَتَّى من عدم الثبات في مُقاومة الميول الفاسدة والدوافع الخبيثة والتجارب السُّفليَّة مُقاومةً شديدة، كما قد يعني وِقفةً يقفُها المُؤمنُ مُناصِرًا فيها الباطلَ على الحقّ، أو القويَّ على الضعيف، أو الظالمَ على المظلوم؛ أو وِقفةً تنهزمُ فيها شجاعتُه وتبرزُ جبانتُه عند امتحان صلابة إيمانه.

موقفُ الجبانة أَو التردُّد ذكرَه لي الدكتور داهش في معرض حديثه عن بطرس الرسول. فهذا الرسول الكبير الذي رافقَ السيِّدَ المسيح منذ بداية رسالته مُنقطعًا إليه، سائرًا على خُطاه، أَنكرَ ثلاثَ مرَّات أَنَّه يعرفُ يسوع الناصريّ وأن يكونَ من تلاميذه، بدلَ أن يشهدَ له أمام المحكمة، وذلك حينما رآه بعضُ اليهود في ساحة دار رئيس الكهنة، وأرادوا أَن يُثبتوا أنَّه من أتباع يسوع.[7] فبنُكرانه وتأكيده قولَه بالحلَف أسقطَ سيَّالَه المُتردِّد. هذا السيَّال المُتذبذِب على حَدِّ قول الدكتور داهش لي هو الذي كاد يُغرِقُ بطرس حينما رأَى يسوع، في الليل، ماشيًا على البحر، فارتعبَ مع آخرين من التلاميذ. "فقال لهم يسوع في الحال: تشجَّعوا، أَنا هو، لا تخافوا." فقال له بطرس: "إن كنتَ أنتَ هو، يا سيِّد، فمُرْني أَن أَجيءَ إليك على الماء." فأَجابه يسوع: "تعال." فنزل بطرس من القارب ومشى على الماء نحو يسوع. ولكنَّه خاف عندما رأَى الريح شديدة، فأَخذ يغرق، فصرخ: "نَجِّني، يا سيِّد." فمدَّ يسوع يدَه في الحال وأَمسكَه وقال: "يا قليلَ الإيمان، لماذا شكَكتَ؟"[8] وسيّالُ بطرس المُتردِّد نفسُه خاطبَه السيِّدُ المسيح قائلاً، بعد أَن عاتبَه بطرس على تصريحه لتلاميذه بأَنَّه سيتأَلَّم ويموت قتلاً: "ابتَعِدْ عنّي، يا شيطان، فأَنتَ عقبةٌ في طريقي، لأَنَّ أَفكارَكَ هذه أَفكارُ البشر لا أَفكارُ الله."[9] لكنَّ بطرس الرسول عاد فرفعَ نفسَه من الهُوَّة التي سقطَ فيها، بعد أن بكى بُكاءً مُرًّا وندمَ على نُكرانه، وبعد أن طلبَ إلى مَن أرادوا صلبَه في روما أَن يصلبوه مقلوبًا لأنَّه لا يستحقُّ أَن يموتَ ميتةَ مُعلِّمه الإلهيّ.

وقد يُعطى شخصٌ ما نعمةً تتمثَّلُ بصورة معنويَّة كالموهبة والسلطة، أو بصورة مادِّيـَّة كالثروة المُفاجئة؛ فإذا لم يعرف كيف يُحافظ على نعمته، فيُسقِط سيّالاته، فإذْ ذاك يفقدُ النعمة. وقد عرفتُ غيرَ قليلين مِمَّن أَتَتهم نِعَمٌ مختلفة؛ لكنَّهم فقَدوها من جرَّاء عدم التزامهم السلوكَ القويم الذي به يُحافَظ على النعمة. وقد أعطى الدكتور داهش مثلاً في أُقصوصة "مِلياردير يموتُ جوعًا"[10] على بخيلٍ أنعم الله عليه، لسببٍ ما، بثروةٍ طائلة مُفاجئة؛ لكنَّه بدلَ أَن يستفيدَ منها في أَعمال الإحسان وفي إغناء شخصه وترقية نفسه بالتغلُّب على نزعة البُخل فيها، يزدادُ تقتيرًا وبالتالي تسفُّلاً بصَرف جُلِّ اهتمامه إلى تكنيز المال وكأنَّه ربُّه المعبود، فيستحقّ، إذْ ذاك، أن يفقدَ نعمتَه. كذلك في أُقصوصة "نعنوع ومُنَعنَع"[11]أعطى الدكتور داهش مثلاً للعاقبة الوخيمة التي يصلُ إليها مَن تأتيه النعمة، فتكون عليه نقمة، لغلبة اللؤم على طباعه وعدم اكتراثه بتحسين حاله.

وفقدانُ النعمة أشار إليه القرآنُ في الآية الكريمة القائلة: {وضربَ اللهُ مثلاً قريةً كانت آمنةً مُطمئنَّة يأتيها رزقُها رغَدًا من كلِّ مكان، فكفرَت بأَنعُم الله، فأَذاقَها اللهُ لباسَ الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.} (النحل: 112)

 

أَنواعٌ خَطِرة من التجارب الدنيئة

والتجاربُ الدنيئة كثيرة. لكنَّ بينها أنواعًا طاغيةً تستَدعي مُقاومةً قويَّةً ومُجاهدَةً دائمة، فيحسنُ إيضاحُ أهمِّها؛ ويُمكنُ إجمالُها بأربعة:

أَوَّلاً، تجاربُ العِشرة السيِّئة والاختلاط الأعمى:

طالما سمعتُ مُؤسِّسَ الداهشيَّة يُوصي أتباعَه بالحذَر من العِشرة السيِّئة ويُبدي محاسنَ تضييقِ دائرة العِشرة، وينصحُ بالاحتراس من الاختلاط العشوائيّ المتكرِّر بقاصِدي أماكن اللَهو العامَّة، ولا سيَّما المسابح المشتَرَكَة؛ ذلك بأنَّ الدرجات الروحيَّة للسيَّالات مُتفاوتة في الناس، وأكثرُهم تغلبُ عليهم النزعاتُ السُّفليَّة أَو الدُّنيَويَّة. وإذا حدثَ تفاعلٌ عاطفيٌّ قويّ بينَ مَن تكونُ سيَّالاتُه راقية ومَن تكونُ مُتدنِّيةوليس من برهانٍ فوريٍّ يُبيِّنُ ذلك فسيَّالاتُ الاثنَين ستتشابك؛ وفي أغلب الأَحيان، ستهبطُ السيَّالاتُ الروحيَّةُ الأَرقى إلى مُستوى الأَدنى. بل إنَّ مُؤسِّسَ الداهشيَّة أَكَّدَ لي، إذْ كنتُ أُرافقُه في أحد المخازن التجاريَّة بباريس، عام 1978، أَنَّ الرغبةَ الشديدة في شيءٍ ما، حتَّى لو كان جمادًا، يجعلُ الراغبَ يُدخِلُ فيه بعضًا من سيّالاته. فقد كنتُ أختارُ مجموعةً من الصُّوَر الكبيرة التي تُمثِّلُ حيواناتٍ مُتنوِّعة، وكانت بجانبي فتاةٌ تختارُ من المجموعة نفسها. وقد شعرتُ بأنَّ نظرَها تعلَّقَ بصورةٍ اخترتُها. وإذا الدكتور داهش يرتعش بالروح العَليّ، فيبيضُّ وجهُه بعضَ الشيء، وتتغيَّرُ ملامحُه، ويقولُ لي بصوت الروح: "أَعطِها إيَّاها، فقد دخلَ سيّالٌ منها في الصورة." وهذا يوضِحُ قولَ السيِّد المسيح: "مَن نظرَ إلى امرأةٍ ليشتهيَها فقد زنى بها في قلبه."[12] فالرغبةُ الشديدة تقومُ مقامَ العمل وتفعلُ فعلَه في النفس. وكذلك المَيلُ القويّ؛ فالبُغضُ قد يكون كالقتلِ في تسفيله للإنسان. والمُهمُّ في ذلك أَنَّه إذا حدثَ هبوطٌ في سيّالات الشخص بفِعل هذا التشابُك أو الاندماج، فهذا الهبوطُ يكونُ له نتائجُ وخيمة على مَن هبطَت درجتُه الروحيَّة، فتتولَّدُ فيه أمراضٌ خبيثةٌ أو تحصلُ له مصائبُ أو أحداثٌ قد تُقصِّرُ عُمرَه، أو تودي بحياتِه، لأنَّ ما يُصيبُ الإنسانَ رهنٌ بدرجته الروحيَّة واستحقاقه. وقد مرَرتُ بنفسي في هذه التجربة، وخلصتُ منها بفِعلِ رحمة الله ومُساعدةٍ روحيَّةٍ استَحقَقتُها. كما علمتُ، في أثناء مُلازمتي للدكتور داهش، بعدَّةِ أحداثٍ مأساويَّة نتجَت عن العشرة السيِّئة. فإذا عاشرَ إنسانٌ صادق، مثلاً، إنسانًا غلبَ الكذبُ على سيّاله حتّى أسقطَه إلى الجحيم، وتوثَّقت أواصرُ الصداقة والتعاطُف بينهما، فستتشابك سيّالاتُهما، حتَّى يغلبَ الكذبُ على الصادق. وهكذا يحدثُ للعفيف الذي يُوطِّدُ صداقتَه مع الفاجر، أو للكريم مع البخيل، أو للمتكبِّر مع المتواضع، إلخ.

 

ثانيًا، العاداتُ السيِّئة:

لا تتكوَّنُ العادةُ إلاَّ بتَكرار عملٍ ما يراهُ الإنسانُ مُستَحَبًّا لأنَّه يُشبِع ميولاً مُعيَّنةً فيه. وهذا التكرارُ المقرونُ بالرغبة القويَّة يجعلُ العملَ المُعيَّنَ آليًّا يقومُ به صاحبُه بجهدٍ أقلّ. وبما أنَّ الرغبات قد تكونُ ساميةً أو دنيئة، فالعاداتُ السيِّئة تتكوَّنُ من تكرارِ أعمالٍ مُعيَّنة مقرونةٍ برغباتٍ وضيعة.

وإذا ما استَحكمَت العادةُ السيِّئةُ في الشخص أصبحَت لدَيه أشبهَ بطبيعةٍ ثانيةٍ يصعبُ كثيرًا التغلُّبُ عليها، لأَنَّ تأثيرَها يكونُ قد أحدثَ تغييرًا في سيَّالات الإنسان وبالتالي في دماغه ووظائفه؛ من مثل ذلك عادةُ الشذوذ الجنسيّ والتخنُّث، أو التهتُّكُ وارتداء الملابس غير المُحتشمة، أو إدمانُ المُخدِّرات أو المُسكِرات.

فالدكتور داهش كان يعتبرُ الشذوذَ الجنسيَّ عملاً مُنكَرًا وانحرافًا عن الغاية التي من أجلها سمحَت المشيئةُ الإلهيَّة بمُمارسة الجِنس بُغيةَ التناسُل، بعد عصيان آدم وحوَّاء وطردهما من الفردَوس الأرضيّ. وهذا الأمر سأَعودُ إليه في بحثٍ لاحق عندما أتحدَّث عن الزواج. والتخنُّث فرعٌ من أصل، أو قد يكون بدايةَ انحدارٍ يُؤدِّي إذا استمرَّ إلى الانحراف. والتهتُّكُ كتبَ الدكتور داهش كثيرًا في انحطاط صاحبه أو صاحبته وتسبيبه الهلاك له. وارتداء الثياب غير المُحتشمة قد يُؤدِّي تكرارُه إلى تعزيز الميول الشهوانيَّة واستثارة الرغبات الوضيعة عند الآخرين فإلى الخلاعة. وإدمانُ المُخدِّرات كان الدكتور داهش يرى فيه تسميمًا للعقل والجسَد، وبالتالي تسفيلاً للسيّالات. أمَّا المُسكِرات فلم يستحسنْها بجميع أنواعها؛ وكثيرًا ما سمعتُه يقول إنَّ سيَّالاتها رديئة. لكنَّه لم يكن يستنكر القليلَ منها إذا اتُّخِذَ لغايةٍ صحِّـيَّة.

وأَذى المُسكِرات والمُخدِّرات أَكَّدَته الدراساتُ العلميَّة. فقد ظهرَ أنَّ 50% مِمَّن يُدمنون المُسكِرات يبقَون مُدمنين أو يموتون باكرًا، وأنَّ 20% منهم فقط يتخلَّصونَ نهائيًّا من المُسكِرات. أمَّا المُخدِّرات فالذين يخلصون منها بمُختلِف الوسائل لا يتعدَّون ثُلثَ المُدمنين. والجديرُ بالذكر أنَّ الدراسات أظهرَت أَنَّه بقَدر ما يكونُ الإنسانُ ذكيًّا ومُثقَّفًا ومُستقرًّا في حياتِه العاطفيَّة والمعيشيَّة يسهلُ عليه التغلُّبُ على هذه العادة السيِّئة.[13]

لكنَّ عادةَ الانحراف الجنسيّ، إذا لم يُقاومها صاحبُها مُقاومةً عنيدةً مُتحمِّلاً الانزعاجَ الشديدَ من جرَّاء عدَم إشباع رغبته الشاذَّة، فإنَّها تُكيِّفُ سيَّاله بكيفيَّتِها حتَّى إذا عادَ السيَّالُ نفسُه إلى تقمُّصٍ جديدٍ أحدثَ في جينات الجنين انحرافًا جنسيًّا أثَّرَ في دماغه وبالتالي في سلوكه.

ولذا أكَّدَت الدراساتُ العلميَّةُ وجودَ عُنصرٍ فطريٍّ في الجنسيَّة المِثليَّة Homosexuality يُصبحُ تغييرُ هذه العادة السيِّئة معهُ أشقَّ وأكثرَ تعذُّرًا. من أجلِ ذلك يُؤكِّدُ سيليغمان Seligman، واضع الكتاب النفيس "ما بوسعِكَ تغييرهُ وما ليسَ بوسعِك" أَنَّ العلاجَ لم يُثبت جدواهُ معهم.[14]

 

ثالثًا، الأَحقادُ الدفينة:

عندَ موتِ الإنسان تنطلقُ سيَّالاتُه، لكنَّها لا تفنى. بل إنَّ النَّزَعات القديمة والرغبات القويَّة التي كانت ناشطة فيها تبقى مُنطبِعَةً في السيَّالات، حتَّى إذا تقمَّصَ السيَّالُ في مولودٍ جديد، انتقلَت معهُ تلكَ النَّزعات والرغبات، ثمَّ استيقظَت فيه بعد النُّضج الجسَديّ المطلوب. وهكذا يُطِلُّ الحقدُ والحسدُ والعدائيَّةُ والخيانةُ وما إلى ذلك مِمَّا كانَ مُوجَّهًا ضدَّ فردٍ مُعيَّنٍ أو جماعةٍ معيَّنة، ليتَّجِهَ ضدَّ أشخاصٍ تُحييهم سيَّالاتٌ كانت في دوراتٍ حياتيَّةٍ سابقة هي المُستهدَفَة.

مِثالُ ذلك ما أوضحَهُ مُؤسِّسُ الداهشيَّة عن نبوءةٍ مُفصَّلةٍ موحاة عن مصرع الرئيس جون كنِدي، نشرَتها صحيفةُ "الجريدة" البيروتيَّة في 29/11/1963. فقد انتقلَ إلى الرئيس الأَمريكيّ أحدُ سيَّالات أبراهام لِنكولْن، كما انتقلَ إلى أُزوالد، قاتِلِه، أحدُ سيَّالات بوث، قاتلِ لِنكولن. ونزعةُ العدائيَّة المُستفحِلَة التي كانت ناشطةً في سيَّال بوث بقِيَت فيه عندَ انتقاله إلى تقمُّصه الجديد. وعندما تسلَّمَ كنِدي مقاليدَ الرئاسة، استيقَظَت في أُوزالد نزعتُه العدائيَّة القديمة، ودفعَتهُ إلى قتلِ غريمه ثانيةً. ومن أجلِ تنفيذِ ذلك يتذرَّعُ العقلُ الواعي بمُبرِّراتٍ إيهاميَّة Rationalization لإشباع النزعة الجارفة.

ومن أدَلِّ الأَمثلة على عودةِ السيَّال حاملاً الرغبة العدائيَّة نفسها، ما أوضحَهُ الدكتور داهش عن تقمُّصات قايين (قابيل). فقد تقمَّصَ أحَدُ سيَّالاتِه في يهوذا الإسخريوطيّ، وعادَ هذا ليتقمَّصَ سيَّالٌ له في عبد الرحيم الشريف الخليليّ الذي خانَ مُؤسِّسَ الداهشيَّة، وليتقمَّصَ سيَّالٌ آخر له في جوداس، قاتل غاندي.

إنَّ الأَذكياءَ الراغبينَ في الارتقاء الروحيّ عليهم أن يُدرِكوا أنَّ كثيرًا من نزعاتهم العدائيَّة تجاهَ أشخاصٍ مُعيَّنين أو جماعاتٍ مُعيَّنة قد يكونُ مصدرُها في تقمُّصاتٍ سابقة، وأنَّ عليهم أن يُقاوموها مُقاوَمَةً جبَّارةً، ولا يستسلِموا لتبريراتٍ إيهاميَّةٍ تُزيِّنُها لهم أحقادُهم المُزمِنة الدفينة. والدكتور داهش أعطى أمثلةً كثيرةً على مثل هذه الحالات في كتابه المُتعدِّد الأَجزاء "قِصَص غريبة وأساطير عجيبة"، ليتَّعظَ بها الأشخاصُ الذين تُمثِّلُهم، فيُقاوموا ميولَهم الخبيثة وأَحقادَهم المكبوتة.

والتبريرات الإيهاميَّة تعني لجوءَ الشخص المَعنيّ إلى تبرير شعوره العِدائيّ تبريرًا لا يستندُ إلى أَيَّة قاعدة عقليَّة أَو أُسُسٍ واقعيَّة، بل يستندُ إلى انفعالاتٍ مُبهَمة مكبوتة صادرة عن حقدٍ دفين. لكنَّ صاحبَ الشعورَ العدائيّ، من أَجل أَن يتهرَّبَ من الشعور بالذَّنب تجاهَ نزعته العدائيَّة، يلجأُ بطريقةٍ عفويَّةإلى إحاطة نزعته بتبرير "مُعقلَن" ليس، في الواقع، سوى تبريرٍ إيهاميّ كاذب.

هذه الأحقادُ التقمُّصيَّة الدفينة يجبُ تمييزُها عن التوهُّم المرَضيّ الذي قد يطرأُ أَحيانًا على إنسانٍ ما بفِعل لوثة عقليَّة تُصيبُ وظائفَ بعض المراكز في دماغه، كما الحال في الشيزوفرينيا. فقد أَكَّد لي الدكتور داهش أَنَّ سببَ الإصابة بهذه اللوثة العقليَّة المعيَّنة هو اتِّساعُ الفارق لدى المُصابين بها بين درجة السيَّال الأعلى فيهم ودرجة السيَّال الأدنى، بحيثُ يُصبحُ التفاهمُ بينهما مُستحيلاً، فيحدثُ، إذْ ذاك، ما يُسمَّى بانفصام الشخصيَّة. وعندما يُسيطرُ السيّالُ الأدنى على نشاط الإنسان وتفكيره، تتجلَّى نتائجُ اللَوثة العقليَّة، فيبدو الإنسانُ في تصرُّفاته كأنَّما هو غير إنسان. حينئذٍ قد يرى المُصابُ أَشياءَ لا يراها السليم، أو يسمعُ أصواتًا ليست في الواقع المادّيّ، أَو تنتابُه أفكارٌ مُتسلِّطة عن أُمورٍ أَو أَشخاصٍ معيَّنين لا أساسَ لها من الصحَّة. والجديرُ بالذكر أنَّ المُصابَ بالشيزوفرينيا يستحيل، عادةً، إقناعُه بأَنَّ ما يراه أو يسمعُه أو يتهيَّأُ له أَنَّه يشعرُ به أَو يعرفُه إنَّما هو من إنتاج بعض سيَّالاته، وبالتالي جهازه العصَبيّ، وليس له أيّ أساس في واقع الناس.

رابعًا، الوساوسُ الخبيثة:

المقصودُ بها هنا لا الأَفكار المتسلِّطة العاديَّة، من مثل تكرار غَسل اليدَين أو تنظيفِ مكانٍ ما دونما مُبرِّر أَو إعادة إقفال الباب أو الخزانة تكرارًا ممَّا اصطُلِحَ على تسميتِه بـ OCD(Obsessive-Compulsive/Disorders)، بل الأَفكار الخبيثة، الدنيئة أو الشرِّيرة، التي تستَحوذُ على الإنسان فيُصبحُ لها أسيرًا، ولا يفعلُ الطبُّ النفسيُّ ولا العقاقيرُ في الشفاء منها أكثر الأَحيان؛ إذْ إنَّ أكثريَّةَ المُصابين تعودُ إليهم أعراضُهم حالما ينقطعون عن مُتابعة العلاج الذي تنحصرُ وظيفتُه في إزالةٍ مُؤقَّتةٍ للأعراض عندَ فئةٍ قليلة من المُصابين.[15] ما سرُّ هذا الاستعصاء؟

إنَّ الطبَّ النفسيَّ الحاليَّ والطبَّ الجسميَّ المعنيّ بالأَعصاب ما زالا عاجزَين عن فَهم حقيقةِ الإنسان النفسيَّة. فسيَّالاتُ الإنسانأو طاقاتُه النفسيَّة الجوهريَّةالتي تُؤثِّرُ في أفكاره ونزَعاته وبالتالي سلوكه ليست مُنحصِرَةً في جسمه، وعلى الأَخصِّ في دماغِه وسائر جهازِه العصَبيّ، بل هي جزءٌ من شبكةٍ من السيّالات لها امتداداتٌ في الأَرض أو في عوالمَ سُفليَّة أو عُلويَّة. وأوضحُ ما يشرحُ ذلك ما أدرجَهُ الدكتور داهش في "حُلم رهيب".[16] يقول:

واقتادَتني إلى جبل المعرفة، ومن قمَّتِه كنتُ أُشاهدُ سيَّالاتي الموجودةَ بعوالمَ عديدة، منها عوالِمُ لا بأسَ بها، ومنها عوالِمُ تعيسة. وبِعَينِ العَجَب العظيم كنتُ أُشاهدُ سيَّالاتي الموجودة بعوالِم مُنحدرة الدركات وهي تُرسلُ إشعاعاتِها لسيَّالاتي الأُخرى الكائنة في عوالِمَ رفيعة، حاضَّةً إيَّاها على ارتكاب الممنوعات والمُحرَّمات بُغيةَ إسقاطها وسَحْبِها إلى الدركات المُنحدِرة بالأَغوار السحيقة حيثُ تقبعُ سيَّالاتي. ففهمتُ، إذْ ذاك، أنَّ ما يُساورُنا من رغباتٍ لارتكاب المُحرَّمات هو منَّا وفينا، أي إنَّ سيَّالَنا الموجودَ بِدَرَكٍ سحيقٍ هو الذي يعملُ جاهدًا ليدَعَنا نسقط، فإمَّا أن يفشلَ أو يُكتبَ له الفوز. إذًا لا يستطيعُ أيُّ سيَّالٍ خارجيٍّ أن يدعَنا نسقط، فهذا الأَمرُ ممنوعٌ منعًا باتًّا. وإذا سقَطنا، فيكونُ سقوطُنا من سيَّالِنا الذي نحنُ أوصَلناهُ إلى دركٍ سُفليّ، فأصبحَ يرغبُ بالانتقام منَّا، وجَعْلِنا ننقادُ لإيحائه بواسطة الاشعاع الذي يُرسلُه لكي يوقِعَنا بشِباكِه، وهنا الطامَّةُ الكبرى.

إذًا رُقيُّنا أو انحدارُنا يكونُ بنسبة مُقاومتنا وجهادنا أو خضوعنا واستسلامنا لوَسوَسات سيَّالنا السُّفليّ. فإذا انْصَعنا لرغبتِه فنفَّذنا أوامرَه وارتكَبنا الممنوعات، فإذْ ذاك لا بُدَّ من أن نسقطَ وننحدرَ لدَرَكِه، وإذا لم ننصَعْ لأَوامره ونواهيه نرفعُ سيَّالَنا ونوصلُه إلى ملإٍ عُلويّ. وهذه هي العدالةُ الإلهيَّة، إذْ يُجازى كلٌّ منَّا بحَسَب عمله، أو بالأَحرى نحن الذين نُجازي أنفُسَنا فنوصلُ سيَّالاتنا إلى درجةٍ عُلويَّةٍ أو درَكةٍ سفليَّة. وما ربُّكَ بظالِمٍ لخلائقه، إنَّما لأَنفسِهم يظلِمون.

في ضوء هذا الإيضاح الروحيّ يُمكنُ أَن نفهمَ أَنَّ كثيرًا من الأَمراض العقليَّة التي تُؤدِّي إلى نوباتٍ عصبيَّة من الجنون الجزئيّ الآنيّ المُتَّجه إلى العُنف أَو الرذيلة أو الشرّ عامَّةً قد يكونُ مصدرُها سيّالاتٍ سُفليَّة تابعة للمريض تتسلَّطُ على قواه العقليَّة. ولأنَّ سيّالاته هي خارج جسده، لكنَّها تُرسِلُ إشعاعاتِها عن بُعد، فمن المُحال القضاء على أسبابها بالعقاقير؛ فالأدوية يُمكنُ أَن تحجبَ تأثيرَها عن الدماغ لوقتٍ معيَّن، فإذا زال تأثيرُ الدواء، عاد فعلُها مثلما كان. ولِذا فلا يوقِفُ أو يُخفِّفُ من تأثيرها إلاَّ مُقاومةٌ شديدة مُستمرَّة لها تقومُ بها النفسُ بمجموع طاقاتها مهما عانى الشخصُ المعنيُّ من انزعاج وإرهاق.

أَمَّا إذا سمحَت العدالةُ الإلهيَّة للسيَّالات السفليَّة التابعة أو غير التابعة للشخص أن تحتلَّ جهازَه العصبيّ، فإذْ ذاك يحدثُ الجنونُ المُطبِق. وقد وصف الدكتور داهش هذا النوع من الجنون وصفًا واقعيًّا مُؤثِّرًا في أُقصوصتَين من أَقاصيصه.

يقولُ في أُقصوصة "يا لَلهَول!"[17] واصفًا شابًّا كان في حالة الثورة الجنونيَّة، وهو يُحاولُ تهدئتَه:

وإن قُدِّرَ لكَ أَن تغفلَ لحظةً، أَو تهنَ قواك لبُرهة، فإنَّكَ تتأَكَّد أَنَّك ستكون ضحيَّةَ هذا الشابّ المضّيِّع للعقل بما وُهِبَه من قوَّة خارقة مِمَّا اختزنَته أَعصابُه من مئات السيَّالات الغريبة عنه والمُحتلَّة أعصابَه، والقاطنة في نفسه..."

وقد ابتهلَ الدكتور داهش إلى الله ليشفيَه مع علمه أَنَّها عدالةُ السماء، فقال:

وارحَمْ هذا الشابَّ، وأَنقِذه مِمَّا ألمَّ به رغمًا عن تأَكُّدي أَنَّه يستحقُّ ما أَصابَه، مثلما نستحقُّ ما أصابنا ويُصيبُنا، لأنَّ عدالتَكَ حقَّة، إذْ تُجازي كلاًّ حسبَ استحقاقه دون زيادة أَو نقصان.

وقد وردَ في الأناجيل وصفٌ مُماثِل لمجنون كان يسكن المقابر ولا يقوى أحدٌ على ضبطه أو تقييده حتَّى بالسلاسل، إذْ كان يُقطِّعُها، فهُرِع إلى المسيح إذْ كان مارًّا في تلك الناحية، فأمرَ يسوع فرقةَ "الأرواح النَجِسة" التي كانت تحتلُّ أعصابَه أن تخرجَ منه. وإنَّما المقصود بـ"الأرواح النجسة" السيّالات السُّفليَّة التي كانت مُندمجة به؛ وكانت تُسمَّى بالشياطين.

 

الحَلُّ الحاسِم لنشاط السيَّالات الخبيثة

تُرى، ما الحَلُّ الحاسِم في حال استمرار الصراع المرير بين قوى الخَير وقوى الشرِّ في نفوسنا؟ أو في حال إصابتنا بمرَض انفصام الشخصيَّة من جرَّاء سيطرة سيّالٍ خبيثٍ علينا؟ أو في حال مُساورة الوساوس السُّفليَّة لنا تكرارًا؟

إنَّ السيّالات الخبيثة ما كانت لِتُسيطرَ على قوى النفس الإدراكيَّة أو النزوعيَّة لو وجدَتها شديدةَ المُقاومة لها. والوساوسُ السُّفليَّة ما كانت لِتغزوَ إنسانًا وتحتلَّ جهازَه العصَبيَّ لو كانت نفسُه منيعةً ضدَّ هجماتها. فالأعداءُ كما الجراثيم لا تفتكُ إلاَّ بالكِيان الضعيف المُقاومة، الواهنِ المناعة. فلو لم تجد السيّالاتُ الخبيثة القابعة في عوالمَ سُفليَّة أرضًا خصبةً لها، أَي سيّالاتٍ رديئة تُرحِّبُ بأَن تبذرَ فيها بذورَها، لَكانت ارتدعَت عن وسوساتها ومُحاولاتها الانتقاميَّة. وقد هَدانا مُؤسِّسُ الداهشيَّة إلى حَلٍّ حاسِم، في مِثل هذه الحالة، عرضَه في قصَّة "الشجرة المشطورة لقسمَين".[18] فقد كانت هذه الشجرة تُعاني من الصراع الشديد الدائم بين ميول الخَير وميول الشرِّ فيها، وكان سيَّالُ الخير في الفرع الأَيمن، وسيَّالُ الشرِّ في الفَرع الأيسر. فلمَّا يئسَ القسمُ الصالحُ من إمكان رَدْع القسم الطالح عن أعمال الشرِّ التي كان يقوم بها (من مِثل اجتذابه بإشعاعه الخفيّ للأَفاعي لكي تتسلّقَ الشجرةَ وتلتهمَ بَيضَ الطير المحفوظ بأَعشاشها)، استجمعَ قواه وأَطلقَ ابتهالاً صارخًا إلى الله ليفصلَه عن فرعه الشرِّير. وإذا بالشجرة تنشطرُ قسمَين، ويتخلَّص الجانبُ الخَيِّر من مسؤوليَّة ما قد يرتكبُه الجانبُ الخبيث. وهذا المثَلُ يُذكِّرُنا بقول السيِّد المسيح: "إذا جعلَتكَ عينُكَ تخطأ فاقلَعْها، لأنَّه خيرٌ لكَ أَن تفقدَ عُضوًا من أَعضائك ولا يُلقى جسدُكَ كلُّه في جهنَّم."[19]

إذًا الابتهالُ الحارُّ الصادقُ المتكرِّر إلى الله مقرونًا بالرغبة الشديدة للانفصال عن السيّال السُّفليّ قد يُفضي إلى الانفصال عنه.

 

النَّدَمُ والأَلم

إرتداعُ الإنسان عن أعمال الشرّ، ومُقاومتُه للتجارب الوضيعة من أيَّةِ جهةٍ ساورَته، وقَمعُهُ الوساوسَ الخبيثة جميعُها تستدعي إرادةً تسلكُ طريقًا جِهاديًّا غالبًا ما يُؤدِّي إلى انتصارِه وخلاصِه. لكنَّ ذلك لا يتمُّ إلاَّ بتَوبةٍ صحيحةٍ يُؤَدِّي إليها ندَمٌ صادق وألَمٌ مُطهِّر.

من أفضل الأمثلة التاريخيَّة التي قدَّمَها الدكتور داهش على الندَم ما فعلَهُ داوود النبيّ بعدَ شُعوره بالذنب العظيم الذي اقترفَهُ حينما أرسلَ أُوريَّا إلى ساحة الحرب وأمرَ بِوَضعِه في الطليعة ليتعرَّضَ للنبال المسمومة.

فعفَّرَ [داوود] رأسَه بالرماد الحارّ،

وارتدى المُسوح،

ثمَّ سكبَ ندامةَ قلبِه الحزين أمام مَوطئ العَليّ،

كي يغفرَ له جريمتَهُ التي استحقَّ عليها السقوط."[20]

وكانَ داوود يُوقِّعُ مزاميرَه على قيثارته مُستغفرًا الله على ذنبه الذي دفعَهُ إليه ولَعُهُ بامرأة أُوريَّا.

ويُرشدُنا الدكتور داهش إلى طريق التوبة والندم في كثيرٍ من قِطَعِه الوجدانيَّة، ولا سيَّما تلك التي يضمُّها كتابُه "ابتهالاتٌ خشوعيَّة". ففيها يتحدَّثُ بفَمِ الإنسان الذي حطَّمَ الوصايا الإلهيَّة، ودخلَ في "أَتُّون الشهوات"، وشربَ "من خمرة إبليس الرجيم"، بعدَ أن تفيَّأَ "ظلَّ شجرة (معرفة الخير والشرّ) الجميلة المنظر"، ثمَّ قطفَ "من (ثمارها) الشهيَّة المُحرَّمة." وبصفتِه ابن الإنسان، حامل أوزار آدم، يرفع ضراعتَه إلى الله قائلاً:

إنَّني أضرعُ إليكَ أن ترحمَني،

أن تترأَّفَ بي،

أن تمدَّ يدَكَ الإلهيَّةَ وتنتشلَني من الهُوَّةِ المُرعِبَة

التي أصبَحتُ في أعماقها السحيقة الرهيبة المخاوف.

فالندمُ هو سبيلي لغُفرانِك الإلهيّ الشامل،

والحزنُ القاتلُ هو أملي برحمتِكَ اللانهائيَّة،

ودُموعي الهتَّانة تضرعُ لأُلوهتِك أن تقبلَ توبتي الصادقة،

فلولا رحمتُكَ وغُفرانك، لَما استطاعَ أيُّ بشريٍّ

أن ينجُوَ من جهنَّمَ المتَّقدة بأُوارها الأَبديّ،

آه! ما أوسعَ رحمتك! وما أعظمَ شفقتَك علينا

يا أرحمَ الراحمين![21]

وغَنيٌّ عن البيان أنَّ للألَم النفسيّ والجسديّ الذي يتحمَّلُهُ الإنسان بلا شكوى أو تذمُّر، بل بإدراكٍ للعدالة الإلهيَّة أو الحكمة الروحيَّة التي قد ترمي إلى امتحان إيمانه، دورًا خطيرًا في تطهيره وتكفيره عن ذُنوبه. يقول الدكتور داهش مُخاطبًا الخالقعزَّ وجلّ:

فبإرادتِكَ وُجِدتُ،

وبإرادتِكَ أعودُ إليكَ بعد أن تُطهِّرَني الآلامُ الرهيبة.[22]

بل إنَّ الآلامَ العميقةَ تفتحُ بصيرةَ النفس، وتجعل الإنسان أقربَ إلى حقيقة الحياة: "الأَلمُ خيرُ مُهذِّبٍ للنفس، ولولاه لَما عرَفتُ معنًى لحياتي، ولا كشفتُ لها سرًّا."[23]

 

الحذَرُ من أَن تتقنَّعَ السيِّئاتُ بالمزايا

إِنَّ بقاءَ البشر في الأَرض برهانٌ على أنَّ كلاًّ منهم خليط من السيَّالات الحسنة والرديئة. ولذلك فالساعي إلى الارتقاء الروحيّ عليه أن يكونَ حَذِرًا من أن تلتبسَ عليه الرذائلُ فيراها فضائل، والسيِّئاتُ فيراها حسنات. ذلك بأنَّ النزعات الدُّنيويَّة تُغشِّي البصيرة فتمنعها من التمييز الصحيح. فمثلما أنَّ الرغبات السامية مع الغباء قد تُؤدِّي إلى أعمالٍ مُنكَرَة، فإنَّ الأَعمالَ التي يُحرِّكُها الذكاء، أصلاً، قد تُولِّدُ أحوالاً وصِفاتٍ سيِّئة عندَ صاحبها، إذا داخلَتها أو سيَّرَتها ميولٌ وضيعة.

فالثقةُ بالنفس ضروريَّةٌ لنجاحِ أيِّ إنسانٍ، فهي تشحذُ همَّتَه للسَّعي إلى ما يبتغي، وهي تدفعُ فيه العزمَ على فولَذة إرادته من أَجل مُغالبة الصِّعاب التي قد تحولُ دون وصوله إلى هدفِه المنشود، لا سيَّما إذا كانت شُعلةُ الإيمان تتأَجَّجُ في نفسه؛ وهذا ما أَشار إليه الدكتور داهش في قطعةٍ نُشِرَت بمجلَّة أَجنبيَّة، فأَعاد صياغتَها بعنوان "عِشْ حُرًّا أَبيًّا أَو فمُتْ جبانًا دَنِيًّا".[24] مِمَّا جاءَ فيها:

إن استطعتَ أَن تمنحَ نفسَكَ الثِّقةَ المُطلقة،

بينما الجميعُ بكَ يشكّون، وأَنتَ لا تحسبُ لشكِّهم حسابًا؛

وإن استطعتَ أَن تسوقَ الأعوامَ المُمِلَّة بسَيرها البطيء

بعَصا إرادتكَ الفولاذيَّة التي لا تُصهَر...

وإن شاهدتَ نفسَكَ مُتَوَّجًا بتيجان أَرباب الأُولَمب

وربَّات البرناس،

دون أَن يحملَكَ الغرور

على ارتكاب الدنيءِ من الأُمور من فُسقٍ وفجور؛

وإن استطعتَ تأَبُّطَ ذراع الظفَرِ التامّ باليمين

والمِحنةَ المُنقضَّة باليسار،

وجعلتَ المُساواةَ تسودُ بين هذين النقيضَين المُقضقضَين؛

وإن أَصختَ السمعَ للحقِّ المُبين

وقد مثَّلَ بأَشلائه الصريعة طغمةُ المُنافقين

ليصيدوا به معشرَ المُرائين...

وإن شاهدتَ بأُمِّ عَينيكَ المُنذهلتَين

ذلك الصرحَ الجبَّار الذي أَقمتَه طوالَ سني حياتك

وهو يتردَّمُ وينهار؛

وإن استطعتَ أَن تُعيدَ ذلك البناءَ الشامخَ المُشمخرَّ

وأَنتَ مُتمنطقٌ بصبر أَيُّوب البارّ،

دون أَن تتذمَّرَ حتَّى بنأمةٍ واحدة،

وأَن تُثابرَ على عملكَ ليلَ نهار...

إن استطعتَ كلَّ هذا،

فاعْلَمْ، أَيُّها البطلُ الغضنفَر، والمُحاربُ المُظفَّر،

أَنَّ الأرضَ بما تحملُه على ظهرها،

وما تختزنُه في أَعمق أَعماقها،

هي لكَ مُلكٌ حلال،

هي لكَ دون بقيَّة البشر أَجمعين.

وبَيِّنٌ من السطور الآنفة الذكر أَنَّ الثقةَ بالنفس المُعافاة هي تلك التي تصمدُ في وجه الشرّ، وتتأَلَّم من غير تذمُّر، وتصبر ولا يُداخلُها الغرور، وتُناصرُ الحقَّ دائمًا ولا يجرفُها الباطل.

لكنَّ الثقةَ بالنفس قد تتجاوزُ الحدودَ المعقولة، فتنتفخُ وتتضخَّمُ كثيرًا حتَّى تتلبَّسَ بالوهم، فتتحوَّل إلى ما تُسمِّيه السيكولوجيا بـ"النرجسيَّة"، ذلك الانحراف النفسيّ المرَضيّ الذي إذا حلَّلتَه تحليلاً خُلُقيًّا وجدتَه يجمعُ الصَّلَفَ والغرور المتطرِّفَين مع الأَنانيَّة الشديدة. وهذه النزعاتُ الرديئة وصفَ الدكتور داهش أَصحابَها وانتقدَهم في كثيرٍ مِمَّا كتَب. وقد نال بعضَ السياسيِّين و"الزُّعَماء" و"الوُجَهاء" نصيبٌ وافر من انتقاداته.

فالنرجسيَّة توهِمُ صاحبَها بأنَّهُ مركزُ المعرفة أو مُلتقى العيون أو محطُّ اهتمام الناس، بل قد توهِمُه بأَنَّه فوق البشر والقوانين، وخارج المقاييس والمعايير. ولِذا فغيرُ عجيب أَن يوقِعَ هذا الانحرافُ كثيرين من الأَذكياء في أَخطاء فادحة وتصرُّفاتٍ حمقاء من جرَّاء تغشِّي إدراكهم.[25]

والنرجسيُّ لا يهتمُّ بذاته الحقيقيَّة ليُصلحَها ويُرقّيَها، بل يصبُّ اهتمامَه على صورته الوهميَّة التي كوَّنَها خيالُه وانفعالاتُه ورغباتُه، ويُنكِرُ كلَّ ما لا يتَّفقُ مع تلك الصورة التي ابتدعَها لنفسه. فقد يكون عاديَّ الذكاء والمعرفة، فيتصوَّرُ نفسَه عبقريًّا، أَو قد يكون شاعرًا نَكِرة، فيتصوَّرُ نفسَه شاعرَ العصور، أو قد يكون ضابطًا صغيرًا، فيتصوَّرُ نفسَه بتفوُّق هنيبعل أَو نابوليون إلخ.

وظاهريًّا يبدو النرجسيُّ ناجحًا في حياته، لكنَّه، في واقعه الباطنيّ، بعيدٌ جدًّا عن السلام النفسيّ، ومُفعَمٌ بالحَنَق المقموع والمخاوف المكبوتة.

ونتيجةً لرَفضِه ذاتَه الحقيقيَّة فهو يرفضُ غيرَه أيضًا، ولا يُبالي بشقائهم وآلامهم، ولِذا فهو يتصرَّفُ بدون أيِّ شعورٍ بالذَّنب تجاه مشاعر الآخرين.

ولِكونِه أَنانيًّا فهو لا يُركِّزُ اهتمامَه على الخير العامّ أو المبادئ الإنسانيَّة أو الروحيَّة، بل على مصالحه الشخصيَّة السطحيَّة، أي التي لا قيمة حقيقيَّة لها. فالثروةُ لدَيه أَهمُّ من الحكمة والقِيَمِ الروحيَّة، وحَلُّ مُشكلاته الشخصيَّة السخيفة أَولى من حَلِّ المُشكلات الجماعيَّة الخطيرة، وشهرةُ الاسم قبل النزاهة والكرامة، وسماعُ التصفيق وكلمات الإعجاب بشخصه قبل احترام الذات، وإشباعُ نزواته قبل إشباع الحاجات العامَّة. وللنرجسيَّة درجاتٌ تتصاعدُ سوءًا وتأَزُّمًا حتَّى تنتهي بجنون العظمة.[26]

واحترامُ الذات لا بُدَّ منه لصاحب الأَخلاق الفاضلة والطباع الدَّمِثة وكلِّ مَن يُريدُ التقدُّمَ الروحيَّ؛ لأنَّه يجعلُ الإنسانَ يعطفُ على ذاته الحقيقيَّة ليتبيَّنَ حدودَه فيقف عندَها، ويكتشفَ مساوئَه، فيُحاول إصلاحَها. لكنَّ احترامَ الذات إذا تلبَّسَ بتبجيلٍ للذات وتقديسٍ لها، مثلما هو حاصل لدى كثيرين من رجال الدين، يتحوَّل من عنصرٍ إيجابيّ إلى عنصرٍ سلبيّ هدَّام لصاحبه وللمُحيط الذي يعيشُ فيه. وإذْ ذاكَ يغرق "المُبجَّل" بالنفاق ليدومَ تبجيلُه. وقد كتبَ مُؤسِّسُ الداهشيَّة مئات الصفحات في ذلك.

والنزعة إلى التحسين الدائم في العمل وإلى الارتقاء الروحيّ إذا داخلَها الغرور وحبُّ الظهور تحوَّلَت إلى نزعةٍ كماليَّة Perfectionism بالمعنى السيكولوجيّ، فشلَّت إرادةَ صاحبها ومنعَتهُ من إنجاز أيِّ عملٍ كبيرٍ ذي فائدة، لتوهُّمه بأنَّ أعمالَه يجبُ أن تكونَ كاملة، فلا يراها إلاَّ ناقصة. وهكذا انفصالُه عن الواقع يُقعدُهُ عن كلِّ إنجازٍ ذي معنًى، ويوقعُه في أخطاء فادحة حتَّى لو كان "ذكيًّا".

فضلاً عن ذلك فالكماليُّ النزعة يعتقدُ أنَّ مقاييسَهُ للأمور هي وحدها الصحيحة، ولذلك فهو يبني علاقاته مع الآخرين على أساسها، يُقرِّبُهم أو يُبعدُهم، بالنسبة لمُجاراتهم لمقاييسه أو ابتعادهم عنها. وهكذا يعيشُ حياتَه شاعرًا بالحرمان والفشل والشقاء.[27] أمَّا سببُ ذلك فهو أنَّ غرورَه وحُبَّه للظهور يُعميانَه عن إدراكِ حدود الواقع، وأنَّ الكمالَ يستحيلُ بلوغُه في العالَم الأَرضيّ.

والغضَبُ anger هو انفعالٌ طبيعيّ في الإنسان يُعبِّرُ فيه عن استيائه من أُمورٍ معيَّنة، ويبقى سليمًا ما دام يُصرِّفُ شحنةً من الاستياء تكون مضبوطةً برقابة العقل وبحجم الأمر الداعي إلى الاستياء. لكنَّه إذا خرج عن الرقابة العقليَّة، انقلبَ إلى هِياج rage، أي انفعالاتٍ ثائرة لا تخضعُ للإدراك ولا لحدودٍ أو قيود، ولا تُعرَفُ عواقبُها الوخيمة. والهياجُ نوعٌ من الجنون الآنيّ؛ فإذا تكرَّرت وتكاثرَت نوباتُه دلَّت على لوثةٍ عقليَّة خَطِرة.

مِمَّا قال المهاتما غاندي لحفيده الفَتيِّ آرون Arun، بعد أن عرف بغضَبِه من تصرُّفات البيض والسُّود تجاه الهنود في جنوبيِّ إفريقيا حيث جرَت لآرون أَحداثُ اعتداءٍ مُؤسِية: "هل تعلم أَنَّ الغضبَ هو كالكهرباء؟" فسأَله ماذا يعني؛ فأَجابه: "الغضبُ يُمكنُ أَن يكونَ كالكهرباء قوَّةً وتهديمًا. أَتعلمُ ماذا يحدثُ لو انقضَّت صاعقة أَو مَسَستَ سلكًا كهربائيًّا حَيًّا؟" وإذْ أَجابه الفتى بأَنَّ الكهرباء تقتل وتُدمِّر، قال غاندي: "والغضبُ أَيضًا يفعلُ فِعلَها. فإذا لم تتحكَّم بغضبكَ مثلما تتحكَّمُ بالكهرباء، فالغضبُ، إذْ ذاك، سيهدمُ ويقتل. لِذا يجبُ استخدام الغضَب بالطريقة نفسها التي بها نستخدمُ الكهرباء."[28]

وطموحُ الإنسان يُبعِدُ عنه الخمولَ والمذلَّة، ويدفعُ فيه عزمًا على مُغالبة المصاعب وصولاً إلى هدفه المنشود. وهو حسنةٌ ما دامت غايةُ الإنسان ترقيةَ نفسه وتحسينَ وضعه المَعيشيّ، وبَذلَ المال الفائض في سبُل الإحسان والخير العامّ ونشر الفضيلة. لكنَّه إذا تحوَّلَ إلى طَمَع أَو جشَع، فأصبح المالُ غايةً لا وسيلة، فإنَّه يتحوَّلُ، إذْ ذاك، من أداةِ نعمة إلى أداةِ نقمة. من أجلِ ذلك، ولأَنَّ أكثريَّةَ الناس يُرنِّحُ إغراءُ المال رؤوسَهم، ضمَّنَ مُؤسِّسُ الداهشيَّة صلاتَه لله الدعاءَ التالي:

لا تَدَع الطمعَ يستولي علينا فيجرفَنا بتيَّارِه الرهيب.

دَعِ القناعةَ تحتلُّ أرواحَنا

فلا نطلبُ سوى القُوتِ فنُمجِّدَك.[29]

وهذا الدعاء يتَّفقُ مع الصلاة الربَّانيَّة التي علَّمَها السيِّدُ المسيحُ تلاميذه، كما يتَّفقُ مع قوله: "فأنتم لا تقدرون أن تخدموا الله والمال."[30] كذلك يؤيِّدُ موقفَ المسيح من السعي الحثيث لتأثيل المال إذْ يقول:

"لا تجمعوا لكم كنوزًا على الأَرض حيثُ يُفسدُ السوسُ والصَّدأُ كلَّ شيء، وينقبُ اللصوصُ ويسرقون، بل اجمعوا لكم كنوزًا في السماء حيثُ لا يُفسِدُ السوسُ والصَّدأُ أيَّ شيء، ولا ينقبُ اللصوصُ ولا يسرقون. فحيثُ يكونُ كنزُك يكونُ قلبُك."[31] وهكذا تبقى كلمةُ الإمام عليّ بن أبي طالب المأثورة "القناعةُ كنزٌ لا يفنى" مَثلاً صحيحًا خالدًا.

والعفَّةُ الصادقة (أَي التي قوامُها النزاهة العمليَّة كما الفكريَّة عن الشهوة الجنسيَّة) إذا استطاعَها الإنسان وهذا شِبهُ مُحال فإنَّها تُعيدُه إلى حالٍ من النعمة كان يرتعُ فيها آدم وحوَّاء قبل عصيانهما وسقوطهما. لكنَّ العفَّة إذا تحوَّلَت إلى امتناع الجسد امتناعًا قهريًّا مُشبَعًا بالتحرُّق النفسيّ والزنى الفكريّ، انقلبَت إلى رذيلة. لذلك ساوى السيِّدُ المسيح بين الزِّنى العمليّ والزِّنى الفكريّ، ورأى بولس الرسول أنَّ الزواجَ خيرٌ من التحرُّق.[32] وذلك هو موقفُ مُؤسِّس الداهشيَّة. وقد سمعتُه منهُ مرارًا.

والزُّهدُ بالدنيا كما التقشُّف في المأكل والملبَس طريقان صحيحان للارتقاء الروحيّ؛ لكنَّ المغالاةَ التي تُؤدِّي إلى تعذيب الجسد خروجٌ على إرادة الله، وشبيهة بالانتحار الذي حرَّمَتهُ الأَديان جميعًا. ولذلك فتعذيبُ الجسد الذي يلجأُ إليه اليوغيُّون وأصنافٌ من المتصوِّفين لا فائدةَ منه للارتقاء الروحيّ؛ لأَنَّه ما النفعُ إذا عُذِّبَ الجسدُ وبقيَت الشهوةُ والرذيلةُ فيه؟ فضلاً عن ذلك فمُؤسِّس الداهشيَّة يرى الجهادَ في المجتمع ومُغالبة الإنسان للتجارب الهاجمة عليه وقهر ميوله الوضيعة أفضل من الهروب من المجتمع بالتنسُّك؛ لأَنَّ النُّسكَ لا يعني التخلُّصَ من الأَفكار الدنيئة والرغبات السفليَّة. فهي مُقيمة وناشطة في النفس أنَّى أقامَ الإنسان.

والاستشهاد من أجلِ عقيدةٍ سماويَّةٍ وقِيَمٍ روحيَّةٍ حضَّت عليه الأَديانُ الموحاة، لأَنَّهُ يُقصِّرُ الطريقَ إلى العوالم الفردوسيَّة أمامَ مَن يَرَون الحياةَ البشريَّة مُجرّدَ سرابٍ زائل وظلٍّ حائل. ولذلك قال الدكتور داهش: "إنَّ الجهادَ والاستشهادَ في سبيل الداهشيّة معناهما الولوجُ إلى الجنَّة الدائمة النعيم، والتمتُّع بمباهجها السرمديَّة الفتنة والجمال."[33] لكنَّ الذين يُقدمون على الاستشهاد في سبيلِ أحزابهم أو مطامع زعمائهم في حروبٍ ضدَّ الآخرين هؤلاء إذا قاموا بأعمالهم مختارين، فإنَّهم يكونون مُنجذبين إلى مُثُلٍ عليا زائفة تتمثَّلُ في عقيدةٍ سياسيَّةٍ أو كرامةٍ حزبيَّة أو طائفيَّة. وكثيرًا ما تقترنُ هذه المُثُلُ العُليا بدافع حُبِّ الظهور أو دافع الغرور أو دافع البقاء المادِّيّ المُتمثِّل بـ"جنون الخلود"، فيتوهَّم المُستشهَدون أنَّهم بموتِهم يصونون حياتهم معنويًّا عبر تخليدِ أسمائهم في سِجِلاَّت أحزابهم أو طوائفهم أو أوطانهم... أو يصونونها واقعيًّا عبر انتقالهم إلى جِنان الخلود. وكثيرًا ما يُصبحُ الحزبُ أو الطائفة أو الوطن صورةً مُضخَّمةً لـ"أنا" مَن يُقدمُ على الاستشهاد المذكور، إذْ يجِدُ في الحِفاظ على مصالح حزبِه أو طائفته أو وطنِه الماديَّة والسياسيَّة حِفاظًا على مصلحتِه الشخصيَّة. لكنَّ هذا لا يعني أَنَّ على الإنسان أَن يخنعَ للمُعتدي والظالم. فالدفاعُ عن النفس والحقوق الإنسانيَّة مِمَّا أَوجبَه اللهُ على المؤمنين.

 

الدوافعُ والنيَّاتُ وقيمةُ الأَعمال

أخيرًا، لا بُدَّ من السؤال: كثيرًا ما يقومُ أُناسٌ من جميع الفئات بأعمالٍ مُتَّسِمةٍ بسِمَة الخير والإحسان والفضيلة، فهل هذه السِّماتُ هي التي تمنحُ أعمالَهم صفةَ الصلاح؟

يقولُ مُؤسِّسُ الداهشيَّة: "وقد صرتُ أفهمُ أنَّ بعضَ تلك الأَعمال التي تصدرُ عن بعض الناس مطبوعةً بطابَع الخير إنْ هي إلاَّ وليدةُ رغبةٍ مُلحَّةٍ يُضمرُها أحدُهم توصُّلاً لمنفعةٍ شخصيَّةٍ ومصلحةٍ خاصَّة؛ فهي السمُّ في الدَّسَم، والنيرانُ في الرماد."[34]

من هذا الكلام وغيره مِمَّا كان يُفضي به الدكتور داهش إلينا يُستَخلَصُ أَنَّ الخطَّ الذي بدأَه السيِّدُ المسيح ما يزالُ مُستمرًّا. فالعملُ الذي يبدو خيِّرًا أَو صالحًا ليست قيمتُه الحقيقيَّة في إجرائه، بل في الدافع الذي وراءَه والنيَّة المُنطوية تحته.

فلا قيمةَ للصلاة والصَّوم، مثلاً، إذا كان الدافعُ إليهما التظاهرَ بالتقوى بين الناس، لأنَّ مَن أَراد تمجيدَ الناس له، قد يحصلُ عليه منهم، لكنَّه بنَيله إيَّاه يفقدُ الأَجرَ الروحيّ.[35] وكذلك الإحسان، فمَن يفعله ليُبجِّلَه الناس، قد ينالُ أَجرَه منهم، لكنَّه يفقدُ الأَجرَ الروحيّ.[36] بل إنَّ الإحسانَ ليست قيمتُه في مقداره، مهما عظُم، لكن في مدى تأثيره في حاجة صاحبه. فقيمتُه تكبرُ بقَدرِ ما يحرمُ الإنسانُ نفسَه مِمَّا هو بحاجةٍ إليه ليُساعدَ المُعوزين. في "مُذكِّرات يسوع الناصريّ" يقولُ يسوع الطفل لوالده الذي يتبرَّع بِدَخْل يومِه للعائلات المعوزة:

ثِقْ، يا أبي، بأنَّ اسمَكَ

قد سُجِّلَ في السماء منذُ اللحظة هذه،

لأَنَّكَ قد جُدْتَ بما أنتَ في أشدِّ الحاجة إليه.[37]

فالإحسانُ ليس بقيمته الماديَّة إنَّما هو بالدافع الذي وراءَه والنيَّةِ التي تُحييه كما بنسبة تأثير العطاء في حاجات صاحبه. ففِلسُ الأَرملة الشهير في الإنجيل[38] أعظمُ لدى الله من مئات الملايين يتبرَّع بها أصحابُها تهرُّبًا من الضرائب من جهة، وتعظيمًا لأَسمائهم من جهةٍ أُخرى. وهذه الحقيقةُ تتَّفقُ مع حديثٍ نَبَويٍّ نقلَه عُمَر بن الخطَّاب: "إنَّما الأَعمالُ بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى..."[39] كما تتَّفقُ مع ما ذهبَ إليه كانْط في فلسفته الخُلقيَّة.[40]

بذلك يكون طريقُ الارتقاء الروحيّ الذي لا بُدَّ من سلوكه لبلوغ الكمال الإنسانيّ قد أدرك غايته.



[1] لدكتور داهش، "ابتهالات خشوعيَّة". (بيروت: دار النار والنور، 1983)، ص 86.

[2] المصدرُ السابق، ص 88.

[3] أنظر "صوت داهش"، عدَد الشتاء، عام 2000، ص 17، الحاشية رقم 8 (وردَت في المراجع خطأًرقم 7. كذلك يجب زيادة رقم على جميع المراجع بعدها.)

[4] حليم دمُّوس، "المعجزاتُ والخوارقُ الداهشيَّة المُذهِلَة". (بيروت: دار النار والنور، 1983)، ص 66-67.

[5] رؤيا يوحنَّا: 26-28.

[6] إنَّه جارور (دُرْج) خشبيّ في خزانة متعدَّدة الجوارير كانت توضَع فيه أوراق فارغة، فتهبطُ الإرشاداتُ والإيضاحات الروحيَّة مُرتسمةً عليها بطريقة خارقة.

[7] إنجيل متَّى26: 69-75.

[8] المصدر السابق 14: 27-31.

[9] المصدر السابق 16: 21-23.

[10] الدكتور داهش، "قِصص غريبة وأَساطير عجيبة"، ج 1، ص 189.

[11] المصدر نفسه، ص 182.

[12] إنجيل متَّى 5: 28.

[13] انظر مُراجعَتي لكتاب "ما بوسعِكَ تغييرُه وما ليسَ بوسعِك" لسيلغمان في "صوت داهش"، السنة الثانية، العدد الثاني، سبتمبر 1996.

Martin Seligman, What You Can Change and What You Can’t. N.Y: A. Knopf, 1994.

[14] أنظر المرجع السابق.

[15] انظر المرجع السابق.

[16] جزءٌ قَيد النشر من "قِصَص غريبة وأساطير عجيبة".

[17] الدكتور داهش، "قِصص غريبة وأساطير عجيبة"، ج 1، ص 27-28.

[18] المصدر السابق، الجزء الثاني، ص 81.

[19] إنجيل متَّى 5: 29.

[20] الدكتور داهش، "مذكّرات يسوع الناصريّ" (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1991)، ص 113-116.

[21] أُنظر في "ابتهالات خُشوعيَّة" قِطَع "صلاة محزون"، ص 65-71؛ "يا ألله"، ص 122-124؛ "صلاة نادم حزين"، ص 153-159.

[22] المصدر السابق، ص 160

[23] الدكتور داهش، "كلمات"، ص 134. وقد رأى الدكتور داهش أنَّ من فوائد الأَلم لدى ذوي المواهب الأَدبيَّة الفنِّيَّة أنَّهُ يُفجِّرُ قرائحَهم فتولِّد ما هو جميلٌ وخيِّر. قال: "لو كنتُ الحاكمَ بأمري، لأَصدَرتُ أمرًا يقضي بظلم النوابغ كي يظهرَ نبوعُهم ويفوحَ عبقُ أفكارهم فيُخلِّدون في تاريخ الأبد دُررًا لا تُقدَّرُ بثمن." ("كلمات"، ص 169).

[24] الدكتور داهش: "أَفراح وأَتراح" (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1980)، ص 81.

[25]Mortimer Feinberg and others, Why Smart people Do Dumb Things. NY: Fireside

[26] أنظر Alexander Lowen, M.D., Narcissism: Denial of the True Self (NY: Macmillan/London: Collier Macmillan, 1983), pp. 1-24.

[27] انظر Psychology Today, May/June, 1995 ، ففيها نتجيةُ دراسةٍ أُجريَت على 9211 شخصًا.

كذلك Monica Ramirez Basco, Ph.D. “The Perfect Trap” in Psychology Today, May/June, 1999.

أنظر أيضًا: M. Adderholdt & J. Goldberg, Perfectionism: What’s Bad About Being Two Good? (Minneapolis: Free

Spirit Pub., 1999), pp. 18-29 & 44-52.

كذلك:Ann W. Smith, Overcoming Perfectionism (Florida: Health Communications, 1990), pp. 1-51.

[28] Arun Gandhi, “Granfather Gandhi: Peace Was His Way” in Dahesh Voice, Spring Issue, 2000.    

[29] د. داهش، "ابتهالات خُشوعيَّة"، ص 87.

[30] إنجيل متَّى، الإصحاح 6:24.

[31] المصدر السابق 19-21.

[32] رسالة بولس الأُولى إلى كورنثوس 7: 1-9.

[33] الدكتور داهش، "كلمات"، ص 88.

[34] الدكتور داهش، "القلبُ المُحطَّم" (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1984)، ص 208.

[35] إنجيل متَّى 6: 5-18.

[36] المصدرُ السابق: 1-4.

[37] الدكتور داهش، "مُذكِّرات يسوع الناصريّ"، ص 72. انظر أيضًا "مئة ليرة سهيلا"، ص 82-83 من "غاب البنَفسَج" (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1980).

[38] إنجيل مرقس 12: 41-44.

[39] صحيح البُخاري، ج1، الكتاب الأَوَّل، الحديث الأَوَّل.

[40]Paul Edwards, Ed., The Encyc. of Philosophy, Vol. IV (NY/London: Macmillan Pub., 1972), pp. 317-319: Kant’s Ethics”. "

 

  Back to التعاليم الداهشيَّة بقلم الدكتور غازي براكس 

 

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.