يومٌ ثلجُهُ غزير
فجر 18/3/1977، نهضتُ من فراشي، وكانت الساعة السّادسة صباحًا، وذلك في إحدى الولايات الأمريكية. نظرتُ من النافذة، فإذا بالثلوج تنهمر بغزارة فائقة، ويظهر أن الثلج كان ينهمر طوال الليل، بدليل مشاهدتي للحديقة، وقد فُرشت بالثلج، وسماكته ستة سنتمترات. كما كانت الأشجارُ مكللةً بحلة ناصعة البياض، وكأنها أزهار شجر اللوز الفاتنة.
وفي فصل الشتاء تتعرى الأشجار من أوراقها، فتظهر أغصانها الجافة لا تكسوها حتى ورقة واحدة.
أما اليوم، فقد اكتست الأشجار بهذه الأزهار الثلجية البيضاء الساحرة، فبهرني مشهدها الخلّاب.
وفي التاسعة صباحًا، صعدت إلى سيارة فوته، وبرفقتي إيليا حجار وجوف شكور بطريقنا إلى نيويورك، وكنا نشاهد الطّرقات وقد غمرتها الثلوجُ فإذاها كبساط أبيض لا نهاية لاستطالته.
وكانت الأشجار عن يميننا ويسارنا تبدو وكأنها مملكة من ممالك الجن لغرابتها. فقد كانت مثقلةً بالثلوج التي اتخذت رسومًا وأشكالاً ثلجية غايةً في الغرابة. وكنت أُشاهد السيارات تمرّ وهي تنوءُ بما تحمله على سقوفها وأجنحتها من الثلوج التي احتلت جميع أجزائها.
كما مررنا بمواقف عديدة للسيارات، وقد جثمت فيها مئات السيارات التي غمرتها الثلوج غمرًا. إنه مشهدٌ عجيبٌ غريب!
وكذلك سيارتنا التي كانت تسير بسرعة 60 كيلومترًا بالسّاعة لم تنجُ من استعمار هذا الثلج الذي غزاها.
لقد تحولت لحمامة ناصعة البياض، ولم ينجُ إلا الزجاجُ الأمامي، إذ إن الجهاز الذي يتحرك يمنةً ويسرةً بقوة الكهرباء، يمنع بحركته الدائبة الاستمرار جيئة وذهابًا من اندفاق الثلوج على الزجاج الأمامي.
وساءت الرؤية لشدة الضباب المتكاثف مع أن الساعة العاشرة إلا ربعًا صباحًا، ونحن في طريقنا إلى نيويورك، وكانت الرؤية غير جيدة وكان الثلج لا يزال يتساقط بعنفوان شديد.
ومررنا على سيارة قد انقلبت رأسًا على عقب بسبب الطّقس السّيء، وكانت رافعة تقفُ أمامها لترفعها من الطريق خوفًا من توقف السير. كما شاهدنا سيارة فخمة أُخرى تسير وهي تسكبُ الملح من جهاز خاص فيها على الثلوج التي تغمر الطّرق لاذابته، وإلا فيستحيلُ السيرُ إذا لم يذُبْ.
حقًا إن أميركا بلاد النظام الدقيق، والسعيدُ من يحمل هذه الجنسية المرموقة.
واستمر انهمار الثلج حتى دخلنا نيويورك في العاشرة والنصف، اي بعد ساعة ونصف منذ صعدنا إلى السيارة، ولم ينقطع بخلالها الثلج الغزير. وعادةً نقطع الطريق من هذه المدينة إلى نيويورك بـ 45 دقيقة.
وقد توقفنا أمام المبنى ذي الطوابق الإثني عشر، وهو مختصٌّ ببيع الجملة، وفي كل طابقٍ منه متاجر عديدة، وأنا أتردّدُ على هذا المبنى منذ ثمانية أيام، واليوم هو التاسع لذهابي إليه، وقد انتخبتُ في الأيام الثمانية التي زرتُه فيها سلعًا متنوعةً بقيمة 15128 دولاراً ونصف؛ ولا أعلم كم هو المبلغ الذي سأبتاع به اليوم من الطابق التاسع الذي وصلت إليه بالتدرُّج.
ونسيتُ أن أذكر أنني عندما غادرت المدينة صباح اليوم، ارتديت ثيابًا صوفية، ووضعت على عنقي ثلاث لفحات، كما لبستُ معطفي المبطن ليقيني برد هذا اليوم العاصف؛ إذ إنني أصبتُ في 28 كانون الثاني بزكام عنيف نتيجة للبرد القارس، وكنت يومذاك بمدينة فينكس الأمريكية (بأريزونا)، وقد مكثتُ حينذاك عشرة أيام بالفندق لا أستطيع الخروج منه لشدّة زكامي الرهيب وخوفًا من المضاعفات.
والآن، أُودع القارئ، إذ سأنتخب من الطابق التاسع سلعًا عديدةً لها بداية ولكن ليس لها نهاية، لأنني مغرم بالفنون الجميلة من قمة رأسي حتى أخمص قدميّ.
باشرت كتابة هذه القطعة فور صعودي للسيارة في طريق ذهابي إلى نيويورك
في الساعة 9و10 دقائق من صباح 18/3/1977