أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

السببيَّة الروحية في مجرى الأحداث العامة (7)

المسيحيَّة: من الاقتداء الحيّ بحياة المسيح إلى بدايات الانحراف

بقلم الدكتور غازي براكس

المسيحية في حياتها المثالية

إن الاقتداء الحيّ بسلوك المعلم العظيم ومواقفه، سواءٌ في حياة المسيحيين الأوائل أو في مواجهتهم فنون التعذيب والموت بإيمان راسخ ورباطة جأش، كان أساس خلقية المسيحيين وثقافتهم، بصورةٍ عامة، في الحقبة الأولى التي امتدت ثلاثة قرون. وكان لهذا الاقتداء دعامتان: دعامةُ الحياة ودعامةُ الموت.

أما قوامُ الأولى فكان حياة السيد المسيح المثالية التي أحيتها النزعاتُ السامية والاتجاهاتُ النبيلةُ الصادرة عن تعلقٍ شديد بالحق والخير والمحبة والسلام وما يصدر عنها من قيمٍ روحية. فالمسيحيون، بصورةٍ عامة، ظلوا حوالى ثلاثة قرون يستلهمون سيرته؛ فأنشأوا في كثيرٍ من بلدان العالم متحداتٍ فاضلة كانت أشبه بالجزر السعيدة في بحارٍ تتلاطم فيها أمواج الشرور والأطماع والمظالم والمفاسد. لقد كانوا يحرصون على أن يعيشوا حياة متواضعة بسيطة صالحة تنشد الكمال الخلقي الذي رسمه سيد المجد غايةٌ لهم. ونجحوا في تحقيق ذلك إلى حد بعيد، بعد أن أخفقت المحاولات الفلسفية, ولا سيما الرواقية، في ترقية أخلاق الشعب، إلا في أوساطٍ قليلة.

لقد حافظوا على سمعتهم الطيبة بين الوثنيين واليهود، فامتنعوا عن قصد الملاهي الإباحية، وكذلك عن حضور الألعاب الهمجية الدموية؛ وعاش كثيرون منهم حياة تبتُّل مُقتدين بمعلمهم العظيم وببولس الرسول من بعده، واشتهروا بعطفهم على البائسين والمحرومين واليائسين ومساعدتهم لهم. وبينما كان الوثنيون يئدون أطفالهم، أحيانًا كثيرة، كانوا هم يهتمون بتربية اللقطاء والحدب عليهم.

وكان لهم نظامٌ اجتماعي واقتصادي فاضل وعادل؛ فأسرهم كانت متَّحدة الأواصر، يشيعُ الوفاء والإخلاص والثقة والطمأنينة بين أفرادها.

وقد ساعدهم على صيانة المستوى الخلقي الراقي تجنبهم الزواج بغير مسيحيات أو مسيحيين. كذلك كانوا يحلّون مشكلاتهم فيما بينهم، ويحترم بعضهم بعضًا مثلما يحترمون رعاتهم والمقدمين فيهم الذين كانت حياتهم قدوةً صالحة لهم. وكانت كل جماعة قد أنشأت صندوقًا ماليًا مشتركًا لها، يستعينون به على المحتاجين فيهم، وعلى إغاثةِ البؤساء والمنكوبين حتى من الوثنيين. ومع ذلك لم يكونوا يزجون بأنفسهم في الصراعات السياسية والعسكرية القائمة في بلدانهم.

   أما النساءُ المسيحيات فكن يحافظون على عفافهن وتواضعهن وطاعتهن لأزواجهن أو آبائهن، مثلما يحافظن على جمالهن الطبيعي بالامتناع عن التبرج الذي أخذت به الوثنيات. وقد تشكلت جمعيات من الأخوات العازبات تهتمُ بأعمال الإحسان والصدقات والرحمة. ولا شك في أن تلك الحياة الراقية لم تكن لتتحقق لهم رجالاً ونساءً لولا إيمانهم الوطيد بمصدر دينهم السماوي المثبَّت بالمُعجزات التي صنعها السيد المسيح بالقوة الروحية التي زوِّد بها، ولولا إيمانهم الراسخ برقابة الله لأعمالهم وأفكارهم، وانتظارهم الحسابَ ثوابًا أو عقابًا.

   أما دعامة الموت فقد استمدّت قوتها ومعناها من موت المسيح وقيامته وفق ما عرفهما وآمن بهما المسيحيون الأوائل. فتعزيزًا لإيمانهم بقيامة الموتى، وتسهيلاً لانتشار المسيحية، شاءت الحكمة الإلهية أن لا يعرفوا بـ"شخصيات" السيد المسيح التي يمكن أن تهبط من عوالها الفردوسية وتتَّخذ شبهة (أنظر "نشأة المسيحية" في العدد السابق)، بل أن يؤمنوا بأن يسوع نفسه هو الذي مات على الصليب فداءً عنهم؛ فعليهم، إذًا، أن يموتوا من أجله إذا اضطرهم المُضطهدون إلى ذلك، أو إذا خيروهم بين الموت أو نبذ إيمانهم. واستشهادهم يجب أن يقترن بابتهاجهم، لأن القيامة ستعقبه، ولأنه سيفتح أمامهم أبواب السعادة الأبدية.

وبالرغم من الاضطهادات، المتواصلة حينًا والمتقطعة أحيانًا، التي عاناها المسيحيون منذ عهد نيرون (سنة 64م)حتىى قيام قسطنطين الكبير إمبراطورًا أوحد للدولة الرومانية سنة 324، بعد أن كانت سلطتُه مقتصرة على الغرب منذ سنة 313، فإنهم استطاعوا أن يضعوا، في عالمٍ أرهقته القوة الوحشية والظلمُ والطمعُ والفجور، أسس ثقافة جديدة قوامها حياةٌ خُلقية راقية نُسغُها المحبة والفضيلة، وجناحاها نظرةٌ إلى الحياة ترى فيها الدنيا مقر شقاء وفناء ومعبرًا إلى الآخرة، ونظرة إلى الموت ترى فيه يقظةً في عالم السعادة الأبدية.

   وكان من مظاهر هذه الثقافة أدبٌ ديني مسيحي يدورُ معظمه حول تعظيم الإيمان وتمجيد الله والقيم السامية وإيضاح أُسس الدين الجديد ومبادئه. ففي القرن الأول وضع بولس الرسول أُسُسَ الفكر المسيحي في رسائله إلى جميع الكنائس الناشئة، مظهرًا أنه تتمَّة وتخط لمفاهيم العدالة والفضيلة لدى أفلاطون- من غير أن يسمى مصدرها وفق ما أجمع الباحثون اللاهوتيون عليه – التي كانت تعمُّ العالم الروماني المُثقف. وفي القرن الثاني ظهر عدة لاهوتيين لعل جاستن مار Justin Martyr (نحو 100 – نحو 165) كان أبرزهم، فحاول التوفيق بين الفكر المسيحي، وخصوصًا وفق ما أظهره بولس الرسول، والفكر الأفلاطوني؛ حتى إنه اعتبر أن أفلاطون، كما إبراهيم وسقراط، "كان مسيحيًا قبل المسيح". أما في القرن الثالث فقد برز جيل من المفكرين المسيحيين الذين أظهروا غاية الجرأة في دفاعهم عن دين المحبَّة والحقّ والروحانية ضد المفكرين والفلاسفة الذين كانوا يطعنون فيه ويسخرون من مؤسسة وتعاليمه وأتباعه. وقد حاول المفكرون المسيحيون أن يظهروا تفوق الفكر المسيحي على الفكر الفلسفي اليوناني المادي بإيضاحهم أنه ينطوي على أفضل ما في الفلسفة الأفلاطونية من جوانب الخير والحق والعدل، فضلاً عن أنه فكر حي فاعل في حياة المسيحيين. وكان أبرز أولئك المفكرين على الإطلاق أوريجينوس    Origen (نحو 185 – نحو 254)، أكبر آباء الكنيسة المسيحية بعد بولس الرسول، ومعلم المسيحية الأول في عصره. فقد كان متزاهدًا، متقشفًا، كثير الصوم، قليل النوم، متعففًا. وقد جعل الفلسفة المسيحية تتمَّة وتجاوزًا للفلسفة الأفلاطونية؛ فرأى أن الله هو الجوهر الروحي الأصلي للخلائق جميعًا، وأن المسيح هو القوة الكونية التي خلقها الله ليجعلها العقل المُنظِّم المدبِّر للعالم؛ كذلك آمن بوجود النفوس قبل الولادة، وبالتقمص، وبالعوالم الكثيرة المتراتبة التي تجتازها النفوس قبل حصولها على السعادة الأبدية.

وهكذا ما إن نبلغُ أواخر القرن الثالث حتى تكون الحضارة المسيحية قد احتوت وورثت أفضل ما أطلعته الحضارة اليونانية الرومانية من قيم ومُثل عليا، وأضحت صرحًا شامخًا. وكان فضلُ أولئك المنافحين عن العقيدة المسيحية أنهم أعلوا أصواتهم في الدفاع عنها في أقسى مراحل اضطهادها.

جميع العوامل السابقة – إيمان المسيحيين الراسخ بعقيدتهم المبنية على خلود النفس والحياة الأبدية، والمعجزات الصحيحة، والخلقية العالية والسيرة النقية في أوساط تعج بالمفاسد والإغراءات، وكذلك عامل اتحادهم ونظامهم في مؤسسات دينية مطردة القوة ومستقلة في قلب الإمبراطورية الرومانية، فضلاً عن إيمانهم بعودة المسيح ونهاية العالم وعيش المؤمنين حياة سعيدة في "أورشليم جديدة" – كل ذلك يراه المؤرخ الإنكليزي الكبير إدوارد جيبون Gibbon E. أسبابًا قوية لتنامي المسيحية في القرون الثلاثة الأولى.

لكن هذا الجانب الإيجابي في المسيحية عززه أيضًا جانب سلبي في الدولة الرومانية. فعلى حد قول المؤرخ الكبير ديورانت Durant : "إن المسيحية قد تنامت ذلك التنامي الحثيث لأن روما كانت، عصرئذٍ، في دور الاحتضار. فالناس لم يفقدوا إيمانهم بالدولة لأن المسيحية أبعدت عواطفهم عنها، بل فقدوه لأن الدولة كانت تناصر الأثرياء على الفقراء، وتحارب لتستولي على العبيد، وتفرضُ الضرائب على الكادحين لتُعين المترفين، وكذلك لأنها عجزت عن حماية الشعب من المجاعات والأوبئة والغزو الأجنبي والفقرِ المدقع. فالناسُ لا يلامون، بعد ذلك، إذا تحولوا عن قيصر الداعي إلى الحرب إلى المسيح الداعي إلى السلام، وعن الوحشية التي يكادُ لا يصدقها العقل إلى الإحسان الذي لم يسبق له مثيل، وعن حياة خالية من الأمل والكرامة إلى دينٍ يؤاسيهم في فقرهم ويكرم إنسانيتهم".

   والحقيقة أن العوامل الايجابية والسلبية تدخل معًا في الخطة الإلهية التي ابتدأ تنفيذها بمولد المسيح واضطهاده من أجل أن تتمَّ عملية الفداء، ثم تتابعت بتقتيل الشعب الذي اضطهده وتشريده وتدمير موطنه وفق نظام شامل لا يخطئ للعدالة الإلهية والاستحقاق الروحي (أنظر الحلقة السابقة)، ثم استنمَّت الخطة الإلهية نفسها في تنامي المسيحية التدريجي مستمدة قوة انتشارها من عوامل ذاتية إيجابية وخارجية سلبية.

بدايات الانحراف سلوكيًا وعقائديًا

إن بذورَ انحراف المسيحية عن خطها القويم سلوكيًا وعقائديًا بدأت تزرع منذ القرن الأول. فبولس الرسول يلمح إلى "الإخوةِ الكذابين" في رسالته الثانية إلى أهل كورنُثس (11:26). وفي أواخر القرن الأول، يوضح يوحنا في رسالته الأولى أن روح المسيح الدجال أخذت تتغلغلُ في فئة من المسيحيين، وأن على المؤمنين الصادقين أن يحذروا روحه، لأنها في نفوس المنافقين من المسيحيين تعشش. يقول: "وكما إنكم سمعتم أن المسيح الدجال يأتي، بيننا الآن مسحاءُ دجَّالون كثيرون...

منا خرجوا، ولكنهم لم يكونوا منا..." (18:2)

   فالنفاقُ والجبانة والفتور والغرور والكبرياء والطمع والبخل والأنانية وحب التسلّط والنزعاتُ الشهوانية لم تمت في نفوس كثيرين، بل كانت مُهوِّمة حتى استيقظت ونشطت ونمت، مع كرور الزمن، بقدر ما غذتها النزعات والأفكار الدنيوية المُنحطة في الأوساط الوثنية. فما إن نبلغُ أواسط القرن الثالث الميلادي حتى يقول سيبريان Cyprian (نحو 200 – 258)، أحد أساقفة الكنيسة الإفريقية (قرطاجة)، مصورًا حال المسيحيين في بلاده: "كل واحدٍ يصرفُ همَّه إلى زيادة ثروته. والتقوى انعدمت لدى الكهنة، وفسد الإيمان، وزالت المحبة من الأعمال، وانتفت القواعد من الحياة الخلقية... فالنساء يتبرجن مُفسدات نقاء عيونهن التي أبدعها الله، وخاضبات شعورهن بأصباغ كاذبة. ومن أجل خداع القلوب البسيطة يلجأ إلى المكر والحيلة. فالمسيحيات يتزوجن بغير مسيحيين، والمسيحيون يقدمون المسيحيات، أعضاء المسيح، كالعاهرات إلى الوثنيين. ولا يكتفي المسيحيون بالقسم في كل مناسبة، بل يحلفون بالباطل أيضًا وهم لا يبدون إزاء رؤسائهم إلا كل ازدراء، وينفثون على القريب سمّ النميمة، ويجعلون الأحقاد تقسمهم شيعًا".

   كذلك تكاثرت البدع. فمنذ القرن الثاني نشأت بدع تدور حول شخص يسوع وطبيعته وعلاقته بالله، حتى إن إيرينيوسIreneaus أحصى، سنة 187، عشرين شيعةً مختلفة من المسيحيين. وما إن نصلُ إلى سنة 384 حتى يحصى إبيفانيوسEpiphanius ثمانين شيعة.

   ولا يكتفي سيبريان باتهام المسيحيين، لكنه يطعن أيضًا في سلوك الأساقفة زملائه الذين يعيشون في البذخ، ويحاولون التوفيق بين الله والعالم, والصلوات والشهوات، أمثال بولس السميساطي (260) الذي جمع إلى مهمته الأسقفية في إنطاكية وظيفة جابي الرسوم والضرائب، وكان من محظيي زنوبيا، ملكة تدمر.

   وبعد أن كان المسيحيون يتعاملون كإخوة، بدأت كنيسة روما تظهر نفسها كأخت كبرى لها الحق في أن تنصح أو تؤنب أخواتها الكنائس الأخرى في بداية القرن الثاني؛ حتى إذا أطل القرن الثالث بدأ أسقف روما باسمه الخاص يحرم الكنائس الأخرى التي تخالفه بالرأي مثلما حدث مع فتكور الأول (نحو 190 – 202) الذي حرم متفردًا كنائس آسيا الصغرى لاختلافها معه في ما يتعلق بالاحتفال بأحد الأعياد؛ فكان أول أسقف عرف بغطرسة شديدة وبآرائه الاستبداية. وقد أحذث موقفه انقسامًا في الكنيسة. وخلفه زفيرينس Zephyrinus (نحو 202 – نحو 217) الذي كان رجلاً ساذجًا غير مثقف؛ فرفع إلى رئاسة الشمامسة كالستُس Callistus، الذي كان مطعونًا في أخلاقه، إذ إنه بدأ حياته عبدًا، ثم صار من رجال المال والمصارف، واختلس الأموال المودعة عنده؛ فحكم عليه بالأشغال الشاقة، ثم أطلق سراحُه. كذلك أثار شغبًا في أحد المجامع الدينية، فحكم عليه بالأشغال الشاقة في مناجم سردينية؛ لكنه هرب منها بحيلة. ولما مات زفيرينس. اختير كالستُس أُسقفًا أول لكنيسة روما؛ فأعلن هيبوليتُس Hippolitus وغيره من القساوسة أنه لا يصلح لمنصبه، وأقاموا، سنة 218، كنيسة وبابوية غير كنيسته وبابويته. لكن كالستُس أعلن حرمان هيبوليتس، وثبت دعائم سلطة الكرسي الأسقفي الروماني على العالم المسيحي كله. وبذلك تحول اسم البابا من اسم فيه معنى الأبوة، كان يطلق على كل رجل دين مسيحي، إلى اسم يحمل معنى الرئاسة الاستبدادية المُطلقة. هذه الحال التي آلت إليها البابوية دفعت ترتليانوس Tertullianus(نحو 155 – نحو 222)، أحد مفكري المسيحية الكبار، إلى أن يطلق على البابا لقب "راعي الزناة" Pastor moechorum. والجدير بالذكر أنه قبل أن ينتصف القرن الثالث، كانت البابوية قد بلغت في مكانتها ومواردها المالية حدًا جعل الإمبراطور ديسيوس Decisu (249-251) يقسم أنه يفضل أن يكون في روما إمبراطور ثانٍ ينافسه على أن يكون فيها بابا. وحسدُه هذا للثروة البابوية وسلطتها الواسعة دفعه إلى إقرار أول اضطهاد منظم للمسيحيين؛ فأمر جميع المواطنين بتقديم ذبائح وثنية أمام مندوبين من الحكومة على أن يثبت ذلك في شهادات رسمية. وأدى هذا القرار إلى أن يفقد كثيرون من أساقفة روما وأورشليم وأنطاكيا حياتهم، وأن يعتقل كثيرون من المسيحيين. وسيعقب ذلك فترةُ رحمة إلهية تمتد من سنة 260 إلى 23 شباط 303 إذ يبدأ أسوأ اضطهاد عرفته المسيحية في تاريخها، ويستمر لغاية عام 313 ، وذلك طوال عهدي الإمبراطورين ديو كليسيان Diocletian وغاليريوس Galerius، بحيث نسي المسيحيون المعمرون واستصغروا كل اضطهاد سابق، لأن اضطهادهم منذ عهد نيرون كان متقطعًا وغير رسمي، ومتعلقًا بالظروف وبحاكم كل منطقة؟

عند هذا الحد لا يسعُ المتبصِّر بالسببية الروحية ونظام العدالة الإلهية والاستحقاق الروحي إلا أن يتساءل: ثرى، ألم يعاقب المسيحيون، وخصوصًا رعاتهم،أنفسهم، بانحرافهم عن السلوك المثالي والقيم الروحية التي فرضتها عقيدتهم السماوية، فجرُّوا عليهم ذلك الاضطهاد الرسمي الرهيب المُنظَّم، في عهد ديسبوس، ثم في عهدي ديو كليسيان وغاليريوس، لأنهم لم يتَّعظوا ولم يستفيدوا من رحمة الله مدة ثلاث وأربعين سنة؟

الإنحرافُ الكبير في المسيحية

 ألمعتُ آنفًا إلى أن اضطهاد المسيحيين العنيف استمر حتى سنة 313، ذلك بأن الإمبراطورين قسطنطين وليسينيوس Licinius (الذي كان متزوجًا قسطنطيا، شقيقة قسطنطين من غير أم)، اللذين كانا يتقاسمان حكم الإمبراطورية الرومانية، أصدرا في العام المذكور اتفاق ميلان Milan الخاص بالتسامح الديني. ونعرف من المؤرخين أن هيلانه، والدة قسطنطين، اعتنقت المسيحية، وكذلك قسطنطيا؛ ويبدو أن الأولى أثرت في ابنها، والثانية في زوجها إلى حد ما. ولم يكن رعاة المسيحيين يطمعون، في ذلك الحين، بأكثر من ذلك. وبالرغم من قلّة المسيحيين بالنسبة للوثنيين المقسمين إلى شيعٍ متعددة، فإن اتحاد معظمهم، وخصوصًا الخاضعين لبابا روما، وزرع  رعاتهم في نفوسهم واجب الطاعة للسلطات السياسية قد اجتذبا اهتمام قسطنطين، فاستفاد منهم لتعبئة اثني عشر فيلقًا لقتال مكسنتيوس وليسينيوس، مثلما استفاد من تأييد نظام كهنوتي له يُناسبُ نظام  الملكية المُطلقة السلطان. فدعا، عام 325، إلى مجمع مسكوني مسيحي (يحضره الأساقفة جميعًا) في مدينة نيقيا Nicea. لكن النقد التاريخي لشخصية قسطنطين وسلوكه يظهرُ أنه استخدم المسيحية وسيلةً لا غاية، وبذلك جرَّها إلى التحالف مع الدولة الرومانية، بالرغم من فساد طرقها، وانحراف سلوكه، وإلى إدخال "أسرار" وطقوس لم تكن أصلاً في الواقع التاريخي المسيحي ولا مذكورة في العهد الجديد؛ منها عقيدةُ التثليث (إله واحد في ثلاثة آلهة متساوية). وبعد هدنةٍ  بين الإمبراطورين، عاد القتالُ بينهما عام 324؛ وفي السنة نفسها التي انعقد فيها مجمعُ نيقيا قتلَ قسطنطين صهره بيديه خنقًا، بعد نفيه.

   يقولُ ديورانت: "اضطر قسطنطين إلى أن يتحسس كل خطوة  يخطوها بحذر، لأن الوثنية كانت ما تزال الغالبة على العالم الذي يعيش فيه. لذلك ظل يستخدم ألفاظًا توحيدية يرضى بها كل وثني؛ وقام، بصبرٍ وأناة، في خلال الأعوام الأولى من بدء سلطانه الأوحد ] 324[، بجميع المراسيم التي يقتضيها منه منصب الكاهن الأكبر Pontifex Maximus، والتي توجبها عليه الطقوس التقليدية، وجدَّد بناء الهياكل الوثنية، وأمر بممارسة أساليب العرافة، واستخدم في تدشين القسطنطينية شعائر وثنية ومسيحية معًا، واستعمل رقى سحرية وثنية لحماية المحاصيل وشفاء الأمراض".

أما رؤيا الصليب الذي زعم أنه رآه مُرتسمًا في السماء، في 27/10/312، في يوم انتصاره على مكسنتيوس، فقد سبقها، قبل ثلاثة أعوام، رؤيا أخرى ادعى أنه في أثنائها ظهر له الإله أبولون. فضلاً عن ذلك فقد بقي سطحي المعرفة بالدين المسيحي، بل متشككًا، إذ إنه لم يتقبل المعمودية إلا قبيل وفاته؛ وقد يكون قبلها بضغطٍ من أمه هيلانه وأخته قسطنطيا وبعض الأساقفة المقربين ليرضيهم. ومعظم المؤرخين الكبار يشكّون في صحة معموديته كشكِّهم في رؤيا الصليب، لأن روايتهما حصرت بأسقف واحد كان يؤرخ وثائق الكثلكة هو يوسيبيوس Euebius الذي عاصر قسطنطين وكان متملقًا له، ومتناقض الآراء وفق ما رآه المحلِّلون لكتبه التاريخية.

زد إلى ذلك أن سلوك قسطنطين لم يكن سلوك مسيحي مؤمن، بل هو سلوكٌ شائن حتى لدى مقارنته بسلوك الأباطرة الوثنيين الفلاسفة أمثال تراجان وهدريان وماركوس أوريليوس وغيرهم. فبعد تنصره المزعوم، قتل ابن مكسنتيوس وعدة أصدقاء وأعوان له، ثم حارب صهره ليسينيوس وانتهى بخنقه، وبعد عام واحد من ترؤس قسطنطين مجمع نيقيا (326)، قتل ابنه كريسيوس وأمر بقتل فوستا، زوجته الثانية وابنة مكسيميان.

   وقد اتبع قسطنطين سياسة التوفيق بين الوثنية والمسيحية في معظم عهده: فقد شجع على بناء الكنائس كما شجع على تشييد الهياكل الوثنية؛ ومثلما نقش حرفي (XP) اليونانيين – وهما الحرفان الأولان من اسم المسيح باليونانية (خريستوس) على النقود، فقد نقش على الأوسمة صور جوبيتر وأبولون ومارس وهرقل. ومثلما كان يدخل الكنائس، فقد قبل أن يكرس باسمه هيكلٌ وثني وينصب فيه تمثال ذهبي له. وخلاصةُ القول إن قسطنطين الذي أرادت الكنيسةُ الكاثوليكية أن تجعله أعظم الحكام المسيحيين، والذي نصبته الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية قديسًا، لم يكن مسيحيًا لا في سلوكه ولا في عقيدته. وعهده الذي أنهى اضطهاد المسيحيين في الغرب، كان في الآن نفسه، بداية انحراف المسيحيين الكبير عقائديًا ومسلكيًا، وبداية انحطاط الكنيسة المسيحية بصفتها قوة منظمة يجب أن تكون نقية الإيمان وقويمة العقيدة والسيرة، كما كان عهدهُ نذير شؤمٍ لانحلال روما القريب وتفككها.

   

وقصارى القول، وفق ما ذهب إليه ديورانت، "أن الرهبنة المسيحية قامت احتجاجًا على توفيق المسيحيين بين الروح والجسد، ذلك بأن قلائل من المسيحيين كانوا يرغبون في الابتعاد عن طاعة أية شهوة بشرية ناشدين الاستمرار في سلوك الطريق المسيحي القديم ومتأملين في الحياة الأبدية الخالدة" فقامت، أولاً، حركة الزهد الفردي وانتشرت الحياة المتقشفة المعتزلة حتى كثر النساكُ على الضفة الشرقية من النيل؛ فجمعهم باخوميوسPachomius الذي كان حنكةٍ إدارية، عام 325، في رهبنة جماعية بدير عند طابين في مصر. لكن السلطة الكنسية قاومت حركة الرهبنة وقتًا ما، ثم رضيت بها، أخيرًا لتوازن بها اهتمامها وفي شؤون الحكم. ولما مات باخوميوس، كان قد أسس 11 ديرًا احتوت على أكثر من 7000 راهب وراهبة. وكان ذلك أول عمل واقعي جماعي يشهدُ على انحراف المسيحية عن القيم الروحية الأصلية ويدين رجال الدين فيها.

ولم يقف الانحرافُ عند الخلقية والسلوك العامّ، فقد أقيم كثيرون من الشهداء وغير الشهداء قديسين، ونصبوا شفعاء لدى الله، وبدأ ادخارُ بقاياهم، بعد أن كان يكتفى بتكريم الشهداء في القرون الثلاثة الأولى، وصنعت صورٌ وأيقونات لهم لعبادتها. ووضعت عدة تواريخ كاذبة لاحتفالات ومناسبات دينية، لعل أهمها يوم 25 كانون الأول (ديسمبر) تاريخًا لميلاد السيد المسيح؛ علمًا بأن هذا التاريخ كان مخصصًا عند الرومان للاحتفال بمنتصف الشتاء وانقلاب الشمس، وفي إيران للاحتفال بالإله ميترا، شمس الاستقامة. وفي الواقع التاريخي لم يكن معروفًا تاريخ ميلاد المسيح بدقّة، لكن الأناجيل تُشيرُ إلى أن رعاة كانوا ينامون في الفلاة ويتناوبون السهر على قطعانهم (لوقا: 8:2) يومً مولده؛ وفي ذلك إشارة واضحة إلى أواسط الربيع أو أواخره.

كذلك بدأت المحاكمات يتلوها الاضطهاد لكل فئة مخالفة بالرأي في تفسير أي جانب من العقيدة  التي أقرها مجمع نيقيا وما تبعه من مجامع. فحوكمت، في مجمع نيقيا نفسه، الآريوسية (نسبة إلى آريوس Arius، أسقف الإسكندرية) القائلة بوحدانية الله وتفرده بوجوده الأزلي الأبدي وثباته في عدم تغيره، وبأن السيد المسيح غير مساوٍ لله، واعتبرت هرطقة، ونفي القائلون بها وحوربت عقيدتهم. ذلك بالرغم من أن الأناجيل خالية من أي دليل يثبت أن يسوع المسيح مساوٍ لله عز وجل. فحينما كان يسوع في جبل الزيتون يصلي، قُبيل القبض عليه، قال مخاطبًا الله تعالى: "يا أبي، إن شئت، فأبعد عني هذه الكأس؛ ولكن لتكن مشيئتك لا مشيئتي" (لوقا 42:22) . وقبل أن يلفظ أنفاسه وهو على الصليب، قال: " إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟ " ( متّى 27:46). فمن العبارتين السابقتين نستخلص بوضوح أن إرادة الله منفصلة عن إرادة يسوع، وأن الله هو إلهه. وإذا قال السيد المسيح لفيلبس: "ألا تؤمن بأني في الآب وأن الآب فيَّ؟ (يوحنا 10:14) فإنه قال وهو ما يزالُ في الموقف نفسه: "لن أترككم يتامى، بل أرجعُ إليكم... وفي ذلك اليوم تعرفون أني في أبي، وأنكم أنتم فيَّ مثلما أنا فيكم" (يوحنا 20:14). إنه الانتماءُ في الجوهر الروحي والتكامُل. كذلك قال يسوع: "أنا ذاهبٌ وسأرجعُ إليكم، فإن كنتم تحبونني فرحتم بأني ذاهبٌ إلى الآب، لأن الآب أعظم مني" (يوحنا 28:14)؛ وفي هذا القول برهانٌ قاطع على عدم المساواةِ  بين السيد المسيح والله عزّ وجل. وبعد قيامه المسيح من الموت وترائيه لمريم قال لها: "لا تلمسيني، لأني ما صعدتُ بعدُ إلى الأب، بل اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم: "أنا صاعدٌ إلى أبي وأبيكم، إلهي وإلهكم" (يوحنا 17:20) ؛ فساوى في أبوة الله والخضوع له بينه وبينهم. أما قولُ يوحنا في بداية أنجيله؛ "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله" فإنما هو محصور في الأزل، حينما كانت الأرواحُ كلها في ذات الله، قبل أن يبدأ التكوينُ المادي. وهكذا نرى أن الآريوسية كانت على صوابٍ في عقيدتها، وأن كنيسة روما التي ستعرفُ بالكنيسة الكاثوليكية كانت منحرفة، لأن الحقيقة الروحية هجرتها، بعد أن انحرفت في سلوكها وقيمها التي أصبحت تساوي قيم الحكام الدنيويين.

كذلك اضطهد نسطوريوس Nestorius، اُسقفُ القسطنطينية، مؤسس النسطورية، لأنه رأى في الإيمان الكاثوليكي " بأن "مريم العذراء هي أم الله" انحرافًا عن الحقيقة المسيحية الأصلية؛ فحرم من الكنيسة في مجمع أفسس سنة 431، ونفي. وفضلاً عن محاربة فرق دينية كثيرة اختلفت مع الكثلكة في تفسير بعض الجوانب العقائدية، حُرِّمت كتب اللاهوتي العظيم أوريجينوس وأتلفت.

وما إن نصل إلى عام 391 حتى يحرق الكهنة في الإسكندرية مكتبتها المحتوية على التراث الثقافي الإنساني العظيم، ولا سيما التراث اليوناني، بحجَّة أنها تعلّم الوثنية؛ وعام 415 تُقتل هيباتيا Hypatia، مديرةُ المكتبة، ورئيسةُ مدرستها التي كان يقصدها أبناء الأثرياء والموظفين الكبار في الإسكندرية، فضلاً عن الفلاسفة أنفسهم من جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية، ليسمعوها تتحدّث عن الأفلاطونية الجديدة وعن أفلاطون. وكانت توصف بالتسامح الديني وتدافعُ عن تلاميذها من المسيحيين، وتمتاز بالحشمة الكاملة والتعفُّف التامّ حتى آخر حياتها. وصفاتها تلك مع بلاغتها وجمالها الرائع وجمعها علم الفلك والرياضيات إلى الفلسفة دفع بعض المؤرخين إلى أن يقولوا فيها: "إنها روح أفلاطون تجسدت في جسم أفروديت". ولم يكتف سيريل Cyril، بطريركُ الإسكندرية، بدفع غوغائه إلى قتلها غيظًا وحسدًا، بل قطعوا جثتها وجرَّروها في الشوارع، ثم أحرقوها! وبقتلها وإحراق مكتبة الإسكندرية خسر العالم المتحضّر إرثًا ثقافيَّا لا يقدر، وبدأت عصور الظلام تخيّم على أوروبا.

إن الواقع التاريخي يبرهن أن الحياة المسيحية جعلت تتغير تدريجيًا بمجرّد أن المؤسسات الكنسية أخذت تقوى وتعظم سلطاتها على رعاياها. وبعد تحالف السلطة الكنسية مع السلطة السياسية، بدأت دلائل الانحدار الروحي تشتد: فالاهتمامُ بتكديس الثروة وحب التسلط والجاه ومحالفة الأغنياء والنافذين واللامبالاة بالضعفاء والفقراء، علاوة على القمع العنيف لكل حركةٍ مخالفة بالرأي للبابوية – كل ذلك كان يظهر أكثر فأكثر في السلطة الكنسية. هذه البذور الفاسدة التي زرعها المسيحيون عامّة ورعاتهم خاصّة في القرن الثالث ولا سيما الرابع سرعان ما سيحصدون جناها.

في العدد المقبلأى

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.