غرور الإنسان
ما حياتنا سوى ظل زائل وسراب حائل
ووجودنا كالبرق الذي ومضى ومضى...
يا للإنسان ما أتفه آماله وأسخفَ أوهامه!
وما أفشلَ غاياته، وأضألَ أحلامه!
وما أضحكَ مطامحَه، وأتعس رغباته، وأبأسَ أمانيه!
فالغرورُ الحقير يقطن في شغاف نفسه،
فإذا كبرياؤه الممقوتة تُشرف على العالمين.
فهو يظنّ أنه فارس الميدان الأوحد،
وبطله الذي لا يُشَقُّ له غبار، في كل مضمار.
فهو خدين الحكمة، وربُّ المعرفة،
وصنْوُ العلماء الأفذاذ، ومختزنُ الفلسفة.
فهذا المدعي المُغتر، منذ اكتحلت عيناه بمشاهد عالم الأرض،
قد جَرَفَه تيارُ الحياة الصاخبة،
فإذاه مأخوذ مبهور بما تزخر به دنيانا الأثيمة...
فتجرفه مظاهرُ الحياة الكاذبة،
وتخلبُه ببريقها الزائف وبما تضجُّ به من كل زائلٍ وفانٍ.
وغرورُه السمج، وكبرياؤه القذرة..
يجعلانه يظنّ أنه اكتشف اسرار الحياة،
وفضَّ مغاليق الموت المُبهمة،
وافتض معميات الخلود...
أما الحقيقة فإنه يكون قد ازداد غباءً على غباء،
وخاضَ مجاهل العماء السادس بعماء.
ويركبُه الغرور الجامح، فيظنُّ أن الكرة الأرضية قد كُونتْ لأجله؛
وأن بحارها وأنهارها،
وأزهارها وأشجارها وأطيارها،
وما تزخر به من شجون وشؤون...
إنما خُلقت لأجله،
وهي مُسخرة لمصلحته، وتأتمر بأمره.
فيروح، وبسمة الانتصار تعلو ثغره الأبلج،
رافعًا عقيرته لأبناء بجدته،
موزعًا عليهم عظاته،
شارحًا لهم معميات الاسرار الموصودة،
نافحًا إياهم بنعمة معرفته المزعومة...
وحقيقةُ الأمر أنه عامهٌ بالجهالة،
سادرٌ بدروب الضلالة،
تتوزّعهُ شتى الأفكار المُتضاربة،
فهو لا يعرف يمينه من يساره،
ولا يفقه من دنياه شيئًا.
وما يُغيظ أن هذا الإنسان يعتقد اعتقادًا لا شكَّ فيه
بأنّه تفوَّق على الأولين، وبطش بالآخرين،
فهم أمامه إماءٌ وجَهَلَة،
ولا شأن يُذكر لهم إطلاقًا.
بينما الحقيقةُ تصفعهُ وتسفعهُ ببراهينها،
وتقذفُه بيقينها،
فإذاهُ مغرورٌ سخيف،
وتافهٌ رهيف، وارعنٌ كفيف!
ولشدة غروره وبلهه يظن أنه علمٌ خفاق
تفوق على أبناء قومه،
فإذا هم تجاهه أقزام!..
فهو لا يحترم سوى كيانه، ولا يعترف إلا بمعلوماته.
فشخصيته المغرورة أغلقت عليه باب الفهم الصحيح،
فتقوقع على نفسه...
فليته عَلِمَ أنَّ أحقر الكائنات يمكنها أن تقضي على وجوده،\
موردَةً إياه مواردَ التهلكة،
معفّرةً أنفَه في الرغَّام.
إن الإنسان أشبه بظلٍّ زائل وخيالٍ حائل،
أو كحُلمِ حالم يزول عند اليقظة،
أو كضباب اكتسحته العاصفة فتلاشى وذاب.
هذه هي حقيقةُ الإنسان المسكين الذي يملأ دنياه تبجُّحًا تافهًا
يستحق عليه أفدح سخرية من اقذع لسانٍ ذَرِب.
فالإنسان يستحق ما يُلاقيه في دنياه
من إرهاق وعَنْتٍ وبلايا ورزايا،
ومنعصات آخذة بعضها برقاب البعض،
ونكبات تنصبُّ على الجميع دون رحمة أو إشفاق.
نعم... إن الإنسان يستحق هذا المصير التاعس،
إذْ كم من المرات زار أرضنا عددٌ من الأنبياء، رُسُلِ الله،
وشرحوا لنا حقيقة الوجود، والغاية التي خُلِقنا لأجلها،
وأطلعونا على اسرارٍ روحية سماوية،
وأكدوا لنا أننا إذا سرنا على هُداها،
وتنازلنا عن بعض لذات جسدنا الحسية الترابية،
فإننا ننالُ عوالم فردوسية مُتعُها خالدة ولذاذاتُها سرمدية.
وإذانا نهزأ بهم وبتعاليمهم،
ونسخر من أسرارهم الروحية وإرشاداتهم السماوية،
ونضطهدهم ونرشقهم بكلّ فرية،
ونضمُهم بكل نقيصة وتهمة زرية،
ونستمر بممارسة لذات الجسد الذاتية.
وإذا هم ينطلقون من أرضنا،
عائدين لموطنهم الإلهي العظيم حيث النعيم الابدي.
يُغادروننا ونحن ما زلنا غائصين برجاساتنا الداعرة
ونجاساتنا العاهرة،
والأقذار المُدنّسة تُطوقُنا كتطويق السوار لمعصم الحسناء.
الا ليعلم ابناءُ الأرض الغارقون بالمعاصي المُطوقة إياههم حتى النواصي
بأنه توجد عينٌ إلهية مراقبة تُحصي على مخلوقات العوالم بأكمها كل كبيرة وصغيرة مهما دقت وضؤُلت.
وليتأكد أبناءُ الارض والعوالم المعروفة والمجهولة
بأن ساعة الحساب الرهيبة آتية وبسرعة خاطفة.
وساعتذاك الويلُ لمن يستحق العقاب الإلهيّ العادل،
فتلك الساعة المهيبة، تلك الساعة المُخيفة،
ساعة عدالة الخالق الديان،
تزمجر فيها رآبلةُ الحق،
وتدوي فيها رواعدُ الرعود،
تنقصُّ فيا الصواعق المُدمرة،
فتبيد معشر الاشرار الفجار،
لتعود فتهبهم القدرة الإلهية الحياة ثانيةً،
ليخلدوا بعذابٍ أبدي هائل المخاوف.
إن هؤلاء الاشرار الفجار سيُلاقون جزاءهم العادل،
هؤلاء الأشرار الذين جعلوا الشر ديدنهم،
واعتنقوا الباطل، وحاربوا الفضيلة،
واعتادوا الباطل، وحاربوا الفضيلة،
واعتدوا على المقدسات، وارتكبوا الموبقات الدنيئة،
وهزأوا بالسماء وباريها،
هؤلاء سيبطش العلي بهم فيجعلهم عصفًا مأكولاً،
ووقودًا لجهنم النار الأبدية الاتقاد.
في هذه الساعة المُخيفة والافلة بالرواعب المُذهلة،
لن ينفع مالٌ ولا بنون، ولا مجدٌ باطل أو سلطان زائل حائل.
فما تزرعه إياه تحصد.
فلنزرع بذورًا جيدة،
كي نحصدها خلودًا ممتعًا باللذاذات الأبدية،
هناك حيث نخلد بجنات النعيم إلى ما لا انتهاء.
بيروت، 15 تموز 1938