أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

السببيَّة الروحيَّة في مجرى الأحداث العامة (10)

قيامُ الحكم الراشدي والفتوح التأديبية

 

بقلم الدكتور غازي براكْس

            يقول العقَّاد في كتابه "عبقرية محمد": "محمد في نفسه عظيم بالغُ العظمة وفاقًا لكل مقياسٍ صحيح يُقاس به العظيم عند بني الإنسان في عصورِ الحضارة. فما مكانُ هذه العظمة في التاريخ؟ ما مكانُها في العالم وأحداثه الباقية على تعاقُبِ العصور؟

"مكانها في التاريخ أن التاريخ كلّه بعد محمد متَّصل به مرهونٌ بعمله، وأن حادثًا واحدًا من أحداثه الباقية لم يكن ليقع في الدنيا كما وقع لولا ظهور محمد وظهورُ عمله.

            "فلا فتوح الشرق والغرب، ولا حركات أوروبا في العصور الوسطى، ولا الحروب الصليبية، ولا نهضةث العلوم بعد تلك الحروب، ولا كشفُ القارة الأمريكية، ولا مساجلةُ الصراع بين الأوروبيين والإفريقيين، ولا الثورةُ الفرنسية وما تلاها من ثورات، ولا الحرب العظمى التي نشهدها في هذه الأيام، ولا حادثةٌ قومية أو عالمية... كانت واقعةً في الدنيا كما وقعت لولا ذلك اليتيمُ الذي وُلِدَ في شبه الجزيرة العربية...

            ما قاله العقَّاد يُنبئ عن إدراك للأسباب الروحية التي تقولب مفاصل التاريخ، وتسمُ الأحداث بعدها بطابعٍ ما كان ليظهر لولاها. وهو ما ذهبت إليه النظرةُ الداهشية. ففي ضوئها يكونُ للرسالات والهدايات الروحية الكبرى تأثيرٌ في الأحداث ذو مدى واسع المجال وطويل الأمد، يمتدُ عصورًا بعد عصور، بحيثُ لا يماثله أي تأثيرٍ آخر، سياسيًا كان أم اقتصاديًا أم عسكريًا أم غير ذلك. فما من إمبراطورية بقيت، ولا من نظامٍ سياسي أو اقتصادي استمرَّ أكثر من بضعة عقود أو قرون.

الحكم الراشدي القدوة

             من أبرز التأثيرات التي أحدثها ظهورُ الإسلام قيامُ بضعة حُكامٍ صالحين ندر أمثالهم في التاريخ البشري. فالخلفاء الراشدون الأربعة الذين خلفوا النبي مباشرة في حكم الدولة الإسلامية استلهموا القيم الروحيّة التي آمنوا بها في ممارسة سلطتهم، واجتمعت في شخصياتهم مزايا وتهيأت في حُكمهم (632 – 661م) صفاتٌ وشروط لم تتكرَّر في أي حاكم أو أي عهد في الإسلام طوال أربعة عشر قرنًا إلا في الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (717 – 720م) المُلقب بـ "خامس الخلفاء الراشدين". فكان أولئك الخمسة يحكمون بين الناس، حقًا، بشريعة القرآن مُستلهمين الآية الكريمة (فاحكمْ بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحقّ. لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجًا) (المائدة 48). أما سيرهم فقد نسجوها على منوال سيرة الرسول جهد ما استطاعوا مع بعض تقصيرٍ من قبل عثمان لعلّه يُرد إلى عمره وماضيه قبل الإسلام؛ فتواضعوا للمسلمين وللمحكومين عامةً، وجعلوا العدالة والحق شعارهم، ومصلحة المحكومين وحريّتهم هدفهم، وعاش أربعةٌ منهم عيشة الكفاف بل الشظف أحيانًا، مع أن خيرات الدنيا كانت بين أيديهم. وإذا شابت حُكمَ عثمان وعلي أزماتٌ سياسية شلت نجاحه، فهي لم تفسد صلاحهما الشخصي.

            فأبو بكر قال في خطبته على أثر مبايعته بخلافة النبي: "أيها الناس، قد وليتُ عليكم ولستُ بخيركم. فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوموني. ألا إن الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله...

            أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله؛ فإذا عصيتُ، فلا طاعةَ لي عليكم..." وكانت حياته وسياسته تجسيدًا لفحوى خطبته. فقد اتبع النظام الذي سنَّه النبي في إدارة شؤون الدولة. ولم يكن بحاجة إلى أكثر من معاونين: عمر للقضاء، وأبي عبيدة للمال. ومع ذلك حكمَ بالعدل، فكان يتقصَّى أخبار الولاة، ويسأل الرعية عما يتشكون منه، فينصفُ كل مظلوم. وأمن الدولة من أعدائها الداخليين والخارجيين. ففي الداخل أوجب الطاعة على المرتدين الغادرين، الناكثين بالوعد، الخائنين للعهد، الرافضين للزكاة، فحاربهم وأخضعهم. وقضى على الأنبياء الكذبة، مُظهرًا أنه يستطيع أن يكون الحاكم الحازم الحاسم، على لينه وعطفه على الأسرى وتسامحه مع رؤوس المرتدِّين.

وقد أسلم على يدي أبي بكر رهط من أعيان العرب. وكان يدفعُ الأثمان الغالية لابتياع العبيد الذين أسلموا كي ينقذهم من قسوة أسيادهم؛ منهم بلال بن رباح مؤذّن الرسول.

وكان أبو بكر عفيف النفس، زاهدًا بالدنيا طوال خلافته. مما يروى عنه أنه غدا ذات يومٍ إلى السوق وعلى ساعده ثياب؛ فرآه عمر فسأله عن وجهته وعما يريد. ولما عرف، قال له: "تصنعُ ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟" فأجابه: "فمن أين أطعم عيالي؟" فأشار عليه أن يترافقا إلى أبي عبيدة، أمين بيت المال، ليفرض له ما يكفي نفسه وعياله. وبعد أن تكاثرت أعمالُ الحكم، نقل مركز السلطة إلى المدينة، وجعل يعين نفسه بالتجارة حيثما استطاع. فلما شعر بدنو أجله، أوصى بأن يردَّ إلى الخزينة ما أخذه منها من ماله وممتلكاته؛ وقال لعائشة: "إذا أنا مُتُّ، فردِّي إليهم صحفتهم وعبدهم ولقحتهم ] ناقتهم الحلوب[ ورحالهم ودثارةَ ما فوقي اتقيتُ بها البرد، ودثارة ما تحتي اتقيتُ بها نزَّ الأرض، كان حشوها قطع السعف".

            أما عمر بن الخطاب فكان جندي الإسلام الأمثل في شجاعته وصراحته وحزمه وخشونته وغيرته ومروءته ونظامه وطاعته، وفي تقديره الواجب وحبّ الإنجاز في حدود التبعات، وكذلك في شعوره الشديد بالمسؤولية الروحيّة بصفته إنسانًا وكونه حاكمًا. ولذا كان ينتبهُ لكل صغيرة أو كبيرة في ديار الإسلام لإيمانه بأن الله سيحاسبه عنها. وقد تمَّخضت مزاياه هذه بجرأة نادرة على الولاة، إذ كان يقرِّعهم ويُنذرهم إذا أهملوا واجباتهم بعض الشيء، أو أسرفوا في عقوباتهم؛ وقد رصد الرقباء لهم، وحظر عليهم مظاهر الأبهة والخيلاء التي تباعد بينهم وبين رعاياهم، وجعل الكفاءة والحرص على الواجب أساسًا في تعيينهم؛ وكان يحصى أموالهم قبل ولايتهم ليحاسبهم بها على ما زادوه بعد الولاية.

            بيد أن أبرز صفاته الحميدة كان العدل والرحمة الذين حفلت حياته بشواهد عليهما. منها أنه صادف شيخًا أعمى يسألُ عند باب منزل؛ فإذ علم أنه يهودي، سأله: "ما ألجأك إلى ما أرى؟" فأجاب: "أسأل الجزية والحاجة والسن". فقاده عمر إلى منزله، فأعطاه ما يكفيه يومه؛ وبعث برسالة إلى خازن بيت المال يقول فيها: "انظر هذا وضُرباءه، فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم. إنما الصدقاتُ للفقراء والمساكين، والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب". ورفع الجزية عنه وعن أمثاله.

            ومن أمثلة عدله أيضًا أنه أيام كان عمرو بن العاص واليًا على مصر، جرى سباق للخيل اشترك فيه ابنه ونازعه أحد المصريين السبق. فاختلفا في مَن يكونُ الرابح. هاج ابنُ الوالي فضربَ المصري قائلاً له: أنا ابنُ الأكرمين. فحضر المصري إلى الخليفة رافعًا إليه شكواه. فاستدعى عمر الوالي وابنه، وأهاب بالمصري، أمام جمع من الناس، أن يضرب ضاربه قائلاً له: "اضرب ابن الأكرمين!" ثم أوعز إليه بأن يضرب الوالي نفسه، لأنه لو كان عادلاً رحيمًا لما تجرأ ابنه على ضرب الأبرياء. وصاح بوجه عمرو بن العاص ساخطًا: "بِمَ استعبدتُم الناس وقد ولَّدتهم أمَّهاتهم أحرارًا؟".

            وبالرغم من أن خالد بن الوليد كان أشهر قادة الإسلام في عصره، فقد حاكمه في مجلس عام مثلما يُحاكمُ أصغرُ الجنود، ثم عزله وأعاد إلى بيت المال قسمًا مما يملك، وذلك لاقترافه بعض المآخذ وإنفاقه من المال العام على وجهٍ غير صحيح

وكان عمر يساوي بين أبنائه وسائر المسلمين حتى في أشد العقوبات. وما شكا إليه مظلوم من أهل الذمة (النصارى واليهود) واليًا مهما يكن شأنه إلا أنصفه منه. ولم يتَّخذ أي قرار يضيقُ على حرِّياتهم إلا ما كان ضروريًا من أجل صيانة أمن الدولة وسلامة العقيدة الدينيَّة.

            وأما عثمان بن عفان فقد اختاره مجلس إستشاري اقامه عمر قبيل وفاته. اشتهر بالدعة والحياء والرفق والمروءة، ولكن بالدرجة الأولى بالكرم والإحسان. فقد كان أسخى الأغنياء وأغنى الأسخياء. وقد بذل في سبيل الرسالة الإسلامية، في الحرب والسلم، ما لم يبذله أحد. وثراؤه العظيم أبعده عن الزهد والتقشف، لكنه لم ينتقص من صلاحه ونزعته الروحيَّة ومقته لسفك الدماء.

            لكن إن يكن عثمان حاكمًا صالحًا، فإنه لم يكن حاكمًا ناجحًا. وهذا سيؤدي إلى ما لا تُحمدُ عقباه في أواخر حياته وبعد موته. وتفصيلُ ذلك سأدعُه إلى الحلقة الثالثة من هذا البحث.

            وأما عليّ بن أبي طالب فلم تتفتح بصيرته إلا على الإسلام، فهو لم يعرف عبادة الأصنام. ولذا تجلَّى صدقُ الدين الجديد وروعته وعظمته في إيمانه وعمله وعلمه وفقهه، حتى قال الرسولُ الكريم: "أنا مدينةُ العلم وعليٌّ بابُها؛ مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه". فلا عجب، بعد ذلك، إن استنصحه الخلفاء الثلاثة واستفتوه، وإن نشط تيار في المسلمين يشايعه. حتى إذا قُتل عثمان كانت مبايعة عليّ تلبيةً لنقمة كثيرين من المطالبين بالعودة إلى سُنَّة النبي وسُنَّة أبي بكر وعمر؛ بل وجد فيه المظلومون والمحرومون والشاكون من مختلف الفئات ضالّتهم، فتألبوا حوله. وسرعان ما اقتدى بعمر، فعزل الولاة الذين حامت الشبهات حولهم، فألَّب عليه جميع من انتفعوا أو يريدون أن ينتفعوا من الدنيا. فزاد هذا الأمر المعضلات الناشئة تعقيدًا (يفضل ذلك في الحلقة المقبلة).

            فضلاً عن الشجاعة التي لا تضاهي التي كان يتمتع بها عليّ، كان أبعد الناس عن الظُّلم؛ بل أن صدره لم يكنَّ حقدًا حتى على أعدائه، ولم يُشهر سيفًا، وهو الذي يتمتع بقوة وصلابة بالغتين، إلاَّ سبق فدعا إلى السلام. أما مروءته حتى مع خصومه فكانت مضرب الأمثال. فقد نهى جنوده أن يقتلوا مدبرًا أو يجهزوا على جريح، أو يفضحوا سترًا، أو يغصبوا مالاً. وكثيراً ما عفا عن أعدائه، وصلَّى على قتلاهم مثلما يُصلِّي على قتلاه. ولما حال جندُ معاوية بينه وبين الماء وعطش جنوده، منعوه عنهم وأرادوا أن يهلكوهم عطشًا، فحمل عليهم وأجلاهم عنه، ثم سمح لهم أن يشربوا من الماء مثلما يشربُ جنده. وبعد أن انتصر في موقعه الجمل وظفر بعائشة التي كانت معتليةً هودجها تحرضُ المسلمين على قتاله، أرسلها إلى ديارها مكرَّمة مخفورة بالنساء المعمَّمات المتقلِّدات السيوف اللواتي ظنَّتهن عائشة رجالاً.

ولم يكن عليّ يحتال لاسترضاء الناس، بل كان يصارحهم ما في نفسه التي لم تعرف الرياء. وحبّه الصدق منعه من اللجوء إلى الحيلة في الحرب، والخدعة في السياسة، والمكر في تصريف الأمور؛ وصفاء نفسه وسريرته زاد صلاحه، لكنه حال دون نجاحه في الحكم. لقد أخلص عليّ للرسول العربي كل الإخلاص في حياته، وأخلص لتعاليمه بعد موته، فسار سيرته، وكان أزهد الخلفاء بالدنيا ولذَّاتها. فإن زدنا على ذلك علمه وفقهه وبلاغته، كان من الصائب أن نسميه الإمام الحقّ، بعد النبي الكريم. وقد تجلَّى إدراكه شروط الإمامة الحقّة بقوله: "مَن نصب نفسه للناسِ إمامًا، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره... وليكُن تأديبُه بسيرته قبل تأديبه بلسانه؛ ومعلم نفسه ومؤدبها أحقُّ بالإجلال من مُعلم الناس ومؤدبهم".

            بمقتل علي (40 هـ/ 661م) يكونُ عهد الخلفاء الراشدين الأربعة قد انقضى. عهده، على امتداده أقل من أربعين سنة، أحدث تأثيرًا بالغًا ليس في العرب فحسب، بل في قاراتٍ ثلاث أيضًا. لكن قبل الخوض في هذا الأمر، تجدر الإشارة إلى الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، حفيد عاصم بن عمر بن الخطاب من جهة أمه. فهو آخر الحكام الصالحين في تاريخ الإسلام. فقد استخلفه الخليفة الأموي السابع، سليمان بن عبد الملك (615 – 717م)، وله من العمر خمسة وثلاثون عامًا، لِما اشتهر به من نزاهة وعدل في أثناء ولايته على المدينة ثم الحجاز. فلما قرئ كتاب الاستخلاف عيه، أرعشته المسؤولية المفاجئة؛ فصعد المنبر، في اليوم التالي وخطب في الناس قائلاً: "... أما بعد، فقد ابتليت بهذا الأمر على غير رأي منّي فيه، وعلى غير مشورة من المسلمين... وإني أخلعُ بيعة من بايعني، فاختاروا لأنفسكم". ذلك في وقتٍ كان فيه الأمراء والأعيانُ جميعًا يتنافسون على الخلافة. لكن عمر لم يفرغ من نطق عبارته الأخيرة حتى انطلقت أصواتُ المؤمنين: "بل إياك نختار، يا أمير المؤمنين". وأجهش عمر بالبكاء. وفجأةً حدث الانقلابُ الروحيّ في نفسه! فكأنما حلَّت فيه، في تلك اللحظة، السيالاتُ الروحية التي كانت تُحيي جده عمر بن الخطاب، أو كأنما استيقظت فيه بعد هجعة، فأراد أن يجعل الحكم قوّة، فيصل عهده بعهد الخلفاء الراشدين، على ما تغيّر من الناس والزمان؛ قدوة لا تشمل شخص الخليفة فحسب، بل أهل بيته، وولاة الدولة ومعاونيهم وموظفيهم أيضًا!

            فبعد أن عاش عمر بن عبد العزيز شبابه يأكل من المطاعم أشهاها، ويرتدي من الثياب أفخرها وأغلاها، ويمتطي من الجياد أطهمها وأبهاها، ويتأنق في كل ما يقول ويعمل، مُنفقًا ألوف الدنانير في العام الواحد – بعد عيشة البذخ والترف تلك ، تخلّى عن كل أبّهةٍ وعظمة، ورفض أطايب الحياة ليعيش في تقشفٍ وشظف، وصرف الجواري اللواتي قدمن إليه، كلا إلى بلدها وذويها، واستدعى امرأته فاطمة وأعلمها قراره بأنه سيمتنعُ عن كل علاقة زوجية معها، وأعطاها حقَّها في اختيار مستقبلها؛ لكنها لأزمته حتى النهاية. فكان في سيرته هذه محاكيًا لبوذا وسابقًا لغاندي. ولم يكتف الخليفة بذلك، بل تخلَّى عن جميع أملاكه وأمواله لخزينة الدولة، وباع حُلَله ومراكبه ومُتاعه وحُلَلَ زوجته وأولاده، ووضع أثمانها في بيت مال المسلمين، مُكتفيًا لنفسه ولكل منهم بثوبين خشنين، وله ولأسرته بمئتي دينار في العام هي غلة قطعة من الأرض استبقاها من دنياه كلها لمعيشته. تلك كانت خلاصة لحياته الخاصة.

            أما حياته العامّة فملأى بالفضائل؛ فقد جلس للناس على حصيرٍ فوق الأرض، وقال لهم في خطبة: "إني لستُ بقاضٍ، إنما أنا منفذ... ولستُ بمبتدع، إنما أنا مُتَّبِع... ولست بخيركم، إنما أنا رجل منكم، غير أني أثقلكم حملاً".

            وفي اليوم الأول من حكمه أمر باستدعاء جيش المسلمين الذي كان يحاصر القسطنطينية، وقد بدأـت المجاعةُ والأمراضُ تفتكُ فيه. وعزل الولاة المتجبِّرين وطالبهم الحساب. وألغى المُخصصات المالية كلها حتى للأمراء ولذويه وأقربائه، وجرَّدهم من الإقطاعات الزراعية، وردَّها إلى بيت المال. وعندما قيل له: "يا أمير المؤمنين، ألا تخاف غوائل قومك؟"

أجاب: "أبيومٍ سوى يوم القيامة تخوفونني؟".

            ذات يومٍ، طلب إليه الموافقة على صرف مبلغٍ كبيرٍ من المال لكسوة الكعبة؛ فأجاب: "إني أرى أن أجعل هذا المال في أكباد جائعة، فإنها أولى به من الكعبة".

            وقد أحاط عمر بن عبد العزيز نفسه بمجلس شورى من الأخيار، وشجع الناس على نقد ولاتهم إن أخطأوا، بل سنَّ جوائز لمن يكشفُ عن خطأ ويهدي إلى الصواب.

            وأطلق الحرَّيات الاعتقادية حتى للخوارج، فكان يُقارعُهم بالحجَّة، ويرفضُ أن يقارعهم بالسيف، حتى أغمدوا جميعًا سيوفهم في عهده. لكن إطلاقه الحرية لم يمنعه من أن يحرِّم الحرام، فحظَّرَ لعن الإمام علي بن أبي طالب من على المنابر، بعد أن أصبح سُنَّةً في الحكمِ الأموي.

وجعل عُمرُ بن عبد العزيز للأموال العامة حرمةً وجلالاً، فألغى جميعَ الضرائب التي اعتبرها مُجحفةً بحقِّ الشعب؛ وأنشأ دورَ الضيافة للمسافرين في طول البلاد وعرضها؛ ورفع مستوى الأجور الضعيفة؛ وكفل حاجاتِ العلماء والفقهاء ليتفرَّغوا لعلمهم؛ وأوصى لكل أعمى بقائد يقودُه، ولكل مريضٍ عاجز أو مريضين بخادم، وذلك على حساب الدولة؛ وأمر بإحصاء المديونين العاجزين، فقضى عنهم ديونهم؛ وافتدى أسرى المسلمين وأغدقَ الهبات عليهم؛ وكفل اليتامى الذين لا مُعيل لهم؛ وفرض لكل مولودٍ راتبه وعطاءه بمجرّد ولادته؛ وحظَّر الجمع بين راتبين مهما تكن الأسباب. وقد شمل عدله ورحمته الإنسان والحيوان حتى كاد الفقر والظُّلم ينقطعان.

            وقد وحد المجتمع الإسلامي مُزيلاً منه العصبيات والعدوات، وإن يكن لوقت قصير؛ وحَمَى حقوق أهل الذمَّة؛ وأوقف الأعمال العسكرية الخارجية مستعيضًا عنها بمكاتبه الملوك والحكام ودعوتهم إلى الإسلام؛ فأسلم كثيرون منهم متأثرين بحياته القدوة التي أذابها الجهد والتقشف، فقضى بعد سنتين وخمسة أشهر وبضعةِ أيام من الحكم. وهو لم يتم الثامنة والثلاثين.

الفتوحُ الإسلامية وتأديبُ الدول المُنحرفة عن تعاليم الهدايات الروحيّة الأصليّة

 

            ليس من حادثٍ يقعُ في العالم إلا وراءه سببٌ روحيّ؛ هذا ما تعلمُه الداهشية. وظهورُ الإسلام كان خيرًا لقومٍ وعقابًا لقومٍ آخرين، على الأقل في زمان معين. فما إن تولى أبو بكر الخلافة حتى سير جيشًا إلى العراق بقيادة خالد بن الوليد، فطعن الإمبراطورية الفارسية في خاصرتها باحتلاله ثلاث مُدنٍ رئيسة: الأبلة (البصرة فيما بعد)، والمدائن، والحيرة التي دانت له دونما اقتتال. ثم سار مُسرعًا إلى سوريا حيث كانت فلسطين ميدانًا لعمليات عسكرية تقوم بها ثلاثةُ جيوشٍ من المسلمين بتهيبٍ وتردّد، فوحَّدها تحت إمرته، وكرَّ على الجنود البيزنطيين المسيحيين فهزمهم.

            واستتم عُمَر بن الخطاب فتح سوريا، وأمعن الدخول في فارس، وأنفذ عمرو بن العاص إلى مصر فبلغ الإسكندرية. ثم تابع المسلمون، في عهد عثمان، تقدمهم متوغلين في فارس، وأرمينيا وأذربيجان وإفريقيا الشمالية مُحتلين النوبة (السودان) وطرابلس الغرب والقيروان، هازمين الروم البيزنطيين. بل إن المقاتلين المسلمين وثبوا إلى البحر فاحتلوا قبرص، وبعد ثلاثة أعوام هزموا أسطولاً للروم البيزنطيين قُبالة شاطئ الإسكندرية ("معركة ذات الصواري)، وسيطروا على كثيرٍ من سُبل الملاحة. وهكذا ثبتت هيبة الدولة الإسلامية ووسَّعت نخومها شرقًا إلى الهند والصين، وشمالاً إلى ما وراء بحر الخزر (قزوين)، وغربًا إلى أبواب القسطنطينية وتخوم الأندلُس، وجنوبًا إلى السودان والحبشة في حوالى أربعة وعشرين سنة.

            وبالرغم من فراغ العالم الإسلامي، بعد عمر بن عبد العزيز، من خليفةٍ صالح، فإن "دار الإسلام" ظلَّت تتسعُ، بإذن إلهي، حتى شملت معظم إفريقيا والأندلسَ والقسطنطينية نفسها عام 1453، بعد أن اعتنق الأتراكُ الإسلام، وامتدت إلى إندونيسيا وبعض روسيا.

            ويبدو جليًا من القرآن أن ما من مصيبةٍ إلاَّ وراءها أسبابٌ روحية يمكن إيجازها بالانحراف عن التقوى والإيمان الصحيح، والانجراف إلى الفُسق والظلم والبطر وغيره من الموبقات. وإذا حقَّت المصيبة على أناسٍ في زمنٍ عادي، فبالأحرى في زمن يظهرُ فيه الرسلُ والهُداةُ الروحيون، لأنهم جميعًا منبثقون من مصدرٍ روحي واحد. من آيات الكتاب الكريم: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (الإسراء 14)؛ (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها، فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً، وكنا نحن الوارثين. وما كان ربُّك مُهلك القرى حتى يبعث في أمِّها رسولاً يتلو عليهم آياتنا، وما كنا مُهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون)(القصص 58 – 59)؛ كذلك (وما كان ربك ليُهلكَ القرى بظلم وأهلها مصلحون) (هود 117)؛ (وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، فكفرت بأنعمِ الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) (النحل 112).

            ومن الضرورة أن يفهم الباحثُ عن الحقيقة أن الله تعالى ليس هو الذي يظلمُ الناس، بل هم يظلمون أنفسهم، وبأعمالهم يسببون المصائب لهم والعقوبات. وقد أكد القرآنُ هذه الحقيقة تأكيدًا حاسمًا في عدة آيات؛ منها: (فكلاًّ أخذنا بذنبه، فمنهم من أرسلنا عليه حاصبًا، ومنهم من أخذته الصيحةُ، ومنهم من خسفنا به الأرض؛ ومنهم من أغرقنا، وما كان الله ليظلمهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) (العنكبوت 40)، و(ظهر الفسادُ في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) (الروم 41)؛ كذلك (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير) (الشورى 30). وهذا الأمر يلتبس فهمه على كثيرين من المؤمنين والباحثين، فيتساءلون: وما ذنبُ الأطفال والنساء والأبرياء الذين يقتلون في الحروب أو الكوارث الطبيعية، ما دام (الله لا يظلمُ مثقال ذرة) (النساء 40)؟ والجوابُ لم يوضح في عقيدة روحية ما مثلما وضح في التعاليم الداهشية التي تؤكد أن الحياة نهر لا ينقطع جريانُه بين الأزلِ والأبد، وأن الإنسان في حياته الراهنة هو نتيجة لحياة سابقة. فالولدُ امتدادٌ نفسي وراثي لأبويه وجديه، بل أجداده، وما يقعُ عليه من مصائب يكون قد استحقها بما كسبت يداه أو أيديهم في حياة سابقة، إن لم يكن في الحالية. وتفصيلُ هذا الأمر يقتضي دراسة معمَّقة خاصة.

            ما قدمته ينطبق على الناس جميعًا ممن خرجوا عن جوهر أديانهم فتاجروا بها، ووفقوا فيها بين الدنيا والله ولم يطبقوا منها إلا طقوسًا وشعائر لا تمت إلى الجوهر بصلة. لكنه ينطبق خصوصًا على المسيحيين المُنحرفين عن تعاليم سيد المجد في حال استنطاقنا الدلالات القرآنية. فالنصارى (وكذلك اليهود) كانوا يستعلون على غيرهم من المؤمنين مُدَّعين أنهم مختارو الله، وقد سلَّطهم على سائر الأمم. فإذا الآياتُ القرآنية تكذبهم لانحرافهم عن جوهر تعاليمهم الروحيَّة. مما ورد في ذلك: (وقالت اليهود والنصارى: نحن أبناء الله وأحباؤه. قل: فلم يعذبكم بذنوبكم؟ بل أنتم بشر ممن خلق، يغفر لمن يشاءُ، ويعذب من يشاء. ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير) (المائدة 18)؛ كذلك (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظًا مما ذكروا به، فأعرينا بينهم العداوةَ والبغضاء إلى يوم القيامة. وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون) (المائدة 14). وفي هذه الآية نبوءة للانشقاقات والحروب التي ستحدث بين المسيحيين، لا سيما بين الكثلكة والبروتستانتية، بدءًا من القرن السادس عشر.

            وإذا كان القرآن الكريم يؤثر النصارى على اليهود في مقارنته بين الملَّتين (المائدة 82), فإنه يحملُ على كثيرين من الأحبار والرهبان المسيحيين الذين استغلّوا الرهبانية التي أرادها الله طريقًا للظفر برضوانه، فحولوها للاتجاه بالدين والفُسق، وجعلوا يبتزون أموال الناس كانزين الفضة والذهب ومُسخِّرين الدين والمؤمنين لمصالحهم الخاصة: (ثم قفينا على آثارهم برُسلنا، وقفينا بعيسى ابن مريم، وآتيناه الإنجيل، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفةً ورحمةً ورهبانيةً ابتدعوها، ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، فما رعوها حقَّ رعايتها، فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم، وكثيرٌ منهم فاسقون) (الحديد 26)؛ إن كثيرًا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله، والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، فبشرهم بعذاب أليم) (التوبة 34).

            فضلاً عن فضح القرآن الكريم سلوك كثيرين من رعاة الكنيسة الشائن، فإنه حمل على تحريفهم التعاليم المسيحية الأصلية في عدة أمور اختلقوها وأدخلوها في العقيدة لأنها كانت تلائمُ الظروف السياسية والدينية في الإمبراطورية الرومانية الوثنية قبل ضعفها وتجزيئها من جهة، وتلائمهم مقويةً نفوذهم ورافعةً من شأنهم تجاه رعاياهم من جهة أخرى (وقد أوضحتُ ذلك في حلقة سابقة).

            أولاً، مُخالفةُ الزاعمين بأن المسيحَ هو الله عز وجل (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم. وقال المسيحُ: يا بني إسرائيل، اعبدوا الله ربي وربكم؛ إنه من يشركُ بالله فقد حرم الله عليه الجنَّة، ومأواهُ النارُ، وما للظالمين من أنصار) (المائدة 72).

            ثانيًا، مُخالفة القرآن القائلين بأن الله تعالى أقنوم من أصل ثلاثة أقانيم متساوية (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالثُ ثلاثة، وما من إلهٍ إلا إله واحد...) (المادئة 73). وكذلك (يا أهل الكتاب، لا تغلوا في دينكم، ولا تقولوا على الله إلا الحق؛ إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه؛ فآمنوا بالله ورسُله، ولا تقولوا ثلاثة؛ انتهوا خيرًا لكم. إنما االله إله واحدًا سبحانه أن يكون له ولدٌ، له ما في السموات وما في الأرض، وكفى بالله وكيلا) (النساء 171). وبهذا المفهوم القرآني الذي يجعل المسيح "روحًا من الله" تفهم الداهشية بنوة المسيح، لكنها ترفض المساواة بين المسيح والله تعالى.

            ثالثًا، مخالفة القرآن قول المسيحية إن المسيح ابن مريم صلب (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، وما قتلوه وما صلبوه، ولكن شبه لهم. وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه، ما لهم به من علم إلا أتباع الظن، وما قتلوه يقينا) (النساء 157). وقد أتيح لي أن أوضح، في محاضرةٍ ألقيتها في الجامعة الأمريكية ببيروت (12 أيار 1970 حقيقة الأمر، مدعومة بالبرهان المادي الملموس؛ فإنني، شأن كثيرين من الداهشيين، تأكد لي وجودُ ست شخصيات لمؤسس الداهشية؛ أي ستة امتدادات روحية كائنة في عوالم علوية كانت تتجسَّد أحيانًا فُرادى أو مُجتمعة، في مكان واحد أو في أمكنة مختلفة، في وقت واحد، أو أزمنة مختلفة، إذ ليس للمكان ولا للزمان سلطة عليها؛ فنجالسها ونؤاكلها ونحادثها دقائق أو ساعات، ثم تختفي من بيننا فجأة عائدةً إلى عوالمها العلوية؛ وكثيرًا ما تترك آثارًا باقية، كرسائل روحية مُوحاة أو غيرها. وفي أثناء حملة الاضطهاد التي شنَّها الرئيس اللبناني الأسبق بشاره الخوري على مؤسس الداهشية، قامت إحدى شخصياته العلوية بتضحية افتداءٍ للداهشيين الذين كان أبرزهم ما يزالون في السجون مُعرضين للقتل، بينهم الأدبية والفنانةُ الكبيرة ماري حداد (شقيقة زوجة الرئيس الخوري)، فتجسَّدت الشخصيةُ في آذربيجان في إيران والثورةُ فيها قائمة، فقبض عليها وأُعدِمَتْ بالرصاص (1/7/1947). وصدر عن السفارة الإيرانية بيان رسمي بمصرع الدكتور داهش، ونُشرت صورُ مصرعه في الصحف. وهذا الأمر طمأن الرئيس اللبناني بأن مؤسس الداهشية قد قتل. مثيلُ هذه الشخصيَّة العلوية هو ما صلب للسيد المسيح. ولذا قال القرآن (وما قتلوه وما صلبوه، لكن شبه لهم)، لأنَّ ما تجسَّد وصُلِب هو شبهُه تمامًا ولأن التجسّد هو تجسّد كائنٍ من عالم لا يخضعُ لقانون الموت الأرضي، فقد قام المسيحُ من الموت مثلما قام الدكتور داهش من الموت. وهذا القضية تحتاج تفصيلاً لا مجال له في هذا البحث.

            رابعًا، دحضُ شفاعات القديسيين الذين ملأت الكثلكة كنائسها بأيقوناتهم، واستثمرت سذاجة المؤمنين ببيعهم ذخائر لهم وهمية (واتقوا يومًا لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا، ولا يُقبل منها شفاعةٌ ولا يؤخذ منها عدل، ولا هم ينصرون) (البقرة 48)؛ كذلك (الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما... ما لكم من دونه من وليّ ولا شفيع، أفلا تتذكَّرون) (السجدة 4).

            إن عقاب المسيحيين على انحرافهم سلوكًا وعقيدة تنبَّه له حتى علماءُ الدين المسيحيون. حسبي أن أذكر منهم الأستاذ جورج بوش (شقيق الجد الأكبر للرئيس الأميركي)، إذ إنه بالرغم من عدم إيمانه بالوحي الإسلامي، حار في تعليل الفتوح المُذهلة بسرعتها وامتدادها التي حقَّقها الإسلام، فقال: "إن ما حقَّقه بني الإسلام لا يمكن تفسيره إلا بأن الله كان يخصّه برعايةٍ خاصة؛ فالنجاح الذي حقَّقه محمد لا يتناسب مع إمكاناته، ولا يمكن تفسيره بحسابات بشرية معقولة؛ لا مناصَ إذًا من القول إنه كان يعمل في ظلّ حماية الله ورعايته". ذلك بأن أحداث العالم داخلة في قدرة الله وعنايته، والمسيحيين بانحرافهم الشديد، وجبت معاقبتهم مُعاقبةً صارمة.

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.