مرثاةٌ في مقبرة ليبالا
ولجتُ مقبرة قرية ليبالا الناروجية،
فهالتني كثرةُ القبور المُنتشرة فيها:
فهنا جدث أقيم فوقه نُصبُ ملاك يغمره الحزن،
وقد استضاف هذا الجدث رجلاً تعبَ من أيامه، وأيامه تعبت منه.
وتابعتُ سيري، فإذا بلوحة رخامية دُوِّنَ عليها اسم الصبية
التي طواها الموت وهي لما تُكمل ربيعها الثامن عشر،
وقد ثُبّت رسمها على الرخامة، فإذا هي كاعبٌ هيفاء
ينبثق الجمالُ من وجنتيها ويكمن الذكاءُ في عينيها،
وقد أسدَلتْ شعرها الطويل حتى بلغ قدميها،
وعلى ثغرها ابتسامة الأمل المليء بأحلام السعادة.
ولكن الموت كذب ظنونها واخترم أمانيها،
وأدخلها جوف الحفرة المُظلمة الباردة المنسية.
فواحرَّ قلبي على الصبا يغتاله الموت وتفترسه المنية!
***
ومررتُ أمام قبر قد حوى جثمان طفل صغير.
أوّاه! ما أقساك أيها الموت! ألا قلب لديك
يردعكَ عن استلال روح هذا الطفل البريء
وإسكانه عالم القبور الصامتة صمتها الأبدي؟!
وماذا جناه هذا الملاك من الخير أو الشر
في دوره هذا حتى صرعته وجندلته بقسوة رهيبة؟!
***
وسرتُ بين القبور وأنا حزين واجم مُطرق الرأس،
وإذا بتمثالي أبٍ وأم ينوحان على شابٍّ مُسجى
هو وحيدهما، هو معيلهما، هو أملهما في شيخوختهما،
فعرفتُ أن نزيل هذا اللحد هو ابنهما.
وقد أبرز المثال اللوعة القتالة على وجهيهما المُغضنين.
فلو قُيض للألم أن يتجسد لما كان إلا هما.
وقد فهمتُ من حفار القبور ومن حارسها
أن هذين الوالدين قد برح بهما الحزنُ الهائل
فغادرا دنيا الأحزان والآلام بعد وفاته بأيام.
***
ثم قادتني خطواتي أمام جدثين متقابلين،
وعرفتُ مما قرأتهُ منقوشًا على رخامتي القبرين
أنَّ من يثوي في هذين اللحدين
هما خطيبان تحابّا حبَّ روميو وجولييت.
وفي اليوم الذي تقرَّر فيه عرسهما
جندلت سيارة جانية العريس،
فانتحرت حبيبته حزنًا وأسىً عليه،
وعِوضًا عن العرس توسد العاشقان الرمس.
وهمت دمعةٌ حارةً شعرتُ بلذعتها على خديّ!
أهكذا تذهب الآمال، وتضمحلُ الأماني بلحظة خاظفة؟!
أيطوي الموت رغباتنا، ويبدد أشواقنا وكأننا لم نوجد؟!
وهكذا تمضي الأيام، وتُطوى الأعوام،
فإذا بنا نسيٌ منسي؟!
ما أشقى حياة الإنسان وما أتعسها!
قبور وقبور!... أجداثٌ وأجداث!... رموسٌ ورموس!...
مررتُ بها وفي كل منها يثوي إنسانٌ كان يضجُّ بالحياة،
فاصبحت السكينة تلازمه حتى يوم يُبعثون،
سواء أكان رجلاً أم امرأة، شابًا أم شابة،
كهلاً أم يانعًا أم طفلاً رضيعًا.
إن كلًّ منهم قد اصبح في عالم آخر غير عالمنا البشري.
شعرتُ بحزنٍ هائل يستولي على مشاعري ويُهيمن على تفكيري،
وألمٍ جارف يقطن في خلايا فؤادي.
وقلتُ تبًا للإنسان، ما أتفه حياته القصيرة!
إنه ما يكاد يرى نور الحياة حتى ينتقل إلى ظلمة القبر،
بعدما ينقضُّ عليه الموتُ فيفترسه،
ويُدخلهُ عالمَ الصمت الأبدي والسكينة السرمدية!
خرجتُ من هذه المقبرة وكان الظلام قد غمرها،
ورفعتُ رأسي نحو السماء والشجن يرتديني لباسًا له،
وقلتُ: يا إلهي وموجدي وواهبي الحياة،
لقد شبعتُ من الأيام، وذقتُ من أحزانها مرارةً حنظلية،
فأطلِق عبدَكَ أيها القدير، وحقِّق له هذه الأمنية،
إذْ تأكد له أن الحياة الدنيا ليس فيها من أمان،
إنما هي دار أحزان، دار الآلام والأشجان!
ودعه يلج فردوسَكَ الإلهي فيُحيطه الاطمئنان،
ويتمتَّع بمباهج رائعة في تلك الجنان.
أوسلو – الناروج، في 23/6/1972
الساعة الثانية إلا ثلثاً بعد منتصف الليل