وداع عام 1944
اليوم يتم دولابُ هذا العام دورته،
فتنطوي صحيفته من هذا الوجود الحائر،
بعد أن تذوقت في خلاله من آيات الشقاء العظيم
ما أعترفُ بأنني عاجزٌ عن وصفه وإظهار روعته.
لقد تكاتفت عليَ قوى الشر بأكملها تريد هلاكي،
وتضافرت سلطات الإثم والجبروت
تريد إهراقَ دمي والبطش بي،
وتآمرت شراذم المتظاهرين بالتقوى على اغتيالي،
وبذلت في سبيل هذا النفس والنفيس،
فقيض اللهُ لجميع هؤلاء الفشل الذريع،
وفزتُ بالحياة بإذن الله وإرادتهِ،
وجريمتي الوحيدة هي أنني أدعو الجميع لنشدان الحيقيقة،
والسير على الطريق العادلة، والتمسُّكِ بالفضيلة.
ولكنهم البشر!
والبشرُ هم هم في اتجاهاتهم ورغباتهم في كلِّ زمان ومكان...
وخصوصًا الشراذم التي تدعي بحب المسيح كذبًا وبهتانًا.
يا عام يا عام!
نعم، يا عامَ الفواجع والآلام،
والمِحَنِ الجسامِ والأسقام!
منذُ أشرفت على عالمنا التاعس استقبلتُكَ بوجوم،
فصدقتَ ظني بك، ورميتني بسهام البلايا وشظايا الهموم.
عاديتني، يا عام، ورميتني بالعوادي، ثم سلطت عليَّ الأعادي.
فراح الوصولي النذْل
يطعنني بخناجره الجارحة السامة طعناتٍ قاتلة.
ولكن من الظهر، شأنَ الأوغاد الأدنياء.
وكانت شريكته بالجريمة تشجعه للقضاء عليَّ والانتهاء من أمري.
وهكذا مضى من حياتك، أيها العام، نحو الثلثين،
وأنا أتأرجحهُ، بألمٍ عميق، بين هذين الاثنين.
وما أشرفَ الشهرُ الأول من ثلثك الأخير...
حتى اندفعت قوَّاتُ الشر من عقالها،
وانطلقت مردتُها وشياطينها تريد تحطيمي،
بعد أن كانت تحتاطُني قواتٌ غير منظورة تدأب على تعظيمي.
وحانت (الساعة المُخيفة): ساعة (المحنة والامتحان).
ويا لله مما لا قيتُه من ذلّ وإرهاقٍ وآلام وامتهان!
فتجلدتُ على الكارثة التي دهمتني لتيقني بأنها إرادتُه العلوية.
أما أعدائي الأوباش فقد دأبوا يرمونني ببليَّة تتلوها بلية:
لقد قذفوا بي بعيدًا إلى الحدود.
فإذا بي وحيدٌ فريدٌ اليفُ الهمّ وسميري الوهم.
وشُدِهْتُ من هولِ الصَّدمة،
وبتُ أسير البؤس والشقاء والغم والبلاء.
كنتُ أحاولُ النوم لاتناسى بعض آلامي،
ولكنه كان يأبى النزول على إرادتي.
رفعتُ شكواي إلى الله،
وسكبتُ أمامه دماء قلبي عوضًا من دموع عينيَّ.
لقد اصبحتُ غريبًا منبوذًا في بلاد غريبة نائبة.
طلبتُ إليه أن يُردَّني إليه...
ولكنَّ إرادتَه شاءت لي غير ذلك.
ومن أرضِ منفاي البعيدة عن خلاني وإخواني،
كان صدى ضحكات الأفعى المُجرمة لعنها الله
يرنُّ في أذُنّيَّ رنين النواقيس،
بينما كنتُ مُشردًا في صحراء هذا العالم البغيض التاعس.
نعم، كانت تقهقه كالسعالي وهي طروب لمصيري البائس.
وشدَّ ما أطربها أنني كنتُ في منفاي ذلك المعنى اليائس.
كنتُ أتخيلها وهي تجرع كؤوس الراح نخب أحزاني وأشجاني.
مما أثار كوامن نفسي الخفية وأشجاني.
ولم تكتف هي ومجرمها بما ذقتُه على أيديهما من الأمرين،
حتى راحا يضطهدون شقيقتي المحزونة الملتاعة الدامعة العين.
ولم يستنكفا من زجِّها في أعماقِ السجون.
فسجلاً على نفسيهما العار والذلَّ والشنار والهوان.
لِيَكُن هذا. فاليوم هو لهم واأسفاه!
أمَّا الغد فهو لنا بإذن الله.
وبعد أن تخطيتُ صعوبات هائلةً ومِحنًا رهيبة،
عرفتُ أن الله تعالى يريدني أن أمكث في هذه الدنيا،
كي تحدث بواسطتي أمورٌ يريدها أن تتم على يدي أنا عبده الضعيف.
فجثوتُ إذ ذاك خاشعًا، ورفعتُ إليه صلاةً عميقة حارَّة؛
ثم انتظرتُ مصيري المكتوب لي منذ الأزل.
ومثلما ذَكرتُ... لقد كانت هذه المحنة للامتحان،
إذْ بلغني هلعُ بعضِ المؤمنين وابتعاد بعض الإخوان.
وهُنا تذكرتُ مثل السيد المسيح الخالد:
(خرج الزارع ليزرع)؛
فحزنتْ نفسي لضعف النفس البشرية وتفضيلها المادة، هذه (المادة الحقيرة الفانية... على الروح الأزلية الخالدة).
وهنا أسجِّل بفرحٍ عظيم
أنَّ أخي وشقيق روحي الدكتور خبصا
كان في طليعة الثابتين الراسخين...
إنه كالطعود المُشمخر يهزأُ بالأعاصير التي حاول تهديمه والنيل منه.
ويعبثُ بأرواح الشرِّ التي عصفت بسواه،
فطوحتْ بهم إلى الحضيض وجعلتهم أثرًا بعد عين،
فذهبوا غير مأسوف عليهم وإلى غير ما رجعة.
لهذا أنا أعتزُّ به فهو سميري وأنيسي وجليسي،
في حياتي ومماتي!
كما إنني أذكر الأخت العزيزة (ماري حداد)،
هذه الأخت الشفافة الروح،
الرقيقة العاطفة، السامية الأخلاق، الرفيعة المبادئ.
فإنها عظيمة في عقيدتها، عظيمة في اتجاهها، عظيمة في تمنياتها.
ولا شكَّ أنها ستظفر في النهاية بإكليل المجد الخالد؛
فهي تستحقه عن جدارةٍ ولا ريب.
وثمة بعضُ الإخوة والأخوات ممَّنْ لم أذكرهم بأسمائهم،
وهذا لا يمنع أنهم قاموا بواجباتهم خير قيام؛
فمكافأتهم لا شك آتية إذ يحصد الإنسانُ ما زرعه؛
ومن يصبر إلى النهاية فذلك يخلص.
والآن! إنني أُودِّعك أيُّها العام الذي رميتني منذ ولادتك بسهامك،
وأصميتني بنصالك ونبالك...
لأستقبل خلفك (الجديد)، وأنا شاهرٌ بيدي سلاحَ الحقيقة،
لأسلطه عليه وعلى من سيدأبون على الدس والكيد والوقيعة.
أما الظفرُ فسيكتَبُ لمن تختاره العناية الإلهية
ليكون سيفَ نقمتها،
إذ تبترُ به أعناقَ الظالمين.
فليس من ظالمٍ إلا ويبتليه الله بأظلم(1)
وداعًا أيها العام الراحل، وفي ذِمَّة الأحقاب.
بيروت. الساعة 12 من ليل 31 كانون الأول 1944