أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

سيَّال قايين

                              بقلم الدكتور غازي براكس

في دوَّامة الجرائم من اغتيالٍ واقتتال، في عصف الحروب التي غطَّت الغبراء، ولطَّخت ملايين الأيدي بالدماء، تتواثبُ الأسئلة مُتراحمةً في ذهن المُتبصِّر بالأحداث الجارية في العالم، من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، من الدول الكبرى كأمريكا إلى الدول الصغرة كلبنان؛ الأديان التي نشأت لنشر الفضيلة والخير والسلام ماذا حقَّق المؤمنون بأهدافها السامية عمليًا حتى الآن؟ الأنظمة السياسية التي تنازعت عبر العصور وتفاضلت وتفاخرت وارتفعت ثم هبطت، ماذا حقَّقت للعدالة وراحة الإنسان؟ الفلسفات والإيديولوجياتُ المُتصارعة ماذا قدَّمت من حلول تطبيقية لنشر العدل والسلام والوئام؟ تُرى أتكون العلة في الإنسان نفسه؟ تُرى، حتى بصيصُ الأمل قد انطفأ في نفق الظلام المُهيمن على هذا الكوكب الضلول مُذ انطلق سيالُ قايين ساريًا في عروق ذرارية، وجاريًا في الأرض نهرًا لا ينقطع من الدماء؟

لا، رحمةُ الله لمَّا تنطفئ، فكلما شارفت البشريةُ حافةَ الهاوية، تُرسلُ السماءُ إليها من يُحذِّرها من السقوط والهلاك، ويعيدها إلى صراط الخلاص، إن هي أرادت الخلاص. ففي القرن العشرين، خاتمة المسيرة البشرية الطويلة الحافلة بالفواجع والمآسي، أرسلت الرحمةُ الإلهية رجلين لا ككلّ الرجال، رجلين يتجسَّدُ فيهما "الإنسان الكامل": الأول هو مؤسس الداهشية، والثاني هو المهاتما غاندي.

أما مؤسس الداهشية فقد قصَّ كثيرًا من أسرار الحياة والموت، وأسرار الوجود وما وراءه بقوّة سماوية مؤيَّدة بالمُعجزات؛ وقدَّم للناس حقيقةً روحية ما كانت لتأتيهم من أيّة جهة من هذا القرن، حقيقةً جاءت بمستوى مدارك العلماء في بداية الألف الثالث؛ هدايةً تزيحُ غشاوة الجهل عن البصائر التائقة إلى المعرفة الحقيقية، وتقدّم لأبناء الأديان المُتنازعة المُختلفة حلاً يأتيهم بالحق والسلام والإخاء والخلاص، هو الإيمانُ بوحدة الأديان الجوهرية؛ ودعوةٌ إلى العدالة الاجتماعية والحرية، بل تقديسٌ لحرية الاعتقاد والتعبير والتفكير، وجعلها شرط التقدم الحضاري في كل ميدان، وعنوان كرامة الإنسان.

      ولكن كيف واجه الشعبُ هذا الهادي الذي أفنى عمره من أجل إنقاذه من براثن الشرِّ والطغيان والمُتاجرين بالنفوس والأبدان؟ لقد كافأته الدولةُ التي أتى منارةً روحيةً فيها باضطهاده وتعذييه وتدبير مصرعه لولا تدخُّل العناية الإلهيَّة لإنقاذه. وماذا كانت النتيجة؟ كانت تطبيقًا لما قاله بولسُ الرسول: "ما يزرعه الإنسان فإياه يحصد". لقد عاد داهش إلى ملأه العلوي المجيد، وبدأت رسالته الروحية تنتشرُ في العالم، فيما اشتعلت حربٌ أهليَّة بين طوائف لبنان وأحزابه المُتنازعة، وزعمائه المُتقاتلين، فدمَّرت عمرانه، وأيَّمت نساءه، ويتَّمت أطفاله، وشرَّدت مئات الألوف، وقتلت حوالى 170 ألف ضحية!

وأما غاندي، ذلك الرجل المُتقشِّف النحيل، الزاهد بأمجاد الدنيا الباطلة، المتأبِّي شهوات اللحم والدم، المُستلهم أبدًا ضميره السامي، فقد استطاع أن يحرِّر بلاده من قبضة حديدية جبَّارة وهو ممتنع عن العنف، فأثبت للعالم كله فضيلة السلام وقوة الفضيلة. وقد انتشرت أفكاره السامية مدرسةً للحق والخير والمقاومة السلمية في معظم الشعوب، وأسهمت في دفع الحضارة نحو الإخاء الإنساني، والوحدة بين الأديان، والسلام والعدالة العالميين. وهكذا تلاقى، في القرن العشرين الرافدان الروحيان العظيمان، داهش وغاندي، وصبَّا معًا في نهر الخلاص الإنساني، نهر الحضارة الراقية.

يقول مؤسس الداهشية:

رجلٌ واحد فقط تفوَّق بصلاحه وصدقه وصفاء روحه وإخلاصه للحقيقة، وبذله نفسه عن الآخرين، وتمسُّكه بالفضيلة المُثلى، إنه غاندي

نبي القرن العشرين

وبانطلاق غاندي إلى عالم الروح النقيّ، أُقفل الباب، إذ لم يأت إلى عالمنا رجل صلاحٍ آخر يماثله إطلاقاً.

وغاندي رحل عن دنيانا في الساعة الثالثة بعد ظهر الجمعة الواقع في 30 كانون الثاني (يناير) 1948، تالركًا أرضنا الغارقة في أقذارها ودناساتها المُشينة. ويوم مصرعه هلعت نفوسُ كبار رجال العالم وسياسييه، وغمرَ الحزن النفوس، وساد الذعر الأفئدة، وراحت صُحف الدنيا ترثي أعظم رجال الكرة الأرضية(...)

فغاندي مَنْ أمجدُه، وغاندي من أجلُّه وأقدِّسه.

وبانطلاقه من ربوع دُنيانا قُضي على الفضيلة، إذ لم أرَ في عالمنا من يتشبثُ بناصيتها. فالجميعُ عبيدٌ لشهواتهم البهيمية، كما هم عبيدٌ لمصالحهم وإن يكن على آلامِ سواهم ممَّن يعتدون على حقوقهم ليكونوا الفائزين بالغنيمة الملوَّثة بطاعون الاغتصاب الدنيء.

إن حياة غاندي ملحمةٌ روحية لا يكون إنسانًا سويًا من لا يخشعُ بين يديها. وقد وُضعت فيها كتبٌ كثيرةٌ، فليس من زيادةٍ لمُستزيد. لكن لا بد، في هذه المناسبة التي توافق الذكرى الخامسة والسبعين لبدئه العصيان المدني السلمي، من الإلماع إلى مسيرة الملح الشهيرة التي قادها غاندي في الثاني عشر من آذار (مارس) 1930 بالاشتراك مع 78 من أتباعه رجالاً ونساءً، فقطع ماشيًا 200 ميل بأربعة وعشرين يومًا، متكئًا على عصاه الخيزرانية، وغير مُستريحٍ في مسيرته الطويلة إلا لمامًا. وكانت التَّظاهرة السلميَّة العجيبة تتضخَّمُ بروافد بشرية من القرى التي يمر فيها حتى عبات الألوف، وبلغت الشاطئ في الخامس من نيسان (أبريل). وإذْ ذاك تقدم غاندي إلى الماء فمشى فيه قليلاً ثم تراجع إلى الشاطئ والتقط بعض الملح الذي خلَّفه الموجُ عليه. فرفعت تلميذته ساروجيني ناديو Sarojini Naidu صوتها قائلة: "السلامُ عليك يا مُخلص".

      ولكن كيف قابل قومُ غاندي تعاليمه المحرِّرة لعقولهم ونفوسهم والتضحيات الجبَّارة التي بذلها لتحرير أرضهم وخيراتها، من معاناة السجن إلى الصوم الطويل حتى شفير الموت إلى التقشُّف المُفرط والوداعة الفائقة؟

      لقد قابلوه بالطريقة نفسها التي قوبل بها مؤسس الداهشية، إذ اغتاله جوداس الهندوسي (ناثورام غادسه Nathuram Godse) بإطلاق الرصاص عليه وهو يتأهبُ للصلاة في الجموع المُحتشدة!

وماذا كانت النتيجة التي تخبّئها السببيَّة الروحيَّة التي لا تخطئ؟

لقد انقسمت شبه القارة الهندية إلى الهند وباكستان، بعد أن بلغ التعصُّب الطائفي حدَّ الغليان، وما زالت كشمير قنبلةً موقَّتة؛ وما برحت التهديدات بالقنابل النووية تلوح أشباحُها في أفق البلدين كلما ذرَّ قرنُ الفتنة هنا أو هناك.

فمنذ بدء الخليقة، منذ أن قَتَلَ قابين، ابنُ آدم الأول، أخاه هابيل لأن الربّ لم ينظر إلى تقدمته بل قبل تقدمة أخيه، والشر يجولُ ويصولُ بين الناس مستوطنًا قلوبهم، مُتحكمًا في رؤوسهم مُمتزجًا بدمائهم وخلاياهم. آلافٌ من السنين مرَّت والمتفوقون بين البشر يضطهدون ويقتلون. الأنبياءُ والُمرسلون والهُداةُ والمُصلحون، بل العباقرة والعصاميون المحسنون الأفذاذ ما زال الحسدُ يتربّصُ بهم، والحقدُ يطاردهم، والشرّ يقاومهم ويضطهدهم ويقتلهم!

من هابيل الذي بارك الله مسعاه وأعماله إلى غاندي ومؤسس الداهشية، رسولي السلام والإخاء والفضيلة ووحدة الأديان – سلسلة من الهُداة الروحيين ومن الرجال العظام العصاميين الذين أرادوا بمشيئة الله أو مشيئة الخير الذي فيهم هتك الظلام عن عيون الأنام أو إقالة شعوبهم من عثراتهم، وجمع شلمهم بعد تمزُّقهم، فتربَّص الحُسَّادُ والأشرارُ بهم، فقتلوا بعضًا، واضطهدوا وعذَّبوا وقاوموا بعضًا.

فنوحُ الصلاح رفض قومه هدايته، وسخروا منه، وهزأوا بتعاليمه وإنذاراته، وخرَّبوا الفلك الذي كان يبنيه بأمر روحيّ طوال مئة سنة، لكنه ثبت بوجههم حتى أنقذه الله مع من يجبُ إنقاذُه من أفراد أسرته، وأغرق الأشرار جميعًا بطوفانٍ مبيد أثبتَ حدوثه العلم الحديث.

      ولوطُ الصالح لم تُفِد هدايته ولا إنذاراتُه قوم سدوم وعمورة الذين اتَّخذوا الرذيلة بكل فنونها دينًا لهم وطريقةً في الحياة، وحاولوا الاعتداء الشائن على ضيفيه اللذين لم يكونا إلا رسولين غير أرضيين، فأنقذاه مع أفراد أسرته، إلا امرأته العاصية، وأمطرا المدينتين بالكبريت والنار.

ويوسف الصديق تآمر إخوته على قتله ثم رموه في بئر. فأنقذه الله، وجعله ثاني فروع مصر. وشاءت العدالة الإلهيَّة أن يرى إخوتُه مجده وأن تحكم على ذراريهم بالعبودية في مصر أربعمئة سنة! لكن لماذا تآمر إخوته عليه؟ تآمروا لأن محبَّة والده مالت إليه، وكان أفضل منهم عقلاً وأسمى روحًا.

وإخناتون Ikhnaton، الذي حكم مصر من 1369 إلى 1353 قبل المسيح، كان أول من أقام عبادة الإله الواحد في وادي النيل مرموزًا إليه بالشمس (آتون)، مصدر النور والحياة والحبّ والفرح، وألغى عبادة الآلهة الكثيرة التي أقامها الكهنةُ منذ مئات السنين، وعاش مُخلصًا لزوجةٍ واحدة هي نفرتيتي بالرغم من أنه لم يرزق منها أي صبي، وآثر أن يتخلَّى عن سوريا وغيرها من الأراضي التي كانت تحت نير المصريين على أن يستعبد الشعوب الأخرى ويدفع بالمصريين إلى الموت في الحروب من أجل مطامع باطلة. فحقد الكهنة عليه، لأنه أضاع مكاسبهم من معابد الآلهة الكثيرة، وطرد مئات النساء اللواتي كان الكهَّانُ يعاشرونهن في المعابد بحجَّة أنهنَّ مُحظيات الإلهُ آمون، كما حقد عليه القادةُ العسكريون أنفسهم، لأنه أراد أن يعيشوا مثلما يعيش: حياةً بسيطةً تقية. لم يستطيع الحاقدون أن ينالوه بالأذية في حياته، لكنهم، بعد موته، أعادوا كل ما هدَّمه، وهدَّموا كل ما أقامه، بل محا الكهنةُ اسمه عن كل أثر وحظروا على الشعب أن تتلفظ شفاهُهم باسمه، وسمُّوه "المُجرم الكبير".

وكنفوشيوس Confucius الذي ظهر في الصين في القرن السادس قبل المسيح، فتيتم طفلاً، وعاش فقيرًا، وما إن شبَّ حتى اعتزم أن يوقظ العقل الهاجع في شعبه، ويقيم أسس التعامل الاجتماعي الفاضل، وقواعد الحكم الصالح. لكنه اضطهد وهزئ بأفكاره، فأخذ يتنقل من مكان إلى آخر عساه يرى رجلاً عاقلاً، بيد أنه مات والحسرةُ تكوي قلبه  لأنه لم يجد رجلاً جديرًا بأن يكون حاكمًا. وبعد وفاته بمئتين وخمسين سنة، استولى على عرش الصين إمبراطورٌ طاغية هو شي هونغ – تي shih Huang-ti(231- 220 قم)، فأمر بجمع الكتب الكنفوشية مع الكتب الأدبية والتاريخية، وأحرقها؛ ووحد إمارات الصين في دولةٍ كبيرةٍ واحدة، وبنى سور الصين العظيم، وحكم شعبه بالحديد والنار، وكان حلمه الكبير أن يمتدّ ذراريُّه من بعده سلسلة من الأباطرة تبلغُ عشرة آلاف إمبراطور. لكن الباطل دولته ساعة، ودولة الحقّ إلى قيام الساعة. فما إن مضى على موته أربعةُ أعوام حتى ثار الشعب المظلوم وقضى على أسرته. وعادت تعاليمُ كنفوشيوس تحتلُّ الأفكار والصدور في الصين حتى يومنا هذا. وهكذا لم ينفع التجبّر الطاغية، ولا حماه السور العظيم.

وسقراط Socrates( 469 – 399) الفيلسوف الحكيم الذي أيقظ الفكر النقدي في شعبه، وجعل كل من سمعه يسلّط الضوء على ذاته، مداركه ونزعاته، سلوكه في الخير أو الشر، كما على مفهومه للظلم والعدل والوجود والآلهة، حكم عليه مجلسُ "الثلاثين" بالموت، لإنه كان يصغي لصوت في داخله هو صوتُ الله الذي عهد إليه برسالةٍ لشعبه تمامًا مثلما كان يصغي غاندي بعد ألفين وأربع مئة سنة لصوت ضميره السامي. وبالرغم من أنه كان بإمكانه الفرار من السجن، فقد آثر أن يقضي بشرب السمّ بعد أن أتُّهم بأنه يفُسد الناشئة ويبعدها عن عبادة آلهة الإغريق.

لكن ماذا كانت النتيجة؟ لقد شرح أفلاطون تعاليم معلمة وفصَّلها، فخُلِّد الاثنان مدى الأزمان، وقامت كل فلسفة سامية من بعدُ وفيها شيءٌ من تعاليم سقراط وأفلاطون. أما أثينا فبدأ انحطاطها العسكري والسياسي والاقتصادي، ولم يبق فيها إلا بعضٌ من تلاميذ سقراط يتابعون مسيرته الفكرية. ومعظمُ الروايات التاريخية تقولُ بقيام ثورة شعبية قضت على الطُّغاة الذين شاركوا في مصرع الرجل العظيم.

والسيدُ المسيح، ذلك النقي الوديع المتواضع، ناثرُ بذور المحبّة والسلام، مُعزي الضعفاء والبؤساء واليائسين، ذلك الذي تمخَّضت به الرحمةُ الإلهية ليحطِّم قيود الظُّلم والعبودية وينشر المحبَّة والرحمة والفضيلة في البشرية، ذلك الرسولُ السماوي يقولُ فيه مؤسسُ الداهشية:

فرد أعزل إلا من الإيمان واليقين باليوم الأخير دافع عن الحقّ دفاع الجبابرة، ونافح عن العدالة نفاحَ الرآبلة، وكافح الشر كفاح الليث في غيله وعرينه، فهاجمه في مواطنه الشديدة الخطر، دون أن يأبه لجبروته، ودون أن يأخذ لنفسه الحذر. وأراد هذا الجبار أن يمزّقه شذر مذر، كي ينقذ من هبط لأجلهم من البشر.

ثلاثة وثلاثين عامًا جاهدَ جِهاد المُستميت داعيًا الجميع للانتقاض على دستور القوة والبطش، دون أن يشير في ركابه أحد، خوفًا من الدولة الرومانية القوية الشكيمة... اللهم ما خلا نفرًا من البسطاء الذين فتنتهم تعاليمه العلوية، وأضاءت قلوبهم بأنوار المعرفة الإلهية.

لم ييأس... ولم يلقِ سلاحه، بل راح يهاجم قيصر روما في شخصِ هيرودس، طاغية فلسطين...

وفي النهاية، عظمت التضحية وضخم العداء. فقد بذل الثائرُ حياته فداءً لحرية البشرية المُعذَّبة؛ هذه البشريةُ المُتالِّمة التي أعمت الشهواتُ والنزواتُ بصرها وبصيرتها، فقدمته ضحيةً على مذبح جهلها الصارخ، إذ كافأته على جهوده في سبيل تحريرها وحبه إياها بتعليقها إياه على خشبة الصليب. فيا للهول الرهيب!

وماذا كانت النتيجة؟

كانت رهيبةً وذاتَ أثرٍ بعيد. فإنها منذ ذلك التاريخ المشؤوم وهي راسفةٌ في قيود الذلّ والمهانة...

والرسول العربي الكريم (570 – 632 بم) ظهر بين العرب، فنفحهم بتعاليم التوحيد والعدالة، وحثَّهم على إعمال العقل في صنائع الله، وجمع شملهم بعد تمزّق وتبدّد؛ فسبُّوه وآذوه واضطهدوه، واتَّهموه تارةً بالسحر وطورًا بتلبس الجنّ عقله، وأرغموه على الهجرة الشاقة، وحاربوه، وجرحوه، لكن الله نصره وأذلَّ أعداءه.

لكن أيادي الحقد والشر لم تكتف بإيذاء الأنبياء والرُّسل والهُداة الروحيين واضطهادهم في سياق التاريخ بل تعدتهم لتطال حتى الفاضلين والمُصلحين أمثال المحسن العصامي الرئيس رفيق الحريري الذي حول خراب لبنان عُمرانًا، وبلا حساب مد يد العون إلى عشرات الألوف من طلاب المعرفة العالية، وأعاد نور الأمل إلى الفقراء والبائسين. وغنيٌّ عن الذكر الخلفاء الراشدون الثلاثة الذين تلوا أبا بكر الصديق، أي عمر بن الخطاب العادل وعثمان بن عفان الذي جمع المصحف الشريف وعلي بن أبي طالب إمام البلاغة وابن عم الرسول، جميعهم تربَّص الشرُّ بهم واغتالهم، وكذلك الحسين بن علي الذي سيق بخدعةٍ إلى العراق.

وإذا اتَّجهت أنظارنا إلى الغرب لرأينا كثيرين من المفكِّرين الأفذاذ والمُصلحين الدينيين اضطهدوا وحوربوا وقتلوا. فهيباتيا Hypathia (370؟ - 415ب م) التي جمعت في شخصها الجمال الفاتن والحشمة الكاملة مع العلوم الطبيعية والرياضيات والفلسفة، والتي كانت الباعثة للأفلاطونية الحديثة في الإسكندرية، ورمزًا للمعرفة المُنفتحة – هيباتيا هذه التي رئست مدرسة استقطبت كل طالب للمعرفة العالية في روما واليونان، وكانت تعلمُ النزاهة والاستقامة في الحياة، ساوى المسيحيون الجهلة في الإسكندرية تعاليمها بالوثنية، فاتَّهمها الكهنةُ بالسحر وثاروا عليها, بدافعٍ من بطريرك الإسكندرية  سيريل CyrilK  فقتلوها وقطعوا جثتها وجرروها في الشوارع، وبعد ذلك أحرقوا ما تبقى من مكتبة الإسكندرية الشهيرة. ذلك مع العلم بأن هيباتيا كانت تتعاطف مع طلابها المسيحيين وتحميهم من حنق الوثنيين، وبأن اثنين من طلابها أصبحا من الأساقفة.

وهكذا قضى الجهل الأعمى على مركزٍ عالمي للمعرفة، وبدأت عصورُ الظلام في أوروبا لتمتدّ ألف سنة.

وسافونارولا Savonarola  (1452- 1498)، الراهبُ العالم المتقشف، والمصلح الديني الثائر على الحاكم الطاغية كما على البابا المُنحرف ومن معه من رجال دين، أقام حكومةً ديمقراطية مثالية في فلورنسا، بعد أن سقط حكامها، ولم يكن له أي مطمع في السلطة، إذ كان كل همُّه أن يجعل من فلورنسا مثالاً لـ"مدينة الله" التي نادى بها أوغسطينس Augustine (354 – 430) في كتابه المعروف بالعنوان نفسه City of God؛ وعلى غرار نظامها المثالي رأى أن يكون تصحيحُ الأنظمة في سائر المدن الإيطالية. وقد نجح في عمله نجاحًا كبيرًا.

لكن البابا المُنحرف، ألكسندر السادس بورجيا Alexander Borgia (1503 -1431)، جاملة وخادعة، وفي النهاية تحالف مع أعداء سافونارولا السياسيين من المُنغمسين في شهوات الدنيا ومباذلها، وأصدر حُرمًا كنسيًا ضده. فثار الأشرارُ وقبضوا عليه، فحوكم محاكمةً صورية، ثم علِّقُ بمشنقة، وعُلِّق على جانبيه رفيقان له، وأضرمت النارُ تحتهم. والأعجبُ في الأمر أن الكنيسة التي اضطهدته وأعدمته، عادت تكرِّمه محاولةً تطويبه قديسًا عام 1952".

وجوردانو برونو Giordano Bruno (1548 – 1600)، الراهبُ الفيلسوفُ، والعالم في الفلك والرياضيات، الذي استبق العلوم الحديثة بمعرفته وحدسه، فقال بتعدّد العوالم الشبيهة بالنظام الشمسي متجاوزًا نظرية كوبرنيكوس Copemicus (1473 – 1543)، اتُّهم بالهرطقة لأنه أتى بنظرية جديدة متأثرة بالأفلاطونية الحديثة تقولُ إن الوجود أصلاً جوهر ثابت لا نهائي وغير مُتغير، ويمكن اختصاره بالمبدأ الأول أو الله. ولذا فغايةُ الإنسان من وجوده أن لا يهتم بما هو زائل بل بما هو أبديّ لا يتغير، كما سمح لنفسه أن يناقش علنا عقيدة الآريوسية المُحظَّرة القائلة بأن للسيد المسيح طبيعة واحدة هي الطبيعة البشرية. كذلك أعلن أن الكتاب المقدَّس يجب أن يتبع لمبادئه الخلقية وليس لإشاراته الفلكية غير الصحيحة، والتي تخاطب عقول أهل الزمان القديم، وأنه من الضروري قيام تعايش سلمي بين جميع الأديان مبني على التفاهم المتبادل وحريَّة الحوار والنقاش.

وفي النهاية وبعد تنقله بين سويسرا حيث اعتنق البروتستنتية الكالفينية وفرنسا وإنكلترا وألمانيا، عاد إلى إيطاليا، فقبض عليه جنودُ محكمة التفتيش، وحُكم عليه بالإعدام. وقبل سوقه لإحراقه، قال لأعضاء المحكمة: "قد يكون خوفكم وأنتم تصدرون الحكم عليَّ أكبر من خوفي من تلقي الحكم". وقبيل إحراقه أخذ يخاطب الجموع المُحتشدة، فخاف الكهنة، وأمروا الجلاد أن يكم فمه. فأدخلت مديةٌ طويلة في خده الأيسر نفذت من خده الأيمن، كما أدخلت في شفتيه مديةٌ أخرى شكلت مع الأولى شكل صليب، ثم أضرمت النار تحته. وقد أصبح برونو، في الأجيال اللاحقة، رمزًا لحرية الفكر والتسامح الديني. وأبراهام لنكولن Abraham Lincoln (1809 – 1865)، ذلك العصامي الشريف العادل الذي لم تمنع نشأته في أسرة فقيرة من تسنّم سُدَّة الرئاسة الأمريكية، وصيانة وحدة البلاد وخوض الحرب ضد الولايات الجنوبية المُنادية بالانفصال إبقاء على نظام العبودية فيها، لنكولن الذي لم يماثله في الفضل على أمريكا ووحدتها ونفخ الروح الديمقراطية الإنسانية فيها أحد، قضت عليه عام 1865 رصاصاتٌ أثيمة أطلقتها يدُ جون ولكس بوث G.Wilkes Booth.

لم أقف، في ما سبق من عرض تاريخي سريع، عند جرائم الحروب والجرائم العادية التي يجب أن تدان   كلّها إدانة الجرائم المُميزة، بل اكتفيت بأن أنقضَ التاريخ الدينيّ والمدنيّ بنظرةٍ لا تلتقط منه إلا الأنبياء والهُداة والعباقرة والُمصلحين الأفذاذ. وإنه لحري بالذكر، ونحن في بداية الألف الثالث، أن نُشير إلى إحراق كتب الفلاسفة والمُفكِّرين أو حظرها بأمر دينيّ بدءًا بابن رشد ومرورًا بفلاسفة عصر الأنوار في أوروبا وانتهاء بما يحصل اليوم في البلدان العربية. فكلّ مجدد مخالف في الرأي للجماعة، وكل مُصلح ينادي بحقوق الإنسان والعدالة والحرية والتوفيق بين الدين والعلم يتوجَّب اضطهاده بل هدر دمه.

إن السيَّالات الشريرة التي تفضل دكَّ العمران والقضاء على بنائه، وتؤثر قطع رؤوس المُحسنين والمفضلين وتفجير أجسادهم على التعاون معهم ما تزال ناشطة في كل أرض؛ وما أحداث لبنان المأساوية الأخيرة إلا برهان جديد بعد مئات البراهين على ما أقول، وما ذكرى غاندي التي تحتفل الهند بها في هذا العام مع كثير من العالم إلا برهان حاسم على غباء الإنسان وجهله وظلمه.

ولعل أفضل ما أختمُ به هذا البحث ما قاله الدكتور داهش، مؤسس الداهشية، في غاندي:

إن عالمنا مُصابٌ بطاعون الشرور المُحيقة، وقاطنوه أشراراٌ فجار.

فيا ويلهم، يوم حسابهم، وهم يتقلبون بين أشداق النار الأبدية الاتِّقاد، جزاءً وفاقا.

وعواقبُ تلك الجرائم التي ترتكب بحق الأنبياء والهُداة والمُصلحين والعباقرة على الشعوب التي تضطهدهم وخيمة جدًا، وأحيانًا يطال أذاها العالم كله.

يقول الدكتور داهش تعليقًا على اضطهاد السيد المسيح وصلبه:

إن السيد المسيح، له المجد، لم يضرَّه الأمر. فأبن السماء قد عاد إلى السماء؛ وابنُ الفردوس عاد إلى فردوسه، بعد فترةٍ قصيرة قضاها بين أبناء الأرض كي يرفعهم معه إليه. فأنكروه وطردوه، وأهانوه وازدروه وشرَّدوه، وأخيرًا... صلبوه وعذَّبوه ثم بكوه وندبوه.

منطقٌ أعوج، وخلقٌ أعرج، واتِّجاهٌ سفيه... إن الضرَّر البليغ قد حاق بهم وبذريتهم، فالأسف الفادح قد غمر أرواحهم وتغلغل في أفئدتهم.

فناحوا... ولكن بعدما انطلق الطائر إلى فراديس الجنان، وتوارى عن العيان. فما كان قد كان.

أما الآن فإنهم يرفعون إليه صلاتهم، ويلتجئون إليه في ساعات أحزانهم، ويبثُّونه لواعج آلامهم وأشجانهم.

هم الآن يحترمون مُخلفاته، ويقدِّسون ذكرياته، ويردِّدون روائع آياته، ويتغنُّون بمُعجزاته. خسئتم، يا أرواح الشر، فإنكم تضطهدون أنبياءكم ومُرسليكم عندما يكونون بين ظهرانيكم، وتتَّهمونهم بأشنع اتِّهاماتكم، وتقذعونهم بشفار ألسنتكم، وتسلقونهم بصديد مُفترياتكم الدنيئة، وتضطهدونهم بخسَّةٍ تحسدكم عليها بناتُ الخيانة.

وعندما ينطلقون من أرضكم، ويخلفون لكم جيفتكم الكريهة، إذ ذاك، تعرفون قيمتهم فتندمون، ولكن حين لا تجديكم ندامتكم، بل نتانتكم وخيانتكم. فيا ويحكم من يوم الدين!

ذاك كان عرضًا سريعًا لشريط نهر الدماء الذي سال منذ بدء الخليفة. فإلى متى سيبقى الإنسان عبدًا للشر، يجحد النور والخير ويقطع اليد التي تحسن، ويصر على أن يبقى راسفًا في قيود الشيطان.

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.