أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

الرقيُّ الروحيُّ: معاييرُهُ وأبعادُه

في مفهوم مُؤسِّس الداهشيَّة

بقلَم الدكتور غازي براكْس

 


يحتضنُ مُتحَفُ "اللوفر" لوحةً حجريَّةً سوداء نُقِشَت عليها صورةُ الشمس-الإله (شَمَش) وهو يُقدِّمُ إلى حمورابي (1792-1750 ق.م.) مجموعةَ الشرائع التي تُشكِّلُ أقدمَ تشريعٍ خُلقيٍّ مَدَنيٍّ في العالَم.

وبعدَ بضعة قرون يُقدِّمُ الربُّتِبعًا لسِفْر الخروج في التوراةإلى موسى النبيّ الوصايا العشر مكتوبةً على لوحَين، ويوحي إليه بسائر الشرائع الدينيَّة والمدَنيَّة فيُدوِّنها.

وفي "بروتاغوراس" (Protagoras) يروي أفلاطون (427؟-347؟ ق. م.) أنَّ زوس، ربَّ الأَرباب، أشفقَ على البشر لضَعفهم، إذْ كانوا يعيشون مُشَتَّتين جماعاتٍ صغيرة، لا حَولَ ولا طَولَ لهم، والوحوشُ تُحيطُ بهم، وهم عاجزون عن مُضاهاتها ومُغالبتها، فلا أنيابَ الضواري ومخالبَها يتمتَّعون بها، ولا قوَّتَها وسرعتَها، ولا أَجنحة الطيور ينعمون بها؛ ولذا عوَّض زوس عليهم بالشعور الخُلقيّ والقُدرة الإدراكيَّة الحكيمة التي تُخوِّلُهم سَنَّ الشرائع العادلة، ليستطيعوا أن يتكتَّلوا ويتعاوَنوا في مُجتماتٍ كبيرةٍ فاضلة، فلا يعتدي بعضُهم على بعض دونما عقاب، وهكذا يقوَون.

إنَّ الرأيَ بأَنَّ النظامَ الخُلُقيَّ للسلوك الاجتماعيِّ ذو مصدرٍ إلهيّ ما زال يسودُ أكثريَّةَ المُجتمعات البشريَّة منذ فجر التاريخ، ذلك رغمَ هبوب رياح الإلحاد والعَلمنة على العالَم الحديث. ومن النافل القَول إنَّ هذا الرأيَ أَكَّدَت صحَّتَه الأديانُ كافَّةً. فتدخُّلُ الأُلوهةِ لا بُدَّ منه لهداية معظم النَّاس إلى الصراط   المستقيم. ولذلك نرى في مَسيرة العصور محطَّاتٍ روحيَّةً تتنزَّلُ فيها التعاليمُ والوصايا الروحيَّة على أنبياءَ ومُرسَلين، أو هي تفيضُ من ينابيعِ إلهامٍ باطنيٍّ سامٍ في بعض المختارين، فإذا هم هُداةٌ روحيُّون.

لكن ما نرمي إليه، هنا، ليس نظامَ الأَخلاق المُنطوي على النَّواهي والمُحرَّمات التي نصَّت عليها الشرائعُ الدينيَّة أو المدَنيَّة، بل نظام الأَخلاق المُنفتح (morale ouverte)بتعبير برْغسون  — (Bergson) الذي يتَّجهُ إلى القِيَمِ الروحيَّة والقِيَم الإنسانيَّة الكُلِّـيَّة.[1] فالنظامُ الأَوَّلُ يَنهى عن الشرّ والرذيلة صائنًا الإنسانَ من الانحدار دونَ إنسانيَّته، والثَّاني يحضُّ على الخير والفضيلة مُرتقِيًا بالإنسان إلى مُستوًى روحيٍّ أعلى. نموذجُ الأَوَّل الوصايا والنواهي التي أوعزَ بها موسى النبيّ إلى شعبه، ونموذجُ الثاني تعاليمُ المحبَّة التي أعطاها يسوعُ المسيح تلاميذَه ليُبشِّروا بها العالَم. وغايتُنا في هذا البحث تتعلَّق بالنموذج الثَّاني، أي بالارتقاء الروحيّ.

بيدَ أنَّ الرقيَّ الروحيَّ تختلفُ مفاهيمُهُ باختلاف المعايير والقواعد التي يُبنى عليها. فالغُلاةُ المُتزمِّتون في كلِّ دينٍ يربطون بين الرقيّ الروحيّ (طريق القداسة) ومُمارسة الشعائر الدينيَّة المذهبيَّة أكثر ممَّا يربطون بينه وبين القِيَم الروحيَّة والإنسانيَّة الكُلِّـيَّة. وعلى هذا الصَّعيد يتلاقى الغُلاةُ من اليهود والمسيحيِّين والمسلمين والهندوس وغيرهم. فكَم من "قِدِّيسٍ" أو "وَليٍّ" تمخَّضَ به التعصُّبُ الطائفيُّ المدمِّرُ القاتل!

ومن جهةٍ أُخرى يحرصُ المُلحِدون أَو أصحابُ التوجُّه الإنسانيّ العَلمانيّ على عدَمِ إدخال مجموعةٍ من الفضائل الروحيَّة، كالتَّواضُع والعفَّة والقناعة، في معاييرهم ومجال اهتمامهم، لأَنَّها تُناقضُ مذهبَ النفعيَّة والمتعة المادِّيـَّة الرائج بينهم. فما معاييرُ الرقيِّ الروحيِّ وأبعادُهُ في مفهوم مُؤسِّس الداهشيَّة؟

 

القاعدةُ الفلسفيَّة للرُقيِّ الروحيِّ في المفهوم الداهِشيّ

يتحصَّلُ من كتابات الدكتور داهش المُلهَمة ومن بعض الرسائل الروحيَّة التي أُنزِلَت عليه بصورةٍ عجائبيَّةٍ، ولا سيَّما "رسالة خَلق آدَم"، أنَّ الإنسانَ كائنٌ روحيُّ الأَصل، كانَ يَحيا في عالَمٍ روحيٍّ سعيدٍ مَجيد، خارجٍ عن قيود الزمان والمكان، وذلك قبل انحداره إلى الفراديس المادِّيـَّة. بعد ذلك حدثَ هبوطُه من تلك الفراديس إلى الجنَّة الأرضيَّة، ثمَّ طردُه منها بسبب عصيانه. وكانت نتيجةُ سقطاته المُتوالية أنَّه عوقِبَ بأَن يعيشَ في عالَمِ الأرض الخاضعِ لقوانين الموت والأمراض والمصائب والأَحزان. حالةُ الإنسان الشقيَّةُ الزريَّةُ الحاضرة يستَفظعُها مُؤسِّسُ الداهشيَّة، ويتمنَّى مُتحسِّرًا لو أنَّ الإنسانَ "ظلَّ في ملإِهِ العُلويِّ نقيًّا طاهرًا من أدران هذه الحياة وأوضارها." [2]

إذًا غايةُ الإنسان المُثلى من حياته البشريَّة هي، أوَّلاً، أن يتغلَّبَ على تجارب الأرض وجواذبها بمُجاهدَة ميوله الشرِّيرة أو الدُّنيويَّة، وبإصلاح عيوبه ونقائصه وهذا يضمنُ له عدمَ السقوطِ الجديد إلى دركاتٍ أسفل؛ ثانيًا، أَن يتمسَّكَ بالقِيَم الروحيَّة ويُمارسَها، وذلك من أجلِ أَن يتخطَّى مُستواه الروحيَّ الأَرضيَّ إلى درجةٍ روحيَّةٍ عُليا، وبالتالي أَن يرتقيَ ليعودَ تدريجيًّا إلى عالَم الأَرواح القُدسيّ الذي هبطَ منه.

والقِيَمُ الروحيَّةُ هي ظلالٌ للحقائق الروحيَّة الخالدة الكائنة في عالَم الأَرواح، ويُمكنُ إجمالُها بثالوث الحقِّ والخيرِ والجمالِ مُجتمعةً بكمالها المُطلَق في القوَّة الموجِدَة، في الله عزَّ وجلَّ. ولِكَونها راسخةً في كلِّ سيَّالٍ روحيّ، وبعبارةٍ أُخرى في كلِّ نفس، أصبح في طبيعةِ كلِّ موجودٍ أن يحنَّ حنينًا واعيًا أو غيَر واعٍ للعودةِ إلى مصدره الكامل، لأَنَّ الابتعادَ عن وجه الخالق هو ابتعادٌ

عن وجهِ النور،

وجهِ السعادة...

وجهِ الأَملِ العَذْبِ المُرتَجى،

وجهِ ما ينشدُه الماءُ والهواءُ والفضاءُ والسماء،

وجهِ مَن يتطلَّعُ إليه جميعُ الأَحياء دونَ استثناء،

وجهِ مَن تتمنَّاهُ جميعُ المخلوقاتِ معروفِها ومجهولِها،

وجهِ الحقيقةِ الحقَّة العادلة... [3]

لكنَّ الارتقاءَ الروحيَّ يستحيلُ تحقيقُه ما لم تتمتَّع النفسُ بحرِّيـَّةٍ حقيقيَّة. ولا تتحقَّقُ الحُرِّيَّةُ النفسيَّةُ إلاَّ بِقَدرِ ما تتحرَّرُ النفسُ من قيود الدوافع السُّفليَّة والنزعات المادِّيَّة؛ فكلُّ ما يحدُّ من تحرُّك النفس نحو مُستوًى روحيٍّ أسمى، وبالتالي نحو الروح القُدسيَّة التي منها انبثقَت، يُشكِّلُ قيدًا للنفس. [4]

والطريقُ المُثلى التي تُؤدِّي إلى الحريَّة النفسيَّة هي إقامةُ الإنسان لنظامٍ نفسيٍّ صحيحٍ تخضعُ فيه الانفعالاتُ والدوافعُ البيولوجيَّةُ والأَهواءُ والميولُ والعواطفُ لسُلطان العقل، ويخضعُ العقلُ بدوره، بصِفتِه قَبَسًا من الله، لمُثُل الحقِّ والخيرِ والجمال لأَنَّها ظلٌّ لله.

عام 1936، كان الدكتور داهش (وهو في عُمر السابعة والعشرين) خارجًا من محنةٍ أليمةٍ سبَّبَها أَفرادٌ غيرُ مُخلصين من أصدقائه وتلاميذه، وقد رأى أنَّ بينَ أسباب تلك المحنة إذعانَه لعواطفه، فدوَّنَ بين كلماته:

أنا أُحكِّمُ عاطفتي على عقلي، مع أنَّ الواجبَ عليَّ أن أُحكِّمَ عقلي على عاطفتي.[5]

لقد خرجَ الدكتور داهِش من تلك المحنة واعيًا أَهمِّـيَّةَ العقلِ ومُلتزمًا قيادتَه في تسييرِ حياته وتدبير شؤونه.

إنَّ الفيلسوفَ الأَلمانيَّ كانْط Kant (1724-1804)، على غِرار أفلاطون، "يقيسُ حُريَّةَ الفرد بقُدرتِه على ألاَّ يكونَ عبدًا لدوافعه." [6] كذلك يرى الفيلسوفُ الأَلمانيُّ فيخته Fichte (1762-1814) "أَنَّ الكائنَ العقلانيَّ وحدَه، ومن هذا الاعتبار بالذَّات، هو سيِّدُ نفسِه على الإطلاق، وهو الأَساسُ المُطلَقُ لذاته." [7]

هكذا تمنحُ الحُرِّيَّةُ النفسيَّةُ صاحبَها القُدرةَ على المُضيِّ صُعُدًا، دونما قَيْد، لتَحقيقِ مُثُله العُليا. هذه الحقيقةُ أكَّدَها الفيلسوفُ الأَلمانيُّ شيلِنْغ Schelling (1775-1854) بِقولِه: "أن يكونَ المرءُ حُرًّا معناهُ أن يُحقِّقَ المثالَ الأَعلى في الواقع." [8] فما هي، وفقًا للتَّعاليم الداهشيَّة، المُثُلُ العُليا التي يتمسَّكُ بها الراقون روحيًّا دستورًا لحياتهم، ويُحقِّقونها في الواقع العمليّ؟

 

المُثُلُ العُليا في المفهوم الداهشيّ

في "مُذكِّرات يسوع الناصريّ" يقولُ يسوعُ الفَتيُّ وهو في تأمُّلاتِه:

تُرى متى يتغلَّبُ هؤلاء البشر على ميولهم الشرِّيرة

وأمانيِّهم الباطلة؟

ومتى يتَّجهون نحو المُثُل العُليا،

ويسحقونَ بقوَّةِ إيمانهم

الضعفَ الذي يسري في أعماقهم؟

متى يُنفِّذونَ إرادةَ باري الأَكوان ومُبدِع السماوات؟

متى يكونُ الجميعُ قلبًا واحدًا وروحًا واحدًا؟ [9]

إنَّ إرادةَ الله المُتمثِّلَة بما يوحى إلى الأَنبياء والرُّسُل وبما يُلهَم به الهُداةُ الروحيُّون هي منبعُ المُثُل العُليا الصحيحة. ولو استَهدى كلُّ إنسانٍ بنورِ عقله، وكان عقلُهُ آمرًا، لا مأمورًا بأهوائه الدُّنيويَّة ونزعاته السفليَّة، إذًا لاهتدى النَّاسُ جميعًا إلى الشريعة الخُلُقيَّة المُثلى مثلما اهتدى لاوتسو وكنفوشيوس وبوذا وسُقراط، لأَنَّ العقلَ الصافي قَبَسٌ إلهيٌّ. لكنَّ الواقعَ هو أنَّ معظمَ البشر يتجاوزون مرحلةَ المُراهقة والشباب إلى الكهولة فالشَّيخوخة وزِمامُ قيادتهم ما يزالُ رهنَ دوافعِهم وانفعالاتهم البيولوجيَّة أَو رهنَ أهوائهم ورغباتِهم الأَرضيَّة، فتتغشَّى بصائرُهم، وتنحرفُ مداركُهم، فيتَّخذون لهم مُثُلاً عُليا زائفة تودي بهم إلى التدهوُر الروحيّ فالاضطراب النفسيّ فالشقاء؛ ولذلك بعثَتِ العنايةُ الإلهيَّةُ فيهم، رحمةً بهم، رُسُلاً وأنبياءَ وهُداةً روحيِّين يُرشدونهم إلى الصراط المُستقيم، ويدلُّونَهم على طريق الارتقاء الروحيِّ الحقّ الذي يُفضي بهم إلى فراديس النَّعيم التي فقدوها.

إنَّ المَثَلَ الأَعلى الذي يختارُه الإنسانُ اختيارًا واعيًا هو الذي يُعبِّئُ قِواه النفسيَّة (سيَّالاته) ويُحرِّكُها معًا باتِّجاهٍ يُعيِّـنُه المثَلُ الأعلى من أجل تحقُّقِها الذاتيّ، أي إشباع طبيعتها. ولكن بما أَنَّ البشرَ مُتباينون في مُستوياتهم الروحيَّة، فإنَّ مُثُلَهم العُليا المُنبثقة من طبائعهم المُختلفة تكونُ مُتَّفقةً مع حاجاتهم ودوافعهم ونزعاتهم ومداركهم. ولذلك فأَكثرُ الناس يختارون مُثُلاً عُليا دُنيويَّة يتوهَّمون أَنَّها ستُحقِّقُ لهم السلامَ النفسيَّ والسعادة، لكنَّ آمالَهم لا تلبثُ أَن تخيب، لأَنَّ المُثُلَ العُليا غير الروحيَّة هي مُثُلٌ زائفة.[10]

إنَّ مصدرَ القِيَمِ الروحيَّة، في المفهوم الداهشيّ، هو الله عزَّ وجلّ؛ به تتَّحدُ المُثُلُ العُليا الصحيحة في مُطلقاتها المُتمثِّلة في كمال الحقِّ والخيرِ والجمال، أو تتَّخذُ المُثُلُ بعضًا من صُوَره. والله بذلك هو المُطلقُ الصحيحالضرورةُ النفسيَّةُ التي يستحيلُ أن يَحيَا بدونها أيُّ إنسانٍ يُريدُ التمتُّعَ بالرقيِّ الروحيِّ والاتِّزان الشخصيّ. [11] أَمَّا المُثُل العُليا الروحيَّة الرئيسة فيُمكنُ إجمالُها بخمسة هي الحقيقة والعدالة والقناعة والعفَّة والمحبَّة.

 

1- الحقيقةُ

الحقيقةُ أو الحقّ صورةٌ من صُوَر الله تعالى. إنَّها المثَلُ الروحيُّ الأعلى الذي يبحثُ عنه الراقون روحيًّا ويتمسَّكون به. في سبيلها سعى الأَنبياءُ والرُّسُلُ والهُداةُ الروحيُّون واضطُهِدوا؛ ومن أجلِها عانى مُؤسِّسُ الداهشيَّة السَّجن والتعذيبَ والتشرُّدَ والاضطهاد حتَّى التقاها أخيرًا، خارجَ الأَرض، في فردوس النَّعيم. [12] لكنَّ معظمَ البشر تائهون عن الحقيقة، زائغون عن محَجَّتِها، يُصِمُّون آذانَهم عن ندائها، ويُطبقونَ أجفانَهم حتَّى لا يرَوا مَشعَلَها، لأَنَّهم يخافونَها؛ فالنُّورُ يفضحُ الظلام. يقولُ مُؤسِّسُ الداهشيَّة تحت عنوان "بشريَّة ضالَّة":

أيَّتُها الحقيقةُ الضائعة في خِضَمِّ هذا الكونِ الحَرون،

نحنُ نخافُكِ ونهابُكِ، ولا نُريدُ أن ندنُوَ منكِ.

تَسعَينَ إلينا وتُناديننا كالأُمِّ الحَنون،

ونحنُ نوغِلُ في البُعدِ عنكِ.

نعم، أيَّتُها الحقيقةُ الغرَّاء، كَم نفرَت نفوسُنا من مرآكِ!

وكَم أنكرَت أُمَمُ الأَرضِ روائعَ مزاياكِ!

أنتِ تُريدينَ هدايتَنا، ونحنُ في ضلالِنا عامهون! [13]

إنَّ المُخلِصَ للحقيقة لا يُحجِمُ عن تكبُّدِ المشقَّة والأَلَم، بل شماتةَ الناس واضطهادَهم، من أَجلها. فالعالَمُ مُستمرُّ التغيُّر، والمعرفةُ تتجدَّدُ على الدوام، وحقيقةُ الحياة والكَون تنكشفُ الحُجُبُ عنها مع ارتقاءِ العقل البشريِّ أَكثرَ فأَكثر، ورحمةُ الله المُتمثِّلة بالهدايات الروحيَّة المُتوالية لا تنفد، لأَنَّه {لو أَنَّما في الأرضِ من شجرةٍ أَقلامٌ والبحرُ يمدُّه من بعده سبعةُ أَبحُرٍ ما نفِدَت كلماتُ الله} (سورة لُقمان: 27)؛ وليس إلاَّ الراقون روحيًّا يُقدِمون على اعتناق الحقائق الجديدة دونما تهيُّب، في حين أَنَّ مُعظمَ الناس يجبنون ويُحجِمون عن تغيير ما نشأُوا عليه من أَفكارٍ ومُعتقدات تسلَّموها من أَسلافهم، لأنَّ ذلك التغييرَ يتطلَّبُ شجاعةً ومُواجهةً وتحمُّلَ مسؤوليَّة، وربَّما مُخاطرة.

2- العدالة

العدالةُ في ثالوثها، أَي العدالةُ في التَّعامُل بين النَّاس، والعدالةُ في الحُكم، والعدالةُ بين الشعوب. [14] الراقون روحيًّا يلتزمون هذا المثَلَ الأَعلى، ويُجسِّدونَه في حياتهم مهما كلَّفَهم ذلك من مُقاوَمةٍ وصُدودٍ من الظالمين والنَّفعيِّين والجَشِعين؛ فالعدالةُ في الأَرض شأنُها شأنُ الحقيقة، لا يُمارسُها ويستمسكُ بها إلاَّ قلائل. ولا عجبَ، فالعدالةُ وجهٌ من وجوه الحقيقة الروحيَّة؛ ولذا طلبَ مُؤسِّسُ الداهشيَّة في "صلاة شُكرٍ حارَّة" مثلما طلبَ يسوعُ الناصريُّ، في صلاتِه لله، "أن يُثبِّتَ "الجميع في حُبِّ الحقيقة العادلة." [15]

ولا يخفى أنَّ الحُرِّيـَّةَ في مُختلفِ أبعادها [16] هي نتيجةٌ لازمةٌ للعدالة، يجبُ على الإنسان الراقي أن يتمسَّكَ بها، ويصونَها، ويُكافحَ من أجلِ تحقيقها، رافضًا كلَّ قَيدٍ يحدُّها إلاَّ الحدود الاجتماعيَّة الخُلقيَّة التي تفرضُها الحقيقةُ الروحيَّةُ والعدالةُ نفسُها.

كما لا يخفى أنَّ الصدقَ في القول والعمل والتَّعامُل مع الآخرين هو جزءٌ لا يتجزَّأُ من الحقيقة ومن العدالة. بدونه ينهارُ كلُّ ادِّعاءٍ بهما، وبالتَّالي بالرقيِّ الروحيّ. [17] والحياةُ الصادقةُ لا تظهرُ على حقيقتِها، في الغالب، إلاَّ خارجَ أماكن العِبادة ومراكز العمل، في الوحدة والخفاء، بعيدًا عن كُلِّ رَقابة.

واقترانُ الصدق بالحقيقة يجعلُ الصدقَ نادرَ الوجود في الأَرض. ولذا فمُؤسِّسُ الداهشيَّة يرى أنَّ الصدقَ يزورُ الأَرضَ لِمامًا ثمَّ يُغادرُها:

لقد زرتَنا، يا صدقُ، وها أنتَ تُغادرُ عالَمَنا السخيفَ المُرَدَّم! [18]

يُبارحُ الصدقُ الأَرضَ مع الأَنبياء والرُّسُل والهُداة الروحيِّين ومع قلائلَ مِمَّن ارتقَت نفوسُهم، ليَحيا معهم في الفراديس العُليا

حيثُ لا يَحيَا إلاَّ الصدقُ الرائع،

وحيثُ تَسودُ الحقيقةُ النَّاصعة... [19]

وتشتملُ فضيلةُ الصدق بمعناهُ الواسع على الصراحة والاستقامة والأَمانة والإخلاص والوفاء، وهي فضائلُ أثنى عليها مُؤسِّسُ الداهشيَّة في قِصَصِه كما في قِطَعِه الوجدانيَّة وحِكَمِه وخواطِرِه. فإكبارُهُ لشقيقِ روحه، الدكتور جورج خبصا، مبنيٌّ على أنَّهُ كان يُجسِّدُ تلك الفضائل، فضلاً عن غيرها. [20] والأَمانةُ والإخلاصُ في الحياة الزوجيَّة اعتبَرَهما رُكنَين مُقدَّسَين، حفلَ كثيرٌ من قِصَصه بالحديث عنهما والسخط على مَن ينقضُهما. والوفاءُ والإخلاصُ في الصداقة رآهُما نوعًا من القداسة. [21]

 

3- العِفَّة

لا شكَّ بأنَّ الحديثَ عن العفَّة ونحنُ على مَشارفِ القرن الحادي والعشرين يبعثُ على ابتسامةٍ صفراء لدى كثيرين؛ ففي خِضَمِّ الشهوةِ الجنسيَّة تَغوصُ البشريَّةُ بأسرِها من قمَّةِ رأسِها حتَّى أخامصِ أقدامها سافرةً أو مُحَجَّبَة.

هذا الواقعُ ليسَ في الناسِ مَن هو أدرى به من الدكتور داهش. فعشراتٌ هي القِصَصُ التي كتبَها ومئاتٌ هي القِطَعُ الوجدانيَّةُ التي حبَّرَها وفيها يصِفُ طُغيانَ هذه الشهوة على البشر، وتأثيرَها البالغَ في مداركهم وتصرُّفاتهم. وحسبُنا الاستشهاد بكلمةٍ دالَّةٍ واحدة من بين مئات الشواهد المُنبثَّة في مؤلَّفاته. يقول:

ما أعظمَ تأثيرَ الغريزةِ الجنسيَّة في الإنسان! وما أشدَّ تسلُّطَها على قِواه العقليَّة! وما أقدسَ ذلك الإنسانَ الذي يقدرُ على قَتلِ هذه القوَّة العاتية! [22]

والمرأةُ والرجلُ سواءٌ في ذلك. لكن على صعيد الإغراء، تبقى المرأةُ، ولا سيَّما الفاتنة، مصدرَ الإغواء الأَقوى منذُ عهد حوَّاء. والتاريخُ حافلٌ بالشواهد على ذلك. يقولُ مُؤسِّسُ الداهشيَّة:

تستطيعُ المرأةُ الجميلةُ أن تقومَ بأخطر الأُمور وأعظمِها. وجمالُ المرأةِ كنزٌ عظيم، لكنَّهُ خَطَرٌ رهيبٌ لا يُفلِتُ منهُ إلاَّ مَن صَفَت نفسُه وسمَت روحُه، وترفَّعَ عن كُلِّ ما تحويه هذه الحياةُ من سخافاتٍ وتوافه.[23]

إذاً مُؤَسِّسُ الداهشيَّة عالِمٌ كلَّ العِلم أنَّ العفَّةَ التامَّةَ مُتعذِّرَةٌ بين البشر؛ ومع ذلك تبقى العفَّةُ عندَهُ مثَلاً أعلى، شأنُها شأنُ الحقيقة والعدالة؛ وعلى الراغبين في الكمال الإنسانيّ أن يطلبوها ويُمارسوها، مثلما يطلبون ويُمارسون المُثُلَ العُليا الأُخرى.

وقد يقولُ قائلٌ مُعترِضًا: لماذا علينا أن نُعاكسَ مجرى الطبيعة البشريَّة ما دامَ اللهُ قد جَبَلَنا هكذا؟

الجوابُ الداهشيُّ هو أنَّ اللهَتعالى رحِمَ الإنسانَ بعدَ هبوطِه من الفراديس العُلويَّة، فخلَقَ لآدَمَ وحوَّاء جنَّةً أرضيَّةً يجِدانِ فيها أسبابَ الهناء، وحدَّدَ لهما زمنًا مُعَيَّنًا يُقيمان فيه بتلك الجنَّة هو ألفُ سنة، يعودان بعدَها إلى فراديس النعيم التي هبَطا منها. لكنَّ اللهَ أرادَ، مُقابلَ الرحمة التي أغدقَها عليهما بِجَعلهما يرتعانِ في الجنَّة الأَرضيَّة، أن يمتحنَ إرادتَهما في الامتناعِ عن عصيانِ أوامرِه ونواهيهِ مُجَدَّدًا، فسمحَ لهما بِأَكلِ ما يشاءان من ثمار الجنَّة إلاَّ ثمرةً واحدةً يكمُنُ فيها سيَّالُ الشهوة الجنسيَّة، فقد نهاهُما عنها. لكنَّ سيَّالَهما الأَدنى، وقد تجسَّدَ بالحيَّة، زيَّنَ لهما أن يَعصيا وصيَّةَ الله عزَّ وجلّ، فسقَطا مثلما هو معروفٌ في سِفْرِ التكوين من الكتابِ المقدَّس.

إذًا إنَّ الشهوةَ الجنسيَّةَ طارئةٌ على الإنسان، وليست في طبيعته النقيَّة الأَصليَّة؛ وهي نتيجةُ عصيانٍ خطير. ولولاها لَكانَ الإنسانُ أقربَ إلى الملائكة، ولكنَّه بها أصبحَ أقربَ إلى الحيوان. بدونِها كانَ بعيدًا عن الأَمراضِ والهمومِ والشقاء فالموت، وبها أصبحَ خاضعًا لقوانين العالَم الأَرضيّ المُنطوية على المتاعب والمصائب. والروحُ القُدسيَّةُ التي انبثقَت سيَّالاتُ الإنسانِ منها، قبلَ بَدء الزمان ووجود المكان، تُريدُهُ أن يعودَ إليها ويندمجَ بها، لأَنَّهُ يستحيلُ على الروح القُدسيَّة أن تنعمَ بالسعادة العُظمى وتحوزَ كمالَ القُدرة والمعرفة إلاَّ باندماجها بالقُوَّةِ الموجِدَة؛ وذلك من المُحال إلاَّ إذا استطاعَت الروحُ أن تجمعَ إليها جميعَ سيَّالاتها المُنبثقةِ منها والمُنبثَّة في الكونِ المادِّيّ بمُختلفِ عوالمِه ودرجاتِه الروحيَّة. ولذلك قال مُؤسِّسُ الداهشيَّة:

وما أنقى مَن يتغلَّبُ على ميولِ جسدِهِ الوضيعِ الفاني، ويتبعُ ما تُريدُهُ الروحُ النقيَّةُ الخالدة! إنَّهُ ملاك! [24]

من أجلِ ذلك يُعظِّمُ الدكتور داهش المهاتما غاندي ويُسمِّيه "قِدِّيس الهند"، ويُكبرُ كلَّ إنسانٍ استطاعَ أن يُحطِّمَ قيودَ الشهوة الجنسيَّة العتيَّة.

والاختلافُ بين النظرة الداهشيَّة للشهوة الجنسيَّة ونظرةِ القائلين بأنَّها مُمارَسةٌ طبيعيَّة للإنسان مردُّهُ إلى مُنطلَق النظرتَين والغاية منهما. يختصرُ الدكتور داهش هذا الخلافَ بقوله:

نعم، إنَّهم يطمحونَ إلى جسمٍ فانٍ مُقفِرٍ خالٍ،

وأنا أطمحُ إلى الروح الباقية على كُرور الأَعوام وتعاقُب الزمان...

يقولون إنَّ المرأةَ بدايتُنا كما إنَّها نهايتُنا،

وأنا أقولُ إنَّ اللهَ بدايتي، وسيكونُ أيضًا نهايتي.[25]

 

4- القناعة

إذا كانت الشهوةُ الجنسيَّةُ هي القُطبَ الجاذبَ الأَوَّلَ لجميع البشر، فالمالُ هو القُطبُ الجاذبُ الثاني، وكِلاهُما حَظِيَا بقِسطٍ وافرٍ من كتابات الدكتور داهش.

ومثلما أنَّ الشهوةَ الجنسيَّةَ داخلَتِ الطبيعةَ البشريَّةَ بعد طردِ الأَبوَين الأَوَّلَين من الجنَّة، فإنَّ السعيَ وراءَ تكنيز الأَموال أصبحَ مَيلاً نفسيًّا مُتغلغِلاً في الجِبِلَّةِ البشريَّة؛ ذلك لأَنَّ بالمال يستطيعُ الإنسانُ أن يُحقِّقَ القِيَمَ الدُّنيَويَّةَ كلَّها، من قوَّةٍ وسُلطةٍ وشهرةٍ وجاهٍ ورَفاهٍ وملاهٍ إلخ. والمجتمعُ البشريُّ، أيـًّا كانَ نظامُه السياسيّ، جعلَ للمالِ هذه القُدرة، وشجَّعَ هذا المَيلَ على التنامي؛ بل إنَّهُ في كثيرٍ من المُجتمعات يرتبطُ تحصيلُ المعرفة العالية أَو الاستشفاء بالقدرةِ الماليَّة، في حين أنَّ العلمَ والصحَّةَ أمران جوهريَّان تقتضيهما العدالةُ وكرامةُ الإنسان.

ولذلك فالكلامُ على القناعة يستهدفُ، أوّلاً، الأَغنياءَ الذين توافرَت أسبابُ الراحة المادِّيـَّة بين أيديهم، وابتسمَ لهم الدهر. فهؤلاء إذا أرادوا أن يكونوا بين الراقين روحيًّا، فعليهم بالقناعة، لأَنَّها "خيرُ ما أوجَدَتْهُ الآلهة، ولكن للعُقلاء." [26]لكنَّ الكلامَ على القناعة يستهدفُ أيضًا جميعَ الناس الذين لا يُميِّزون بين الطموح المشروع والطمَع الذي قد ينقلبُ إلى حسَد.

فالعاقلُ الحكيمُ يعرفُ أنَّ الأَموالَ إذا توافرَت بكثرةٍ بين أيدي معظم الناس، فتحَت أمامهم ووسَّعَت طُرُقَ الرغبات والشهوات والمطامع، وكانت لهم من أسباب الشقاء في نهاية مطاف الإغراء والإغواء. وهذه الحقيقةُ هي التي انطلقَ منها بوذا العظيم، فاعتزلَ المُلْكَ وابتعدَ عن المال وإنجاب البنين من أجلِ سلوك الطريق الروحيَّة التي تُفضي إلى الكمالِ الإنسانيّ، فإلى التخلُّصِ من دورات التقمُّص في الأَرض.

يقولُ الدكتور داهش مُوضِّحًا الفرقَ بين نتائج القناعة والطمع:

وتتكاثرُ آثامُنا وتتزايدُ آلامُنا، ما دُمنا تُساورُنا المطامعُ والرغبات؛ وتنتعشُ آمالُنا وتتحقَّقُ أحلامُنا، ما رضينا بالقناعة والثَّبات. [27]

هذا ليسَ دعوةً للزهد بالمال وإيثارٌ للفقر. كلاَّ، بل هو إيضاحٌ يُظهِرُ أنَّ المالَ بين أيدي أُناسٍ ليسوا راقين روحيًّا قد يكونُ سبَبًا لتكثير الآثام فالآلام. وهذا ما نقرأُه أَو نسمعُ به في وسائل الإعلام يوميًّا. أمَّا ذَوو الرقيِّ الروحيّ فيقتنعون بالقليلِ مِمَّا بين أيديهم لإنفاقِه على معيشتهم وحاجاتهم الجسميَّة، بينما يُنفقون البقيَّةَ في ما يُغنيهم روحيَّا وما يُعزِّزُ القِيَمَ الروحيَّةَ في مجتمعهم وفي العالَم. فمن جوانبِ الرقيِّ الروحيِّ المُتمثِّل في عُمَر بن الخطَّاب وعُمَر بن عبد العزيز أنَّهما لم يستفيدا من ثروة الدولة التي كانت مُهيَّأَة بين أيديهما لرفاهيَّتهما الشخصيَّة، بل كانا مُتقشِّفَين في الملبَس والمسكَن والمأكل والمشرب، مُقتنعَين بما يعيشُ به البُسطاءُ العاديُّون من الرعيَّة. لقد كان للمال تأثيرٌ بالغٌ وشأنٌ جليل في حياة العرب، كما في حياة سائر الشعوب، كما كان لقوَّة التناسُل المُتمثِّل في كَثرة الأَولاد والأَحفاد شأنٌ في تعزيز هَيبة الأُسَر وإنماءِ ثرواتِها، لكنَّ المالَ والبنينَ ليسا من معايير الراقين روحيًّا الذين يأملون ثوابَهم في العالَمِ الآخَر لا في الأَرض. يقولُ القرآنُ الكريم:

{المالُ والبنونُ زينةُ الحياة الدنيا، والباقياتُ الصالحاتُ خَيرٌ عندَ ربِّكَ ثوابًا وخيرٌ أملاً.} (سورة الكهف: 46).

 

5- المحبَّــة

إنَّها من صُوَر الله؛ فلا عَجَب إن عرَّفَ مُؤسِّسُ الداهشيَّة اللهعَزَّ وجَلَّبأنَّهُ محبَّة،[28] ولا غَروَ إن جعلَ يسوعُ الناصريُّ "طريقَ الحقِّ" هو "طريق الحبِّ الإلهيّ، طريق النور السماويّ". [29] ولا شكَّ بأنَّ الحُبَّ المقصودَ هنا هو الحبُّ الطاهر، سواءٌ اتَّجَهَ إلى الله أم إلى أفراد العائلة أم إلى النَّاس طُرًّا. إنَّهُ الحبُّ الخالصُ الخالي من النفعيَّة والأَغراض الشخصيَّة. يقولُ الدكتور داهش في سُداسيَّةٍ عنوانُها "شعلةُ الحبّ":

لمسَ الحُبُّ بأناملِهِ فؤادي فأيقظَهُ من سرٍّ دفين

جاسَ اللهيبُ المقدَّسُ أنحاءَ نفسي فطهَّرَها

وشعرتُ بالحُبِّ العميقِ يتدفَّقُ في جوانبِ روحي فيصهرُها

لقد تأكَّدَ لي أنَّ الحبَّ الطاهرَ أقدسُ ما يحتويه هذا الوجود

ولقد آمَنتُ بشُعلتِه المُتأجِّجة بي بعد ذلك الخمود

وأخيرًا دخلتُ هيكلَ الحبِّ خاشعًا وأصبحتُ من أتباعِهِ المُخلصين. [30]

إنَّ الحُبَّ الخالصَ نزعةٌ روحيَّةٌ ذاتُ درجةٍ عالية. فمَن تمتَّعَ بتمام هذه النزعة السامية، لا مجالَ لدَيه للقول: إنِّي أُحبُّ أُسرتي وأقربائي وأصدقائي، لكنِّي لا أُحبُّ مَن لا صَلَة حميمة تربطُني بهم، أَو إنِّي أُحبُّ مَن يُحبُّني وأُبغِضُ مَن يُبغضُني؛ ذلك لأَنَّ مَن يتمتَّعُ بالرُقيِّ الروحيِّ قد يكرهُ أَعمالَ إنسانٍ ما أَو أَفكارَه، لكنَّه يستمرُّ في إرادة الخَيرِ الروحيِّ له، وبدلَ أَن يتمنَّى للشرّير أن يزيدَ ضلالُه، يتمنَّى له الهداية. يقولُ مُؤسِّسُ الداهشيَّة في صلاته التي يُردِّدُها الداهشيُّون في مُختلف أَنحاء العالَم:

أَبعِدْ عنَّا الأَشرارَ والهازئين بكلامِ الله؛ أَنِرْ بصائرَهم.

طهِّرْ أَرواحَ الخطَأَة، وأَرسِلْ لهم قبَسًا من أَنوارِكَ الإلهيَّة

فيخشعوا لعظمتِك.

أَقِلنا من العثَرات الرهيبة،

واشمُلِ الجميعَ بعَين عنايتِكَ الساهرة.[31]

فنزعةُ المحبَّة الحقَّة إذا اكتملَت وغَمَرَتِ النفسَ، كما الحال في بوذا والمسيح وغاندي، تغمرُ الكُلَّ بنورها: تغمرُ الأَقاربَ والأَباعد، الناسَ والطبيعةَ وما فيها، لأَنَّ أساسَها مبنيٌّ على الإدراك أو الشُّعور بأنَّ المخلوقات جميعها، بما فيها البشرُ والحيوانُ والنباتُ والجماد، ذاتُ جوهرٍ روحيٍّ، به يلتقي كلُّ إنسانٍ مع الكونِ كُلِّه، وبالنهاية مع الله، مصدرِ كلِّ جوهرٍ روحيّ. إنَّ الحُبَّ الخالصَ هو الجاذبيَّةُ الروحيَّةُ الشاملة التي تشدُّ الكائنات بعضًا إلى بعض في تصعيدها إلى الوحدة الروحيَّة العُظمى، إلى العودة للاندماج بمصدرها السرمديِّ، بالقوَّة الموجِدة.

وإذا أَردنا أَن نُعطيَ تعريفًا وجيزًا ووافيًا للمحبَّة ولأَهمِّـيَّتها، فلعلَّ أَفضلَ ما قيلَ فيها هو كلماتُ بولس الرسول:

لو تكلَّمتُ بلُغاتِ الناسِ والملائكة، ولم تكُن لديَّ المحبَّة، فما أَنا إلاَّ نُحاسٌ يطِنُّ أَو صَنجٌ يرِنُّ. ولو وُهِبَتْ لي النبوءَةُ وكنتُ عالِمًا بجميع الأسرار، عارفًا كلَّ شيء، ولي الإيمانُ الكاملُ أَنقلُ به الجبال، وقدَّمتُ جسدي لِيُحرَقَ، ولم تكُن لدَيَّ المحبَّة، فما يُجديني ذلك نفعًا.

المحبَّةُ حليمةٌ مُترفِّقة، المحبَّةُ لا تعرفُ الحسَد ولا العُجبَ ولا الكبرياء، ولا تفعلُ السوءَ ولا تسعى إلى منفعتِها، ولا تحنقُ ولا تُبالي ما ينالُها من السوء، ولا تفرحُ بالظلم، بل تفرحُ بالحقّ. وهي تعذِرُ كلَّ شيء، وتُصدِّقُ كلَّ شيء، وترجو كلَّ شيء، وتصبرُ على كلِّ شيء.[32]

إنَّ المحبَّةَ الحقَّة هي القوَّةُ الضابطة للنظامِ النفسيِّ الصحيح الباعثِ السلامَ والاتِّزانَ في النفس، وهي المُحرِّكة للقوى النفسيَّة جمعاء باتِّجاه الارتقاء الروحيّ. وهي مُغايِرة تمامًا للحُبِّ الجنسيّ المُسَيَّر بالانفعالات البيولوجيَّة؛ وللحُبِّ الرومنسيِّ الذي تُطَوِّحُ به الأَوهامُ والتخيُّلاتُ والعواطفُ المُتقلِّبة؛ وللحُبِّ الطُفَيليِّ الذي يُسلِمُ صاحبُه زمامَه لغيره، فإن فقدَه، فقدَ اتِّزانَه، كالطفلِ فقدَ أُمَّه؛ وللحُبِّ النرجَسيِّ الذي يجعلُ المُحِبَّ يرى في محبوبه صورةَ نفسه، فيُحاولُ صياغتَه فكريًّا وعاطفيًّا في قالبه الشخصيّ، فإن استعصى المحبوبُ عليه، انقلبَ ضدَّه، شأن الآباء والأُمَّهات النرجسيِّين مع أَولادهم أَوأَصدقائهم؛ والمحبَّةُ الحقَّة هي، أَخيرًا، مُغايِرة للحُبِّ الذي يجعلُ من أَغراضه غاياتٍ لا وسائل، كحُبِّ المال أَو السلطة أَو الجاه، أَو حُبِّ الهوايات المُختلفة، حيثُ يسفحُ المُحِبُّ قواه النفسيَّة من أَجل أَغراضه، فتستعبدُه وتتنقَّصُه، بدلَ أَن تخدمَه وتُنمِّيَه.[33]

إنَّ أهمِّـيَّةَ المحبَّة، على الصعيدِ العَمَليّ، تعودُ إلى أنَّها تنطوي على عدَّةِ عناصر إنسانيَّة، لعلَّ أهمَّها أربعُ نزعاتٍ راقية: الغَيريَّة (altruism)، والتسامُح، والتواضُع، والتضحية بالنفس.

فالنزعةُ الغَيريَّة تدفعُ صاحبَها إلى الاهتمامِ الجدِّيّ، المُترفِّع عن المنفعة الشخصيَّة مادِّيـَّةً كانت أم معنويَّة، من أجلِ تأمين خَير الآخرين ومصلحتهم والدفاعِ عن حقوقهم المهضومة.

تتمثَّلُ هذه النزعةُ في أُناسٍ دافَعوا مجَّانًا عن قضيَّةٍ حقَّةٍ عادلةٍ ليست قضيَّتَهم الشخصيَّة، كدِفاع إميل زولا (1840-1902) الجريء عن الضابط اليهوديّ البريء دريفوس، وكفاح المهاتْما غانْدي (1869-1948) الطويل من أجلِ رَفْع الحَيفِ عن المنبوذين خاصَّةً، وعن الهنود عامَّة، ودِفاع الصِّحافيّ المهجريّ جبران مسُّوح في مجلَّة "المُختَصَر"، على مدى عامَين (1946-1947)، دِفاعًا مَجيدًا عن الدكتور داهش أيَّامَ اعتدى الطُّغاةُ عليه في عهد الرئيس اللبنانيّ الأَسبَق بشاره الخوري (1943-1952). [34] كما تتمثَّلُ في العملِ الصادق المجَّانيّ الذي يقومُ به قلائلُ في العالَم من أجلِ خير الفئات المحرومة أو المظلومة.

إنَّ أصحابَ هذه النزعة السامية لا يهتمُّون بفائدةٍ مادِّيَّةٍ تعودُ عليهم من خلالِ أعمالهم، ولا ينكصون عن سَعيِهم وكِفاحِهم إذا طالَعَتهم مصاعبُ أو متاعب. ومُؤسِّسُ الداهشيَّة يعتبرُها من مزايا الرقيِّ الإنسانيّ إذ يقول:

من العار أَن تموتَ قبل أَن تقومَ بأَعمال الخَير نحو الإنسانيَّة.[35]

وعاطفةُ الشَّفقة أو الرأفة التي تدفعُ أفرادًا من الناس دَفعًا صادقًا لمُؤاساة آلام الآخرين أو إبعاد الأَذى عنهم، أو لحماية حقوق الضعفاء والمساكين هي وليدةُ هذه النزعة الغَيريَّة.

ولذا فالأَنانيُّ أو النرجسيُّ يستحيلُ أن يتمتَّعَ بهذه النزعة الإنسانيَّة المجَّانيَّة، وبالتالي يتعذَّرُ عليه أن يُحبَّ الآخرين محبَّةً صادقة.

كذلك من مظاهر النزعة الغيريَّة عاطفةُ الإحسان الذي تُمليه المحبَّةُ لا دوافعُ الظهور أو الشهرة أَو الجاه، والذي يَجودُ فيه الإنسانُ بما يحتاجُ إليه لا بما يَفضُلُ عنه.

في "مُذكِّرات يسوع الناصريّ" يقولُ يسوع الفتِيُّ لأَبيه يوسف عندما قدَّمَ إليه وارداتِ يومه ليضعَها في صندوق الإحسان الذي كان يسوعُ يجمعُه ليُساعدَ به عائلاتٍ مُعوِزَة:

ثِقْ، يا أبي، بأنَّ اسمَكَ

قد سُجِّلَ في السماء منذُ اللحظة هذه،

لأَنَّكَ قد جُدْتَ بما أنتَ في أشدِّ الحاجةِ إليه.[36]

وأَفضلُ الإحسان ما كان مقرونًا بتضحيةِ رغبةٍ أَو مُتعةٍ حسِّيَّة. ففي الكتاب الآنِف الذكر أَنَّ يسوع تُقدِّمُ إليه أُمُّه، في ذكرى ميلاده الثالثة عشرة، دجاجةً مُسمَّنة، فيقولُ لها:

قَسَمًا بالحقيقة، لن أَدَعَ فَمي يتذوّقُها، يا أُمَّاه،

بل يجبُ أَن تُقدِّميها للشيخ المريض عوبديا المسكين.[37]

إنَّ المُحسِنَ الراقي لا يُؤدِّي إحسانَه بسببِ أنَّ الدينَ جعلَ الإحسانَ فريضةً دينيَّةً تَصونُ سمعةَ المُؤمن بين المُتدَيِّنين، بل يفيضُ الإحسانُ منه تعبيرًا عن محبَّته للبُؤساء، وإلاَّ فقدَ المعنى النبيلَ في إحسانِه؛ والمُحسِنُ الراقي لا يجعلُ من عَمَلِه بوقًا لتَكريمه بين الناس، وإلاَّ أفقرَ نفسَه بدلَ أن يُغنيَها.

أمَّا نزعةُ التسامُح فتَفيضُ عفويًّا من المحبَّة، لأَنَّ من شروط المحبَّة ألاَّ يُكرِهَ صاحبُها الناسَ على أن يصوغوا أفكارَهم وعواطفهَم بقالبِه الشخصيّ. وما دامَ الناسُ على مُستَوَياتٍ روحيَّةٍ مُختلِفة، وذَوي نزعاتٍ ومداركَ مُختلفة، فإنَّ آراءَهم وعقائدَهم ستبقى مُختلِفة. ولذلك تقضي العدالةُ والحُرِّيـَّةُ المُقترنة بها أن تُحترَمَ أفكارُ الناس ومُعتقداتُهم.

إنَّ الغُلاةَ الدينيِّين يستحيلُ أن يكونوا من الراقين روحيًّا، لأَنَّهم بادِّعائهم تمثيلَ الحقيقة المُطلَقةَ يفقدون الحقيقة، وبإلغائهم التسامُحَ يُلغون المحبَّةَ من نفوسهم مع مصدرِها الذي هو الله عزَّ وجَلَّ، وذلك إشباعًا لنزواتٍ مَرَضيَّةٍ تحكَّمَت بعقليَّتِهم المُستَعبَدَة للأوهام. واقتناعُهم الأَعمى بأنَّ في حوزتِهم المعرفة الروحيَّة الكُلِّـيَّة يشلُّ عقولَهم، ويجعلُ ذهنيَّتهم غيرَ النَّاضجة مُتَّجِهَةً إلى التحدِّيّ المَبنيِّ على التوهُّم، شأن الأَطفال أو المُتخلِّفين عقليًّا.

وليس عَبَثًا قال توماس جفرْسون:

منذُ ظهور المسيحيَّة ملايينُ من الأَبرياء رجالاً ونساءً وأطفالاً قد أُحرِقوا أو عُذِّبوا، أو غُرِّموا أو سُجِنوا، ومع ذلك فإنَّنا لم نتقدَّم قيراطًا واحدًا نحو الائتلاف. وماذا كانت عاقبةُ الإكراه؟ جَعْلَ نصفِ البشر حمقى، ونصفِهم الآخر مُنافقين. [38]

والتسامحُ ينطوي على الصَّفح أو الغُفران، هذه الفضيلة التي أدرَجها السيِّدُ المسيحُ في صُلْبِ صلاته الربَّانيَّة التي أرادَ أن يُصلِّيَها أتباعُهُ: "اغفرْ لنا ذُنوبَنا مثلما نحنُ نغفر لِمَن أساءَ إلينا" (متَّى 6: 12). وقد جعلَ مُؤسِّسُ الداهشيَّة التسامَحَ ميزةً في يسوع منذُ صباه. ففي "مُذكِّرات يسوع الناصريّ" يدعو يسوع عائلتَه للتسامُح مع أهل قريته الذين كانوا

يهزأُون به، ويُعيِّرونَه بلفظة "مخبول"،

وينتهرونَ والدَيه، ويضطهدون أشقَّاءَه.

وإذْ يُهينُه إخوتُه على موقفِه وتصرُّفاته، يقولُ لهم

طوباكُم إذا اضطهدوكم من أجل كلمة الله العادلة،

وطوبى لأَرواحكم إذا عذَّبوا أجسادَكم الترابيَّة،

لأَنَّني أصدقُكم، يا إخوتي،

أنَّ أجرَكم يكونُ عظيمًا جدًّا في السماء.

فطوباكُم إذا صبرتُم،

لأَنَّ مَن يصبر إلى النِّهاية فذاكَ يخلُص. [39]

ومَن عرفَ مُؤسِّسَ الداهشيَّة عن كثَب، أدركَ عظيمَ تسامُحه مع المُخطئين في تصرُّفاتهم من أتباعه، بل مع الذين خاصَموهُ وعادَوهُ، إلاَّ زُمرةً من مُدمني الظلم والإجرام كان عليه أن يُؤدِّبَهم بتشهيرِهم إعلاميًّا، لأَنَّ المشيئةَ الإلهيَّةَ أملَت عليه ذلك.

حسبي الإشارة، هنا، إلى مثَلٍ من تسامُحه في ما دوَّنَه من انطباعاته بأثناء رحلتِه إلى لُندُن، عام 1982؛ فقد ذكَر أنَّه خلا بأَحَدِ أَتباعه مِمَّن كانوا يُكرِّرون سقَطاتِهم ونَقْضَ وعودهم بألاَّ يعودوا إلى ارتكابِ الأَخطاء والذنوب، وحدَّثَهُ بموضوعاتٍ شتَّى؛ ثمَّ قال:

وعاتَبتُه على بعضِ الهَفَوات التي لا بُدَّ من أن تصدُرَ سواءٌ منهُ أو من شقيقه أو من سواهما؛ فالحياةُ الدنيا لا بُدَّ من أن يحدثَ فيها إزعاجاتٌ لا مناصَ منها ولا غِنى عنها. فالرغباتُ البشريَّةُ والنزعاتُ والمُيولُ تُسبِّبُ من المشاكل والانفعالات ما لا يقعُ تحتَ حَصْر. غفرَ الله للجميع الذنوب، ومَحا لهم الحُوب؛ فهو أرحمُ الراحمين."[40]

ومن عناصر المحبَّة التواضُع؛ هذه الفضيلةُ السامية التي جسَّدَها مُؤسِّسُ الداهشيَّة والمهاتْما غاندي خيرَ تجسيد، بعدَ أن جسَّدَها المسيحُ وبوذا وسائرُ الأَنبياء والهُداة الروحيِّين.

إنَّ المحبَّة هي المنظارُ الذي يرى المُحِبُّ نفسَه من خلاله وقد امتدَّت في الأَرض لتُصافحَ وتُعانقَ كلَّ إنسان. ولذا يستحيلُ على المُستَكبِر المُستَعلي أن يُحبَّ النَّاس، كما يستحيلُ على الناسِ أن يُحبُّوه. بل إنَّ النَّاسَ بقَدر ما تجذبُهم وتُقرِّبُهم الوداعةُ واللطافةُ والدماثةُ في المُتواضعين، بقَدرِ ما تُنفِّرُهم وتبعدُهم الشراسةُ والقساوةُ والفظاظةُ في المُستَكبرين.

يقولُ الدكتور داهش في سُداسيَّةٍ بعُنوان "مَنِ اتَّضَع ارتَفَع":

إيَّاكَ والتهكُّمَ على أحَدٍ إذا شاهَدتَهُ يرتدي أسمالا

فالفَقْرُ لا يُعاب، وما يُدريكَ أنَّ اللهَ سيُغيِّرُ له الأَحوالا

ولا تَغتَرَّ بِمَن يرتدي الدِّمَقْسَ وتَراهُ يزدهي كبرًا وجَمَالا

فسخافتُهُ ورقاعتُهُ وبلاهتُهُ ستُريه من الأَهوالِ جِبالا

والنَّملُ الصغيرُ تراهُ بادي النشاط، يَعملُ بمُستَعمرتِه أرتالاً أرتالا

ومَنِ اعتصمَ بِحَبْلِ الله وتواضعَ فاسْمُهُ

تُردِّدُهُ الأَلسنةُ أجيالا. [41]

أَمَّا العنصرُ الأَهمُّ بين عناصر المحبَّة فهو التضحية بالمال والوقت والراحة والصحَّة من أجل المحبوب، وذُروةُ التضحية بَذْلُ النفس؛ بعبارةٍ أُخرى الجهادُ والاستشهاد. من كلمات مُؤسِّس الداهشيَّة:

إنَّ الجهادَ والاستشهادَ هما شِعارُ الداهشيَّة الأَوحَد.

في سبيل الداهشيَّة تَهونُ الحياة، ويُستَطابُ الممات. فالداهشيُّ يبذلُ كلَّ ما يملكُهُ من مال، ووقت، ومجهودٍ مُتواصِل الحلَقات، ثمَّ يجودُ بروحِهِ لأَجلِ نصرِ عقيدتِه الداهشيَّة. [42]

لا يكونُ للبَذْلِ معنًى وفائدة إيجابيَّة للنفس إلاَّ إذا كان غرضُ التضحية شيئًا عزيزًا، وإلاَّ إذا كانت التضحيةُ بالشيء العزيز هي من أجلِ قيمةٍ روحيَّة. والعكسُ غيرُ صحيح.

وأقدمُ تضحيةٍ دوَّنَها التاريخُ الدينيُّ هي عَزمُ إبراهيم الخليل على التضحية بابنِهِ الحبيب من أجل البرهنة على حُبِّه وطاعتِه لله. ولذا فعلى المُضَحِّي أن يُراعيَ أَولويَّات القِيَم ليكونَ لبَذْلِه تأثيرٌ مٌفيدٌ في ارتقائه الروحيّ. فمن أجل الله وما يُمثِّلُهُ من قِيَمٍ روحيَّةٍ عُليا مُتمثِّلَة بتعاليم الأَنبياء الصريحة يُضحِّي الراقون روحيًّا بكلِّ شيءٍ حتَّى بالنَّفس. لكنَّ هذا لا يعني قتالَ الناس أو إكراهَهم على اتِّباع كلام الله أو رُسُلِه، فالحُرِّيَّةُ منحةٌ إلهيَّةٌ مُقدَّسةٌ للنَّاسِ جميعًا؛ وعلى أساسها سيُثابون أَويُعاقَبون. ولا هو يعني التضحيةَ بالنفس من أجلِ مُؤَسَّساتٍ بشريَّة، وإنْ تكُنْ ذاتَ صِفَةٍ دينيَّة؛ لأَنَّ اللهسبحانَهلم يُنشئ مُؤسَّساتٍ في الأَرض ولا رُسُلُه أنشأُوا. فالمُؤسَّساتُ عملٌ بشريٌّ قد يُصيبُ وقد يُخطئ في ما يرمي إليه. وتحميلُ معنى الجِهاد مدلولاً روحيًّا غير ذلك هو تضليلٌ للنَّاس. فلا معنى للجِهاد والاستشهاد من أجلِ أيِّ شيءٍ يُناقضُ الحقيقةَ والعدالةَ والعفَّةَ والقناعةَ والمحبَّةَ التي هي القِيَمُ الروحيَّة السامية التي تُؤَدِّي مُمارستُها إلى الارتقاء الروحيّ. ولا معنى للجهاد والاستشهاد إذا اتَّبعا سبيلاً مكيافيلِّـيًّا مُلتويًا، لأنَّ الوسيلةَ لا يُمكنُ فصلُها عن الغاية. والتاريخُ حافلٌ باضطهادات وحروبٍ ادَّعى موقِدوها أَنَّها كانت من أجل الله أو المسيح أو أحد الرُّسُل، ومع ذلك استنكرَها العُقلاءُ في كلِّ شعب ولعَنوا مُسبِّبيها.

ولا ريبَ بأنَّ خطَّ العطاء الروحيّ جهادًا واستشهادًا بلغَ ذُروتَه في حياة السيِّد المسيح وبَذْلِه نفسَه فِداءً عن البشر. يقولُ الدكتور داهش في قطعةٍ ابتهاليَّةٍ بعُنوان "إلى فادي الأَنام":

أيُّها السيِّدُ المسيح!

يا سيِّدَ المجدِ الخالدِ والحُبِّ اللامُتناهي.

يا رسولَ الله وكلمتَه السامية.

يا معدنَ الصفاء ويُنبوعَ النقاء.

يا مَن بذَلتَ دمَكَ الطاهر فِداءً لخلاصِنا.

يا مَن تألَّمتَ لأَجلِنا كثيرًا، وأحبَبتَنا الحُبَّ كلَّه (...)

يا مَن علَّمتَنا الفضيلة، وغرسْتَ في نفوسِنا بذورَ الوفاء.

يا مَن ضحَّيتَ بكلِّ شيءٍ كي تستحقَّ السعادةَ الأَبديَّة.

يا مَن كانت سيرتُكَ نبراسًا لنا يَقينا العثرات... [43]

(في العدد القادم سنرى أَهمِّـيَّةَ العقل والإرادة

في ميزان الرُقيِّ الروحيِّ وفقًا للمفهوم الداهشيّ.)



[1]انظر ديديه جوليا، "قاموس الفلسفة"، ترجمة فرنسوا أيُّوب وإيلي نَجم وميشال أبي فاضل (مكتبة أنطوان، بيروت، ودار لاروس-باريس، 1991)، "علمُ الأَخلاق" و"علم الأَخلاق المُنفتح"، ص 328 و 329.

[2]الدكتور داهش، "كلمات" (دار النار والنور، بيروت، 1983)، ص 111.

[3]الدكتور داهش، "ابتهالات خُشوعيَّة" (دار النَّار والنُّور، بيروت، 1983)، ص 82.

[4]راجع بحثًا عن "أبعاد الحريَّة لدى مُؤسِّس الداهشيَّة"، في "صوت داهش"، عدد آذار (مارس) 1997، ص 13-14: "الحريَّة النفسيَّة".

[5]الدكتور داهش، "كلمات"، ص 179.

[6]ديديه جوليا، "قاموس الفلسفة"، ص 208.

[7]المرجع السابق، ص 186.

[8]المرجع السابق نفسه.

[9]الدكتور داهش، "مُذكِّرات يسوع الناصريّ" (الدار الداهشيَّة، نيويورك، 1991)، ص 35.

[10]انظرْ ج. أ. هادفيلد، "علم النفس والأخلاق"، ترجمَه محمَّد عبد الحميد أَبو العزم وراجعَه الدكتور عبد العزيز القوصي(مكتبة مصر، 1953)، ص 97-130.

[11]انظُر إيضاحًا مُفصَّلاً لأَهميَّة كَون الله هو المُطلَقَ الوحيدَ ولتأثير ذلك في الاتِّزان النفسيّ .

Wilfried Daim, Transvaluation de la Psychanalyse: L’homme et l’Absolu, trad. de l’allemand (Albin Michel, Paris, 1956), pp. 129-173.

[12]انظُر الدكتور داهش: "الإلاهاتُ الستّ" (دار النسر المُحلِّق، بيروت، 1979)، ص 46.

[13]الدكتور داهش، "بروق ورعود" (بيروت، 1964)، ص 29.

[14]انظر ثلاثة أبحاث عن العدالة في الأَعداد السَّابقة من "صوت داهش"، كانون الأَوَّل (ديسمبر) 1997، وآذار (مارس) وحزيران (يونيو) 1998.

[15]الدكتور داهش، "ابتهالات خشوعيَّة"، ص 116؛ "مُذكِّرات يسوع الناصريّ"، ص 77.

[16]انظُر بحثًا عن أبعاد الحريَّة في "صوت داهش"، آذار (مارْس) 1997.

[17]انظُر "صوت داهش"، كانون الأَوَّل (ديسمبر)، 1997، ص 43-44.

[18]الدكتور داهش، "بروق ورعود"، ص 28.

[19] الدكتور داهش، "قيثارة الحبّ" (دار النسر المُحلِّق، بيروت، 1980)، ص 50.

[20]تحسُنُ مُراجَعَةُ كتاب الدكتور داهش، "نهر الدموع"، دار النسر المُحلِّق، بيروت، 1979، لتَكوينِ فكرة واضحة عن فضائل الدكتور خبصا.

[21]انظُر الدكتور داهش، "المُهنَّدُ الباتر"، (الدار الداهشيَّة، نيويورك، 1991)، ص 161، و "قِصَص غريبة وأساطير عجيبة"، الجزء الرابع (دار النَّار والنُّور، بيروت، 1983)، "اللغزُ المُحيِّر"، ص 97.

[22]الدكتور داهش، "كلمات"، ص 146

[23] المصدر السابق، ص 54.

[24]المصدرُ السابق، ص 132.

[25]المصدر السابق، ص 45 و 46.

[26]المصدرُ السابق، ص 175.

[27]الممصدرُ السابق، ص 115.

[28]الدكتور داهش، "بروق ورُعود"، ص 31.

[29] الدكتور داهش، "مُذكِّرات يسوع الناصريّ"، ص 22.

[30]الدكتور داهش، "بروق ورُعود"، ص 103.

[31]الدكتور داهش، "ابتهالات خشوعيَّة"، ص 87.

[32] الكتاب المُقدَّس: "رسالة بولس الرسول الأُولى إلى أَهل كورنثس"، الإصحاح 13.

[33] انظرْ مُراجعة لكتاب الدكتور سكوت بِك (Scott Peck) "الطريقُ التي قلَّما سُلِكَت"، في "صوت داهش"، أَيلول (سبتمبر)، 1995: قسم "المحبَّة"، 86-87.

[34]انظر سلسلة مقالاته في كتاب "غضبة الصحافة المهجريَّة وأُدباء البلاد العربيَّة دِفاعًا عن داهش والداهشيَّة"، الدار الداهشيَّة، نيويورك، 1998.

[35] الدكتور داهش، "كلمات، ص 170.

[36]الدكتور داهش، "مُذكِّرات يسوع الناصريّ"، ص 72.

[37]المصدرُ السابق، ص 74.

[38]James A. Haught, Holy Horrors (Prometheus Books, Buffalo, New York, 1990), pp. 81-124.

[39] الدكتور داهش، "مُذكِّرات يسوع الناصريّ"، ص 79-82.

[40] الدكتور داهش، "الرحلاتُ الداهشيَّة حول الكُرة الأَرضيَّة"، الجزء 19، (الدار الداهشيَّة، نيويورك، 1994)، ص 70.

[41] الدكتور داهش، "المُهنَّد الباتر"، ص 128.

[42]الدكتور داهش، كلمات، ص 91-92.

[43] الدكتور داهش، "ابتهالات خُشوعيَّة"، ص 89-90.

 

 

  Back to التعاليم الداهشيَّة بقلم الدكتور غازي براكس 

 

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.