أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

أبعادُ العدالة لدى مؤسس الداهشية(3)

                                 بقلم الدكتور غازي براكس

 العدالة بين الشعوب

بدأتُ، في العددين السابقين من "صوت داهش"، بإبراز نظام العدالة الإلهية الشامل الذي بُنيت عليه أبعادُ العدالة كلها في المفهوم الداهشي؛ وبعده تناولتُ العدالةَ في التعامل بين الناس مبينًا أبرز أوجُهها أي عدالة التعاطي بين الرجل والمرأة، وبين رُعاة الدين والمؤمنين، وبين المستثمرين والزبائن؛ بعدئذٍ عالجتُ العدالة في الحكم موضحًا رأي مؤسسٍ الداهشية في الأنظمة السياسية، وفي سلطات الحكم الثلاث، وأعطيتُ نموذجًا مُعاصرًا للحاكم الفاضل، ثم أوضحتُ واجباتِ السلطات العادلة تجاه الشعب، ورأي الدكتور داهش في أساليب العقوبة كما في ضرورة الثورة على الحكام الفاسدين. أما في هذا العدد فسأتناولُ المفهومَ الداهشي للعدالة بين الشعوب، وبه أختمُ أبعاد العدالة لدى مؤسس الداهشية.

 

الحروب: أسبابها وعواقبها الوخيمة

تطبيقُ العدالة، في رأي الدكتور داهش، يجب ألا يقتصر على العلاقات القائمة بين السلطة الحاكمة والمواطنين في دولةٍ ما، بل يجبُ أن يسود العلاقات بين الدول، فلا يبقى في العالم شعوبٌ مسيطرة مستعمرة وشعوبٌ مسودة مستعمرة. وفي كتابات مؤسس الداهشية كثيرةٌ هي الإشاراتُ إلى الكوارث والويلات التي تتمخض بها الحروب. ومآسي الحرب العالمية الثانية يجدُها القارئ منتثرةً في قطعه الوجدانية، بدءًا من مطلع عام 1941. ففي "استقبال عام 1942" يقول:

لقد جال الحديدُ في العام الماضي،            

فهدم البنيان ودك أسس العمران،

وأطلق شياطينه المرعبة تفتكُ بأشلاء الإنسان!..    

وبين هذا وذاك كنتَ تسمع أنينَ البائسين.

وصراخَ الثكالى والميتمين...                 

والحرب الهدامة تضحك من هذا،

وتقهقهُ من ذاك...

ولهيبها الجهنمي يزدادُ استعارًا...1                   

وفي "استقبال عام 1945"2 يتعجب من رجال الحرب وهم "يمثلون ويرقصون" على أنقاض عالم مهدّم فقد فيه الأمن، وقامت في كل بيتٍ مناحة، وعم الشقاء، وتصاعد عويلُ الثواكل إلى أبراج السماء، وهيمن البؤس والهلع...

وأسبابُ الحروب، في رأي الدكتور داهش، تعودُ جميعها، في نهاية التحليل، إلى المطامع الأشعبية، مهما حاول القادةُ أن يموهوها بإلباسها شعاراتٍ وغاياتٍ شريفة3. والتاريخُ يؤكد رأيه. فالحروبُ الصليبيةُ نفسها كانت تعبئ وتحركُ جنودها المغانُم المنتظرة. حتى مجاري العنجهية العنصرية أو العقائدية تصبُّ في مطمع الاستيلاء على مزيدٍ من الأراضي والمغانم. وأبرزُ مثل لذلك ادعاء هتلر أنه أشعل الحرب العالمية الثانية دفاعًا "عن الحق الصريع... وعن العدالة المهيضة الجناح"، في حين أن الحقيقة العارية أعلنها بقوله أيضًا "إنه لا يقبل أن يسام الشعبُ الألماني عذاب الحرمان في مجاله الحيوي... وإنه لن يرضخ لما تريد بريطانيا فرضه من السيطرة على العالم وحصولها على حصة الأسد".

   لكن دافع المطامع قد يتعزز أحيانًا بردةِ فعلٍ انتقامية، ذلك بأن، لكل شعبٍ نفسية أو سيكولوجية خاصة تحدّدها عدة عوامل، منها التاريخية والحضارية والبيولوجية والبيئوية. وهذا ما حدث للشعب الألماني في نهضته السريعة بعد الحرب العالمية الأولى، وإيقاده الحرب العالمية الثانية. يقول الدكتور داهش موضحًا هذا الأمر بلسان جلبرت، أحد أبطال قصته:

   إن الأمة الخاسرة تحمل في نفسها حقدًا هائلاً، وتصبرُ على جرحها المُميت كالأسد الجريح. وتمضي الأعوامُ وهي تنتظر الفرصة المؤاتية كي تنقض على الدولة التي أصابت منها مقتلاً؛ تلك الدولة التي أذلتها في كبريائها، وحطمت من عنفوانها، وهزأت بها أمام الدول الأخرى. وعندما تدقُ الساعة، تَثِبُ وثبةَ الأسد الصحيح المعافى، وتعمل أنيابها القاطعة وبراثنها الحادة في جسد الدولة التي أذلتها، فتقطع أوصالها، وتسكر من خمرة دمائها. وهكذا تعود فتثأرُ لما أصابها منذ أعوام، طالت أم قصرت.

وتدورُ عجلة الدهر القُلَّب، فيرتفع ميزانُ القدر، فتعودُ هذه الدولةُ للانتقام والثأر؛ وهكذا دواليك.

   ويكاد يكون مستحيلاً إقناعُ شعبٍ مقهورٍ مدحور باعتناق مبدأ السلام والتخلي عن العنف، ومصالحة حاضره مع ماضيه، لأن نفسية الشعب تبقى مطعونةً، مكبوتة الألم والشكوى حتى تحين الفرصة التي تسمحُ بالتفريج عما كان مكبوتًا، فيكونُ رد العنف بالعنف، والحرب بالحرب، لأن الماضي الجريح الطعين يبقى ماثلاً في الحاضر.

الاستعمارُ وضرورةُ مقاومة مظالمه

   أبرز مؤسس الداهشية مظالم الاستعمار ومساوئه في معرض حديثه عن غطرسة الإنكليز في الهند ومصر.

   فمن أمثلة المظالم التي انطوى عليها تطبيقث القانون الإنكليزي على الهنود: منعهم من ركوب الدرجة الأولى في القطارات، ومنعهم من رد الاعتداء وحماية النفس، وضياعُ حقهم في كل قضيةٍ بين هندي وإنكليزي، وسجنُ الأبرياء وقتلهم لأنهم هنود، وسلبت الشعب من كل حرية حقيقية؛ وعلى الصعيد الاقتصادي، تحطم الصناعات اليدوية الحيوية كالغزل والنسيج، وتمخص ذلك بالمجاعات؛ إذ كان ملايين الهود يغزلون وينسجون في أكواخهم، ويعتاشون من الصناعات الصغيرة قبل احتلال الإنكليز لأرضهم. وقد زاد مصيبتهم هذه ألمًا أن كثيرين من سكان المدن الهنود تحولوا إلى سماسرة وعُملاء للإنكليز الذين كانوا يمتصون دماء الجماهير الضعيفة8

أما مصر فقد شهدت أيضًا من غطرسة الإنكليز ما شهدته الهند. والدكتور داهش سلط الضوء في مرحلة احتلالهم لمصر، على حادثة مصرع  سرْدار الجيش المصري وحاكم السودان العام، السير لي ستاك، وعلى ما تمخضت به من ذُيول تدمغُ الحكمَ الإنكليزي بوصمة الظلم المُستنكر. فقد اغتنم الإنكليزُ فرصة مقتل السردار (وقد يكونون وراءها)، فخرقوا الدستور المصري الذي ينص على أن ملك مصر هو القائد الأعلى للجيش، فعزلوا الضباط وفق هواهم، وأخرجوهم من السودان معتبرينه ملكًا لهم، ضاربين عُرضَ الحائط باتفاقية 1899، واحتلوا جمارك الاسكندرية، وأخذوا البريء بجريرة المذنب، حتى بدا وجههم في أبشعِ ما يكونُ من صلفٍ وتجبر واحتقار للشعوب9.

إن الظلم – سواءٌ أوقعه حاكمٌ وطني على مواطنيه أو حاكم أجنبي على شعبٍ مُستَغل أو مُستَعبد- يبقى منكرًا مقاومته واجبة، بل في رأي مؤسس الداهشية، "إن الشعب الذي يقبلُ مثل هذه المعاملة المهينة ولا يثور، هو شعبٌ ميت لا يستحق الحياة"

وثورةُ الشعب المُستَعبد على ظالمه هي حقٌّ مقدَّس تباركه السماء وتؤيده. يصفُ الدكتور داهش انتفاضة الهنود في بومباي وإحراقهم البضائع الأجنبية رمزًا لرفضهم سلطة الإنكليز بقوله:

   لكن مواكب إحراق البضائع الأجنبية استمرت، وجعل الهنودُ يجتمعون في الميادين العامة، ويشعلون النيران في الثياب والسلع الأجنبية، والأناشيد ترتفع إلى عنان السماء، والأضواءُ ينعكسُ نورها الأحمرُ على الوجوه والبيوت... وكأنما هو لون الغضب المقدَّس، الغضب الوطني، غضب الأمة التي سُلبت حقها، وديست كرامتها، وفُرض عليها الفقرُ والجوع.

وعلى أن مقاومة الغاصبين والمستعمرين، إن تكن ضرورية، في رأي مؤسس الداهشية، فالعنف لا يراه أفضلً وجوهها. وقد عرض أسلوبين للمقاومة في الهند ومصر.

   فالهند أتيح لها رجل روحاني عظيم استطاع بسمو نفسه، وثباته في جهاده، ونور عقله الصافي أن يحررها من ربقة المستعمرين، وذلك بسياسة العصيان المدني وعدم التعاون التي بثها في نفوس الهنود. لكن طريقة اللاعنف التي أراد المهاتما غاندي أن ينهجها الشعب، فيرد العنف باللاعنف، فلا يؤذي رجال الأمن أو الموظفين، بل يتحمل الإيذاءَ والإرهاق والإهانة بدون تذمّر، هذه الطريقة المثلى لم يقدر المجاهدون الهنود على اتباعها، لأنهم عجزوا عن إلجامِ جموح عواطفهم ونزواتهم والسيطرة على انفعالاتهم؛ الأمرُ الذي جعل غاندي يفرضُ الصوم على نفسه، "كعقوبةٍ للعنف الذي ارتكبه الشعب، وتطهيرًا لنفسه، وتقوية لروحه التي يجب أن تلاقي آلامًا أكثر ما دام الجهادُ هكذا محفوفًا بالعنف، وما دام المجاهدون غير قادرين على ضبط عواطفهم وتنفيذ مبدئهم".

   وقد أكبر الدكتور داهش موقف غاندي، وأجلَّ شخصه ومجَّده رافعًا إياه إلى مرتبة الإنسان الكامل الذي حقَّق سموه بإرادته الجبَّارة وجهاده لجواذب الدنيا ومغريات الجسد، فاستحق أن يكون مقاربًا للأنبياء.

   أما مصر فقد أتيح لها قائدٌ كبيرٌ استطاع أن يعالج الأمور بحنكةٍ ومرونةٍ وحكمةٍ هو سعد زغلول. فهو وإن لم يستطع أن يسمو بنفسه إلى المرتبة التي سما إليها قديسُ الهند، فإنه داناهُ في معالجته الحكيمة للأمور الشائكة. يخاطبُ مجلس الأمة، على أثر مصرع سردار الجيش وثوران عنجهية المندوب السامي البريطاني، فيقول:

"... أرجو الأمة جمعيها أن تدقق في الحالة الحاضرة تدقيقًا عميقًا، وأن تتأملها من كل وجوهها، وأن تحترس كل الاحتراس من الاندفاع وراء الأهواء والانفعالات التي لم تكن نتيجة تدبر في الحال وتأمل فيها، لأن الموقف دقيق جدًا، وأقل حركة طائشة تكلفنا أكلافًا باهظة. فعلينا أن نتذرع بالصبر، وأن نلزم جانب السكينة، وأن نثبت للناس أجمع أننا أمة حكيمة، تعرفُ كيف تضبط نفسها وقت الشدة، وكيف تلين لظروف وتشتد لظروفٍ أخرى، فنعرف العالم أجمع أننا عالمون بحقيقة موقفنا، وأننا نحاول أن نصل إلى غايتنا بوسائل الحكمة والرزانة، بالوسائل المشروعة، لا بوسائل الخفَّة والطيش... فالزمن أمامنا طويل، وحياةُ الأمم طويلةٌ، وإننا إذا لم نحصل على مقصدنا اليوم، فسنحصل عليه غدًا. ويجب أن نجعل دائمًا نصب أعيننا أن من الواجب علينا ألا نُمكن الخصوم منا، وألا نجعل لهم سلطانًا علينا ولو بظاهرٍ من الحق. ويجب علينا أن نجرِّدهم من كل سلاحٍ بالحقّ، وأن نسلح أنفسنا دائمًا بالحق وباللياقة...

الحرب... أكبر خدعة"

الشعب الذي لا يكون فيه رأي عام مستنير يمحص أعمال الحكام وقراراتهم، ويراقب تصرفاتهم، وينتقد أخطاءهم لا يمكن أن يستفيد من نعمة الحرية التي يكون راتعًا فيها. ولذلك يرى مؤسس الداهشية أن على العقلاء في كل قومٍ أن يحبطوا مساعي القادة والسادة لإيقاد الحرب، وذلك بمناقشة آرائهم الثورية. وفضح التمويه الذي يلبسونه شعاراتهم الوطنية التي يلهون بها نفوس الشبان ويغررون بهم دافعين اياهم إلى أتون الحروب. فالمغانم والمكاسب التي يحلم بها القادة من انتصارهم "لا تساوي قلامة ظفر أحقر جندي يسقط في معركة يشنها دون أن تحقق آماله بعد انتهاء الحرب ووضع أوزارها". وآمال كل جندي ومواطن تكون معلقة على وعودٍ عرقوبية يجود بها القادة عليهم لتخديرهم، من تأمين العدل والرفاهية والسعادة للشعب، وإعلاء الحق، وضمان الحريات والحقوق الإنسانية للعالم... فالحروب "أكبر خدةعة"، وهي "إثمٌ رهيب فادح لا يغفرُ الله لمن ارتكب جريمته".

فبعد أن تكون الحربُ قد حولت العمران إلى أنقاض، ويتَّمتِ الأطفال ورمَّلت النساء، ينتظر الشعب المرهق بالفقر والمآسي أن يحقق القادة وعودهم له، فإذا "الرخاء الذي أصبح لديه يقينًا لكثرة ما ردَّده الساسة على مسامعه، قد استحال إلى جوع جارف يحتل المدن والقرى، ويفتك بالعباد أكثر مما فتكت الحرب الجنونية بجيوشها اللجبة. ويبقى القوي قويًا يسيطرُ على الضعفاء كعهده السابق والغني يمكث متحكمًا بالفقير مثلما اعتاد قبل الحرب الضروس".

ويرى الدكتور داهش أن الشعارات والدعايات الكاذبة لم تتغير في جميع الحروب الحديثة. ولعل أكثرها تأثيرًا في الأعصاب ما يتعلقُ بالوطن والوطنية، وواجب الدفاع عن أرض الجدود المقدسة؛ فهي تعمي الشعب عن رؤية أي حق مقدس غير حقه هو. وهذه العصبية القومية العمياء إذا شُحنت بعصبيةٍ عقائدية سياسية أو دينية، حولتِ الشعبَ إلى وحشٍ ضار يفتك بالآخرين بلا تردّد أو رحمة. يقولُ الدكتور داهش في سُداسيةٍ بعنوان "أسطورة (في سبيل الوطن)".

 

 

أيها الأبطالُ الذاهبون طُعمة الأطماع والأهواء من أبناء المنافع

لقد خدعوكم وإلى الحرب دفعوكم طعامًا لنيران المدافع

ثُم قالوا: إننا فِدَى الوطن وعنكم نُدافع...".

ورجل الروح الخارق يرى أن وطنه الحبيب ليس في هذا العالم الشرير المدنس، بل هو في ملا الأرواح القدسية الطاهرة. وهو يناشد كل من تاقت نفسه إلى الكمال الإنساني أن يجعل قلبه وكنزه لا في وطن أرضي لا بد من أن يزول، بل في وطن سرمدي.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار الفلسفة الداهشية القائلة بالتقمص الذي يستتبع أن كل إنسان يمكن أن ينتمي إلى عدة أوطان في دورات حياتية مُتعاقبة، بل قد يصبح في دورة لاحقة ابن وطنٍ قد حاربهُ في دورةٍ سابقة، فيمكننا أن نفهم مهازل الحروب والعصبيات القومية أو العرقية أو العقائدية التي تثيرها. يقول الدكتور داهش بلسان روح جلبرت، أحد الجنود الذين قتلوا في الحرب العالمية الأولى:"

لقد اجتمعنا هنا (أي الأرواح)، وكونا أسرةً روحيةً واحدة؛ فأعداءُ الأمس الذين كانت تغمرُ قلوبهم الكراهية، أصبحوا أصدقاء اليوم، تعمرُ أرواحهم المحبة الحقيقية.

فالألماني والبريطاني والفرنسي والتركي والبلجيكي واليوغسلافي والبلغاري والروسي والزنجي والأميركي والاسترالي وغيرهم من مختلف الجنسيات التي فرضتها غايات الأرض فرضًا على الأمم – أصبحت، الآن، تنتمي إلى جنسية روحية واحدة، بعد أن نبذت أضاليل الأرض وسخافات الحياة.

   فهنا لا سائد ولا مسود، لأن قانون السماء قد وحَّد بين الجميع. والحقيقة الإلهية كشفت عن أعينهم غطاءً الجهل، فاصبحوا يخجلون مما كانوا يقومون به في عالمهم المشتقَّ من الجحيم".

إن النص السابق لجديرٌ بأن يستوقف ذوي البصائر النيرة؛ فما إن انتهت الحربُ الباردة بانهيار الاتحاد السوفياتي وتفاءل الناس بالخير والسلام حتى اندلعت نيرانُ العصبيات القومية منذرة بشر مستطير، ففي ظرف بضع سنوات وقعت حوالى خمسين حربًا إتنية سقط فيها مئاتُ ألوف الضحايا، وشرد عشرات الملايين، وازداد خطرُ انتشار الأسلحة النووية بين الشعوب بازدياد الفوضى فيها، وتعاظم أمرُ الغلاة في الأديان جميعها حتى كأنها خلت من روح الهداية وداخلتها روحُ الضلال.

إذًا الحربُ منكر يجب على العقلاء أن ينبذوهُ ويسفهوا بالحجة الدامغة مروجيه، لأن الحروب لا تتمخض إلا بالخراب والويلات على الظافرين والخاسرين، ولأنها نفي لناموس المحبة الشاملة التي أرادها الله، من خلال رسله جميعًا، في الناس.

لكن هذه القاعدة لها استثناء واحد فقط هو الدفاع عن النفس. فمثلما أن الفرد يحق له أن يدافع عن نفسه دفاعًا مشروعًا ضد مغتصب أو معتدٍ، هكذا يحق للشعب أن يذود عن أرضه إذا تأكد له أن شعبًا عدوًا يعتزمُ اغتصابها. يقولُ الدكتور داهش بلسان جلبرت:

إن الدفاع عن الوطن فرضٌ مقدس إذا حاول العدو اغتصابه لاستعماره وإذلال شعبه الأبي. فالدفاع عن أرض الجدود والآباء أمانة قلَّدتها السماءُ أعناقنا، وأوكلت أمر الدفاع عنها لنا ولأولادنا.

فالتراجع عن الواجب عارٌ لا تمحوه عابراتُ الأعوام. هذا إذا تأكدنا أن العدو سيخترق حرمةَ حدودنا كي يستعمرنا ويسرِبلنا بعار عبوديته الذليلة التي لا تطاق.

 

 

 

السلام العالمي والعالم الواحد

 يقول مؤسس الداهشية على لسان جلبرت:

 إن على ساسة العالم، في أربعة أقطار المعمور، أن يبنوا (عالمًا واحدًا)، إذا رغبوا في أن يسود السلام العام أرجاء هذه الكرة اللعينة.

 

أما الطريق الموصلة إلى هذا الهدف الجليل، فيمكن اختصارها بالأمور التالية:

أولاً، ضرورة تأمين إجماع الدول، ولا سيما الكبرى منها، على تحقيق هذا الهدف. وهذا يقتضي أن يعمل الواعون المخلصون بمساعدة الأمم المتحدة، على نشر ثقافةٍ تستهدفُ إقناع الرأي العام في كل دولة أن الأرض عالمٌ واحد ذو مصير واحد، وأنها وحدة متكاملة، لا جزءَ منها بوسعه ن يعتزل عن الأجزاء الأخرى مستغنيًا عنها ومكتفيًا بذاته، مهما أذخر من القوة. ولذا فإن الخطر على القوميات أو الثقافات في تصارعها، مهما يكن مقلقًا ومؤلمًا، فإنه يبقى دون الخطر الأعظم على الأرض كلها من جراء حربٍ نووية قد يفجّرها العصابيون من الحكام الطامعين أو الحاقدين أو الموتورين، أو من أخطارٍ فلكية إفنائية قد تفاجئ كوكبنا الصغير، واحتمالاتها العلمية كثيرة، أو من أخطارٍ عامة ناتجة عن انتشار الأوبئة بسبب التلوث العام في المياه أو الهواء، أو بسبب المجاعات المروعة التي تصيب الملايين كل عام في إفريقيا وآسيا، والتي قد يحولها جفاف شامل غير منتظر إلى كارثة عالمية.

ثانيًا، أن يقتنع ممثلو الأمم بأن الدول يجب أن تكون عالمًا واحدًا، لا ثلاثة عوالم، شرقية وغربية وغير منحازة، كما كانت الحال قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، ولا عالمين، عالم السادة الأقوياء وعالم التابعين الضعفاء مثلما الحالة اليوم؛ بل عليهم أن يقنعوا بأن البشر كافةً أسرةٌ إنسانية واحدة، فيعملوا بإخلاص من أجل خير هذه الأسرة؛ والكبير فيهم يكون كالأب المسؤول عن خير أبنائه، أبٍ محب شفيق غير متسلِّط لا يفرق بين ابنٍ وآخر، ولا يتحيزُ لواحدٍ دون آخر.

ثالثاً، طرح الأطماع جانبًا من الجميع في سبيل سعادة الأسرة الإنسانية"، والتنازل عن كل مطمعٍ قومي يؤدي إلى إثراء شعبٍ على حساب شعبٍ آخر. وعلى الواعين في كل أمة أن يعوا أن القومية مرحلةٌ في المسيرة التاريخية الحضارية وليست المحجّة الأخيرة. فالمجتمع البشري تطور من كيان العشيرة فالقبيلة إلى كيان المدينة – الدولة فالأمة – الدولة؛ ولا شيء يمنعُ من أن يتابع تطوره إلى أسرة دولية تكون الأرضُ كلها بيتًا لها. والمرحلةُ الأخيرةُ بدأت ملامحها تظهرُ في الأفق العالمي مع انتشار الأفكار والقيم المختلفة لدى الشعوب طرًا وتقاربها وتفاعلها، وذلك بوسائل الإعلام الحديثة الشاملة، ومنها "الإنترنت" والأقمار الصناعية. كذلك تكاثر نشوء المنظمات العالمية المهتمة بشؤون العالم كله تكاثرًا لم يعهده التاريخ من قبل؛ منها "منظمة حقوق الإنسان" ومنظماتُ السلام العالمي، فضلاً عن "البنك العالمي" ومنظمة "اليونسكو" وكثير غيرها مما هو داخل الأمم المتحدة أو خارجها.

   رابعًا، أن يضع ممثلو الدول "قانونًا عالميًا شاملاً، يدخلون فيه الدول الصغرى التي تنقادُ إلى آرائهم"؛  وهذا يقتضي أن تتصرف الدول الكبرى بحكمةٍ ومحبة وإخلاص لخير الإنسان حيثما كان، فتحترم حق تقرير مصير الدول لنفسها، كما تحترم ثقافاتها وعقائدها الدينية وتقاليدها وأعرافها وقيمها، الأمر الذي يؤدي إلى جعل الدول الصغرى تثقُ بالدول الكبرى فتنقادُ لها مثلما ينقادُ الابنُ لوالده المؤدبِ المحب الحكيم، علمًا بأنه لا يجوزُ، في أي حال، فرضُ إراد الكبير على الصغير فرضًا.

 خامسًا، أن"يوحد ممثلو الدول أهدافهم السامية ومثلهم العليا". وليس هذا الأمر عسيرًا إذا تفهم الجميع خصائص الحضارات المختلفة وخصائص أديانها؛ فمن القواسم المشتركة بينها يمكن استنتاج القيم والمثل العليا التي يرضى بها الجميع. فالفضيلة نوةَ بها الهداة والرسل والحكماء جميعًا، وكذلك العدالة والحرية. لكن الديمقراطية ونظام الحكم ليس محتومًا على جميع الشعوب أن تنظر إليهما من خلال منظورٍ واحد؛ فقد عرف التاريخ ملوكًا ديمقراطيين ورؤساء جمهورياتٍ مستبدين (أنظر "العدالة في الحكم" في العدد السابق). والوعي السياسي الثقافي مختلفٌ بين شعبٍ وآخر؛ فيستحيلُ افتراضُ مستوى النضج الروحي الفكري الواحد حيثما كان. أما الغطرسة، وادعاءُ العصمة أو الكمال فأمر
"ممقوت" ممجوجٌ لدى أكثرية الناس، وإن تظاهروا بالخضوع له أحيانًا.

   إن الدكتور داهش يرى أن هذا الهدف الجليل ليس مستحيلاً لكنه صعبُ التحقيق في هذا العصر، لأن المطامع المادية ما تزالُ هي التي تحرك الشعوب وتملي عليها أهدافها، وتخطط سياستها الداخلية والخارجية. أما الشعارات التي يطلقها زعمءا الدول من حين إلى آخر، منذ تأسيس الأمم المتحدة، من مثل الرغبة في بناء عالمٍ جديد تسوده العدالة والطمأنينة، وتعمُه الحرية، وينتفي فيه العوز والخوف والإكراه إلخ... تلك الشعارات التي أطلقها ونستن تشرشل وروزفلت في أوائل عام 1946، وما زال الرؤساءُ يكررونها بصيغٍ مختلفة أكثر من نصف قرن، برهنت الأحداث التاريخية أنها مجرد كلام يطلق في الهواء أو يبقى حبرًا على ورق، لأن النيات غيرُ صافية والقلوبَ غير صادقة.

   يختصر رجل الروح والخوارق رأيه في اجتماعاتِ الأمم المتحدة منذ تأسيسها بقوله على لسان "الدينار"، بطل قصته الفذَّة "مذكرات دينار".

إنني أرى ما لا ترونه، يا معشر الساسة، وأعرف ما لا تعرفون، يا أرباب الدهاء والسياسة. فالغيبُ قد تكشف لي بدائع أسراره.

والإلهام تدفقت عليَّ روائع أنواره(...)

لقد رأيت نير القوي يطوِّق أعناقكم،

وسيف الجبار يكم أفواهكم،

وقنابله الفتاكة تردم دياركم وتحصد أورىاحكم،

وما هذا المؤتمر إلا مؤامرة أبيتم إلا إدخال بلادكم ضمن دائرتها، وتقديم أنفسكم المخدوعة قربانًا على مذبح شهواتها(...)

فالنياتُ، يا ساسة، لن تصح ما دام هناك مناجمُ تحتوي أجوافها على معادن الألماس والفضة والذهنب والبلاتين. ولن تصفو ما دام هنالك آبارُ النفط والزيت والبترول(...)

  • قايين، قايين! أين هو أخوكَ هابيل، يا قايين؟
  • لا أعلمُ أين هو. فهل أنا حارسٌ عليه وأمين؟(...)
  • يا مَن بأيديكم القواتُ المادية،
  • ويا من تسيطرون على الطاقة الذرية،
  • ويا من تدعون بحبكم للبشرية،
  • إذا كان السلام بغيتكم، والحق ديدنكم،
  • والعدالةُ أُمنيتكم،
  • فهاتوا البرهان على صدق نيتكم.
  • هاتوا، يا أقوياء، وأشهدوا الكون على تضحيتكم...
  • أعيدوا لكل ذي حقٍّ حقَّه، وحرروا المستعبد من رقَّه، والمغبون من غبنه، ومكنوا رب البيت من بيته؛ فربُّ البيتِ أدرى بالذي فيه، بظواهره وخوافيه.

ولكنكم قلبتم الآية، وعكستم الحقائق، وأضعتم الغاية. فأصبح رب البيت يئنُّ تحت نير الغُرم، وأنتم، أيها الأقوياء، تتمتعون بالغنم(...)

وما دمتم مجتمعين لتقرير صرح سلام عالمي تسودُه العدالة الشاملة، فلماذا – يا ليتَ شعري! – شحذتم خناجركم، وحمل كل منكم غصن زيتون في ميناه، وشهر خنجره المرهف الحد بيسراه متحينًا الفرصة كي يغمده في ظهر زميله الجالس بقربه وينتهي من أمره؟

إنني أؤكد لكم أنه لا المؤتمراتُ، ولا القراراتُ، ولا المداورات، ولا المناوراتُ تستطيع أن تمنع وقوع حرب فناء ثالثة.

   فما دامت شياطين "اطماعكم لا تزالُ قاطنة في أعماق أفئدتكم، ومستقرة في تلافيف أدمغتكم، وساريةً في كريات دمائكم، وهاجعة في ضلوعكم وأحشائكم، وملتصقة في كيانكم منذ تكوينكم... فليست بعيدةً تلك الساعةُ الرهيبة التي تهيئون بها معداتكم، وتتمون بها استعداداتكم...

   وإذ ذاك تنطلق تلك الشياطين الجهنمية من عقالها، وتخرجُ فدائح أثقالها، كي تدمر الأرض وما فيها وتردمها بمن فيها.

   إن نهاية تصارع المطامع للسيطرة على الأرض، يراها الدكتور داهش بخسران الأرضِ كلها في حربٍ فنائية شاملةٍ لا تبقي ولا تذر، وقد تكون أقرب إلينا مما نتصور.

   لكن أليس من حل؟

   بلى، إنه في العودة إلى تعاليم السماء ممارسةً، والتمسك بالقيم الروحية التي من أجلها اضطهد الهداةُ والمرسلون والأنبياء. إنه الإيمان بوحدةِ الأديان الجوهرية، وبالإخاء الإنساني الشامل. إنه الشعور بالعطف والشفقة على الفئات الضعيفة أو الفقيرة داخل الدولة الواحدة، كما على الشعوب الضعيفة أو الفقيرة، في أسرة الدول، وبواجب مساعدتها لإقالتها من كبواتها. فلو كانت روح الدين السمحة في المسيحية والإسلام وفي سائر الأديان ما تزالُ معافاةً فعالةً، لما حمل الأوروبيون شارةَ الحب والفداء، شارةَ الصليب، على صدورهم ليجتاحوا الشرق الأوسط ويقتلوا ويفتكوا ويدمروا باسم الصليب، ولما عادوا في العصر الحديث إلى استعمار الشعوب وامتصاص قواها؛ ولما حدثت المجازر بين الكاثوليك والبروتستانت كما بين السنة والشيعة، والسيخ والهندوس، والمسيحيين والمسلمين واليهود. لكنه فراغُ الأديان من نسغها الروحي الحقيقي – النسغ الذي من أجل نشره وتعزيزه في العالم هبطت الرسالاتُ السماوية وكان الهداةُ والحكماء – هو الذي جعل الجميع يعبدون المال، وينسون وصية سيد المجد، فيحركهم الجشعُ إلى السيطرة فالحروب، وهو الذي جعل الباحثين الذين غاب الله من قواعدهم العلمية أو من ضمائرهم يرون الدين مجرد دينامية اجتماعية عمياء تمتطيها المحركات الاقتصادية والسياسية وردود الفعل القومية والإتنية لمزيد من السيطرة الإقليمية أو العالمية.

   وفي هذا التصادم القومي أو الحضاري الفارغ من جوهر الحضارة لن يكون الفوزُ، في المدى البعيد، لأية دولة. فالجميع، في ظل الغمامة النووية، سيقومون بانتحار جماعي. ومن هو الأكبر اليوم سيحل به ما حل بالأكبر قبله منذ ألفي عام. فروما التي كانت تترنح الأرض تحت أقدام جحافلها أصبحت مقطعة الأوصال، مرملة ميتمةً ترثي أبناءها. ولا يغين عن البال، إذا كنا مؤمنين بوجود عدالة إلهية، أن الثواب والعقاب يقعان على الشعوب والمجتمعات مثلما يقعان على الأفراد. فالدولة الفاسدة الباغية ستلاقي جزاءها، والدولةُ الجشعة المتغطرسة ستنقلبُ على رأسها، ويأكلُ الآخرون لحمها.

   أما إذا كان الحقُّ هو رائدَ الشعوب, والفضيلةُ هي نهجها، فلا خوفَ على الدول فُرادى ولا خوفَ على الأرض.

   فالأرض التي كونها الله، والخيراتُ التي ملأ بها أرجاءها، تستطيع أن تغرق كل حي على ظهرها، وتكفيه مؤونة الاعتداءات؛ هذا إذا سلمتِ النيات، وأخلصت القلوب، وإذا طردنا منا شياطين الأطماع التي تقطن في داخلنا مثلما تقطن الأفاعي في الشقوق والنخاريب.

 وريثما تتقارب سيالات البشر، عبر العصور الآتية، في مستوياتها وتوجهاتها، في مداركها ونزعاتها، فتقوم حضارةٌ واحدة تسوسُها حكومةٌ حكيمةٌ عالميةٌ واحدة، فعلينا أن نبقى مردِّدين: (يا أيها الناسُ، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا؛ إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليمٌ خبير)، و(لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجًا، ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدة، ولكن ليبلوكم في ما أتاكم، فاستبقوا الخيرات، إل الله مرجعكم جميعًا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون).

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.