في منزل تولستوي
غادرتُ يومَ الأمس موسكو قاصدًا قرية (يسنايا بلانا).
هناك، حيث عاش الفيلسوف الروسي العالمي (تولستوي).
واستقليتُ السيارة، فانطلقت بي تُسابق الريح بسيرها السريع.
ومرت ثلاثُ ساعاتٍ ونصف
وصلنا في نهايتها إلى القرية الهاجعة بسكون.
ترجلت وسرتُ على قدمي إلى منزل الفيلسوف
الذي طواه الردى منذ أعوام طويلة.
وبعد مسيرة ثلث ساعة بين أشجار الغاب المُتسامق نحو العلاء،
أشرف منزلُ الأديب الكبير وقد أحتاطته حديقة غناء
تتلألأ أزهارُها العديدة الألوان،
فتضفي حلةً من الجمال الرائع على هذا المنزل المنفرد.
وكانت جمهرةٌ من عشاق أدب الكاتب العالمي تملأ أرجاء الحديقة.
والمنزل جميل، فهو (فيلا) تأنسها العين وترتاح لها النفس.
فهي ليست بالكبيرة أو الصغيرة، بل متوسطة الحجم.
بناؤها جميل، وتقاطيعها مُحببة، وتُحيط بها غابةٌ شاسعة.
والفيلا منفردة في هذا الغاب العجيب
بأشجاره المُتسامقة نحو العلاء، نحو السماء.
دخلتُ الدار مع الداخلين،
فاصطدم نظري بخزائن عامرة بشتى أنواع الكتب.
وصعدنا إلى الطابق العلوي، فإذا بصالةٍ رحبة
عُلقتْ على جدرانها عشر لوحات زيتية.
فهذه اللوحة تُمثل الكاتب المُبدع وهو لما يتجاوز الخامسة والأربعين،
وتلك تُمثله وهو في الخامسة والستين،
وقد استطالت لحيته وأثرت الأعوام في وجهه.
وتلك لوحة تمثل زوجته الصارمة،
تلك الزوجة التي أحالت أيام الفيلسوف إلى شقاء دائم.
وتلك ابنته التي كان يحبها حبًا جمًا وهي ما تزال بعمر الورود.
وفي هذه الزاوية كرسيٌّ كبير كان يجلس عليه الفيلسوف الكبير،
ويجلس حواليه ستة مُستمعين،
وهم يصغون لأدبه الرائع وأفكاره الصائبة.
كانت الكراسي ما تزال في المكان نفسه
الذي كانوا يجلسون فيه يومذاك،
ولكنها الآن شاغرة، فقد اخترم الموتُ تولستوي،
وطواه الردى مثلما طوى سواه من كبار الأدباء والشعراء والمُفكرين،
وبقي منزله قبلةً للعدد الكبير ممن قرأوا ما خطته يراعتُه المُبدعة،
وما انبثقت عنه أفكاره وما جادت به قريحتُه،
يزورون منزل الأديب، ويتفقدون ما خلفه من تراث فكري خالد.
وقد شاهدتُ في الطابق العلوي خزائن عديدة تغصُّ بالكتب المُختلفة.
عددتُها فإذا هي خمس عشرة مكتبة متوسطة الحجم في الطابقين.
وانتهت الزيارة مثلما ينتهي كل شيء في هذه الحياة الدنيا.
فخرجتُ مع الخارجين وأنا أردِّد قائلاً:
كلُّ شيء فانٍ، ما خلا وجهكَ السرمدي،
يا خالق البرايا وما فيها، بما عُرِف منها وخوافيها.
موسكو، تاريخ 28/8/1972
الساعة السابعة والنصف صباحُا