أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

أَهمِّـيَّةُ العقل في الرقيِّ الروحيِّ

بمفهوم مُؤسِّس الداهشيَّة

بقلم الدكتور غازي براكْس


في العددِ السابق من "صوت داهش" أوضَحتُ أنَّ غايةَ الإنسان المُثلى من حياته الأَرضيَّة، في المفهوم الداهشيّ، يجبُ أن تكونَ، أوَّلاً، مُجاهدَةَ نفسِه "الأَمَّارة بالسوء" ليتجنَّبَ بصورةٍ أَكيدة عدمَ سقوطِه مُجَدَّدًا إلى دركاتٍ أسفل، بعد أَن هبطَت سيَّالاتُه من العوالم الفردوسيَّة إلى كوكب الأرض الذي تقعُ درجتُه الروحيَّة على عتبة عوالم الجحيم؛ ثانيًا، تشبُّثَه بالقِيَم الروحيَّة والإنسانيَّة الكُلِّـيَّة من أجلِ أن يُتاحَ لهُ تخطِّي مُستواه الروحيِّ الأرضيِّ والارتقاء تدريجيًّا عبرَ درجات التعيم إلى العوالم الروحيَّة القُدسيَّة التي انفصلَ عنها في بداية نشأَة الكَون. والقِيَمُ الروحيَّةُ هي ظلالٌ للحقائق الروحيَّة الأَزَليَّة الكائنة في عوالم الأرواح الإلهيَّة؛ ويُمكنُ إجمالُها بثالوث الحقِّ والخير والجمال مُجتمِعَةً بكمالها المُطلَق في القُوَّةِ الموجِدَة، الله عزَّ وجلَّ. وهذا الثالوثُ هو مصدرُ المُثُل العُليا الروحيَّة الرئيسة التي يُمكِنُ إجمالُها بخمسة هي الحقيقة والعدالة والعفَّة والقناعة والمحبَّة. والتمسُّكُ بهذه الخمسة إيمانًا وعمَلاً، وتجسيدُها بين النَّاس، والجهادُ من أجلِ تعزيزِها هو شِعارُ الراقينَ روحيًّا، وعلى رأسِهم الأَنبياءُ والمُرسَلون والهُداة الروحيُّون.


إنَّ الأَديانَ المُنزَلة والهداياتِ الروحيَّة جميعَها التي عرفَها العالَم شدَّدت على أنَّ مقياسَ رُقيِّ الإنسان الروحيّ هو مدى رُقيِّ نزَعاتِه. واستنادًا إلى تلك النزعات المتمثِّلة بظاهر السلوك البشريّ رفعَت المُؤسَّساتُ الدينيَّةُ شأنَ الزُّهَّاد والنُّسَّاك والكَهنة وشيوخَ الدين، وجعلَت من بعضِهم "قدِّيسين" أو "أولِياء". ولا مجال، في هذا البحث، لنَقد ظاهر السلوك الإنسانيّ الذي كثيرًا ما تُموِّهُه المُراءاة، ولا لنقد “القداسة” و“الولاية” من جرّاء ارتباطهما بمُمارسة شعائر مذهبيَّة مُعيَّنة، وبما يدرَّان على المُنتفِعين منهما دينيًّا ودُنيويًّا من مالٍ ونفوذٍ وسُلطة. فهدَفي، في هذا القِسم من البحث في الرقيِّ الروحيّ وفقًا للمفهوم الداهشيّ، أن أُوضِحَ أهمِّـيَّةَ العقل في عمليَّةِ هذا الرقيّ، على أَن أَتناولَ أَهمِّـيَّةَ الإرادة في بحثٍ لاحق.

 

رُقيُّ النفسِ رَهنٌ برُقيِّ مُجمَل قِواها

في أعدادٍ سابقةٍ من "صوت داهش" أوضَحتُ أنَّ مُؤسِّسَ الداهشيَّة ألقت تعاليمُه الروحيَّة الموحاة أَو المُلهَمة ضوءًا جديدًا على معنى النفسِ وطبيعتِها. فالنفسُ ليست، مثلما يظنُّ الباحثون في الأَديانِ والفلسفة، بصورةٍ عامَّة، “روحًا” واحدةً تُخلَقُ لحظةَ يتكوَّنُ الجَنينُ أو يولَد، تِبعًا لفريق، أو تنتقلُ إليه من تقمُّصٍ سابق تِبعًا لفريقٍ آخر، بل هي مجموعةٌ من السيَّالات، أي القوى الحيويَّة التي لا تفنى. وكلٌّ منها يتمتَّعُ بنَزعاتٍ وإدراكٍ وإرادةٍ مُعَيَّنةٍ تختلفُ بدرجتِها عمّا للسيّالات الأُخرى. وهي تعملُ معًا مُتآزِرَةً أو مُتنافِرَةً كشخصيَّاتٍ (أو نفوسٍ) جزئيَّة ضمنَ شخصيَّة الإنسان الجامعة لها. وهذه السيَّالاتُ ليسَ بوُسعِ الإنسان أن يتحقَّقَ وجودَها وطبيعتَها مُباشَرَةً سواءٌ بحواسِّه أو بأجهزتِه العلميَّة، لأَنَّها وَحَداتٌ إشعاعيَّةٌ تفوقُ في دِقَّتِها وتردُّدها frequency)) الأَشعَّة الكونيَّة المعروفة بأشعَّة غاما بدرجاتٍ كثيرة.

لا شكَّ في أنَّ الذين استطاعوا أن يُرَقُّوا نزعاتهم، فتشبَّثوا بالمحبَّة بكلِّ ما تنطوي عليه من فضائل كالنَّزعة الإنسانيَّة الغَيريَّة وما تحملُهُ من شفقةٍ وإحسانٍ وتضحيةٍ وتسامُح، وتمسَّكوا بالعفَّةِ والقناعة والعدالة، ومالوا إلى مُناصَرَة الحقِّ في كلِّ مواقفهم قد قاموا بمُجاهدة عظيمة وبِعَملٍ جليلٍ لا يقوى عليهما إلاَّ قليلون، لأنَّ النفسَ البشريَّة أَصبحت، بعد عصيانها وسقوطها في الفردوس الأرضيّ، نزَّاعةً إلى السوء. من أجلِ ذلك كان معظمُ الذين انتصروا على جواذب الدنيا وهواتف الجسد هم من الأَنبياء والمُرسَلين والهُداة والمُصلحين الروحيِّين والزهَّاد الصادقين الذين يتَّحدُ ظاهرُهم بباطنهم؛ فعظَّمَتهم الأَديانُ، وأَجَلَّهم التاريخ، وأكبرَهم المؤمنون والعُقلاء. وليس لهؤلاء أيَّةُ صِلة بما تصنعُه معاملُ "القداسة" أَو "الولاية".

لكنَّ للرقيِّ الروحيِّ رُكنَين آخرَين أغفلَهما المعنيُّون بالأَديان، هما العقلُ والإرادة. فالحضارةُ بما فيها من علومٍ طبيعيَّة وإنسانيَّة وفنونٍ وآدابٍ وفلسفة وإنجازاتٍ عُمرانيَّة وتكنولوجيَّةٍ عظيمة ما كانت لتظهرَ لولا الرقيُّ العقليّ.

إذًا الرقيُّ الروحيُّ، في المفهومِ الداهشيّ، يشملُ رقيَّ النفس بأركانها الثلاثة: النزعات والإدراك والإرادة. وإغفالُ الإدراك في عمليَّة الرقيِّ الروحيّ جعلَ المُؤسّساتِ الدينيَّة الجامدة الخائفة على مصيرها من كلِّ جديدٍ طارئ تهضمُ حقوقَ أَفذاذٍ كثيرين بُنِيَت الحضاراتُ البشريَّة، في مُختلف الشعوب والعصور، بمجهودهم وأَلمعيّتهم، أَعني العباقرة. تكفي الإشارةُ إلى أَنَّ دانتي أَليغييري Dante Alighieri (1265-1321)، شاعر إيطاليا الأَكبرمع غضبه على البابا بونيفاس(Boniface) الذي اضطرَّه إلى أَن يعيشَ في المنفى السنواتِ العشرين الأَخيرة من عُمره فقد راعى العقيدةَ الكاثوليكيَّة، فجعلَ الشاعرَ اللاتينيَّ الأَكبر، فرجيل، في "اللمبو" الذي يُؤلِّفُ الحلقةَ الأُولى من الجحيم ذات الحلقات التسع المزعومة، كما زجَّ فيه بكلِّ عبقريٍّ مات قبل المسيح، أَمثال هوميروس وسقراط وأَفلاطون وأَرسطو وديوجينس وزينون وسينيكا، وكذلك فعلَ بمُفكِّرين مُسلمين مُبدِعين، أَمثال ابن سينا وابن رُشد. ولن أَذكرَ أَين حشرَ النبيَّ العربيَّ الكريم تنزيهًا له عن السوء. وما كان الشاعرُ الكبير ليفعلَ ذلك لولا سيطرةُ المُؤسَّسات الدينيَّة الكاثوليكيَّة على عقول أَتباعها سيطرةً شلَّت فيهم كلَّ منطقٍ صحيح. والأعجبُ أَنَّ مدخلَ الجحيم، وهو أَلطفُ عذابًا من الحلقة الأُولى، خصَّصَه دانتي، تبعًا للعقيدة الكاثوليكيَّة، لمَن لم يفعلوا في الدنيا لا خيرًا ولا شرًّا، فكانوا أَشبهَ بالعجماوات في اهتماماتهم المقصورة على الأَكل والشُّرب والنَّوم والجنس. فأَيُّ خَيرٍ للحضارة يُرجى، بعد ذلك، من مُؤسَّسةٍ دينيَّة تجعلُ أَشباهَ العجماوات أَفضلَ من العباقرة، بُناةِ الحضارات![1]

إنَّ الفلاسفةَ الكبار، والأُدباء والشعراء المُبدِعين، والفنَّانين الأَعلام في الموسيقى والرسم والنَّحت والعِمارة والإخراج السينمائيّ أو التلفازيّ وفي سائر الفنون، والعلماءَ الكِبار في كلِّ مجال، والمُصلِحين الإنسانيِّين والدينيِّين المُجاهدين من أجل خَير البشريَّة ضدَّ الظلم والطغيان والفساد والانحرافات هؤلاء جميعًا الذين طَبَعوا عصورَهم بطابعهم وأَسهموا في تغيير مجرى التاريخ ما كانت إنجازاتُهم الحضاريَّة الراقية لتتمَّ لولا قدراتٌ عقليَّة راقية تُميِّزُهم، وإراداتٌ جبَّارةٌ على الدوام تهمزُهم إلى استكمال مُهمَّاتهم رغم الصعوبات والعراقيل والآلام، بل أحيانًا رغم العَنت والصدود والاضطهاد من المُتزمِّتين في المُؤسَّسات الدينيَّة في كلِّ عصرٍ ومصر.

حسبُنا استعراضُ سِيَر العباقرة من عهد أخناتون فسُقراط إلى اليوم حتَّى يتأكَّدَ لنا أنَّ الغُلاةَ العُميان في مُختلف المُؤسَّسات الدينيَّة، على مَرِّ العصور، كانوا دائمًا سببًا مُباشَرًا في اضطهادِ بُناةِ الحضارات أُولئك؛ حتَّى لَيُمكِنُ القول إنَّ روحَ الهداية الروحيَّة المُتمثِّلة بالمحبَّة والقِيَمِ الإنسانيَّة الكُلِّـيَّة والفضائلِ السامية وفي الذَّودِ عن الحريَّة والعدالة والحقّ ظهرَت وما زالَت تظهرُ لا في المُؤسَّسات الدينيَّة الخائفة على نفسها وسلطتها ونفوذها، بل في ما يُولِّدُهُ العباقرةُ من مُنجَزاتٍ وروائعَ فذَّة تُذكِّرُ النَّاسَ كلَّما أعمَتهم حرفيَّةُ النصوص الدينيَّة بأنَّ الروحَ هي المعنيَّة وهي التي يجبُ أن تُنشَد ويُسعى إليها؛ فالطقوسُ والشعائرُ والفروضُ المذهبيَّة تُصبحُ عائقًا دونَ الرقيِّ الروحيّ ومُثيرًا للخلافات والفِتَن إذا اعتبرَها المؤمنون طريقَ خلاصهم وعجزوا عن النَّفاذ من قشورها إلى الجوهر الروحيِّ الذي يجبُ أن يصِلوا إليه من خلالها.

فليسَ عجيبًا إذًا أن نرى كثيرين من العباقرة قد حملوا على الغُلاة من رجال الدين، وفضحوا انحرافاتهم المسلكيَّة والعقائديَّة، وحملوا مشاعلَ الهداية الروحيَّة الحقيقيَّة وقاموا بخدمة الإنسانيَّة بدلاً من مُدَّعيها، فكانوا هم التلاميذ الحقيقيِّين، في سِياقِ الأجيال، للأنبياء والمُرسَلين والهُداة الروحيِّين.

وطالما سمعتُ مُؤسِّسَ الداهشيَّة يُكبِرُ العُلماءَ والفلاسفةَ والأُدَباءَ الإنسانيِّين، ويُجِلُّ ما قدَّموهُ لخدمة البشريَّة من مُولَّداتِ قرائحهم؛ بل كان يلعنُ ظالميهم.

فمرارًا سمعتُه يتحدَّثُ عن عبقريَّة والت دِزني وآينشتاين وغاليله، وعن مُحاكمة الكنيسة الكاثوليكيَّة واضطهادها للعالِم الأَخير لتصريحه بأنَّ الأرضَ تدورُ حول الشمس. وكثيرًا ما كتبَ في "الرحلات الداهشيَّة حول الكُرة الأرضيَّة" يُمجِّدُ العقلَ والعلم. ففي تعليقه على المركبة الفضائيَّة التي استقلَّها الروَّادُ إلى الفضاء الخارجيّ يقول: “فيا لَعَظَمَة العقل الإنسانيّ الجبَّار!" [2]

وبينما هو في الطائرة يقول: "أَليس عجيبًا أَن يبلغَ التقدُّمُ العلميُّ والميكانيكيُّ هذه الدرجة من العظمة! وأَيَّة عظمة تعلو عليها؟"[3] وفي رحلته بالطائرة إلى كانو بإفريقيا يقول: "فيا لَلعلم ما أَعظمَه وما أَروعَ ثمارَه العجيبة!"[4]

وعلى لسان العالِم ماندال يقولُ في إحدى قِصَصِه: "فالشُّكرُ لله الذي وهبَنَا العقلَ لنستطيعَ إنجازَ اختراعٍ عظيمٍ كهذا يعودُ نفعُهُ على البشريَّة قاطبة." [5]

فإنجازاتُ العُلَماء المُفيدَة للبشريَّة إنَّما هي ثمرةُ سيَّالاتٍ راقية، لأَنَّها تحملُ عطفَ الله وعونَه للبشر من خلال العبقريَّات العلميَّة.

كذلك سمعتُ مُؤسِّسَ الداهشيَّة مرارًا يتحدَّث عن فذوذيَّة أفلاطون ورُقيِّه العقليّ وجلال مُؤلَّفاته وخصوصًا كتابه "الجمهوريَّة"، كما عن فضيلة ديوجينس وزُهده وجرأته.

وفي رسالةٍ يردُّ بها على رسالة الدكتور محمَّد حسين هيكل إليه بشَأنِ اضطهاد الرئيس اللبنانيّ بشاره الخوريّ (1943-1952) له، يقول:

أمَّا قصَّةُ الفيلسوف سقراط والحُكمُ الظالمُ الذي صدرَ عليه، وتقديسُ الأَجيال لذكراه، فذلك أشهرُ من أن يُعَرَّف. وقد حفِظَ التاريخُ أسماءَ الحُكَّامِ والقُضاة الذين حاكَموهُ، تذكرُهم الأَجيالُ باللعنة الأَبديَّة، وتستمطرُهم الأَلسنةُ غضبَ الله ما دامَت الأَرضُ أرضًا والسماءُ سماءً.

وهكذا دومًا يُعيدُ التاريخُ نفسَه، ويحشرُ الطُّغاةُ الأَثَمَةُ أسماءَهم في السجلِّ الأَسود لتعودَ الأَلسنةُ فتُمطرَهم باللعنات جزاءً وِفاقًا. [6]

وكثيرًا ما كان الدكتور داهش يُكبِرُ الأُدباء ذَوي النفوس الشمَّاء والعقول المُستنيرة. فكم من مرَّة سمعتُه يُجِلُّ إميل زولا (Emile Zola) لتَخلِّيه عن راحتِه وبيتِه وبلادِه من أجلِ دفاعِه عن الضابط اليهوديِّ البريء، ألفْرد دريفوس؛ وقد كتبَ غيرَ مرَّةٍ في هذا الموضوع. وكَم مرَّةٍ سمعتُهُ يُجِلُّ فولتير (Voltaire) وتولْستويْ (Tolstoi) وهيغو (Hugo) وجبران خليل جبران وغيرهم من الأُدباء والمُفكِّرين المُبدِعين لمُناصرتِهم قضايا الحقِّ والعدالة والحرِّيـَّة.

وإكبارُهُ للعُلماء والمُفكِّرين والأُدباء جعلَهُ يبحثُ عن مؤلَّفاتهم فيقتَني منها حوالى ربع مليون مُؤَلَّف في اللغاتِ العربيَّة والفرنسيَّة والإنكليزيَّة.

أمَّا الفنَّانونُ الكِبار فقد كانَ شَغوفًا بروائعهم منذُ صِباهُ الباكر. يقول: "منذُ طفولتي وأنا أتوقُ لمُشاهدَة أيِّ شيءٍ يُمثِّلُه الفنُّ، سواءٌ أكانَ لوحةً زيتيَّةً أم مائيَّةً أم بالباستيل، كما أرغبُ رغبةً عارمةً بالتماثيل الفنيَّة..." [7] ومنذُ الحادية والعشرين من عمره بدأَ يبتاعُ ما يقدرُ عليه من روائع الفنّ حتَّى يقول: "لقد صرَفتُ أعوامَ عُمري بأكملِها باحثًا مُنقِّبًا وجامعًا للكنوز الفنيَّة النادرة." [8] وكانت نتيجةُ سَعيِه المُتواصِل جَمْعَه حوالى 2500 لوحة زيتيَّة عدا مئاتٍ من مُختلِف أنواع التماثيل التي تُشكِّلُ اليوم "مُتحف داهش" الرائع القائم في قلب نيويورك.

إنَّ الروائعَ الفنِّـيَّةَ، بِرَأيِ مُؤسِّس الداهشيَّة، تستحقُّ لا الإعجابَ والإكبارَ فحَسب، بل الخشوعَ أمامها أيضًا، لأَنَّها إبداعُ سيَّالاتٍ راقية. بعد زيارتِه مُتحف فيلاَّ بورغيزي بروما يقول: "لقد بُهِرنا من روعةِ الفنِّ العظيم الذي لا يعلو عليه إبداعٌ مُطلَقًا... تستمتع برَوعتِه العيون، وتجتليه النواظر وهي خاشعةٌ لهذا الفنِّ العُلويِّ الذي يأخذُ بمجامع القلوب." [9]

بعد هذا القَول الفَصل في الروائع الفنِّـيَّة يسوغُ القول إنَّ المتاحفَ هي معابدُ للجمال مثلما الكنائس والجوامع هي معابدُ للحقِّ والخَير؛ ولا يكتملُ رُقيُّ الشعوب إلاَّ إذا قام على ثالوث الحقِّ والخير والجمال، لأنَّ الجمالًَ الفنِّيَّ شأن الجمال الطبيعيّ ظلٌّ للجمال الفردَوسيّ وملمحٌ من ملامح الجمال الروحيّ المُطلَق. ومَن لا يتمتَّع بقدرةٍ على تذوُّق الجمال إذا لم يُنعِم الله عليه بموهبة إبداعِه فلا شكَّ بأَنَّه يفتقرُ إلى عُنصرٍ مهمّ من عناصر الرقيِّ الروحيّ.

 

أَهمِّـيَّةُ العقل الجُلَّى وأبعادُه الكونيَّة

أسرارُ الوجودِ والحياة لا تُدرَكُ إلاَّ بالوَحيِ الإلهيّ أَو بالعقل. وعندما يغيبُ الوَحيُ لا يبقى إلاَّ العقلُ أداةً لطلب المعرفة البشريَّة بجميع وجوهها. إنَّ الإنجازات والاختراعات المُذهِلَة الحديثة من السفُن الفضائيَّة التي تخترقُ النظامَ الشمسيَّ وتدورُ حول كواكبه أو تحطُّ عليها، إلى المراصد الفضائيَّة التي ترقبُ المجرَّات وتُصوِّرُ ولادتَها أو تفجُّراتها قبل بلايين السنين، إلى المُفاعِلات النَّوَويَّة يُحاولُ العُلماءُ فيها أن يصلوا إلى نهايات تكوين المادَّة، إلى القنابل الذرِّيـَّة والهيدروجينيَّة، إلى فَكِّ رموز جينات الإنسان والحيوان، إلى الاستنساخ البيولوجيّ، إلى شبكات الإنتِرنِت والتلفزة العالميَّة، إلى المتاحف والمعابد والقصور وما تحويه من روائع، إلى ملايين الكُتب في مُختلف مجالات المعرفة البشريَّة إنَّ كلَّ ذلك وغيَره من المُنجزات التي يستمتعُ البشرُ بها على مَطَلِّ القرن الحادي والعشرين إنَّما هي من ثمرات العقل الراقي. فبهذا الارتقاء الإدراكيّ كان انتقالُ الإنسان البطيء الطويل من العيش البدائيّ القاسي المحفوف بالمخاوف والأَخطار في الكهوف إلى العيشِ الرَّخِيِّ في أَحضان مدنيَّة القرن العشرين. وبارتقاء العقل انتقلَ الإنسانُ من نظامِ القبائل المُتناحِرَة في سبيل العيش إلى نظامٍ عالَميٍّ يطمحُ إلى استيعاب الشعوب طُرًّا في أُسرةٍ دوليَّةٍ واحدة.

إنَّ العوالمَ العُلويَّةأو فراديس النَّعيملا تتميَّزُ عن العالَم الأَرضيّ بما تنعمُ به من أسباب الراحة والهناء فحَسب، بل أيضًا بارتقاء عقول كائناتها وما تُثمرُه من معرفةٍ وقُدرةٍ عظيمَتَين ومن إنجازاتٍ لا تدورُ في خلَد البشر. وقد سبقَ أن أَوضَحتُ في عددٍ سابقٍ من "صوت داهش" (حزيران/يونيو 1996) بعضَ المُنجَزات الجبَّارة التي صنعَتها حضاراتٌ راقيةٌ استطاعَت أن تبلغَ الأَرضَ مرارًا بسُفُنٍ فضائيَّةٍ تكادُ تبلغُ سرعتُها سرعةَ النور. والفرقُ بيننا وبين هذه الحضارات الراقية ينحصرُ بأنَّنا في عتَبة الدركة الأُولى من عوالم الجحيم، في حين أَنَّها في عتَبة الدرجة الأُولى من عوالم النعيم. فهل بوُسع الخيال البشريّ، يا تُرى، أن يتصوَّرَ مقدارَ رُقيِّ الحضارات في الدرجات المئة والخمسين من الفراديس التي تضمُّ ملايينَ العوالم المُذهلة بمُنجَزاتها العلميَّة!

إذًا بارتقاء العقل وما يُثمرُه من معارف ومُنجَزات كما بارتقاء النزعات (مدعومَين بقوَّة الإرادة مثلما سنرى)، يتمُّ الارتقاءُ الروحيُّ الحقيقيّ. والعوالمُ الفردوسيَّة إنَّما تتمايَزُ بمدى ارتقاء النزعات وقِوى الإدراك أيضًا في سيَّالاتِ سُكَّانها. ويستمرُّ التصاعدُ في الارتقاءِ العقليِّ كما في الارتقاء النزوعيّفي العوالم الروحيَّة، بعد العوالم الفردوسيَّة المادِّيـَّة، ليبلغَ الكمال المُطلَق في القُوَّة المُهَيمِنَة العُظمى التي هي الخالقُ عزَّ وجلَّ. ففيه وحدَهُ يتجلَّى العقلُ المُطلَقُ والخيرُ المُطلَق.

وكثيرًا ما كنتُ أسمعُ مُؤسِّسَ الداهشيَّة يلومُ بعضَ الداهشيِّين مِمَّن كانوا يُكرِّرون الأَخطاءَ في أحكامهم أو تفسيراتهم بقوله لهم: "هذا إهانةٌ للعقل، وإهانةُ العقل إهانةٌ لله."

إذًا الراقي روحيًّا، في المفهوم الداهشيّ، هُو مَن يستخدمُ العقلَ الذي وهبَهُ إيَّاه الله، فلا يستهينُ به ويدعُه خاملاً مشلولاً، لأَنَّ العقلَ قَبَسٌ إلهيّ. يقولُ الدكتور داهش عن الطائرة الجبَّارة وهو فيها:

هي أُعجوبةُ القرنِ العشرين ومعجزةٌ مُذهِلَةٌ بلا مراء.

إنَّ عقلَ مَن أنجزَ صُنعَ هذا المارد ذي الضَّوضاء

لا شكَّ أنَّهُ مُستَمَدٌّ من ربِّ السماء. [10]

في التعاليم الداهشيَّة مثلما تهبطُ السيَّالاتُ ذاتُ النزعات السامية من عوالمَ عُلويَّة، فإنَّ السيَّالات ذات المدارك الراقية، سيَّالاتِ العباقرة من أُدباء ومُفكِّرين وفنَّانين وعُلماء، تهبطُ إيضًا من عوالمَ عُلويَّة تفوقُ الأَرضَ رُقيًّا بمراحلَ عظيمة. وقد ظهرَ في سياق العصور عباقرةٌ غيرُ قلائل مهرَ كلٌّ منهم عصرَه بطابع شخصيَّته الفذّة، وأَحدثَ تأثيرًا غيرَ ضعيف في الحضارة البشريَّة؛ ومع ذلك لم يكشف التقصِّي التاريخيّ عن أيِّ أثرٍ للعبقريَّة في آبائهم أَو أَجدادهم، ولا في سُلالاتهم إذا خلَّفوا سُلالة. حسبُنا أن نذكرَ من العُلماء نيوتن، ومن الفلاسفة سقراط،ومن الأُدباء جبران خليل جبران، ومن الشعراء شكسبير، ومن الموسيقيِّين بتهوفن، ومن الرسَّامين ميكال آنجلو، ومن المُصلحين الاجتماعيِّين المهاتما غاندي، ومن الهُداة الروحيِّين الدكتور داهش. فهؤلاء العباقرة لا يُفسِّرُ علمُ الوراثة أَعمالَهم الفذَّة، ولا البيئاتُ التي نشأُوا فيها يُمكنُ أن تُعلِّلَ تفرُّدَ شخصيَّاتهم. فقد ظهروا في الأرض كأَنَّهم ليسوا من بَنيها. وحقًّا أنَّ سيَّالاتِ العبقريَّة فيهم ليست من الأرض؛ فقد هبطَت إليها ثمَّ عادت إلى عوالمها العُلويَّة بعد أن أتمَّ كلٌّ منها مهمَّتَه التي هي شبهُ رسالة من أجل الإسهام في ترقية الحضارة البشريَّة. ولذلك يشعرُ العبقريُّ أَنَّه مدفوعٌ بدافِعٍ عجيب لا قدرةَ له على رَدِّه، كأَنَّما هو قَدَرٌ يُسيِّرُه، أو حاجةٌ مِلحاح لا مناصَ من إشباعها كالجوع القارص أَو العطش اللاهب. ولذلك نرى العبقريَّ يُؤدِّي مهمّتَه لا يُلهيه عن إنجازها صدودٌ أو حرمانٌ أو ألمٌ أو عاهةٌ أو اضطهاد.[11] هذا الدافعُ العجيب الذي يُلهِبُ نفوسَ العباقرة ويُعبِّئُ قواهم من أجل إنجاز إبداعاتهم لم يستطع السيكولوجيُّون أن يهتدوا إلى سرِّه؛ فسايمنتن (Simonton) الذي تخصَّص في دراسة العباقرة وتأثيرهم في مجرى التاريخ يسأَلُ عمَّا يكون هذا الدافع الفائق وعمَّا يكون مصدرُه، لكنَّه ينتهي إلى القول: "الجوابُ عن هذا السؤال هو أحدُ الأسرار الكبيرة في السيكولوجيا."[12]

التعاليمُ الداهشيَّة أَعطت الجوابَ الشافي في السيَّالات العُلويَّة التي تحتلُّ العباقرة. وقد أوضحَ الدكتور داهش في "قصَّة الحُلم الهابط إلى أرض البشر" أنَّ لـ"عباقرة الموسيقيِّين الذين تركوا لعالمِ الأَرض تُراثًا إلهيًّا من الأَنغام" عالَمًا عُلويًّا خاصًّا يُدعى "كوكب النور الوضَّاء"؛ كما أنَّ للأُدباء والشعراء كوكبًا عُلويًّا آخر يُدعى "كوكب الخلود الباهر". [13]

والجديرُ بالذِّكر أنَّ سيَّالاتِ العباقرة من الفنَّانين والأُدباء والشعراء تتركُ آثارَها العُلويَّة المؤثِّرة في ما تُولِّدُهُ من إبداع؛ وهذا ما يجعلُ النفوسَ الراقية الحسَّاسة تهتزُّ وتخشعُ لتلك الروائع، إذْ إنَّها تحملُ لمحاتٍ ونفحاتٍ من الفراديس العُلويَّة، وومضاتٍ من قُدرة الخلق المُطلَقة التي يتميَّزُ بها الخالقُ عزَّ وجلَّ.

والآثارُ الفنِّـيَّةُ والأَدبيَّة الراقية هي مُولَّداتُ إشعاعات سيَّال الأدب أو الفنّ العُلويّ. إنَّها طاقاتٌ ذاتُ حياةٍ خاصَّة تتَّخذُ أَشكالَها من الحروف أَو الأنغام أو الألوان أو الأضواء والظلال. والرسومُ تحملُ من سيّالات الفنَّان شحناتٍ قد تدوم دوامَ الرسوم نفسها. وفي ذلك ما يفضُّ سرَّ الروعة والفرادة في النسخة الأَصليَّة، كما يُفسِّرُ أَهمِّـيَّتها. فآلاتُ التصوير الحديثة بوسعها أَن تلتقطَ صُوَرًا للرسوم الفنِّـيَّة تكون في غاية الأَمانة والدقَّة، لكنَّ هذه النُّسَخ، مع ذلك ، تبقى دون الأَصل قيمةً وفنًّا بمراحل كبيرة. فالآلة إن تستطعْ أَن تنسخَ صورة "الموناليزا"، مثلاً، فإنَّها تعجزُ عن نقل إشعاع السيَّال الروحيّ الكائن في الأَصل، وهو جزءٌ من حقيقة ليوناردو دافنشي النفسيَّة انفصلَ عنه ليتجسَّدَ في لوحةٍ هي امتدادٌ حقيقيّ له، مُتَّخذًا كيانًا جديدًا خاضعًا لقوانين جديدة.

وسيَّالُ الفنِّ الراقي أو الأَدب السامق، أصلاً، غريبٌ عن الأرض، هبطَ إليها من عالَمٍ سامٍ قوامهُ الجمال، تِبعًا لنظامٍ كَونيّ إلهيّ مَبنيّ على الاستحقاق العادل. وذلك ما يُعلِّلُ شعورَ الفنَّان الحَقّ أو الأديب المُبدِع بالغُربة أَينما حَلَّ في الأَرض وكيفما كانت ظروفُه الاجتماعيَّة. إنَّها غربةُ مَن ينزلُ وطنًا ليس وطنَه. وقد يزدادُ هذا الشعور عُمقًا إذا صحبَت سيَّالَ الفنِّ أو الأَدَب، في شخص الفنَّان أو الأَديب، سيَّالاتٌ روحيَّة راقية.[14]

 

مصدرُ التناقُض في العباقرة

ورُبَّ سائلٍ مُشَكِّك: كثيرون مِمَّن يُسمَّون عباقرة، سواءٌ كانوا أُدباء أم شُعراء أم فنَّانين أم عُلَماء أم فلاسفة، كانوا مُلحِدين أو مُستسلِمين لشهواتِ الجسد ومُغريات الدنيا، فكيف يكونون من الراقين روحيًّا؟

يتعذَّرُ إيجادُ جوابٍ صحيحٍ عن هذا السؤال إلاَّ من خلالِ مفهوم السيَّالات. فكلُّ إنسانٍ مجموعةٌ من السيَّالات التي لكلٍّ منها إدراكُه ونزعاتُه وإرادتُه ذات المستويات الخاصَّة. فالعبقريُّ هو عبقريٌّ ببعضِ سيَّالاتِه لا بها كلِّها. والسيَّالُ الراقي هو سيَّالٌ راقٍ بأبعادِه الثلاثة النزوعيَّة والإدراكيَّة والإراديَّة. ومثلما أَنَّ عقلَ الإنسان هو مُحصَّلة مجموع القوى الإدراكيَّة المتفاوتة في سيَّالاته، فشخصيَّتُه هي مُحصَّلة المدارك والنزعات والإرادات الناشطة في سيَّالاته. فقد يكونُ في العبقريِّ سيَّالٌ ضعيفٌ أو عدَّةُ سيَّالاتٍ ضعيفة انتقلَت إليه وراثيًّا من خلالِ أُمِّه أو أَبيه، وشاركَتِ السيَّالَ العُلويَّ الهابط، أي السيَّالَ الرئيسَ الذي وهبَ العبقريَّ سِمتَه الفذَّة، في بناءِ نفسيَّته وشخصيَّته. ولذلك كثيرًا ما نجدُ التناقُضات في سلوك العباقرة؛ ذلكَ لأَنَّ السيَّالات المُتضارِبة تُولِّدُ دوافعَ متضاربة.

وكَم من عبقريٍّ أظهرَتهُ الدراساتُ السيكولوجيَّةُ مُصابًا باضطراباتٍ نفسيَّةٍ أو عقليَّة. فلَم يخلُ مجالٌ من مجالات النشاط الفكريّ إلاَّ كان فيه أُناسٌ مُبدِعون، وفي الوقتِ نفسِه مُصابونَ بِخَلَلٍ مُعَيَّن. [15] وهذا يُؤكِّدُ ما ذهبتُ إليه من أنَّ مصدرَ هذا الخلَل هو سيَّالٌ غير السيَّال الذي مَدَّ العبقريَّ بفذوذيَّتِه وإبداعِه.

وقد وردَ في الأَناجيل ما يُثبتُ ما أوضَحتُه من وجود السيَّالات المُتعدِّدَة المُتضارِبة في الشخص الواحد مهما يكُن راقيًا روحيًّا. فمتَّى الإنجيليّ يذكر أنَّ يسوع أخذَ "يُظهرُ لتلاميذه أنَّهُ يجبُ عليه أن يذهبَ إلى أُورشليم ويلقى أشدَّ الآلامَ من الشيوخ والأَحبار والكَتَبَة ويُقتَل ويقومَ في اليوم الثالث. فانفردَ به بُطرُس وجعلَ يُعاتبُهُ فيقول: "حاشاكَ سيِّدي من هذا المصير." فالتفتَ إلى بطرس قائلاً: "سِرْ خلفي، يا شيطان، فأنتَ عقبةٌ دوني، لأَنَّ أفكارَكَ ليست أفكارَ الله بل أفكارُ البشر." [16]فهل من المعقول أن يكونَ هذا "الشيطان" هو نفسَه الذي قال له المسيح، ربَّما في اليومِ نفسِه: "أنتَ صخر [بطرس باليونانيَّة] وعلى هذا الصخر سأَبني كنيستي، ولن تقوى عليها أبوابُ الجحيم. وسأُعطيكَ مفاتيحَ ملكوت السماوات. فما ربطتَ في الأَرضِ رُبِطَ في السماوات. وما حللتَ في الأَرض حُلَّ في السماوات"؟ [17]

هذا التناقُض مصدرُهُ تناقضُ سيَّالَين في بطرس. فـ"الشيطان" فيه هو السيَّالُ الضعيفُ المُتردِّد، السيَّال الذي أنكرَ المسيحَ ثلاثَ مرَّاتٍ قبل صياح الديك، والذي كادَ يودي به غرقًا إذْ دعاهُ المسيحُ ليمشيَ على الماء، فأمسكَه يسوع قائلاً له: "يا قليلَ الإيمان لماذا شكَكتَ؟" [18] أمَّا السيَّالُ العُلويُّ، سيَّالُ الرسول فيه، فهو الذي خاطبَه المسيح بأنَّهُ "الصخر" الذي سيبني عليه كنيسته.

 

أَبعادُ العقل في الإنسان

لا بُدَّ للباحث في العقل، اليوم، من أن يلقى صُعوبتَين: الأُولى الاختلافَ الحاصل في فَهم أبعاد العقل وأنواعه؛ والثانية اختلافَ المدلولات السيكولوجيَّة للألفاظ، أحيانًا، عن معانيها الأَدبيَّة الشائعة. لكنِّي سأبذلُ جُهدي لأَكونَ واضحًا فلا أدخلُ في التعقيدات اللُغويَّة أو السيكولوجيَّة.

يتَّفقُ السيكولوجيُّون على أنَّ العقل، في الإنسان، يشتملُ على عدَّةِ قوًى نفسيَّة ما زالوا يُحاولون تعرُّفَها وتمييزَها. وهذه القوى كائنة في كلِّ إنسانٍ بدرجات مُتفاوتة، وتشملُ الذكاء والذاكرة والمُخَيِّلة.

فالذكاء (intelligence) يشملُ مَلَكَةَ الإدراك الحسّيِّ أو الطبيعيّ (perception) الذي به يُميِّزُ الإنسانُ نفسَه عن مُحيطِه كما يُميِّزُ الأَشياءَ بعضَها عن بعض، ومَلَكَة الإدراك المعنويّ التحليليّ أو التصوُّر (conception) الذي به يُدرك المجرَّدات وماهيَّات الأَشياء والنِّسَب أو الصِّلات القائمة بينها. كذلك يضمُّ الذكاءُ القُدرةَ على التكيُّف السريع توسُّلاً للنَّجاح في العمل أو الحياة الواقعيَّة، كما القُدرةَ على التعلُّم من التجارب أو من المعرفة المحصَّلة من أَجل حَلِّ المُعضلات. [19]

والذاكرةُ وظائفُها تثبيتُ الذكريات المُدرَكة، وحفظُها، ثمَّ تذكُّرها والتعرُّف عليها، وتعيين أماكنها. [20]

أمَّا المُخَيِّلة فهي من جهةٍ تستحضرُ صُوَرَ الأَشياء المُدرَكة في الماضي، ومن جهةٍ أُخرى تبتكرُ صُوَرًا مُركَّبة من عناصر مُختلِفة. [21]

وقد أدَّت دراساتُ السيكولوجيِّين للذكاء ولمدى ارتباطه بنجاح الإنسان في تحصيل المعرفة إلى إنشاء رائزٍ للذكاء المدرسيّ يُطَبَّق على الأَحداث؛ والهدفُ منهُ معرفةُ حاصل الذكاء لدى كلٍّ منهم   (IQ= Intelligence Quotient)، أي نسبة العُمر العقليّ (MA= Mental Age) للعمر الزمنيّ (CA= Chronological Age). ثمَّ طُوِّرَت المعادَلة فأصبحَت IQ= (MA/CA)x 100) ، باعتبار أنَّ حاصلَ الذكاء العاديّ هو 100، أي التساوي التامّ بين العُمر العقليّ والعمر الزمنيّ؛ وهكذا تسهلُ المقارنة بين مُستَوَيات الذكاء لدى الأَحداث.

وبعدئذٍ طوَّر السيكولوجيُّون رائزَ الذكاء لتطبيقه على الكبار، فجعلوه نوعًا من نسبة الشخص المئويَّة لمجموع الناس. [22]

ومثلما تهبطُ درجاتُ النزعات في الإنسان، فتتسفَّل وتتدنَّى عن المستوى الذي يجبُ ألاَّ تنزلَ عنه الطبيعةُ الإنسانيَّة، فيُؤذي غيره مثلما تؤذي الوحوشُ غيرها، ويقصرُ هدفَه في الحياة على إشباعِ نزواته وشهواته وسائر حاجاته البيولوجيَّة، هكذا يُمكن أن يتدنَّى مستوى العقل في إنسانٍ ما، فيُصبحَ غباءً أَو بلادة؛ أو قد يُصاب عقلُه باختلالٍ ما قد نُسمِّيه انفصامًا أو هستيريا أو أفكارًا تسلُّطيَّة ثابتة، إلخ...

كذلك قد يُصيبُ الذاكرةَ اضطراباتٌ معيَّنة، فتفقدُ تذكُّرَ الحاضر أو الماضي، أو تعجزُ عن الحفظ أو عن معرفة الأَشياء، أو عن تعيين أماكنها.

كما قد تُصابُ المُخيِّلة باضطراباتٍ فتُولِّدُ الهَلوَسة وهوسَ الكذب، أو الحماقة.

والصعوباتُ في تطبيق روائز الذكاء على مُختلِف الأَعمار والكفاءات بسبب عجزِها عن تقديمِ تفسيرٍ صحيحٍ دائمٍ لنجاح الإنسان أو فَشَلِه في حياته، من جرَّاء قُصورِها عن تقديم الإيضاحات الكافية للتكوين العقليّ في العباقرة هذه الصعوباتُ دفعَت السيكولوجيِّين إلى البحث عن مفاهيمَ جديدةٍ للذَّكاء أكثرَ دقَّةً ومُلاءَمةً للواقع البشريّ. ومن أفضل النتائج الجديدة ما عرضَهُ هوارْد غارْدنِر (Howard Gardner) في كتابَيه "أُطُرُ العقل: نظريَّة تعدُّد أنواع الذكاء" و"أَنواع الذكاء: النظريَّة مُطبَّقة". [23] فقد رأى أنَّ الناسَ ينقسمون في ذكائهم إلى سبعة أنواعٍ رئيسة:

1- فئة الذكاء اللُغويّ.

2- فئة الذكاء المنطقيّ الرياضيّ.

3- فئة الذكاء البصَريّ المَساحيّ.

4- فئة الذكاء الموسيقيّ.

5- فئة الذكاء البَدَنيّ الحرَكيّ.

6- فئة الذكاء الباطنيّ الشخصيّ.

7- فئة الذكاء الاجتماعيّ الخاصّ بالعلاقاتِ بين الإنسان والآخرين.

ويُمكنُ أَن ينطويَ تحت كلِّ نوع أَصنافٌ فرعيَّة من الذكاء. وقد نرى أُناسًا، في كلِّ مجال، يجمعُ كلٌّ منهم بين عدَّةِ أنواعٍ من الذكاء. وإذا اشتدَّ ذكاءٌ نَوعيٌّ في إنسانٍ ما فارتفعَ مُستواه عمَّا لدى الأَغلبيَّة، أصبحَ بمنزلة الموهبة؛ فكان في الفئة الأُولى الأُدباء والشعراء، وفي الثانية عُلماء الرياضيَّات والعلوم الطبيعيَّة، وفي الثالثة الرسَّامون والنحّاَتون والمُهندسون والجرَّاحون، وفي الرابعة الموسيقيُّون، وفي الخامسة راقصو الأُوبراه وأَبطال الرياضة البدنيَّة، وفي السادسة الفلاسفة والمُحلِّلون النفسيُّون، وفي السابعة القادة السياسيُّون والعسكريُّون والاجتماعيُّون.

وإذا نشِطَتِ الموهبة فأبدَعَت وأخصَبَت وتركَت آثارًا جليلةً تحملُ من عناصر البقاء والتأثير ما يُغيِّرُ شيئًا من مجرى التاريخ، أصبحَت عبقريَّة. وعلى العبقريَّات قامَت الحضاراتُ في كلِّ العصور.

 

النجاحُ الشريف في الحياة الواقعيَّة

يقتضي تعاوُنَ الذكاء والنزعات الشريفة

لقد تنبَّهَ عُلَماءُ النفس إلى أنَّ كُلاًّ من أصحاب الأَنواع الستَّة الأُولى من الذكاء قد ينجحُ بل يبرع ويتفوَّق في حقله المُعَيَّن، لكن ليس من المحتوم أن ينجحَ في الحياة الواقعيَّة الاجتماعيَّة إلاَّ إذا كانَ يتمتَّعُ بقِسطٍ غير ضئيلٍ من الذكاء السيكولوجيّ الاجتماعيّ. هذا الذكاءُ الضروريُّ للنَّجاح في الواقع الاجتماعيّ أوضَحَه دانيال غولمان (Daniel Goleman) في كتابه "الذكاء الانفعاليّ" (Emotional Intelligence). [24] فأحداثُ الحياة تُؤكِّدُ أنَّ أذكياءَ كثيرين يرتكبون أخطاءً فادحةً وحماقاتٍ ورُبَّما جرائم، إذْ يتحكَّمُ بهم هيَجانٌ انفعاليٌّ تُثيرُهُ شهوةٌ جنسيَّةٌ جارفةٌ أو غضبٌ أعمى أو غيُر ذلك من الانفعالات الجامحة. كما تُؤكِّدُ أنَّ النَّجاحَ في الحياة الاجتماعيَّة والعلاقات بين الناس لا تكونُ نسبتُه تبعًا لنجاح الإنسان الأَكاديميّ ولمستوى الدرجة الجامعيَّة التي يُحصِّلُها. فليسَ دائمًا، ولا غالبًا، يكونُ ألمَعُ الطلاَّبُ هم الزعماءَ والقادةَ في حقول السياسة والاجتماع والتجارة، ولا أنجحُ الطلاَّب هم الأَنجحَ في الاستقرار العائليّ وهناء الحياة والعلاقات الزوجيَّة أَو الأَبويَّة أَوالصداقة؛ ذلك بأنَّ مُفاجآتِ الحياة وتقلُّباتِها تقتضي تكيُّفًا انفعاليًّا شبهَ دائم. وهكذا يتأكَّدُ أنَّ مصيرَ الإنسان ليسَ رهنَ عقلِه المنطقيِّ الواعي فقط، بل رهنُ رغباتِه ونزواتِه ونزعاتِه وتصرُّفاتِه الانفعاليَّة مع الآخرين أيضًا. فالنشاطُ العقلانيُّ لا يُمكنُ فصلُه عن النشاط الشعوريِّ الانفعاليّ في الحياة الاجتماعيَّة.

هذه الحقيقةُ تُؤكِّدُ ما توضِحُهُ التعاليمُ الداهشيَّةُ إذْ ترى أنَّ الرقيَّ العقليَّ لا يستتمُّ فعَّاليَّته الإيجابيَّة إلاَّ إذا صاحَبَهُ رُقيٌّ شعوريٌّ يظهرُ في النزعات السامية التي تشملُ التزامَ الحقيقة والعدالة والعفَّة والقناعة، ومُمارسَةَ المحبَّة بما تشتملُ عليه من نزعةٍ غَيريَّةٍ وتسامُحٍ وتواضُع... وليس أفضل من المهاتما غاندي نموذَجًا للقائد الناجح الذي يجمعُ رُقيَّ العقل إلى رُقيِّ النَّزعات. يصفُه الدكتور داهش بقَوله:

هذا الضئيلُ في جسدِه، الجبَّارُ في عقليَّته؛ هذا القميءُ الذي تهتزُّ لهُ أكبرُ وأعظمُ دولةٍ على هذه الأَرض؛ هذا الذي تكادُ الملايينُ تعبُدُه، لأَنَّها تتأكَّدُ من نقاءِ كفِّه وصفاءِ سريرته، وأنَّهُ يعملُ من أجلِ إسعادِها... [25]

 

الدكتور داهش وأبعادُ الذكاء

مَن عرفَ مُؤسِّسَ الداهشيَّة عن كثَب فلازمَهُ وراقَبَ اضطلاعَهُ بأعمالِه اليوميَّة، وشهدَ مجالسَه مع أتباعِه وزائريه، واطَّلَعَ على قيادتِه الحملةَ الإعلاميَّة على رئيسٍ طاغيةٍ جنَّدَ كلَّ إمكانات الدولة لمُحاربة فردٍ بريءٍ أَعزَل مَن أحاطَ بكلِّ ذلك أدركَ أيَّ شخصٍ عبقريٍّ عاشَ في لبنان، فشغلَ صِحافتَهُ زُهاءَ نصف قرن في حياته وما زال يشغلُها، وأثارَ الشعبَ على الطاغية فأسقطَه، وخلَّفَ ما يُنيفُ على مئةِ كتابٍ أبدَعها في مُختلِف الحقول الفكريَّة والأَدبيَّة والروحيَّة، وجمعَ أكبرَ مكتبةٍ شخصيَّةٍ، وأنشأَ مُتحَفًا يكادُ يُضاهي المتاحفَ الدوليَّة كلُّ ذلك وأنتَ لا تذكرُ رسالتَه الروحيَّة ومعجزاتِها المُذهِلَة وتأثيرَه البنَّاءَ البالغ في نفوس الأُلوف من زائريه.

لقد كانَ الدكتور داهش يُطالعُ بسرعةٍ فائقةٍ جميعَ الصحف والمجلاَّت اللبنانيَّة وأهمَّ الصحف العربيَّة صباحَ كلِّ يوم قبل أن يستيقظَ معظمُ الناس، بل معظمُ الذين كانوا يُلازمونَه في منزله. وقلَّما مرَّ يومٌ لم يُطالع فيه كتابًا أو كتابَين أَو أكثر بالسرعة الفائقة نفسِها. فقُدرةُ الفهم والحفظِ لدَيه كانت خارقة...[26]

وكان يكتبُ ما يُبدِعُه بسرعةٍ فائقةٍ أيضًا، ويدعو مُجالسيه من الكُتَّاب والأُدباء إلى مُباراته في موضوعٍ يختارونَه، فيتبارَون ضمنَ مهلةٍ مُعيَّنة، ويبزُّهم.

ومَن يتصفَّحْ مؤلَّفاتِه تجتذبْه الرسومُ التي تُزيِّنُ كثيرًا منها؛ وموضوعاتُها التي تُوضِحُ النصوصَ بمُجملِها وتفاصيلِها تصوَّرَتها مُخيِّلتُه الجبَّارة، ثمَّ أرسلَ بتصاميمها إلى الرسَّامين فنفَّذوها. إنَّ القدرة على ابتكار أَفكارٍ وصُوَرٍ جديدة مصدرُهاُ الخيالُ الخلاَّق. وهذا الخيالُ ضروريّ للأَديب المُبدِع كما للعالِم المُبتكِر. فتِبعًا لكلام ماكْس بلانك (Max Planck)، حائز جائزة نوبل، إنَّ العالِم "يجبُ أَن يتمتَّع بخيالٍ حَدْسيّ مُشرِق، لأَنَّ الأَفكارَ الجديدة لا يُولِّدُها الاستدلال بل الخيالُ الفنّيُّ المُبدِع."[27]

ومَن يتعرَّف تفاصيلَ مُقاومةِ الدكتور داهش لدولة الطغيان، وفنونَ الأَساليب التي استَخدَمَها لجَبْهها وتعفيرِ أنفها، لا بُدَّ من أن يتعجَّبَ للذكاء الخارق الذي كانَ وراءَ تنظيم حملته، وللتكيُّف السريع الذي كانَ يقومُ به وفقًا لتطوُّرها، حتَّى لَيَصحُّ أن تُتَّخَذَ فنونُ أساليبه مدرسةً نموذجيَّةً للألمعيَّة في مُقاوَمة الأَنظمة القَمعيَّة الاستبداديَّة.

والعقلُ الراقي الذي يستطيعُ أن يُميِّزَ الحقَّ من الباطل إن سانَدَتْهُ نزَعاتٌ سامية، بوُسعِه أيضًا أن يُميِّزَ الصوابَ من الخطإ والصحيحَ من الكذبِ إنْ دعَمَهُ منطقٌ سديد. وهذا كان شأنُ مُؤسِّس الداهشيَّة مع أتباعِه؛ فطالَما طرحَ عليهم مُعضلاتٍ ليحلُّوها، فإذا فازوا، كان سرورُه كبيرًا.[28]

وطالَما أوضحَ لهم أسرارَ الشعوذات التي يدَّعي أصحابُها من المُخادعين المُمتهنين لها أنَّها أعمالٌ خارقة، ثمَّ أرسلهم إليهم ليُعمِلوا عقولَهم في تلك الشعوذات ويفضحوها أمامَ أصحابها. حسبُنا ذكرُ المُشعوذ الدجَّال طهرا الذي استقدمَه الرئيسُ بشاره الخوري خصِّيصًا ليوهمَ اللبنانيِّين بأنَّ في قُدرتِه صُنعَ العجائب؛ فإذا الداهشيُّون، وعلى رأسهم الدكتور فريد أبو سليمان، يُنزِلون فيه فضيحةً تلوَ أُخرى حتَّى أَذلُّوهُ بعد أن فضحوهُ، فأُجبِرَ على التواري رغمَ أنف السلطات التي تحميه.

إنَّ المنطقَ العلميَّ السليمَ مبنيٌّ على فهم القوانين الطبيعيَّة التي يستحيلُ خرقُها بالإرادة البشريَّة. وامتيازُ البشر بموهبةٍ ما يبقى واقعًا ضمنَ أنواع الذكاء السبعة الرئيسة التي أشَرنا إليها آنفًا. أمَّا أن تُصبحَ الموهبةُأي الذكاء الشديد في حقلٍ معيَّن من المعرفةقُدرةً خارقةً للقوانين الطبيعيَّة، فهذا أمرٌ مستحيلٌ في العِلم، والمنطقُ السديدُ يرفضُه. ولذلك فعَقلُ الداهشيّ يرفضُ أن تكونَ المعجزاتُ الروحيَّةُ من صُنعِ بشر، ويُوقِنُ بأنَّها من صُنعِ ملاك، أو روحٍ مُفارِقٍ للمادَّة، أو كائنٍ عُلويٍّ لا يخضعُ للنَّواميس الأَرضيَّة. وبهذا المفهوم تكونُ المعجزةُ "خرقًا" للقوانين الطبيعيَّة بالنسبة للبشر، وعملاً عاديًّا مُجارِيًا للقوانين الروحيَّة غير المعروفة لدى الناس ومُناسبًا للمعرفة غير البشريَّة.

والمنطقُ السليمُ ليس تطبيقُه مقصورًا على العِلمِ فحَسب، بل ينبسِطُ على الوسائل والغايات كما على الأَسباب والنتائج. قال لي مُؤسِّسُ الداهشيَّة مرَّةً ما فحواه: إنَّ الإلهَ الذي يُرغمُ الناس، من خلالِ رجال الدين، على أن يتبعوا دينًا مُعيَّنًا وإلاَّ اضطُهِدوا، لا يكونُ إلهًا حقيقيًّا. فالإلهُ الحقُّ لا يظلم، ولا يغتصب من الناس حرِّيـَّتهم التي هو منَحَهم إيَّاها، ولا يُمثِّلُ المحبَّةَ المُطلقة وفي الوقتِ نفسِه يُحرِّضُ على قتل الناس أو إيذائهم؛ لأَنَّ الغايةَ الشريفةَ لا يُمكنُ بلوغُها بوسيلةٍ غير شريفة.

هذا هو المنطقُ السليم، منطقُ ذَوي العقول الراقية والعواطف السامية.

لقد كان الدكتور داهش يكرهُ الغباءَ ويشمئزُّ منه ومن مُتفرِّعاته. يقولُ في سُداسيَّةٍ بعنوان "الغباءُ لعنةٌ كُبرى":

الغباءُ مكروهٌ تشمئزُّ النفسُ منه وتشجبُهْ

والبَلَهُ لعنةٌ سُفليَّةٌ ما أتفهَه وأشأمَه وأرهبَهْ!

والعَتَهُ مُصيبةٌ كُبرى ونكبةٌ عُظمى للمُبتَلى بِهْ

فهذا المُثَلَّثُ اللعينُ ليتَني أستطيعُ أن أَصلُبَهْ

فالشيطانُ الرجيمُ لا ولن يستطيعَ أن يغلبَهْ

والذكاءُ والأَلمعيَّةُ وحضورُ الذهن فإنَّ نفسي تطلبُهْ. [29]

فالغبيُّ، وصاحبُ المنطق الضعيف، يفشلُ في حياتِه المادِّيـَّة كما في حياته الروحيَّة. فعَجزُهُ عن رَبطِ الأَسبابِ بالنتائج يُؤَدِّي به إلى المتاعب والمصائب في حياتِه اليوميَّة وعلاقاتِه بالنَّاس. يقولُ مُؤسِّسُ الداهشيَّة بسُداسيَّةٍ في معرضِ حديثِه عن حفظ اللسان وضرورة استخدامِه في الظروف المُناسِبة:

"اللهُ وهبَني عقلاً، فلو صنتُه [لساني] لَما اجتاحَ الرعبُ جَناني." [30]

كذلك عجزُ الإنسان عن الربط بين الأَسباب المُتمثِّلَة بأعمالِه الشرِّيرة أو الدُّنيويَّة الحقيرة يُؤدِّي به إلى التَّهلكة بعد الموت. فكَم من إنسانٍ يُمضي حياتَه غائصًا في الشهوات، ساعيًا وراءَ المال، عاديًا وراءَ النساء، هازئًا بتعاليم الأَنبياء... "وفجأَةً يقنصُهُ الموتُ قائلاً له: اتبَعْني، فبدُنياكَ كنتَ غبيًّا." [31]

وعلى نقيض الغبيِّ يكونُ مصيرُ الذكيِّ الأَلمعيِّ الذي تصفو أفكارُه لصفاءِ نفسِه، وينشرحُ صدرُه لثَباتِ إيمانِه وصُمودِه. يقولُ الدكتور داهش:

وكُنْ مُتوقِّدَ الذهنِ، صافيَ الخاطر، شديدَ المراس وثابتَ الجَنان،

وارتَعْ ما شاءَ لكَ الانشراح، وتمتَّع في فردوسِ الجِنان. [32]

كما إنَّ صاحبَ المنطق السليم يعرفُ أنَّ الإنسانَ يُثمرُ ثمَرًا من طبيعته، تمامًا مثلما كلُّ شجرةٍ تُثمرُ ثمرًا من طبيعتِها، فلا يخدعُه السياسيُّون بألاعيبهم وتمويههم للحقائق، ولا يغرُّهُ رجالُ الدين إذا كانوا من المُرائين المُختلقين للأكاذيب، ذلك بأنَّهم "رُسُلُ إبليسَ اللعين، وأكاذيبُهم لا يُصدِّقُها سوى كلِّ معتوهٍ أُصيبَ بخبال." [33]

لقد كان مؤسِّسُ الداهشيَّة يُشدِّدُ على أهمِّـيَّة الذكاء تشديدَهُ على سُمُوِّ النَّزَعات في الإنسان. وهو يرى أنَّ الذكاءَ أهمُّ من السلطةِ والمال. ويستاءُ من الناس عامَّةً لأَنَّهم

يحتقرون الفقيرَ رغمًا عن معرفتهم بأنَّهُ ألمَعيّ،

ويخضعونَ لصاحبِ السلطة مع تأكُّدهم أنَّهُ أبلَه وغبيّ.[34]

وعلى نزعة الدكتور داهش العامَّة لحُبِّ الجمال وتذوُّقه حيثُما وُجِد، سواءٌ في الطبيعة أم في الفنِّ، فإنَّهُ آثرَ الفتاةَ الذكيَّة على الفتاة الجميلة. يقولُ في قطعةٍ عنوانُها "أُفضِّلُ الذكيَّة":

قالوا: نُفضِّلُ بالمرأة الجمال، فهو تاجُها المُفضَّل؛

وأنا أقولُ: إنَّني أُفضِّلُ ذكاءَها على جمالها.

فماذا يهُمُّني من الوردة الجميلة المنظر،

الأَخَّاذة الأَلوان،

إذا كانت لا رائحةَ فيها تُضمِّخُ الأَرجاء؟

فالمرأةُ الجميلةُ التي لا ذكاءَ لدَيها

هي أشبهُ بهذه الوردة الخاملة

التي لا عطرَ بها ليُحييها. [35]

لم يتركْ مُؤسِّسُ الداهشيَّة فُرصةً وهو مع أتباعِه إلاَّ كانَ يُحرِّضُهم فيها على شَحذِ عقولِهم وترقيَةِ مداركِهم بمُختلِف الوسائل من مُطالَعةٍ للكُتُب المُفيدة إلى تأمُّل بدائع الخَلق، إلى مُواصلة الكتابة الأَدبيَّة إن كانوا من ذوي المواهب، إلى الإكبابِ على الرَّسمِ إن كانوا من الفنَّانين.

وكان يوصي مَن يُرسلُهم ليكونوا لسانَ حالِه بأن يكونوا أذكياءَ في تصرُّفهم وكلامهم، لأَنَّ الرسولَ صورةٌ للمُرسِل. وإذا أظهروا أيَّ خطإٍ في سلوكهم أَو في مُحادثتهم كان يستاءُ جدًّا. وأهمِّـيَّةُ هذا الأَمر حدَتْهُ إلى أن يكتبَ سُداسيَّةً بعنوان "إنتَخِبْ رسولَك" يقولُ فيها:

إذا أرسَلتَ رسولاً فَليكُن نشيطًا وذكيًّا

وإيَّاكَ أن توفِدَهُ بسيطًا عديمَ الخَبرة غَبيًّا

فرسولُكَ هو صورةٌ عنكَ، فكُن ألمَعِيًّا

وإذا فشِلَ بمهمَّتِه لتفاهتِه يَكُنْ إمَّعَةً وغبيَّا.

فانتخِبْ رسولَك نبيهًا يطوي الأَرضَ طَيَّا

فالأَذكياءُ يُخَلِّدُ التاريخُ ذكرَهم خُلودًا أبديَّا. [36]

ومِنَ الأَذكياء الذين خلَّدَهم التاريخ واجتذَبوا اهتمامَ مُؤَسِّس الداهشيَّة، فتحدَّثَ عنهم في مُناسباتٍ كثيرة، وكتبَ عنَ مواقفهم الأَلمعيَّة بولس الرسول. فحضورُ البديهة عندَه، ولمعةُ الخاطر، والنباهةُ الشديدةُ، واليقظةُ والاحتراس والحذَروجميعها أبعادٌ ضروريَّةٌ للذكاء المُتوقِّد كانت مُتمثِّلَةً فيه على أكملِ وجه.

يقولُ الدكتور داهش بمُناسبة زيارته لمدينة أَفَسُس التاريخيَّة:

وقفَ بولس الرسولُ يُبشِّرُ بالسيِّد المسيح. وكانَ ذكيًّا، ألمَعيًّا، سريعَ الخاطر، مُتنبِّهًا، مُتيقِّظًا، مُحتاطًا لكلِّ شيء.

كانت، يومذاك، عبادةُ (أرتَميس) هي العقيدةَ التي يؤمنُ بها الجميع. وذكاءُ بولُس جعلَهُ يقولُ للحشودِ في أَفَسُس: "إنَّني أُبشِّرُكُم بالسيِّد المسيح بواسطة إلاهتكم أرتَميس." وراحت كلماتُه تتدفَّقُ من فيه تدفُّقَ السَّيلِ العَرَمرَم.

قلتُ: "ذكاءُ بولُس"، وهذا حقّ؛ لأَنَّهُ لو قال للحشود: "جئتُ أُبشِّرُكم بالسيِّد المسيح، لأَنَّ إلاهتكم أَرتَميس لا وجودَ لها، وهي لا تستطيعُ دَفْعَ شرّ ولا إيجادَ خير،" لَكانوا قتلوهُ فورًا..."[37]

وكان بولُس الرسول قد بشَّرَ في بلادٍ كثيرةٍ قبل وصولِه إلى أفَسُس، من بينها آثينا التي خاطبَ أهلَها في وسط الأَريوباغُس قائلاً: "يا أهلَ آثينا، أراكُم أكثرَ الناس تديُّنًا في كلِّ وجه. فإنِّي وأنا سائرٌ أنظرُ إلى معابدِكُم، وجدتُ معبدًا كُتِبَ عليه: "إلى الإله المجهول." فأنا أُبشِّرُكُم بذاكَ الذي تعبدونَه ولا تعرفونَه..." (أعمالُ الرُّسُل 17: 22-34).

 

الإلهام والوَحي

يبقى أن نُوضِحَ أنَّ كلَّ مَن تمتَّعَ بسيَّالٍ عُلويّ، عالِماً كانَ أم أديبًا أم شاعرًا أم فنَّانًا أم مُصلِحًا روحيًّا أو اجتماعيًّا، يُمكنُ أن يتلقَّى إلهامًا من سيَّالاته العُلويَّة التي ما زالت في الفراديس.

وكثيرًا ما كانَ مُؤسِّسُ الداهشيَّة ينصحُ أتباعَه من الموهوبين في الأَدب أن يستسلموا لسجيَّتهم وعفويَّتهم وهم يكتبون. وغايتُهُ ألاَّ يقطعوا عنهم التلقِّي الإلهاميِّ إذا أعمَلوا عقولَهم كَدًّا ونحتًا. وهذه العفويَّةُ لا تَحولُ دونَ إعادة النظر في صياغة ما يُكتَب من أَجل إكسابه جماليَّةً أكثر.

وكان أَفلاطون قد تكلَّم على العبقريَّة في "إيون" (Ion)فقال: "إنَّ موهبتَك الظاهرة في كلامكَ البليغ على هوميروس ليست فنًّا [صناعة]، بل إلهام: ففي داخلك إله يختلج." ويُتابع قائلاً إنَّ الشاعرَ هو "شيءٌ مُقدَّس، ولا يظهرُ منه أَيُّ إبداع حتَّى يُلهَم... ذلك لأنَّ الشاعرَ لا يُنشِد بفِعل فَنّ [صناعة]، بل بفِعل قوَّةٍ إلهيَّة."

وفي ظلِّ المسيحيَّة بقيَ هذا المفهوم قائمًا حتَّى أَواخر القرن الثامن عشر؛ لكنَّ تأثيرَ المُؤسَّسات الدينيَّة المسيحيَّة ظهرَ في جَعْلِ "الروح" الذي يمسُّ العبقريَّ على نَوعَين: "روح" صالح إذا رضيَت الكنيسة على العبقريّ، و"روح "طالح إذا ناصبَته العداء. ولم يتوارَ "الروح" الطالح من ساحة العبقريَّة إلاَّ مع قيام الحركة الرومنسيَّة، فإذْ ذاك حدثَت العودة إلى أفلاطون.[38] لكنَّالشعراءَ الرومنسيِّين تحدَّثوا عن الإلهامِ وعن شعورهم به، لكنَّهم لم يُدرِكوا حقيقتَهُ ومصدَرُه.

ولكي لا يخوضَ السيكولوجيُّون في موضوعٍ لم يكتشفوا حقيقتَه بعد، سمَّوا الإلهامَ حدْسًا. لكنَّهم وجدوا أنفسَهم أمامَ مُعضِلَةٍ حينما حاولوا تفسيرَ كثيرٍ من الاختراعاتِ والاكتشافاتِ التي كانت حلولُها تُشرقُ فجأةً في رؤوسِ أصحابها، فنسبوها استسهالاً إلى "الصُّدفة".[39]

غيرَ أنَّ نظامَ السببيَّة الروحيَّة الشامل يمنعُ وجودَ "الصُّدَف". فماجرياتُ الحياة اليوميَّة قائمةٌ على نظام الاستحقاق والعدالة الإلهيَّة. وتطوُّرُ الحضارات خاضعٌ للنظام نفسِه. ولذلك فالاختراعُ أو الاكتشافُ فائدتُهُ وخُطورتُهُ وأبعادُهُ تتعدَّى صاحبَهُ لتشملَ مُجتمَعًا بأكملِه بل البشريَّةَ كلَّها. فليسَ من العدالة أن تتحكَّمَ الصُّدَفُ بمصيرِ المُجتمعات والحضارات قاطبة.

أخيرًا، لا بُدَّ من التمييز بين الوَحي والإلهام. فالوحيُ لا يتلقَّاهُ إلاَّ الأَنبياءُ والمُرسَلون. وهو يتنزَّلُ عليهم من روحٍ قُدُّوس أو ملاكٍ كريم، وغايتُهُ تبليغُ الناس رسالةً روحيَّةً من ربِّ العالَمين. وقد تكونُ هذه الرسالةُ بصورة تعاليم دينيَّة تشملُ إيضاحَ حقائق روحيَّة وأوامرَ ونواهيَ، أو بصورةِ نُذُرٍ عامَّة أو إرشاداتٍ شخصيَّة؛ في حين أَنَّ الإلهامَ يتلقَّاهُ مَن يتمتَّعُ بسيَّالاتٍ عُلويَّةٍ من لَدُن سيَّالاته العُلويَّة الأُخرى التي ما تزالُ تنعُمُ في الفراديس. هذا في الحالات العاديَّة، أمَّا في البعثات النَّبَويَّة فقد يُلهَمُ مَن يجبُ أَن يُلهَم من أَتباع الرسول من قِبَل الروح أَو الملاك مُباشرةً أَو بواسطة النبيّ من أَجل تأدية مهمَّة معيَّنة. والإلهام غير الإيعاز الروحيّ (وقد يُسَمَّى إلهامًا) الذي يضعُه الملاكُ الرقيب المُولَّج بالأرض في أَذهان لناس إجراءً للعدالة الإلهيَّة. هذا ما وصلَني من إيضاحات مُؤسِّس الداهشيَّة في هذا الصَّدَد.

(في العدد المُقبِل أَهمِّـيَّة الإرادة في الرُّقيِّ الروحيّ وفقَ التعاليم الداهشيَّة)



[1]راجع غازي براكْس، "الدكتور داهش الأَديب المُعجِز: مُقارنة بين عملاقَين "جحيم داهش" و"جحيم دانتي" (دار النسر المُحلِّق، بيروت، 1981) ص 25-28.

[2] الدكتور داهش، "الرحلاتُ الداهشيَّة حول الكُرَة الأَرضيَّة"، ج 3 (دار النار والنور، بيروت، 1983 )، ص 53.

[3] الدكتور داهش، "الرحلات الداهشيَّة حول الكُرة الأرضيَّة"، ج 1 (دار النسر المحلِّق، بيروت، 1982 )، ص13.

[4]الدكتور داهش، "الرحلاتُ الداهشيَّة حول الكُرة الأرضيَّة"، ج 3 ، ص 11.

[5]الدكتور داهش، "قِصَص غريبة وأساطير عجيبة"، ج 2 ، (دار النسر المُحلِّق، بيروت، 1979)، ص 111.

[6] "الرسائلُ المُتبادَلة بين الدكتور داهش والدكتور محمَّد حسين هيكل باشا" (دار النسر المُحلِّق، بيروت، 1979)، ص 67.

[7]الدكتور داهش، "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، ج 2 (دار النار والنور، بيروت، 1983)، ص 7.

[8]الدكتور داهش، "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، ج 19 (الدار الداهشيَّة، نيويورك، 1994)، ص 64. أمَّا العام الذي بدأَ فيه اقتناءَ الروائع الفنِّـيَّة فهو 1930 ("الرحلات الداهشيَّة"، ج 18، الدار الداهشيَّة، نيويورك، 1994، ص 33).

[9]الدكتور داهش، "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، ج 2، ص 73.

[10]الدكتور داهش، "المُهنَّدُ الباتر" (الدار الداهشيَّة، نيويورك، 1991)، ص 159.

[11]حالاتُ العبقريَّة التي ليس لها ما يُفسِّرُها في علم الوراثة فحصَها ومحَّصَها ليكن (Lykken) وسايمنتن (Simonton) ، لكنَّهما عجزا عن تقديم تعليلٍ يقينيّ لها، فافترضا حلاًّ سمَّياه “emergenesis” أي ظهورًا عفويًّا فُجائيًّا لتكوينٍ استثنائيّ سببُه تجمُّعٌ مزعومٌ لمُورِّثات كثيرة تجمُّعًا مُمَيَّزًا تتولَّدُ عنه العبقريَّة. لكنَّ هذا الإيضاح لا يُوضِّحُ شيئًا. انظر: Dean Keith Simonton, Greatness (The Guilford Press, New York, 1994), pp. 17-18.  

[12]Ibid., p. 140.

[13]الدكتور داهش، "قِصَص غريبة وأساطير عجيبة"، ج 1، (دار النسر المحلِّق، بيروت، 1979) ، ص 29-36.

[14]أنظر غازي براكْس، "جبران خليل جبران: دراسة تحليليَّة تركيبيَّة لأَدبِه ورسمه وشخصيَّته" (دار الكتاب اللبنانيّ، بيروت، 1981)، ص 37-39 من "المُلحَق": دراسة جبران النفسيَّة في ضوء المبادئ الداهشيَّة.

[15]انظر مُراجعتي لكتاب "العظمة" في هذا العدد من "صوت داهش".

[16]إنجيل متَّى 16: 21-23.

[17]المصدر السابق 16: 17-20.

[18]المصدر السابق 26: 69-75؛ 14: 22-32.

[19]انظر ديديه جوليا، "قاموس الفلسفة"، نقلَه إلى العربيَّة د. فرنسوا أيُّوب، إيلي نجم وميشال إبي فاضل (مكتبة أنطوان، بيروت/دار لاروس، باريس، 1991)، مادَّة "الذكاء".

[20]انظر المرجع السابق، مادَّة "الذاكرة".

[21]انظر المرجع السابق، مادَّة "المخيِّلة".

[22]انظر مراجعتي لكتاب "العظمة": عامل الذكاء.

[23]Howard Gardner, Frames of Mind: The Theory of Multiple Intelligences , Basic Books, 1983 ; Multiple Intelligences: The Theory in Practice, Basic Books, 1993

[24]Daniel Goleman, Emotional Intelligence, Bantam Books, NY, 1996.

انظر مراجعتي لهذا الكتاب في "صوت داهش"، عدد كانون الأَوَّل (ديسمبر) 1996.

[25]الدكتور داهش، "مُذكِّرات دينار" (الدار الداهشيَّة، نيويورك، 1986)، ص 144.

[26] أنظر أَمثلة على أَهمِّـيَّة الذاكرة في Simonton, Greatness, pp. 64-70.

[27]Ibid., p. 93.

[28] أنظر أَهمِّـيَّة القدرة على حلِّ المُعضلات في المرجع السابق، ص 84-92.

[29]الدكتور داهش، "المُهنَّد الباتر"، ص 149.

[30]المصدر السابق، ص 100.

[31]المصدر السابق، ص 120.

[32]المصدر السابق، ص 81.

[33]المصدر السابق، ص 128.

[34]المصدر السابق، ص 148.

[35]الدكتور داهش، "عاشقُ الغيد الصِّيد" (دار النسر المُحلِّق، بيروت، 1980)، ص 107.

[36] الكتور داهش، "المُهنَّد الباتر"، ص 130.

[37]الدكتور داهش، "الرحلات الداهشيَّة حولَ الكُرَة الأَرضيَّة"، المُجلَّد الخامس (الدار الداهشيَّة، نيويورك، 1990)، ص 101.

[38]Mttron-Hirsh, Genius and Creative Intelligence   (Philosophical Library, New York, 1969), pp. 277-278. Nathaniel D.

[39] أنظر جدولاً بكثيرٍ من الاكتشافات والاختراعات التي أَشرقَت فجأَةً في نفوس أصحابها، فنُسِبَت إلى "الصُّدَف" في Simonton, Greatness, p.

99.

 

  Back to التعاليم الداهشيَّة بقلم الدكتور غازي براكس 

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.