أنعيك بمرارة
إلى روح الشاعر مطلق عبد الخالق
أخي مُطلَق،
يا أخي، إن الأقدار التي فجعتني بك،
لهي جبَّارةٌ عمياء،
بطَّاشةٌ حمقاء.
لقد صُعِقتُ وطاشتْ أحلامي،
وأبيتُ أن أُصدق هذا الخبر المروع المفاجئ.
لقد غادرتني قبل مدة وأنت تفيضُ بالصحة والعافية.
والآن، أصدقني يا أخي، أين أنت؟
حقيرةٌ هي الحياة وقشاشةٌ لا قيمة لها،
أوَّاه! ولا معنى تحويه يا إلهي.
لقد علمني موتُك أمورًا كثيرة كنتُ أجهلُها،
وإن تكن باديةً للعيان.
ولكن بعدما توارت شمسُ حياتكَ القصيرة الأمَد هُتِكتْ أسرارها.
وهنا كانت العبرات، وتصعيد الزفرات،
وهنا كان الشقاءُ الدائم واللوعة الأبدية.
يا للهول يا أخي عندما أتذكر ليالينا المنطوية!
إن قلبي يتفطر لمجرَّد ذكراها، فلأجتزها.
نعم سأجتازها، لا رحمةً بي،
ولكن كي تبقى تلك التذكارات المقدسة
في ضمير الأبد لا يعبثُ بها عابث.
هذا، واعلم يا أخي أن الحزنَ
قد خيَّم على ربوع حياتي من بعدك،
ولن يُفارقني،
حتى تفارقني الحياة المليئة بالشرور، المُشبعة بالفجور.
أو ما كان الأحرى بك أن تنتظر يوم انطلاقي
من مُنعطفات هذا العالم الرهيب بأحزانه،
ومن ثم تتبعُني أيها الصديقُ الحبيب،
كي لا أعيش بعدما غادرتني جسمًا دون رُوح،
كآلة صمَّاء تحركها يدُ العامل مثلما يشاءُ ويهوى؟!
آه كنتُ أتمنى رثاءك لي، لا رثائي لك!
فانظر، يا لتصاريف الأقدار وأحكامها الغريبة!
يا أخي، إن ذكراك ستبقى في أعماقي
حتى يطويني العدم ويُلاشيني الفناء...
أيُّها الشاعر،
انظُم الآن قصيدة الخلود بعد اطلاعك على الحقائق السامية...
أيها الراقد!
نَمْ بسكون في حُفرتك الصغيرة النائية،
ودع الأحزان تجتثُّ روحي، وتُفري كبدي.
أيها الصديق الراحل،
لقد خلفتَ في أعماق روحي كآبةً صماء ولَوعةً خرساء.
يا من تمنيتَ الموت كثيرًا،
لقد نِلتَ بُغيتكَ وأنتَ ما تزالُ في شرخ الصبا وعنفوان الشباب.
يا حبيبي الذي توارى عني حتى الأبد،
اهنأْ حيث أنت الآن في جنان الخلد،
تحفُّ بك الملائكة الأطهار!
يا من سأبقى على ذكراه ما بقيت في حياة؛
أنتَ تستحقُ الآن أكاليل الغار والنيلوفر،
تضعها حوارى السحاب على رأسكَ بفخرٍ وإعجاب،
فاقبل تهاني أخٍ ودود
كان يتمنَّى لو حظي برفقتكَ كي يسعد لسعادتك.
أيُّها العابر، خفِّف الوطء،
فإن من يرقُد تحت الثرى هو أخي وحبيبي،
من قضيتُ فترةً من العمر أنعمُ بحبه البريء من أية غاية،
مَن ضحى لأجلي بالشيء الكثير،
من بقي على إخلاصه وصفائه
حتى اختطفه مني الموتُ القاسي،
والموتُ قوة لا تقهر.
وأنتِ يا أقدار،
لقد بلغتِ في جبروتِكِ وعسفكِ
غاية ما تُريدين،
فويحًا لكِ كم هم ضحاياكِ!
وتالله ما أكثر صرعاكِ!
ويا أيتها الأقدارُ الصارمة!
أنا أحتقرك بعد فعلتكِ الهدامة،
ولذا فإني أجتازُكِ دون أن أعيرك اهتمامي.
والآن، يا حبيبي الصامت حتى قيام الساعة،
لقد شاءت الإرادة السماوية أن تكون أنتَ السابق،
فلتكُنْ إرادتها مُقدسة.
يا حبيبي المُضطجع في حُفرتك النائية الهادئة،
أنا أغبطُكَ على وحدتك وانفرادك،
وستحومُ روحي في كل مساء
حيث أنت راقدٌ بسكون ودعة،
لتمكث طوال الليل أمام من كان لها الخل الوفيّ،
وقد أصبح الآن سرًا في ضمير الغيب،
تطويه الحفرة الصغيرة.
فيا لضيعة الآمال،
ويا للحزن العميق الذي خلفتَهُ
لأخيكَ الموؤد من بعدك.
نم بسكونٍ يا أخي،
واهنأ في عالمك المترع بالبهاء،
فإن أحلامكَ التي طالما كانت تُساورُكَ
في ظُلمة الليل وهدأة السحر
قد تحققت.
ولن يمضي وقتٌ طويل
حتى تراني بجانبك.
فإلى اللقاء يا أخي،
بل يا حبيبي إلى اللقاء.
في 15 تشرين الثاني 1937