أخي توفيق
مُهداة إلى روح توفيق عسراوي
أهكذا قضى الله، أن تنطلق من رحاب هذا العالم الفاني...
دون أن أكون بقربك لأغمض عينيك في ساعتك الأخيرة!!
ودون أن أتزود منك بنظرة (الوداع) الأبدي!!
أي أخي!
لقد انطوت الأيام، وتلاشت الأعوام!
وفي النهاية اجتاحتك يا عزيزي في طريقها!
فإذا بك تتدثر في (الرمال) المهالة فوق جسدك.
الذي طالما ضمَّه معي فراشٌ واحد.
وقلبك؟... الذي استحال إلى كتلة من الشعور الرقيق
والعاطفة النبيلة الفيتاضة
أنبئني اليقين: هل حقًا توقف؟!
هل توقف عن خفقانه وضرباته إلى النهاية! وحتى يوم الحساب؟!!
إنها فاجعةُ الفواجع يا أخي!...
أن تترك أخاك في صحراء هذه الحياة التاعسة
دون أن يبقى من يعطف عليه
بعد أن خفت فؤادُك، وخبت ميولُهُ وأمانيه!..
عندما نعاك الناعي!... تصدَّع قلبي!
وهمت عبراتي يُسابق بعضها بعضًا!
ودارت بي الأرض دورانًا عجيبًا!
وتفجرت ينابيع أحزاني ,أشجاني!
وشاع الياس القاتل في فؤادي!
وسرى الأسى مُحتلاً أعماقي! !
فكنتُ أنظر بعينين لا تريان سوى أشباح الظلام! !
وصُمَّت أذناي عن أصوات جميع الأنام! !
ورغبت نفسي الحزينة في النشيج والعويل !!
إذ وجدتُ نفسي بعد فقدانك المؤسي
وحيدًا في صحراء هذا الحياة التاعسة !
إذ ليس لي من يطمئنُّ اليه فؤادي الجريح!
أو من أوليه ثقتي ورعايتي!...
ولكني عندما أطلتُ التفكير وعادَ إليَّ صوابي
ساعتذاك... غبطتك يا أخي على ارتحالك عنا،
وانطلاقك إلى عالم (الأرواح) السامي،
مُخلفًا (الأرض) لابناء الأرض المساكين!
أولئك الذين يتشبثون بأسبابها الواهية
ويرتكبون المُوبقات في سبيل غاياتهم الوضيعة!
اولئك الذين يبيعون آخرتهم في سبيل دنياهم!
للمرة الثانية أغبطك يا أخي لمغادرتكَ عالم الرياء!
فإنَّ روحكَ لا شكَّ سعيدة في عالم النور والبهاء!
لقد كفَّرت يا أخي عن ذنوبكَ عندما كنتَ حيًّا!
إذ اعتزلتَ (البشر) في (واديك) المنفرد السحيق!
واحتقرت بهارج المدنية وسخافاتها ولم تابه بها!
لان بل جُعتَ وعريتَ في سبيل عقيدتك الصحيحة
وايمانك القويّ الجبَّار!
أيها الناسِكُ المُبتعدُ عن العالم وشروره...
هنيئًا لك رقادُك الهادئ... في مكانك السحيق النائي!
لقد ربحتُ المعركة في النهاية!
وسحقتَ بقوة (إيمانك) جميع رغباتك الأرضية
التي كانت تعتلج في أعماقك،
فاحتقرتها! لا بل... ووطئتها!... وبعثرتَ أشلاءَها!
فكتب لك الخلود في العالم الثاني!
أيها المُتقشف عن رويه وتبصُّر!...
لقد بلغت الآن نهاية المرحلة التي كنت تنشدها بفارغ صبر...
فاهنأْ حيث أنتَ الآن مع الملائكة الأطهار في الملإ العُلوي!
يا مَن وطئت بقدميك أفاعي التمنِّيات والرغبات!
أنت تستحق الآن أكاليل الغار المُقدس...
تضفرها لك حواري الجنان الفاتنات،
وتضعها على رأسِك بفخرٍ وإعجاب!
وفي ذمَّة الله روحُك الشفافة! وإلى اللقاء!
القدس، 10 كانون الثاني 1937
من الساعة الواحدة حتى الساعة الثانية بعد الظهر