أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

 

التنشئةُ القويمة في المفهوم الداهشيّ (2)

المنهجُ التربويُّ القويم: مضامينُه والتربيةُ العقلانيَّة

بقلَم الدكتور غازي براكْس


في الحلقةِ السابقة أوضحتُ القواعدَ الأساسيَّة التي تقومُ عليها التربيةُ القويمة. هذه القواعدُ تصونُها المحبَّةُ الصادقة التي يجبُ أن تشدَّ أَواصرُها الأَبَوَين إلى أولادهما؛ وهي تتمثَّلُ في بُعدَين: الأوَّل ضرورةُ معرفة الأَبوَين لحقيقة الولَد النفسَجسميَّة التي هي امتدادٌ لمعظم خصائص الأَبوَين المادِّيـَّة والروحيَّة، وبالتالي ضرورة إدراكهما لتفاوُت أولادهما في مداركهم واستعداداتهم ونزعاتهم لكي يُحسنا التصرُّفَ معهم؛ والثانـي وجوبُ تحمُّلِ الأَبوَين لمسؤوليَّة تربية أولادهما منذ حبَلِ الأُمِّ بهم حتَّى اكتمالِ مُراهقتهم، علمًا بأنَّ تَبِعتَهما السيكولوجيَّةَ الخُلُقيَّة تعظمُ إذا حدثَ طلاقٌ بينهما. وعلى الأَهمِّـيَّة البالغة التي للجينات (المُورِّثات) في بناء شخصيَّة الطفل وفي تحديد قواه العقليَّة وأنواعِ نزعاتِه واستعداداته ودرجتها، يبقى للتربية البيتيَّة والمدرسيَّة دَورٌ فعَّال، لا سيَّما في الطفولة الأُولى والثانية. كذلك تصدَّيتُ لتربية النـزعات في الطفل تربيةً سليمة بتنمية ما هو راقٍ منها، من جهة، ولا سيَّما الصدقُ في الكلام والتعامُلُ مع الآخرين، وتعزيزُ الشجاعة، والمحبَّةُ والنزعةُ الغَيريَّة (الشفقة والإحسان وإيثار الخَير العامّ)، ومن جهةٍ أُخرى، بتنميةِ العادات الحسنة التي من أَهمِّها الصلاة، وكَبحُ العادات الرديئة التي من أبرزها الكذب وإدمان المُسكِرات والمُخدِّرات. وفي هذه الحلقة سأُوضِحُ مضامينَ المنهجِ التربويّ في ضوءِ التعاليم الداهشيَّة، ثمَّ أشرحُ الكيفيَّةَ المُثلى لتطبيقه. لكن لا مناصَ، أوَّلاً، من تبيين الأهمِّـيَّة التي كان مُؤَسِّسُ الداهشيَّة يوليها المدارسَ على الصعيد التربويّ.

 

الأَهمِّـيَّةُ التربويَّةُ للمدارس

 

في تعميم الثقافة والحقائق العلميَّة

 

         في 3 تشرين الثاني (نوفمبر)، عام 1978، كتبَ الدكتور داهش تحت عنوان "مَن فتحَ مدرسةً أغلقَ سجنًا" الفقراتِ التالية:

 

مَن يُغلقُ معهدًا أو يُقفلُ مدرسة ما هو إلاَّ أثيمٌ طاغية ومُجرِمٌ باغية... فالمسؤولُ الذي يُغلقُ المدرسة يكون بعمله الإجراميّ قد حكمَ على جيلٍ كاملٍ بالجهل المُطبِق؛ والجهلُ ما هو إلاَّ ظلمةٌ دامسة سببُها الحاكمُ الظالمُ الباغية. وظلامُ العقول أَفدحُ ما يُمكنُ أن يرتكبَه المسؤول...فالظلامُ يخلقُ اللصوصَ والقتَلة والمُحترفين للجرائم بمُختلف أنواعها. وصدقَ مَن قال: "مَن فتَح مدرسةً أغلقَ سجنًا." فمَن هو الذي يتجرَّأُ على إغلاق المدرسة التي تخلقُ جيلاً جديرًا بالحياة!"[1]

 

لقد ساوى الدكتور داهش بين المعرفة والنور، لأنَّ الغايةَ المُثلى من المعرفة هي إنارةُ عقول البشر بتنميتها ليُدركوا حقيقةَ مُحيطهم وحقيقتَهم هم كأُناسٍ يعيشون حياةً نسيجُها الألمُ والشقاء، ويبحثوا عن أسبابِ تَعسهم ووسائلِ خلاصهم وارتقائهم الحضاريّ والروحيّ. فالمعرفة، إذا اقترنَت بالفضيلة، من شأنها أن تُساعدَهم على تخطِّي المُستوى الروحيّ الأرضيّ والدخول في العوالم الفردوسيَّة ثمَّ تجاوزها إلى المُحيط الروحيّ حيث تتجلَّى الحقائقُ الأزليَّة الأبديَّة.

 

كما ساوى مُؤسِّسُ الداهشيَّة بين الجهل والظلام، لأنَّ ظلمةَ العقول تُفقِدُ البشرَ إنسانيَّتَهم، وتجعلُهم أقربَ إلى الضواري، يفترسُ بعضُهم بعضًا. والتاريخُ حافلٌ بما يُؤكِّدُ هذه الحقيقة. والإحصاءاتُ المُعاصرة تدلُّ على أنَّ للجهل يَدًا طولى في أعمال الإجرام على مُختلف أنواعها. ولذلك فالمعرفة، كما الشجاعة، تجعلُ الإنسانَ جديرًا بالحياة؛ لأنَّ الحياة حلبةٌ للتنافُس والسِّباق المعنويَّين، والجاهلُ كما الجبان يسقطان فيها.

 

ونظرًا لأهمِّـيَّة المدارس في تشييع المعرفة، اعتبرَ الدكتور داهش أنَّ إغلاقَ المدارس أفدحُ عملٍ غاشِم فد يقومُ به مسؤولٌ رسميّ. ويُستَشَفُّ من سياق كلامه تحريضٌ على الثورة على ذلك المسؤول إذا كان حاكمًا؛ فشأنُه شأنُ الطاغية الذي على الشعب الأبيّ ألاَّ يُنكِّسَ له الرأس، بل الإطاحةُ به وجعلُه عبرةً لغيره مِمَّن تُسوِّلُ لهم نفوسُهم العبثَ بمُقدَّساتٍ جعلَها اللهُ نِعَمًا للبشر. فالمعرفة، كالحُرِّيـَّة، من نِعَم الخالق على الناس، ولِذا عليهم واجبٌ مقدَّس هو ألاَّ يتنازلوا عنها.

 

 

 

أَوَّلاً- مضامينُ المَنهجِ التربَويّ

 

إنَّ المناهجَ التربويَّة الحديثة، لا سيَّما المُطبَّقة في مدارس الغرب، بَدءًا من حدائق الأطفال وانتهاءً بالتعليم الثانويّ High School، قد تطوَّرَت كثيرًا في النصف الثاني من القرن العشرين، وداخلَتها تحسيناتٌ وتعديلاتٌ أساسيَّة تُراعي استعداداتِ الأحداث المختلفة ومواهبَهم المتنوِّعة، وتنفحُهم بثقافةٍ عامَّة مُعاصرة. ولن أتدخَّلَ في تفاصيل الموادّ، فهي تشملُ أهمَّ المعارف المُعاصرة، وتتدرَّجُ تبعًا لنُمُوِّ مدارك التلاميذ. وتكادُ لا تختلفُ من بلدٍ إلى آخر في البلدان الراقية إلاّ اختلافًا عرَضيًّا يُمليه التُراثُ التاريخيُّ الحضاريُّ اللُغَويّ. لكنَّ مضامينَ المنهجِ التربَويّ ما زالت بحاجةٍ إلى مزيدٍ من التعديل، في ضوء التعاليم الداهشيَّة، لتُصبحَ الغايةُ منها لا تخريجَ إنسانٍ ناجحٍ في حياته العمليَّة فحسب، بل أيضًا، وقبل ذلك، بناءَ إنسانٍ راقي العقلِ، سامي النـزعات، يعطفُ على المحرومين والمُتألِّمين حيثما كانوا، ويشعرُ بمسؤوليَّتِه عن أعماله. يقولُ المُفكِّرُ الإنكليزيُّ الكبير بروس لويد Bruce Lloyd: "المعرفة هي معلوماتٌ مُستخدَمة؛ أمَّا الحكمةُ فهي امتزاجُ المعرفة بالقِيَم.... والقضيَّة الأهمُّ كائنة في أنَّ قِيَمَنا هي الأساس الذي يُبنى عليه كلُّ شيءٍ آخر في المجتمع، وهذا يظهرُ في دوافع الحكمة التي تُؤثِّرُ في سلوكنا، وأولويَّاتنا، واتِّخاذ قراراتنا كلَّ يوم."[2] وهوذا إيضاحٌ لأهمِّ النِّقاط.

 

 

 

1- ضرورة الثقافة الإنسانيَّة المُتعدِّدة المجالات

 

تسنَّى لي، في خلال مُلازمتي للدكتور داهش حوالى عامَين ونصف عام (1978-1980)، أن أتحقَّقَ عُمقَ حبِّه لتحصيل ثقافة إنسانيَّةٍ شاملة وللإحاطة بكلِّ ما يجري في العالَم عن طريق مُطالعة مُختلف أنواع الكُتب والصحُف والمجلاَّت، وهو الذي أغناه الله بالمعرفة الروحيَّة عن طلب المعرفة البشريَّة. ولا عجَب إن جمعَ مكتبةً ضخمة شارفَت، في آخر حياته، على حوالى مئتَي ألف كتاب بالعربيَّة والإنكليزيَّة والفرنسيَّة. وحبُّه العارم للكُتُب تجلّى في خواطره التي أدرجَها في كتابه "كلمات."[3] من أدلِّها قولُه: "أُحبُّ الكُتُبَ حُبَّ السكارى للخمر، لكنّي كلَّما ازددتُ منها شُربًا زادتني صحوًا." وكذلك قولُه البالغُ التأثير الذي يذهبُ إلى المُنتهى من الهيام بها:

 

عندما يتوقَّفُ قلبي عن الضربات،

 

ويُلحَدُ جسدي في حُفرته الصامتة الموحِشة،

 

أودُّ أن تُرافقَني جيوشٌ لَجِبة من الكُتب،

 

فيُدَثَّرُ بها جسدي المُسجَّى في حفرته الخالية الباردة المَنسيَّة،

 

فالكتابُ خيرُ رفيقٍ لي في حياتي، وأتمنَّى أن يُرافقَني بمماتي.

 

والدكتور داهش الذي لم يتسنَّ له أَن ينخرطَ في مدرسة نظاميَّة إلاَّ ستَّة أشهر في طفولته، استطاع بعصاميَّته أن يُحصِّلَ ثقافةً إنسانيَّة شاملة نادرة، ويُخلِّفَ ما يُنيف على مئة كتاب، وأن يكونَ في إكبابه اليوميّ الدائب على المُطالعة حافزًا ومنارًا لكثيرين مِمَّن عرفوه. كذلك كان يُثيرُ حميَّةَ أتباعه، مُراهقين كانوا أم كبارًا، فتياتٍ أم فتيانًا، لمُطالعة الكُتُب المُفيدة سواءٌ كانت موضوعةً بالعربيَّة أم مُترجَمة عن اللُغاتِ الأُخرى، وذلك باسترعاء أنظارهم إلى أنَّ الأنبياءَ أنفسَهم، وهم الذين يُزوَّدون بالإلهام والعِلم الإلهيّ، كانوا يحرصون على تحصيل المعرفة البشريَّة بأنفسهم. وقد أعطى مثَلاً على ذلك انصرافَ يسوع الناصريّ، في حداثته، إلى تلقِّي شتَّى العلوم وإتقان العزف على القيثار في بيروت؛ وهو أمرٌ مجهول في سيرته المَرويَّة في الأناجيل.[4] وكثيرًا ما كان يمتحنُ زائريه وأتباعه صغارًا وكِبارًا فيسألُهم هل قرأُوا مثلاً القرآنَ الكريم، أو الأناجيل، أو إنجيلَ بوذا، ، أو الرامايانا، أو "الإلياذة" لهوميروس، أو "الكوميديا الإلهيَّة" لدانتي، أو "الفردوس المفقود" لمِلتن أو "بول وفرجيني" لبرناردان ده سان بيير، أو قصيدة "البُحيرة" للامرتين، أو "روميو وجولييت" لشكسبير أو روايةَ "البُؤساء" لفكتور هيغو، أو "الحرب والسِّلم" لتولستوي إلخ. كان يُريد من أتباعه أن يشعروا بانتمائهم ليس فقط لبلدٍ معيَّن أو لُغةٍ معيَّنة أو دينٍ مُعيَّن، بل للإنسانيَّة قاطبة، لأنَّ آياتِ الوَحي والإلهام وروائعَ الفكر البشريّ تتخطَّى الحدودَ والأزمان، وتُصبحُ ينبوعًا للجمال والمعرفة يستقي منه كلُّ إنسانٍ يطمحُ إلى الاستزادة من الغِنى الفكريّ والرُقيِّ الروحيّ.

 

هذا التلقيحُ الإنسانيُّ للثقافات القوميَّة ما يزالُ فقيرًا في مختلف البلدان حتَّى الغربيَّة منها. وإذا دخلَ ما قَلَّ منه الجامعاتِ أحيانًا كموادَّ اختياريَّة للطلاَّب، كما الحال في الولايات المُتَّحدة، فإنَّه لم يدخل بعدُ في البرامج التعليميَّة الثانويَّة، أو لم يدخلها كفاية؛ علمًا بأنَّ النعرات القوميَّة والعِرقيَّة والدينيَّة التي ما تزالُ تتأَجَّجُ في كثيرٍ من بلدان العالَم يُمكنُ تخفيفُها كثيرًا بالانفتاح على التراثِ الإنسانيّ. هذا فضلاً عمَّا يستفيدُه الطالبُ من موضوعاتٍ قد لا تمدُّه بها لُغتُه الأُمّ. فكتابُ "النبيّ" لجبران، مثلاً، لا نرى له مثيلاً في أيَّةِ لُغةٍ أُخرى بسُمُوِّ موضوعاته وشمولها الإنسانيِّ وجمال أَدائها الفنِّيّ. والقولُ نفسُه ينطبقُ على كثيرٍ مِمَّا أوردتُه من أسماء الكُتُب آنفًا ومِمَّا لم أُورِده من روائع الأدبِ والفكر الإنسانيَّين. فحرمانُ الطالب من معرفةِ مثل هذه الكنوز الخالدة لن يُؤثِّرَ في رُقيِّه الفكريّ والروحيّ الشخصيّ فحسب، بل في رُقِيِّ قومه أيضًا.

 

فضلاً عن ذلك، فإنَّ القِيَمَ الإنسانيَّةَ الكُلِّـيَّةَ التي تُجاري المبادئَ الدينيَّةَ العامَّة في كلِّ دين، من مثل العدالة والمحبَّة والشفقة وإيثار الخير العامّ والبطولة المُنقِذة للمظلومين والضعفاء والإخلاص في الحُبّ وغيرهاـ نلقاها في تلك الروائع الإنسانيَّة على اختلاف لُغاتها وانتماءاتها. فبانفتاح أذهان الطلاّب عليها تُقرِّبُ بعضَهم من بعض، وتدعُهم يشعرون أنَّ البشريَّةَ كلَّها يجبُ أن تكونَ أُسرةً واحدة تشدُّ أَواصرَها القِيَمُ الإنسانيَّة، لا شعوبًا مُفرَّقة تربطُها العصبيَّاتُ القوميَّةُ أو العِرقيَّةُ أو الإقليميَّةُ أو القبَليَّة. كذلك يتعلَّمُ الطلاّبُ، من خلال اطِّلاعِهم على الأفضل والأجملِ في ثقافات الشعوب، أن يحترموا تلك الثقافات وما تنطوي عليه من قِيَم.

 

 

 

2- ضرورةُ تعليم الفنون بمُختلف أنواعها

 

كان الدكتور داهش يُشدِّدُ، في أحاديثه كما في كتاباته، على أهمِّـيَّة الثقافة الفنِّـيَّة في بناء شخصيَّةٍ غنيَّة راقية للإنسان. ولا عجَب وهو القائل: "وأَيمُ الحقِّ، لا يُمكنُ أن أُشبِعَ نهَمي من الفنِّ إطلاقًا. فمنذُ طفولتي وأَنا أتوقُ لمُشاهدة أيِّ شيءٍ يُمثِّلُه الفنّ، سواءٌ أكان لوحةً زيتيَّة أم مائيَّة أم بالباستيل، كما أرغبُ رغبةً عارمة بالتماثيل الفنِّـيَّة... والخلاصةُ إنَّ الفنَّ يستهويني ويجذبُني كالمغناطيس المُقتدِر."[5] وخيرُ مِصداقٍ لقوله هذا هو قيامُ "المُتحف الداهشيّ" في نيويورك الذي بدأَ جَمعَ كنوزه عام 1930، أي في مُستهلِّ عقده الثالث.[6]

 

وما أكثرَ ما كان مُؤسِّسُ الداهشيَّة يُحدِّثُنا، ونحن جلوسٌ حوالَيه، عن زياراته للمتاحف العظيمة التي تتفاخرُ الدولُ باقتنائها ومُشاهدته الأولاد يتملَّون الرسومَ والتماثيلَ فيها مُدوِّنين مُلاحظاتهم، وعن تردُّدِه إلى صالات العَرض العالَميَّة التي تحفلُ بها عواصمُ الدوَل الغربيَّة، وفي الوقت نفسه عن استغرابه واستنكاره لخُلوِّ معظم البلدان العربيَّة من مُتحَف نفيس للفنون التشكيليَّة، ولعدَم اهتمام الحكومات العربيَّة بالتربية الفنِّـيَّة، سواءٌ كانت في الموسيقى الراقية أم في الرسم والنحت اللذَين هما "موسيقى للبصَر".[7]والسببُ الروحيُّ لاهتمامه بالتربية الفنِّـيَّة هو اعتبارُه عباقرةَ الفنون، على مُختلف أنواعها، ذوي سيّالاتٍ راقية هابطة من الفراديس العُلويَّة،[8] شأن عباقرة الفكر والأدب. وبما أنَّ ما يُبدعونه يحملُ إشعاعاتٍ روحيَّة غير مرئيَّة من سيَّالاتهم، فهو يُحدِثُ تأثيرًا تهذيبيًّا في النفوس، ويدفعُها إلى التسامي بل الخشوع أحيانًا. ولِذا يشعرُ مُتذوِّقُ الجمال الفنّيّ وهو يسمع سمفونيَّةً لبتهوفن، مثلاً، أو يتأمّلُ كنوزَ مُتحفٍ عظيم، شعورَ مَن يكون في معبَد. إنَّه معبدُ الجمال السامي الذي هو ملمحٌ من ملامح الحقائق الأزليَّة في العوالم الروحيَّة. حقيقةُ التسامي هذه عبَّرَ عنها الدكتور داهش على أثَر زيارته لمُتحف "فيلاّ بورغيزي" بروما، فقال: "لقد بُهِرنا من روعة الفنِّ العظيم وذلك الإبداع الذي لا يعلو عليه إبداعٌ مُطلقًا. إنَّه مُتعةٌ للبصَر، وفردَوسٌ للحواسّ،تستمتعُ بروعته العيون، وتجتليه النواظرُ وهي خاشعة لهذا الفنِّ العُلويِّ الذي يأخذُ بمجامع القلوب."[9]

 

فضلاً عن ذلك، فبعضُ الفنون، كالتدرُّب على عَزفِ الموسيقى الراقية أو الاستماع إليها يُنمِِّيان القدرةَ على تركيز الانتباه كما على التفكير والإبداع وتوسيع نشاط الدماغ، وفقًا لعدَّة دراسات حديثة.[10]

 

فالتربية الفنِّـيَّة مهمَّة لأنَّها تُمرِّسُ الأحداثَ بتذوُّق الجمال؛ والجمالُ والحقيقة مُتلازمان في فكر الدكتور داهش. ففي توطئة "ضجعة الموت" يقول:"مَن أدركَ سرَّ الجمال، فإنَّه قد خطا خُطواتٍ واسعة في فهم أسرار الأزل والخلود. ومَن كان بعيدًا عن حبِّ الجمال، فإنَّه لا يفقهُ معنى الحياة ولا النهاية المجهولة."[11] ألم يختصر أفلاطون الحقيقةَ الروحيَّة الإلهيَّة بثالوث الحقّ والخير والجمال في كمالها؟ بل إنَّه، على غِرارِ الدكتور داهش، رأى الأشياءَ كلَّها، طبيعيَّةً كانت أم مصنوعة، مُجرَّدَ ظلالٍ لحقائقَ أزليَّة لا يستطيعُ استلهامَ حقيقتها إلاَّ العباقرةُ من الفنَّانين والأُدباء، وذلك بواسطةِ رُؤاهم المُبدِعة وتذكُّراتهم الضبابيَّة. ولي وقفةٌ مَليَّة عند هذا الموضوع في عددٍ مُقبِل.

 

زِدْ إلى ذلك أنَّ تربيةَ الذائقة الجماليَّة تُمرِّسُ الناشئة بمفهوم التناسُق والتناغُم والنِّسَب والأولويَّات في إبراز الأشياء والوحدة المُشتملة على التنوُّع والنظام الدقيق؛ وهذه التربية تصقلُ الموهبةَ الفنِّـيَّةَ لدى أصحابها. فالتذوُّق الفنّيّ ليس مُجرَّدَ تذوُّقٍ انفعاليّ عابر، بل أساسُه ثقافةٌ عقلانيَّة ذاتُ عناصرَ موضوعيَّة.

 

 

 

3- التربية البدَنيَّة وحُدودُها

 

لم يكُن الدكتور داهش، في طفولتِه، يولي الألعابَ الرياضيَّةَ الأولويَّةَ، وإن كان يُحبُّها؛ فالأَولويَّةُ كانت لدَيه للمُطالعة واكتنازِ المعرفة أدبًا وفنًّا وعلمًا. لكنَّه، مع ذلك، كان يُعنى بالعَدو ِوالرياضةِ التي تستهدفُ تنشيطَ الجسم لا تربيةَ العضَل. وقد أخبرَنا مرارًا بمُباراته رفاقَ صِباه في العَدوِ وتفوِّقِه عليهم. وفي كِبَرِه ظلَّ يُحبُّ السَّيرَ السريع سواءٌ في منـزله الرحبِ أم في رحلاته الكثيرة. ولم يكُن أحدٌ من رفاقِه ـوأنا منهم ـ ليستطيع أن يُجاريَه في تجوالِه الطويل الذي كان يمتدُّ ساعاتٍ تلوَ ساعات. لكنَّ الرياضةَ البدنيَّةَ لديه كانت مجرَّدَ وسيلةٍ لتنشيط الجسم تعويضًا عن قعودِه ساعاتٍ طويلة في الكتابة أو استقبال الزائرين، ولم تكُن إطلاقًا غايةً بحدِّ ذاتها. ولِذا لم يجعل، في يومٍ من الأيَّام، قيمةَ الإنسان، أيِّ إنسان حتِّّّّّّّّّّى مُحترِفي المُصارعة ـوغيرُ قليلين منهم كانوا يزورونه ـ في جسمِه واكتنازِ عضلاتِه، بل في سُمُوِّ أخلاقه ورجاحةِ عقله واتِّساعِ ثقافته، وقيمةِ عطائه الأدبيِّ أو الفنّـيِّ أو العلميّ إن كان موهوبًا.

 

إنَّ أفلاطون كان أوَّلَ مَن شدَّدَ ، في كتابه "الجمهوريَّة"، على أهمِّـيَّةِ التربية البدَنيَّة. لكنَّها لم تكُن غايةً بذاتها، بل وسيلةٌ لبَثِّ الشجاعةِ وروح التعاوُن في نفوس الناشئة، ولتدريبهم على القتال دِفاعًا عن الوطن إذا هوجِم؛ كما كانت مرحلةً تمهيديَّة في التدرُّب على كَبح الشهوات والرغباتِ الدُنيَويَّة، وإخضاع نزواتِ الجسم لسلطان العقل، ريثما يُعَدُّ المُختارون من الناجحين ليكونوا جنودًا وحُرَّاسًا فُضلاءَ للجمهوريَّة.

 

          ولا شكَّ بأنَّ التربيةَ البدنيَّة تُساعدُ على صيانة الصحَّة الجسديَّة، من جهة، ومن جهةٍ أُخرى، تبثُّ في مَن يُمارسُها "روحَ الفريق المُتعاون" من أجل تحقيق هدفٍ مُشترَك، وذلك هو الخُطوةُ الأُولى التي يتعلَّمُ بها الأحداثُ معنى المصلحة المُشترَكة، وضرورةَ التعاون مع الآخرين لتحقيقها. فضلاً عن أنَّها تُعلِّمُ التنسيقَ والتقيُّدَ بالنظام الدقيق من أجل تحقيق الفَوز، وإلاَّ فالخسارة واقعة؛ كما تُعتَبَرُ وسيلةً مُداوِرة للتفريج عن نزعة العدائيَّة الكامنة في معظم النفوس.

 

          لكنَّ الرياضةَ البدنيَّة تحوَّلَت في القرن العشرين، ولا سيَّما في نصفه الثاني، في مختلف بلدان العالَم، إلى غايةٍ بحَدِّ ذاتها؛ وأصبحَ الهدفُ منها الكسبَ المادِّيّ وتركيزَ الاهتمام على تكنيز العضَل أو رشاقة الجسم بما يُشبه العِبادةَ له. وفي ذلك ما يصرفُ أذهانَ الناشئة عن الأولويَّات في الحياة؛ ذلك فضلاً عمَّا تُثيرُه المُبارياتُ من تسعيرٍ للأحقاد بين فريقٍ وآخر، وتأجيجٍ للشراسة والنـزعة العدائيَّة في نفوسهم. وقد أثار هذا الأمرُ الخطيرُ قلقَ الخُبراء والباحثين التربويِّين، فوضعوا عشرات الكُتُب يُنذرون فيها بالخطرِ الوشيك، ويُنبِّهون إلى ضرورة تدارُكِه. فجِفري مارغوليس J.Margolis يُظهِرُ في كتابه ""العُنف في الألعاب الرياضيَّة: فَوزٌ بأيِّ ثمَن"[12]انحرافَ التربية الرياضيَّة عن هدفِها الأساسيّ وعواقبَ تقهقُرها بتحوُّلِها إلى ألعابِ عُنفٍ وَبائيّ كثيرًا ما يُؤدِّي إلى أعمال شغبٍ ويزرعُ في نفوسِ المُحترفين والهُواة علىالسواء روحَ العُنف والفظاظة والعُدوانيَّة حتَّى بين الأولاد وأهاليهم. وقد فصَّلَ جون بريدجز J. Bridges في كتابه "جَعْلُ العُنف جزءًا من اللُعبة: تاريخٌ سوسيولوجيّ- قانونيّ للعُنف في الألعاب الرياضيَّة بأمريكا"[13]عواملَ هذا العُنف الوَبائيّ في أمريكا وعواقبَه، مُشيرًا إلى أنَّه سنويًّا يقعُ حوالى مليون وثلاثمئة ألف جريح في ألعاب كُرة القدَم، وما يُقاربُ ذلك في ألعاب "البايسبول"، وحوالى مليون ومئتَي ألف جريح في ألعاب كُرةِ السلَّة. وكثيرٌ من الإصابات يُؤدِّي إلى الشلَل أو الموت أحيانًا. وقد ألمعَ ستيفِن كارتِر S. Carter في كتابه "الاستقامة"[14]إلى أنَّ المدارسَ كثيرًا ما تستغلُّ تلاميذَها جانيةً من ألعابهم مبالغَ طائلة ومُسخِّرةً هدفَ الرياضة النبيل للكَسب التجاريّ. وهذه الناحية الشائنة فصَّلَها موراي سبيربِر M. Sperber في كتابه "بيرا وسيرك"[15] تفصيلاً واسعًا، مُظهِرًا الغايةَ التجاريَّة من تشجيع المعاهد الألعابَ الرياضيَّة وتأثيرَ هذه في تخلُّف التلاميذ تخلُّفًا ملحوظًا، ومُشبِّهًا أمريكا بروما أيَّامَ أخذَ الانحطاطُ بخناقِها، فلجأت إلى الألعاب الرياضيَّة تُلهي بها الشعبَ عن الحديث بمخازي السلُطات السياسيَّة والدينيَّة، ذلك فضلاً عن تنافُس وسائل الإعلام في استدرار المكاسب. وقد وردَ في دراسةٍ تناولَت هذا الموضوع ونُشِرَت في مجلَّة "وِلسُن كوارترلي" Wilson Quarterly[16] البارزة أنَّ مُعدَّلَ الألعاب الرياضيَّة في المعاهد يتراوحُ أُسبوعيًّا بين 10 و15 ساعة، وأنَّ حوالى 40 بالمئة من التلاميذ الذين يشتركون في الألعاب الرياضيَّة يعترفون بأنَّهم كثيرًا ما تمنعُهم الجهودُ الرياضيَّة المُتعِبة التي يبذلونها من مُتابعة دروسهم بنشاطٍ ذهنـيّ.

 

          إنَّ الألعابَ الرياضيَّة إذا لم تلتزم الغايةَ التي من أجلها وُجِدَت والتي تكلَّمَ عليها أفلاطون، فإنَّها تُصبحُ عاملاً على زيادة الهَدمِ في أُسُسِ المُجتمع والأُسَر، مثلما كانت عليه أيَّامَ القهقرى الرومانيَّة، بدلَ أن تكونَ عاملَ بناءٍ وتقدُّم. ولا يغيـبَنَّ عن بالنا أنَّ الغايةَ من حياة الإنسان على الأرض، في المفهوم الداهشيّ، هي تربيةُ نفسه وتعزيز ارتقائها لتستعيدَ الفراديسَ العُلويَّةَ التي هبطَت منها، وليست تكريمَ الجسد وصَرفَ الاهتمام به حتَّى العبادة أحيانًا، سواءٌ كان ذلك يُسَمَّى تربيةً رياضيَّة أم لياقةً بدَنيَّة أو رشاقةً. ففي ما أُوحِيَ إلى الدكتور داهش في كتاب "مُذكِّراتُ يسوع الناصريّ"، يدورُ هذا الحوارُ ذو المدلول العميق بين بطرس الرسول ويسوع ذي الثانية عشرة الذي كان نازلاً في ضيافتِه:

 

          -إقترِبْ، يا عزيزي بطرس. أين هو ابنُكَ آدوم؟

 

          -خرجَ يلعبُ مع الصِّبية.

 

          -وَيْ! كم له من العُمر؟

 

          -أربعةَ عشرَ ربيعًا.

 

          -أيكبرُني بعامَين وما يزالُ مُنصرِفًا للألعابِ الدُنيَويَّة؟

 

          وإذْ يحضرُ آدوم ويُحيِّي يسوع يسألُه:

 

         -ماذا كنتَ تصنع؟

 

          -كنتُ ألعبُ مع الصِّبيةِ رفاقي بين الكُروم. وعندما تسابقنا، نلتُ قصبَ الفوزِ عليهم جميعًا.

 

          -يا لكَ من ظَبيٍ شرود! وماذا أنالكَ هذا التفوُّق؟

 

          -كسبتُ الرِّهانَ، وهو يقضي أن أتزعَّمَ عليهم لمدَّةِ أُسبوعَين. آمرُهم مهما شئتُ، فيُنفِّذونه طائعين مُختارين.

 

          -إذَنْ مُرْهم أن يحضروا في كلِّ صباحٍ إلى هنا، كي أَهديَهم طريقَ السماء.

 

          -لكَ ما شئتَ.[17]

 

          فواضحٌ أنَّ يسوع الذي يُمثِّلُ هنا دورَ المُرشِد التربويِّ والروحيّ، على صِغَرِ سنِّه، لم يدَع الأحداثَ يستزيدون من الألعاب الرياضيَّة تائهين عن الغاية من الحياة، بل دعاهم إلى الاكتفاء بما قاموا به، ونبَّهَهم إلى ما هو أَولى: الحياة الروحيَّة والحقائق الأزليَّة. فما هي المبادئُ الروحيَّة التي على الناشئة أن يتعلَّموها وفقًا للداهشيَّة؟

 

4- القواعدُ الروحيَّةُ العامَّة

 

          إن بناءَ إنسانٍ فاضل لا يمكنُ أن يتمَّ بدون قواعدَ روحيَّة ينهضُ عليها. فإذا كانت استقلاليَّةُ النُمُوِّ الذاتيّ مُستَحَبَّة على صعيد استعدادات الأحداث ومواهبهم العقليَّة، فتَركُ الوَلَد يتصرَّفُ تبعًا لهواه على الصعيد السلوكيِّ الخُلُقيِّ خطأٌ فادح، لا مناصَ للأُسرة والمجتمع من أن يدفعا ثمنَه عاجلاً أم آجلاً. فالطبيعةُ البشريَّة سهلةُ الانقيادِ للشرّ، و"إنَّ النفسَ لأَمَّارةٌ بالسوء" (سورة يوسف: 53)، لأنَّ الانحرافَ في فطرتها منذ عصيان آدمَ وحوَّاء للأَوامر الإلهيَّة وطردهما من الفردَوس الأرضيّ. ولذلك قال مُؤسِّسُ الداهشيَّة: "جميعُنا في حاجةٍ إلى الإرشاد."[18]فإذا كان الكِبارُ الناضجون المُجرَّبون يحتاجون إلى التوجيه، فكيف بالصغارِ الغُرّ؟

 

          ليس في الداهشيَّة أيُّ ادِّعاءٍ لاحتوائها على الحقيقة المطلقة، بل إنَّها ترى أنَّ الأديانَ كلَّها على صواب في أُصولها، حتَّى الهداياتُ الروحيَّةُ منها كالهندوسيَّة والبوذيَّة والكنفوشيَّة. فما على المُربِّين في المدارس، رسميَّةً كانت أم خاصَّة، إلاَّ استلهامُ القواعد الروحيَّة العامَّة المُشتركة بين الأديان جميعًا، كخلود النفس، والثواب والعقاب (كيفما كان شكلهما)، والابتعادِ عن الشرّ، ومُمارسةِ الفضائل، ولا سيَّما النـزعة الإنسانيَّة المُنطوية على المحبَّة والشفقة والإحسان. ففي الإيمان بخلود النفس والثواب والعقاب أملٌ للإنسان في حياةٍ أفضلَ من حياته وتعزية ٌ له عمَّا يُصيبُه، وكذلك رادعٌ له عن الشرّ؛ وفي مُمارسته للفضائل ترقيةٌ لنفسه وإسهامٌ في ترقية الأسرة والمجتمع.

 

          إنَّ مُناصرةَ الداهشيَّة القويَّة لحُرِّيـَّةَ المُعتقدات الدينيَّة لا تعني، في أيِّ حال، اتِّجاهَها لإبعاد الناشئة عن كلِّ تعليمٍ دينيّ. إنَّها لا تدعمُ فكرةَ سيطرةِ دينٍ واحد على الدولة أو على التعليم التربويّ أو توجيهَ الناشئة إلى فكرةٍ دينيَّةٍ معيَّنة، فهذا يُناقضُ إيمانَها بوَحدة الأديان الجوهريَّة التي سيكون لي وقفةٌ طويلةٌ عندها في عددٍ مُقبِل، لكنَّها مع بناء الدولة على قِيَمٍ روحيَّة؛[19] وهذا يقتضي تعليمَ التلاميذ القواعدَ الروحيَّة المُشتركة بين الأديان جميعًا، لأنَّ في ذلك فائدةً للفرد والمجتمع، على أن يتعمَّقوا في تفاصيل مبادئهم الدينيَّة على أيدي مُرشديهم الدينيِّين خارجَ مدارسهم، تبعًا لمُعتقَدِ كلٍّ منهم.[20]

 

          وإنَّه لَخطأٌ فادح ألاَّ يُفرِّقَ العَلمانيُّون بين الأديان وسلوك المُؤمنين بها، وادِّعاؤُهم أنَّ بإمكان التعليم العَلمانيِّ أن يستغنيَ عن تعاليم الأديان. فالانحرافاتُ التي حدثَت، في سياق الأجيال، لدى المُؤمنين بمختلف الأديان، وأدَّت إلى التباغُض والتفرقة والتناحُر، يحصلُ مثيلُها في المجتمعات التي يسودُها الإلحادُ كما في المُنظَّمات العَلمانيَّة التي تضمُّ نُخبةً من أرقى الناس ثقافةً. فالدكتور بول كورتس Paul Kurtz، رئيسُ "الجمعيَّة الإنسانيَّة العَلمانيَّة" Secular Humanist Society بنيويورك يقول في رسالةٍ مفتوحة إلى أعضاء الجمعيَّة مع مطلع الألف الثالث: "يُحبِطُني، أحيانًا، أن أجدَ نزاعاتٍ بين الإنسانيِّين، وسلوكًا مُنافيًا للأخلاق السليمة، وتنافُسًا على مراكزِ القوى، وحقدًا، وحسَدًا، وغيرةً، وثأرًا، وعدائيَّة."[21]

 

          فضلاً عن ذلك، فقد أظهر التاريخُ، من غير لَبس، أنَّ الأنظمةَ الإلحاديَّة لم تستطع إصلاحَ الإنسان ولا المجتمع، ولا حتَّى المُحافظة على المناقب الاجتماعيَّة. فالفسادُ الذي قرَضَ تلك الأنظمة وأدَّى إلى انهيارِها إنَّما مبعُثُه التحاسُدُ، والتنافُسُ غيرُ الشريف على مراكزِ القوى، والسلوكُ المُلتوي المدفوعُ بحُبِّ الإيذاءِ والغرور والكبرياء. هذه الحالةُ المُزرية بالإنسانِ وكرامتِه، والمُعرقِلة لكلِّ مُحاولةٍ من أجل ارتقائه الإنسانيّ، سببُها الرئيسُ شَلُّ الضمير وإسكاتُ صوتِه، وإيهامُ النفسِ بأَنَّها، لا محالةَ، صائرة إلى فناء، وأنَّه لا حسابَ لها بعد الموت.

 

          وفي خَطٍّ مُوازٍ للأنظمةِ الشيوعيَّة الاشتراكيَّة نرى الأنظمةَ الديمقراطيَّةَ العَلمانيَّة الحديثة، بصورةٍ عامَّة، تنـزعُ من الإنسان عواطفَ الشفقة والرحمة والمحبَّة والشرف، لتُحِلَّ محلَّها التنافُسَ العُدوانيَّ من أجل النجاح السريع وحَشدِ الثروة الكُبرى، وإن يكُنْ ذلك على أشلاء الضمائر وآلام الفقراء وأنين العدالة. لذلك قال مُؤسِّسُ الداهشيَّة بوضوحٍ حاسِم:

 

          في عصرِنا الحاليِّ لا نسمعُ إلاَّ بالنُّظُمِ الديمُقراطيَّة، والدكتاتوريَّة، والرأسماليَّة، والاشتراكيَّة، وسواها وسواها من المُضحِكاتِ المُبكِيات على اختلافِ أشكالِها وألوانِها واتِّجاهاتِها؛ وقد سلبَت من الإنسانِ روحَ إنسانيَّتِه، بعدما أَوقعَته في شِباكِها اللعينة الكاذبة، وأَسرَته، فإذاهُ آلةٌ مُسَيَّرة غيرُ مُخَيَّرة. لقد أصبح خاليًا من التعاطُف والتوادِّ والتراحُم والشعورِ الإنسانيّ المُتبادَل بين الإنسان وأخيه الإنسان. فإذا لم ينبُذ الجميعُ هذه العقائدَ الإلحاديَّةَ القَذِرة، فسيبقَون راسفين في قيودِهم الشيطانيَّة التي تشدُّ على أعناقِهم لتوردَهم مواردَ التهلُكة. إنَّ العودةَ إلى الدين هي طريقُ الخلاصِ للجميع، ففيه يجدُ الإنسانُ راحتَه وأمنَه، وفيه يجدُ قلبَه وقد اطمأنَّ وروحَه وقد استقرَّت.[22]

 

          ولا شكَّ بأنَّ القارئَ قد انتبَه إلى أنَّ الدكتور داهش لم يَدْعُ إلى العودة إلى دينٍ معيَّن، بل إلى قواعد الدين، أيِّ دين، لأنَّ الأُصولَ صحيحة، وإن تنوَّعَت. ذلك بأنَّ البشرَ، إلى أيِّ نظامٍ سياسيّ انتمَوا، أصبحوا سواء في اهتماماتهم المادِّيـَّة وفي الرذيلة والرياء. فالعلَّةُ ليست في الأديان، بل في مُعتنِقيها. ولذلك يُرسِلُ اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ في كلِّ حقبةٍ من الزمان رسولاً أو هاديًا روحيًّا يُذكِّرُ الناسَ مُجدَّدًا بضرورة طاعةِ الأوامر والإرشادات الإلهيَّة إذا أرادوا الخلاصَ والراحةَ النفسيَّة.

 

          لكنَّ معرفةَ القواعد الروحيَّة العامَّة المُشتركة إذا لم تُرافقها معاييرُ للتمييز بين القِيَمِ الروحيَّة والقِيَمِ المادِّيـَّة، وبين الحقِّ والباطل، والخيرِ والشرّ، فإنَّها تصبحُ لدى الناشئة كمالٍ مُذَّخَر، وصاحبُه جائعٌ عريان، لا يعرفُ كيف يشتري طعامًا وثيابًا ولا ماذا يبتاع. ولِذا وجبَ تعليمُ الناشئة المعاييرَ السليمة للتمييز الصحيح.

 

 

 

أَ- معاييرُ التمييز بين القِيَمِ الروحيَّة والقِيَمِ المادِّّيـَّة

 

          في التعاليم الداهشيَّة أنَّ الإنسانَ مجموعةٌ من السيّالات الروحيَّة التي هبطَت، بسببِ عدم تقيُّدِها بالأوامر الإلهيَّة، من العوالم الروحيَّة السعيدة المجيدة التي كانت ترتعُ فيها في الأزَل. هذا الهبوط حصلَ تدريجيًّا، وكان آخرُه السقوطَ في جنَّة عَدْن. فإذا عرفنا أنَّ الغايةَ المُثلى من الحياة هي بَذْلُ جميع الجهود للعَودة إلى الأصل الإلهيّ، أصبحنا نعرفُ أنَّ كلَّ ما يُساعدُ أو يُعجّلُ في تلك العودة هو من القِيَم الروحيَّة. فالحبُّ، مثلاً، بقدر ما يكون روحانيًّا قائمًا على التضحية من أجل المحبوب والاهتمام بخيره الروحيّ، يكونُ من القِيَم الروحيَّة؛ وعلى نقيضِ ذلك بقدرِ ما يُمسَخُ شهوةً جسديَّةً صرفًا هدفُها المُتعةُ الآنيَّةُ السريعةُ الزوال، يكونُ من القِيَمِ المادِّيـَّة. والعطاءُ بقدرِ ما يكونُ عن عفويَّةٍ نابعًا من الرحمة ومحبَّة الإنسان لأخيه الإنسان، يكونُ من القِيَمِ الروحيَّة، وبقَدرِ ما يكونُ للشهرة والتباهي أو تخفيفًا للضرائب، يكون قيمةً مادِّيـَّة. والمعرفة بقَدرِ ما تكونُ غايتُها السموَّ بالنـزعات وترقيةَ العقلِ وتوسيعَ آفاقه من أجل خدمةِ البشريَّة واكتشافِ عظمة الله في خَلقِه، تكونُ قيمةً روحيَّة، وبقَدرِ ما يكونُ الهدفُ منها استزادةَ الثروة ومعرفةَ أساليب التسلُّط على الناس وتمجيدَ النفس، تكونُ قيمةً مادِِّيـَّة. والجهادُ بقَدرِ ما يكون من أجل خدمةِ شخصٍ أو حزبٍ أو قضيَّةٍ سياسيَّة أو طائفيَّة، يكون قيمةً مادِّيـَّة، وبقَدر ما يكون في سبيل نُصرة قضيَّةٍ إنسانيَّة أو دينيَّةٍ نبَويَّة أمرَ بها وَحيٌ إلهيّ، يكون قيمةً روحيَّة. ولا حاجةَ لمزيدٍ من التفصيل في هذا المجال، لأنَّني أَسهبتُ الكلامَ على ذلك في حلقاتٍ سابقة تناولتُ فيها الارتقاءَ الروحيّ.

 

 

 

ب- معاييرُ التمييزِ بين الخيرِ والشرّ، وبين الحقِّ والباطل

 

          في ضوءِ المفاهيم الداهشيَّة نفسِها يُمكنُ وَضعُ معاييرَ للتمييز بين الخيرِ والشرّ، كما بين الحقِّ والباطل. مثالُ ذلك أنَّ مُساعدةَ إنسانٍ تائهٍ خيرٌ، لأنَّها تنطوي على محبَّةٍ ورحمة؛ أمَّا مُساعدةُ مُجرمٍ هاربٍ من يَدِ العدالة فشَرٌّ، لأنَّها تشجيعٌ على الإجرام ومُشاركةٌ غيرُ مُباشرة فيه. والعملُ على تأليفِ القلوبِ المتباعدة خيرٌ، لأنَّه ينبع من المحبَّة؛ أمَّا العملُ على الفتنة بين الأصدقاء فشَرٌّ، لأنَّه ينبعُ من البغضاء. واستخدامُ وسيلةٍ شرِّيرة من أجل تحقيق غايةٍ شريفة شَرّ ؛ أمَّا استخدامُ وسيلة شريفة من أجل غايةٍ شريفة فخير.

 

          كذلك التمييزُ بين الحقِّ والباطل. مثالُه أنَّ الاهتمامَ بكلِّ ما يُرقِّي عقلَ الإنسان أو نزعاتِه من معارفَ واختبارات هو حقّ؛ أمَّا كلُّ ما يُقهقرُ عقلَه أو نزعاتِه من معارفَ واختبارات فهو باطل. فالموسيقى الراقية، كموسيقى الكلاسيكيِّين، هي حقٌّ، لأنَّها خيرٌ لقوى الإنسان الإدراكيَّة والنـزوعيَّة؛ أمَّا الموسيقى الصاخبة التي لا تُخاطبُ إلاَّ الغرائزَ السفليَّة لتستثيرَها فهي باطل. وإدمانُ مُطالعةِ الكتُبِ الإنسانيَّة الرائعة حقٌّ، لأنَّها توسِعُ آفاقَ العقل وتسمو بالعواطف؛ أمَّا مُطالعةُ الكُتبِ والمجلاَّت الإباحيَّة وإدمانُ النظر إلى المشاهد الخلاعيَّة، صورًا كانت أم أفلامًا، فهو باطل، لأنَّه يُضيِّقُ عقلَ الإنسانِ ويحصرُ اهتمامَه في بُؤرةٍ دنيئة، ويُسقِطُ سيَّالاتِه.

 

 

 

ج- الأهمِّـيَّةُ البالغة لإيقاظ الضمير

 

من مأثورات الفيلسوف الألمانيّ كانْط: "شيئان يملآن عقلي إعجابًا وخشوعًا: السماءُ الساطعة نجومُها فوقي، والقانونُ الخُلُقيُّ داخلي." إنَّ القانونَ الخُلُقيَّ كائنٌ في عقل كلِّ إنسان. ولولاه، ولولا إرادةُ الإنسان الحُرَّة، لَما كان ثوابٌ أو عقاب. فمن واجبات المُربِّين في البيت والمدرسة أن يوقِظوا ويُعزِّزوا صوتَ هذه الشريعة الإلهيَّة في ضمير كلِّ ولَد. كما من واجبهم أن يدفعوا الناشئة إلى اتِّخاذ موقفٍ خُلُقيٍّ ناقدٍ مُحلِّل لأعمالهم كما لأحداث التاريخ الماضية والمُعاصرة. عليهم أن يُعلِّموا الأحداثَ أن يكونوا قُضاةً خُلُقيِّين يُصدِرون أحكامَهم على الأعمال والأحداث، لا مُجرَّدَ تلاميذ يتلقَّون المعرفة رُكامًا يُزادُ على رُكام. هل للحروب، مثلاً، مُبرِّرٌ خُلُقيّ إن لم تكُن دفاعًا عن النفس؟ متى تكون التكنولوجيا خيرًا، ومتى تكونُ شرًّا؟ ما هي حدودُ العلاقات بين الجنسَين؟ ولماذا؟ ومرحلتا الصِّبا والمُراهقة تكونُ فيهما النفسُ مُنفتِحةً على كلِّ جديد، وتائقةً إلى إيجاد الأجوبة لمئات الأسئلة التي تشغلُها. فبقَدر ما تكون الأَجوبةُ موقِظةً لضمير التلميذ في هاتَين المرحلتَين، مُعزِّزةً للجانب الفاضل منه، تكون التربيةُ القويمة قد أصابت هدفَها، والتلميذُ قد تزوَّدَ بما يُساعدُه في بناء حياةٍ فُضلى.

 

          إنَّ إرشادَ الناشئة وتوجيهَها إلى القِيَمِ الروحيَّة كما إلى التمييز بين الخير والشرّ، وبين الحقِّ والباطل، من الواجبات التربويَّة في الداهشيَّة. وإنَّه لَخطأٌ فادِح أن نتركَ الناشئةَ يشبُّون خُلُقيًّا وسلوكيًّا على هواهم بحُجَّةِ أنَّ ذلك من حقوقهم في حُرِّيـَّة التعبير عن أنفسهم مثلما يذهبُ كثيرون من واضعي السياسة التربويَّة الحديثة في الغرب. فقد رأينا عواقبَ هذه الفلسفة التربويَّة التي سادت السياسةَ التعليميَّة في الغرب منذ أواخر السبعينيَّات: انحلالاً خلُقيًّا خطيرًا، وتفسُّخًا عائليًّا واجتماعيًّا، وفسادًا مُستشريًا. في أساس كلِّ ذلك مادِّيـَّةٌ مُتعاظمة وإلحادٌ مُتفاقم. وهذا ما استشرفَه مُؤسِّّسُ الداهشيَّة منذ عشرين سنة إذْ قال: "الدينُ أصبحَ لديهم خُرافةً مُضحكة، والقِيَمُ الروحيَّةُ ضلالاً شائنًا، والتمسُّكُ بالفضيلة سخافةً تافهة."[23]

 

          ومِمَّا يبعثُ العزاءَ في نفس التائق إلى ارتقاء الناشئة روحيًّا هو أنَّ نُخبةً من المُفكِّرين والباحثين التربويِّين باتوا مُقتنعين بضرورة وَضعِ قواعدَ روحيَّة عامَّة في التعليم التربويّ. أكتفي بذكر واحدٍ من أبرزهم هو الدكتور روبرت كولْز Robert Coles، الطبيب النفسيّ والعالِم الاجتماعيّ، والأستاذ في جامعة هارفرد، الذي نال جائزة بوليتزر Pulitzer المرموقة على سلسلته "أولاد الأزمة" Chidren of Crisis. ففي كتابه "حياةُ الأولاد الروحيَّة" The Spiritual Life of Children[24]يُظهِرُ أنَّه بعد دراسةٍ طويلة وخبرةٍ واسعة واستجوابِ عددٍ كبيرٍ جدًّا من الصغار الذين ينتمون إلى مختلف الأديان كما إلى عائلاتٍ عَلمانيَّة، وذلك في مختلف أرجاء العالَم، ولا سيَّما القارَّة الأمريكيَّة وأُوروبَّا والشرق الأوسط وإفريقيا، تأكَّدَ له أنَّه بالإمكان التفريق بين القِيَمِ الروحيَّة والتعليم الدينيّ الضيِّق المُتمسِّك بالحرفيَّة، أو بعبارةٍ أُخرى بين الروح والحرف وفقًا لِما أوضحَه بولس الرسول. وبناءً على هذا المفهوم بوُسع المُربِّين أن يجدوا قواعدَ روحيَّة مُشتركة لمُختلف المُؤمنين كما للعَلمانيِّين أنفسهم؛ ذلك بأنَّ نفوسَ الصغار توَّاقةٌ للأسئلة عن المجهول وعن الخير والشرّ، والأمراض والكوارث، والسعادة والشقاء، وإلى حصول أجوبةٍ عنها. وفي هذا الضوء وضعَ عدَّةُ أُدباء مُصنَّفاتٍ قَصَصِيَّة وشعريَّة تُمجِّدُ الفضيلةَ والقِيَمَ الروحيَّة، كـ"كتاب الفضائل"[25]الذي وضعَه وِليام بينيت W. Bennett، وزيرُ التربية السابق في الولايات المُتَّحدة، وسلسلة الأقاصيص التي صنَّفَها جاك كانفيلد ومارك هانسِن،[26] وقد بيعَ منها في خلال ثلاث سنوات سبعة ملايين نسخة؛ ومعظمُها مَبنيّ على مبادئَ روحيَّة عامَّة، وليس على عقائد دينيَّة مذهبيَّة. وقد استرعى انتباهي مقالٌ نشرَته حديثًا كريستينا هوف سومِرز C. Hoff Sommers، عُضوُ "معهد المساعي الأمريكيَّة" في مجلَّة "التقصِّي الحُرّ" Free Inquiry[27]العَلمانيَّة، تُدافعُ فيه دفاعًا مُستنيرًا قويًّا عن ضرورة جَعل الإرشاد التربويّ، في ما يتعلَّقُ بالخير والشرّ والحقِّ والباطل، في صُلب البرامج المدرسيَّة، مُذكِّرةً بأنَّ جون ستُوارت مِلْ J. Stuart Mill قد استثنى الأحداثَ في كلامه على الحُرِّّيـَّة، وهو المُدافعُ الأقوى عنها؛ ذلك بأنَّهم يحتاجون إلى خُبرات الكبار بل خُبرات الإنسانيَّة. وتختتمُ مقالَها بقولها: "إنَّ تَركَ الأولاد ’أحرارًا في اكتشاف قِيَمِهم‘ لا يختلفُ عن وضعِهم في مُختبَرٍ للكيمياء مملوءٍ بموادَّ قابلة للانفجار مع قولِنا لهم ’اكتَشِفوا بأنفسكم، يا أولاد، مُركَّباتِكم.‘ فلماذا سنُفاجَأُ، بعد ذلك، إذا فجَّرَ فريقٌ منهم أنفسَهم، وقتَلوا الذين حوالَيهم؟"

 

 

 

5- القواعدُ الفكريَّةُ السليمة

 

          في الأوَّل من آب (أُوغسطس) 1945 كتبَ الدكتور داهش في مُذكِّراته: "حقًّا إنَّ العلمَ لا يعترفُ إلاَّ بالحقيقة الواقعة. إذًا فلنُردِّدْ قائلين: لِيسقُط الجهلُ، وليحيَ العِلم." بهذه الكلمات البليغة القليلة حدَّد مُؤسِّسُ الداهشيَّة موقفَه الحاسم من الحقائق العلميَّة. ومنذ حوالى ثلاثة آلاف سنة مجَّدَ سُليمانُ النبيّ في أمثاله الحكمةَ والعقلَ والذكاءَ في تفهُّم الأُمور، لأَنها تُؤتي صاحبَها السلامَ وتَقيه المعاثر؛ ومِمَّا قاله: "إذا دخلَت الحكمةُ قلبَك وتنعَّمَت بالمعرفة نفسُك، يحرسُكَ حُسنُ التدبير، ويكونُ الفهمُ نصيرَك؛ فتـنجو من طريقِ الشرِّ ومن الناطقين بالأكاذيب..." (الأمثال 2: 10—12). ووردَ في القرآن الكريم: "يرفعُ الله الذين آمنوا منكم والذين أُوتوا العلمَ درجات" (سورة المُجادلة: 11). والعلمُ هنا يعني المعرفة المُقترنة بالقِيَم الروحيَّة، أي الحكمة، وذلك قياسًا على قوله: "ولَقد آتَينا داوُدَ وسُليمانَ عِلمًا" (النمل: 15).

 

 

 

أَ- معاييرُ المنطقِ السليم

 

ليس صعبًا أن يتعلَّمَ الإنسانُ في حداثتِه استخدامَ المنطق السليم في تفكيره اليوميّ استنتاجًا واستدلالاً. فإذا أخذنا بعين الاعتبار أنَّ الأحداثَ لا يتعذَّرُ عليهم تعلُّمُ العمليَّاتِ الحسابيَّة الرياضيَّة بالتدريج من حيثُ تعقيدُها، وهي مبنيَّةٌ على استخدام المنطق السليم، أدركنا أنَّ العمليَّاتِ الفكريَّة المنطقيَّة، وهي شبيهةٌ إلى حدٍّ بعيد بها، يُمكنُهم أن يتلقَّنوها أيضًا. وبما أنَّ هذا البحثَ لا يتَّسعُ للتفصيل، فإنِّي أكتفي بضربِ مِثالٍ إيضاحًا لذلك. فكثيرًا ما يتبادرُ إلى أذهان الأحداث أنَّ كلَّ ما له أجنحة فهو طائر. ولكن هل هذا صحيح؟ إنَّ كثيرًا من الحشرات لها أجنحة، ومع ذلك فهي ليست بطيور. والخفافيش لها أجنحة، ومع ذلك فهي ليست طيورًا، بل من الثَّديِيَّات (أي الحيوانات اللَبون). إذاً علينا أن نستثني الحشرات المُجنَّحة والخفافيش من الطيور؛ وهكذا تبدو المقدَّمة التي انطلقنا منها، وهي أنَّ كلَّ ما له أجنحة فهو طائر، غيرَ سليمة، وتستوجبُ التغيير. وهذا يقتضي أن نبحثَ عن الميزة أو الميزات الأساسيَّة الحاسمة التي تفصلُ الطيور عن غيرها من أنواع الحيوان. وبتتابُع الأسئلة وتقصِّي الميزات نصلُ إلى خاصَّتَين هما الريشُ (لا الأجنحة) ووَضعُ البَيض. وهكذا تُصبحُ المقدَّمة الصحيحة: كلُّ حيوانٍ ذي ريشٍ وأُنثاهُ تضعُ بيضًا هو طائر. وبناءً على هذه المقدَّمة يصحُّ القول: البطريقُ ذو ريش، وأُنثاهُ تضعُ بيضًا، إذًا فهو طائر. علمًا بأنَّ البطريقَ لا يطير.

 

هذا الأمرُ يقودُنا إلى ضرورةِ تعليمِ الأَحداث دقَّةَ تعريف الموجودات والصفات، وبصورةٍ عامَّة دقَّةَ تحديدِ مدلولات الكلمات التي يستخدمُها الناسُ يوميًّا. مَن هو الكريم؟ هل الذي يُعطي مُتسوِّلاً دولارًا هو كريم حقًّا؟ مَن هو الشجاع؟ هل الذي، إذا أحرجَهُ رفيقُه، يضرِبُه؟ مَن هو التقيّ؟ هل هو الذي يقصدُ الكنيسةَ أو الجامع؟ إنَّ تنشيطَ ذهن الحَدَث للتمييز بين الأَشياء، والأَعمال، والمدلولات، بمعرفة حقائقها، يُساعدُه كثيرًا في عدم الوقوع في الخَلطِ بين الصحيح والخطإ، والحقّ والباطل، والخير والشرّ.

 

من معايير المنطق السليم أيضًا معرفةُ استكشاف أسباب الأشياء والأحداث والأحوال وصولاً إلى السببِ الطبيعيِّ الأوَّل أو العلَّةِ الروحيَّة الأُولى. مِثالُه على الصعيد الطبيعيّ استكشافُ سلسلة الأسباب التي تُؤَدِّي إلى تكوين المطر؛ أو على الصعيد البشريّ استكشافُ سلسلة الأسباب التي أدَّت إلى حربِ لبنان، أو الحرب العالَميَّة، أو حادث سيَّارة. علمًا بأنَّ التعليمَ التربويَّ الداهشيَّ يصلُ دائمًا في استنباش الأسباب إلى علَّةٍ روحيَّة أُولى تكونُ المُسبِّبَ لمجرى الأسباب الطبيعيَّة.

 

إنَّ طرحَ الأسئلة في كلِّ عمليَّة فكريَّةٍ منطقيَّة، سواءٌ كانت تستهدفُ الوصولَ إلى استدلالٍ أو استنتاجٍ أو معرفة سلسلة الأسباب، يجبُ أن يكون تدريجيًّا من حيثُ التعقيدُ والصعوبة، ومُتزامنًا مع النُمُوِّ العقليِّ للأحداث. والأهمُّ في ذلك الاَّ تبقى المعارفُ التي يتلقَّاها التلاميذُ مُجرَّدَ معلوماتٍ يحفظونها، بل أن تُصبحَ موضوعًا للشكِّ والنقدِ والتحليل وإعادة النظر. فهذا النهجُ يُؤدِّي إلى تنميةِ الفكرِ المُبدِع، وبه تُستَبدَلُ أجيالُ البَـبَّغاوات أجيالاً نقَّادةً خلاَّقةً في فكرها.

 

 

 

ب - معاييرُ التمييز بين الحقائق العِلميَّة والعلومِ الكاذبة وما إليها

 

إنَّه لَمِمَّا يدعو إلى القلَق، بل الخجَل، ونحن على مشارف الألف الثالث، والعُلماءُ يقومون بإنجازاتٍ رائعة في مُختلف حقول المعرفة، تعاظُمُ القهقرى العقليَّة والتخلُّف المنطقيّ، وانتشارُ التصديق بالعلوم الكاذبة، كالباراسيكولوجيا والسحر، كما بالأوهام والأخاديع وحِيَلِ الشعوذة، انتشارًا بات غيرَ مُقتصِرٍ على البلدان المُتخلِّفة، بل عمَّ حتَّى البلدانَ الغربيَّة. ففي استطلاعٍ حديثٍ للطلاّب في فرنسا ظهرَ أنَّ سبعةً من كلِّ عشرة طلاّب لا يستطيعون التمييزَ بين الوقائع العلميَّة وحِيَلِ الشعوذة، مثلِ ادِّعاءِ يوري جيلر (المُشعوِذ الإسرائيليّ) أنَّه بقدرته العقليَّة غير العاديَّة يستطيعُ طَيَّ ملعقة يُمسِكُها بيَدِه لمدَّةٍ قصيرة؛ وكان الألمعيُّ الأمريكيّ جايمس رانْدي قد فضحَ حِيَلَه في كتابٍ خاصّ صدرَ عام 1982.[28] وفي الولايات المُتَّحدة الأمريكيَّة، رغمَ إبعاد "العلوم" الكاذبة، وبرأسها الباراسيكولوجيا عن الجامعات، فإنَّ وسائلَ الإعلام تُخصِّصُ لها فُسحةً تكاد تكون دائمة، وذلك لِما تدرُّه عليها إعلاناتُ الشبكة الهائلة التي تضمُّ مُحترفي الشعوذة ومَن يُسمُّون أنفسَهم Psychics من مكاسبَ ماليَّة طائلة.ُ[29]وإنِّي سأتناولُ هذا الموضوعَ بكلامٍ موجَز في نُقطتَـين يجبُ على المُربِّين إيضاحُهما للناشئة.

 

 

 

1- القوانينُ الطبيعيَّة والعلومُ الكاذبة

 

          إنَّ الحقائقَ العلميَّة الأكيدة جزءٌ من القوانين الطبيعيَّة التي هي مظهرٌ محسوس من القوانين الروحيَّة التي أبدَعَتها المشيئةُ الإلهيَّة، أو بعضٌ من ثمار العقل النَيِّر الذي هو قبَسٌ من الله سبحانَه. ولا غَروَ أن يقولَ سُليمانُ الحكيم: "الربُّ بالحكمةِ أسَّسَ الأرض، وبالفَهمِ ثبَّتَ السماوات" (الأمثال 3: 19)؛ فالمُبدِعُ هو العقلُ السرمديُّ الكامل. ولِذا كان الدكتور داهش يحرصُ على تدريب أتباعِه، الصغار قبل الكِبار، على ضرورة اتِّخاذِ موقفٍ عقليّ مُشكِّك وناقدٍ ومُحلِّلٍ حيالَ كلِّ أمرٍ لا يقبلُه المنطقُ السديد أو تُفسِّرُه القوانينُ الطبيعيَّة، وعلى مُحاولةِ استكشاف الأسباب الكامنة وراءَه. وهذا الموقفُ المُشكِّكُ الناقد جعلَ الداهشيِّين، دون أكثر الناس، قادرين على التمييز بين العلوم الصحيحة والعلوم الكاذبة، كالباراسيكولوجيا والسِّحر، وبين الحقائق الصحيحة والأخاديع التي تنطلي على مُعظم الناس، سواءٌ كانت صادرة عن أُناسٍ يقومون بها باسم قِوًى خارقة فيهم ابتغاءَ المكاسب المادِّيـَّة، أم يصنعونها باسم الله ـ عَزَّ وجَلَّ ـ ابتغاءَ توسيع نفوذهم الدينيّ وابتزاز السُذَّج.

 

          يقولُ آينشتاين: "إنَّ التنقيبَ العلميَّ يُمكنُه، بتعزيزه التفكبرَ السَبَـبيَّ والنظرةَ الشاملة، أن يُضعِفَ الإيمانَ بالخُرافات."[30]إنَّ العلومَ الكاذبة، من باراسيكولوجيا (قراءة الفكر، ومعرفة الغَيب، والتأثير في المادَّة إلخ) إلى ادِّعاء استحضار الموتى ومُناجاة أرواحهم، إلى ادِّعاء التنويم المغنطيسيّ ـ جميعها فروعٌ من شجرة الجهل الباسقة التي تمدُّ جذورَها البعيدة في تُربةِ أوهامٍ قيَّدَت عقلَ الإنسان منذ سحيقِ الأزمنة، حينما كان البشرُ عاجزين عن رَبطِ أسباب الأحداثِ بنـتائجها، والنفاذِ إلى كُنهِ المظاهر الطبيعيَّة، فتوهَّموا وجودَ قوًى خفيَّة، بوُسعهم أن يُخضِعوها لتنفيذ أوامرهم إنْ خاطَبوها بالتعازيم والرُّقى والأحجبة وغيرها من الوسائل البدائيَّة التي ما تزالُ تلجأُ إليها، حتَّى في أوائل الألف الثالث، القبائلُ الإفريقيَّةُ البدائيَّة الراسفة في التخلُّف الفكريّ، كما يلجأُ إليها أُناسٌ في مُختلف الشعوب ما تزالُ عقولُهم تسكنُ الكهوف. هذه الأوهام التي ما تزالُ تستعبدُ عقولَ كثيرين من الناس هي ما يُسمَّى"سحرًا". فالـ"سِّحرُ" أبو العلوم الكاذبة طُرًّا.[31]

 

ومع تقدُّم العلوم وارتقاء العقل اتَّخذَ السحرُ لدى المُخادعين والساذجين أقنعةً جديدة. فإذا بأُكذوبة التنويم المغنطيسيّ التي وُلِدَت على يَدَي فريدريك أنطون مِسْمِر A. MesmerF. سنة 1768 تعمُّ بلدانًا كثيرة. وبعد أن خُزِيَ صاحبُها وطُرِدَ من كلِّـيَّة الطبّ ومن النمسا، حَلَّ التنويمُ الإيحائيُّ محلَّ التنويم المغنطيسيّ بعد أن مهَّد الطريقَ له خداعُ المُنوَّمين وغرورُ المُنوِّمين الذين أبَت عليهم كبرياؤهم الإقرارَ بتضليلهم، شأنَ الطبيب الفرنسيّ شاركو Charcot (1825-1893). وفي الآن نفسه ولَدَ اقترانُ الخداع لدى فئةٍ من الناس بالسذاجةِ لدى فئةٍ أُخرى ما سُمِّيَ بالـ"وِساطة الروحيَّة" في استحضار أرواح الموتى. ولمَّا فشلَ "العِلمان" المزعومان في دخول الجامعات والحصول على مُوافقة العُلماء، تحوَّلَ المُخادعون بدَعمٍ من السلطات الدينيَّة الكاثوليكيَّة إلى اختلاق ما يُسمَّى بالباراسيكولوجيا. أمَّا نتيجة هذه المُحاولة الأخيرة التي حاولَ أصحابُها أن يُضفوا عليها صبغةً علميَّة لزيادة إيهام الناس، فحسبي من التعليق عليها أن أذكرَ أنَّ مجلس البحوث القَوميّ National Research Council ، وهو الذراعُ التنفيذيَّة للأكاديميَّة القوميَّة للعلوم National Academy of Sciences بالولايات المُتَّحدة، وهي تضمُّ أكثرَ من 1500 عالِم بارز في مُختلف المجالات العلميَّةـ أصدرَ تقريرًا بناه على دراسة دقيقة غطَّت 130 سنة من مزاعم الباراسيكولوجيا، نفى فيه نفيًا قاطعًا وجودَ أيَّة طاقة فكريَّة أو نفسيَّة بشريَّة باستطاعتها السيطرة على الأشياء أو التأثير فيها أو كَشف المُستقبل أو غير ذلك من ادِّعاءات جماعات الباراسيكولوجيا.[32] وإذا كانت هذه حال مُدَّعي العلوم الكاذبة التي يجهدُ أصحابُها في إلباسها ثوبًا علميًّا، فكيف حالُ عشرات الملايين من المُشعوذين المُحترفين الذين يبتزُّون الجمهورَ الساذج في أوكارهم بمختلف بلدان العالَم كما على الإنترنيت! فمن أجل امتحان هؤلاء أفضلُ ما يُمكنُ عملُه، إن كان السؤال على الهاتف مثلما الحال مع آلاف السُذَّج بأمريكا، هو تغييرُ السائل لاسمه وإخفاءُ حقيقته ومُخابرة مُدَّعي المعرفة النفسيَّة من هاتفٍ لا يكون في منـزله. أمَّا إذا كان السائلُ سيُواجهُ المُدَّعي، فعليه أن يختلقَ أُمورًا كاذبة تتعلَّقُ به. فإذا كان مُتزوِّجًا، مثلاً، فليزعمْ أنَّه غير متزوِّج، وهو يبحثُ عن زوجةٍ مُناسبة؛ وإذا كان وحيدًا، فليزعمْ أنَّ له شقيقًا في بلدٍ آخر وهو قلِقٌ عليه لأنَّه لا يعلمُ عنوانَه إلخ. فمثلُ هذه الأسئلة تفضحُ مُدَّعي المعرفة الغيبيَّة والقوَّة النفسيَّة الخارقة. وقد سقطَ فيها جميعُ الذين جرِّبَهم الداهشيُّون وغيرُ الداهشيِّين مِمَّن كانوا يقصدون الدكتور داهش، فيفهم منهم أنَّهم يُصدِّقون أولئك المُشعوذين، فينصحُهم باتِّباع الطريقة الى ذكرتُها.

 

 

 

2- القوانينُ الطبيعيَّة والعجائبُ الكاذبة

 

          في دراستي العلميَّة المنهجيَّة التي نقضتُ فيها العلومَ الكاذبة، والمنشورة في كتاب "أضواء جديدة على مُؤَسِّس الداهشيَّة ومُعجزاته الروحيَّة" (ص 107)، خلصتُ إلى القول: "إنَّ صانعَ المُعجزات إمَّا أن يكونَ هاديًا روحيًّا أو أن يكونَ كائنًا عُلويًّا غيرَ بشريّ. فإن كان هاديًا، فليس بقدرته البشريَّة يتنبَّأُ ويصنعُ الخوارق، بل الروحُ الإلهيُّ... الذي لا يخضعُ لنظام الطبيعة المادِّيـَّة ولقيود أبعادها المكانيَّة-الزمانيَّة هو الذي يقومُ بالخوارق تأييدًا لصحَّة الرسالة الروحيَّة ولمصدرها السماويّ؛ وإن كان كائنًا عُلويًّا غيرَ بشريّ، فهو يكون خاضعًا لنظام عالَمِه الطبيعيّ وليس لنظام الأرض، وقدرتُه ومعرفتُه تكونان خارقتَين بالنسبة إلى البشر.

 

          وبناءً على ذلك لا يُمكنُ القولُ بالترجيح والاحتمال في صُنع الخوارق والنبوءات، تارةً تحصل وطورًا لا تحصل، تبعًا للظروف المُؤاتية. فإذْ ذاك نكون أمام إنسانٍ مُدَّعٍ يلجأُ إلى الحيلة والخداع فيقوم بأعماله المُخادِعة إن كان مُستَترًا بالظلام أو كانت الرقابةُ عليه شبهَ مفقودة، أو كان مُحاطًا بجَهَلة أو سُذَّجٍ من الناس، أو هو يمتنعُ عن إتيانِ أيِّ عملٍ يبدو "خارقًا"، إذا عاكسَته الظروف، مُبرِّرًا، إذْ ذاك، موقفَه السلبيَّ بأنَّ "الأرواحَ" تخاف من النور لأنَّها خجول(!) أو بأنَّ بين الحاضرين مَن تُعاكِسُ إرادتُه إرادةَ "مُستحضِر الأرواح" أو بأنَّ بينهم مُشكِّكين، إلى ما هنالك من تبريراتٍ واهية..."

 

          وقد أجاب الدكتور داهش سائلاً عن إمكان التوفيق بين "حدوث الخوارق، الأمر الذي يُقِرُّه الدين، وثباتِ النواميس الطبيعيَّة، الأمر الذي يُقِرُّه العلم" بقَوله:

 

"التناقضُ يحصلُ حتمًا إذا نسبنا إلى أيِّ كائنٍ في هذا الكوكب قدرةَ المُعجزات، أي خَرق القوانين الطبيعيَّة التي تسودُه، لأنَّ النواميسَ يخضعُ لها هذا الكوكبُ بكلِّ موجوداته. كذلك إذا نسَبنا خَرقَ القوانين الطبيعيَّة التي تُسيطرُ على كوكبٍ آخر لكائنٍ ينتمي إليه. فإن قيل: تنبَّأَ فلانٌ من الناس يما سيحصلُ بعد عشرين يومًا لزَيدٍ أو عَمرو من أحداث، وصدَّقنا الخبَر، نكون قد وقعنا في التناقُض؛ ولكن إذا قيل: احتلَّ الروحُ النبيَّ إيليّا وجعله يتنبَّأُ بتفاصيل ما سيحدثُ لزَيد من الناس، بعد عشرين يومًا أو أكثر، لَما وَقعنا في تناقُض، لأنَّ ما يسري على البشر لا يسري على الروح. وفي الكتاب الكريم {وإنَّ يومًا عند ربِّكَ كألفِ سنةٍ مِمَّا تعدُّون} [الحَجّ: 47]. ومَن فهمَ نسبيَّةَ الأنظمة والأوضاع الكونيَّة فهمَ هذه الحقيقة..."[33]

 

(في العدَد المُقبِل: "النهجُ التربويُّ السليم وكيفيَّةُ تطبيقه"

 


 

[1] الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة حول الكُرة الأرضيَّة"، ج 14 (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1992)، ص 100-101.

[2] Bruce Lloyd, «The Wisdom of the World: Messages for the New Millennium» in The Futurist, May-June 2000, pp. 42 & 45.

[3] الدكتور داهش: "كلمات" (بيروت: دار النار والنور، 1983)، ص 81-85.

[4] الدكتور داهش: "مُذكِّرات يسوع الناصريّ" " (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1991)، ص 112.

[5] الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة حول الكُرة الأرضيَّة"، ج 2 (بيروت: دار النار والنور، 1983)، ص 7.

[6] الدكتور داهش:"الرحلاتُ الداهشيَّة حول الكُرة الأرضيَّة"، ج 18 (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1994)، ص 33.

[7] المصدرُ السابق، ص 83. كذلك يقول وهو يتأمَّل التماثيل المنصوبة إزاءَ مدخل قصر بطرس الأكبر بمدينة لينِـنغراد: "وأمام مدخل القصر نُصِبَت عشراتُ التماثيل الفنِّـيَّة المُذهلة، وجميعها مُوشَّاة بالذهب الخالص، وتنبثقُ المياهُ من أفواهها، فتُؤلِّفُ سمفونيَّةً بصريَّة لا مثيلَ لها." (الدكتور داهش، "الرحلات الداهشيَّة حول الكُرة الأرضيَّة"، ج 7، نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1990، ص 96.)

[8] الدكتور داهش: "قِصص غريبة وأساطير عجيبة"، ج 1، ص 29-36 ("الحُلم الهابط إلى أرض البشر").

[9] الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة حول الكُرة الأرضيَّة"، ج 2، ص 73.

[10] Psychology Today, September/October 2000, p. 28.

                Der Spiegel/World Press Review, January 2001, p. 45.

[11] الدكتور داهش: "ضجعةُ الموت أو بين أحضان الأبديَّة" (القُدس: مطبعة دار الأيتام السوريَّة، 1936)، ص 10.

[12] Jeffrey A. Margolis. Violence in Sports: Victory at what Price (Issue in Focus). Enslow Publishers, 1999.

[13] John C. Bridges. Making Violence Part of the Game: A Socio-Legal History of Violence in America Sport. Nova Kroshka Books,1999.

[14] Stephen Carter. Integrity (New York: Basic Books/Harper Collins, 1996), pp. 153-170.

[15] Murray Sperber. Beer and Circus: How Big-Time College Sports Is Crippling Undergraduate Education. Henri Holt, 2000.

[16] Tom Loveless. «The Parent Trap» in WQ, Autumn, 1999, pp 36 & 37.

[17] الدكتور داهش: "مُذكِّراتُ يسوع الناصريّ، ص 47- 49.

[18] الدكتور داهش: "كلمات" ص 124.

[19] إيضاحُ هذا الأمر وردَ في الأجوبة الروحيَّة على أسئلة الوزير اللبنانيّ إدوار نون الـ 72؛ وقد ارتسمَت الأجوبة بطريقةٍ إعجازيَّة فوريَّة تحت الأسئلة (مخطوطة).

[20] ليس في ذلك ما يُعارضُ فَصلَ الدين عن الدولة في المُجتمعات الآخذة بهذا المبدإ إذا عُرِضت القواعدُ الروحيَّةُ العامَّة عَرضًا خُلُقيًّا تاريخيًّّا. وقد أشار كثيرون من الباحثين إلى هذا الحَلّ حسمًا للخلاف بين الفريق المُناصِر والفريق المُعارض بأمريكا.

[21] The Secular Humanist Bulletin, Winter 2000/2001, p. 5.

[22] الدكتور داهش: قطعة "كلمتي لعام 1982" في سلسلة "الرحلات الداهشيَّة حول الكُرَةِ الأرضيَّة"، المجلَّد 18، ص 401-403.

[23] المصدرُ السابقُ نفسه.

[24] Robert Coles. The Spiritual Life of Children. Boston: Houghton Mifflin Co., 1990.

[25] William Bennett, Ed. The Book of Virtues: A Treasury of Great Moral Stories. New York: Simon and Schuster,1993.

[26] Jack Canfield & Mark Victor Hansen, Editors. Chicken Soup for the Soul: 101 Stories to Open the Heart and Rekindle the Spirit. Health Communications, 1995.

[27] Free Inquiry, Winter 2000/01, p. 12.

[28] James Randi. The Truth About Yuri Geller. Buffalo, N.Y.: Prometheus Books, 1982.

                أنظر أيضًا ما كتبتُه عن فَضح حِيَلِ يوري جيلر في كتاب "أضواء جديدة على مُؤسِّس الداهشيَّة ومُعجزاته الروحيَّة مع فَضحٍ ونَقضٍ للعلوم الكاذبة ولمزاعم روجيه الخوري الباراسيكولوجيَّة"، بيروت، 1997. والكتاب وضعتُه بالاشتراك مع الدكتور ملحم شُكر والأستاذ المُحامي فارس زعتر.

[29] حسبي أن أُشيرَ إلى أنَّ شبكة المُشعوذين المعروفين بالـPsychics أنفقَت ملايينَ الدولارات على إعلاناتها في القناة الإخباريَّة العالَميَّة المعروفة بالـ CNN، وذلك بين عام 1997 وعام 2000. وهي تقوم بالدعاية الواسعة لها على الإنترنيت من خلال عدَّة مواقع، منها:The Psychic World Network و PsychicCenter.Net.

[30] Albert Einstein. Comment je vois le monde. Trad. de l´allemand (Flammarion, 1963), p. 210.

[31] راجع سلسلة "نقدُ السحر وفَضحُ أساليب الشعوذة" التي نشرتُها تِباعًا في الأعداد الخمسة من مجلَّة "بروق ورعود" الصادرة في بيروت عام 1968.

[32] The Skeptical Inquirer, Vol. 13, No. 1, Fall 1988, pp. 34-45.

                من أجل مزيدٍ من التفصيل في نَقضِ مزاعم الباراسيكولوجيا، يُمكنُ مُراجعة كتاب "أضواء جديدة على مُؤسِّس الداهشيَّة ومُعجزاته الروحيَّة مع فَضحٍ ونَقضٍ للعلوم الكاذبة ولمزاعم روجيه الخوري الباراسيكولوجيَّة".

[33] "بروق ورعود"، عدد 23/6/1968، ص 343-344.

  Back to التعاليم الداهشيَّة بقلم الدكتور غازي براكس  

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.