الإنسانُ حلمهُ الخلود
الإنسان مخلوق تافه. فالغرور يملأ نفسه، ويستولي على حسّه. فهو يظنّ أنه امتلك المعرفة، واختزن الأسرار، واغترف الحكمة، وأنه فهامة علامة لا يُصطلى له بنار.
فما يكاد يشب عن الطوق، وتدرفه أحداُ الكرة الارضية، ويتقلب بين أكفها الشوكية التي لا ترحم، حتى تراه حائرًا مشدوهًا، وخائرًا مبلبلاً. فيأخذه العجب أي مأخذ، إذ كان يظن بأنه كان ملمًا بكل أمر من أمور دنياه.
ولكن رزايا الدنيا اكتنفته فأفهمته بأنه كان يسير في مهمه وأنه ضافل في صحراء سرابية. فيتأكد له أنه كان مغرورًا وأي غرور، فينكص على قدميه، ويعض شفته بأسنانه، ويردِّد عبارات لا معنى لها بلسانه، ويضطرب جنانه، إذ يتأكد بأنه كان سادرًا في عالم أوهامه.
فعندما كان فتيًا كان يظنُّ أن الدنيا خُلقتْ لأجله، وله أن يخوض غمرات لذاتها، ويفتتح مغاليق معمياتها، فتصبح له أطوع من لبنان.
وبمضي الأعوام تكشفت له الحقيقة التي أفزعته وأرجعت له عقله الهائم في أودية الأخيلة الوهمية.
ويتأكد له أنه مخلوق تافه، وما هو سوى ذرة من ذرات وذريرات. وتبرز أمام عينيه حقيقة صادعة: فأحقر الحشرات بامكانها أن تورده موارد التهلكة وتدعه في خبر كان.
لقد قَدِم إلى عالم دنياه مُرغمًا، وسيغادره مُرغمًا- مكرَهٌ أخاك لا بطل.
فالإنسان مثلما وصفه (هومير) "ورقة ذابلة من شجرة فانية". حقًا إن الإنسان كالماء الذي يتبخر على النار، فتختفي آثاره حتى الأبد!
إذًا لماذا يتناسى كل منَّا حقيقته؟ ولماذا غرورنا السخيف، وادعاؤنا المُخزي، وكبرياؤنا المُخجلة؟!
تُرى، ألم نتعظ من تعاليم الأنبياء الذين زاروا الأرض وحذرونا، وأرشدونا وأفهمونا وثقفونا، وأزالوا ستار الجهالة الذي كان يحجب الحقيقة عنا. ولكننا اضطهدنا هؤلاء الأنبياء المُرسلين، واتهمناهم بالزندقة وبالأفك، وطاردناهم، وقتلنا منهم من قتلنا، وشنَّعنا على بعضهم ما شنَّعنا، إذ الويل لمن يخاطب الناس بأكثر مما يفهمون أو بأكثر مما يعتقدون، فجدثُه إذ ذاك، يكون له أقرب من حبل الوريد.
أنا لا أنكر أن للإنسان يدًا بيضاء بما استطاع الوصول إليه في عالم الطب والاختراع والأدب والفلسفة. ولكن كل ما أمكنه بلوغه ما هو إلا نقطة من بحرٍ متلاطمة أمواجه، ثائر أثباجه. فما طاله فهمه أشبهُ برملة إزاءَ جبلٍ شامخٍ من الرمال المرصوصة رصًّا. وجميع ما توصل إليه لا يستطيع أن يجعله غير خاضع لنواميس الطبيعة التي أوجدها الباري عزَّ وجلّ.
فالإنسان مخلوق يسري عليه ما يسري على جميع ما أوجده الخالق من إنسان وحيوان ونبات. إذْ تسري عليه وعليهم النواميس المعروفة من مرض وصحة وأحداث فجائية، وسرور فغمّ، وآلام جسام، ثم اعتلال فموت فحفرة داجية تحتويه.
فما أضعفكَ أيها الإنسان! وما أبأس حياتك! فالموت لكَ بالمرصاد!
ورغمًا عما ذكرتُ، يتبجَّح الإنسان، على ضعفه تجاه الناموس الطبيعي، ويرفع عقيرته مُدعيًا بأنه خضَدَ شوكة المجهولات، وفض مغاليقها، وأنه قطب الوجود ومركزه الثابت.
وأخيرًا يتمنَّى كل مخلوق لو لم يكن للموت من وجود، والبرهان على ذلك أن الديانات قاطبة، ومختلف حُكماء العالم وفلاسفة بحثوا وجادلوا في نظرية الخلود. فهم بتحليلها وتعليلها يكشفون عمَّا تُخفيه أعماق نفوسهم، ألا وهو رغبتهم العظيمة بالبقاء والخلود، وليس من خالد غير الله – جلتْ قدرته الإلهية.
بيروت، الساعة الثامنة والنصف
من ليل 12 تشرين الأول 1979