وداع باريس
باريس! – أودعك الآن وداع عدوٍ عدوه!
باريس! – وأغادرك غير مأسوفٍ عليكِ!
باريس! – هي عشرون يومًا سلختها في ربوعك...
ولكنها مرت كعشرين قرنًا!
باريس! – ولقد خبرتك في قروني (العشرين)،
وعرفتُ (من أنتِ) ومَن تكونين!
باريس! –عرفتك معدن الشر، وموئل الفسق، ومنبع الفساد، والجريمة تكمن فيك ككمون النار في الرماد، والرماد في النار!
باريس! – ليس فيكِ من شيء يحمل النفس على الارتياح والقلب على
الاطمئنان!
باريس! – إنك كثيرة الصخب، كثيرة الضجيج،
ولكنه (صخب) الشر تغذوهُ الشهوة،
و(ضجيج) الإثم ينميه اللؤمُ والمجون!
باريس! – أنت تحوين شتى الأجناس، ومختلف الأصناف، ومتعدِّد الضروب!
باريس! – إن من داناكِ يصيبهُ منكِ رشاش
كائنًا من كان في مناعة الخلق، ورفعة المبدأ!
باريس! – إنك تهزئين بمن يفدون عليكِ من وراء البحار... ومنهم تسخرين!
باريس! – أما أنا فإني أهزأ بك، واسخرُ منكِ!
باريس! – إنني لم أجد في ربوعك (راحة)
ولم أشعر بين ظهرانيك بسلوى!
باريس! – إنكِ معدن الشر الطافح، ومنبعه الخفيّ الواضح!
باريس! – إنكِ آفة الآفات، وجرثومة الجراثيم!
باريس! – لقد تغنَّى بك الشعراء!. ولكنهم في ذلك حادوا عن جادة (الحق)
وضلّوا محجَّة الصواب!
باريس! – بل لقد عمهوا في الطغيان!
ولجّوا في الغواية، وشطّوا عن السبيل القويم!
باريس! – وإن كل ما ضمنوه مضامين قصائدهم وأشعارهم
هراء في هراء، لا ظلّ له من حقيقة وصواب!
باريس! – ترى هل نفثت من لعابك السام فسحرتهم
فإذا هم بكِ مأخوذون؟!
باريس! – أمْ أنهم شاموا بين ربوعك ما يُغري فأعماهم
فإذا هم لا يُبصرون؟!
باريس! – إن كلا الحالين ضلالة، وإن كليهما عين الجهالة!
باريس! – أمّا أنا – يا باريس – أنا _الفتى الشاب) الذي أجوسك للمرة الثانية،
فإني لم أشمْ ما شاموهُ، ولم أنظر ما نظروهُ!
باريس! – سمعتُ ونظرتُ نقيض ما تغنوا به في اشعارهم،
وضمَّنوه مضامين قصائدهم!
باريس! – ولقد بتُّ ألعنك في الوقت الذي باتوا هم فيه يباركونك!
ويحرقون (البخور) أمام هيكلك الرجس، القذر، الموبوء!
باريس! – أنا أبارك ساعة خروجي منك!
وهم يباركون ساعة دخولهم إياك!
وشتَّان ما بيني وبينهم!
باريس! – إذ انني شاهدتُ، ولمستُ، وعرفتُ شروروكِ وآثامكِ.
أما هم فرأوكِ، أو تراءيتِ لهم، على غير حقيقتكِ، فاستساغوا حلاوة
(الثمرة المُحرمة)،
وكتبوا أشعارهم ممزوجةً بدماء الشهوة، ومداد الأنانية والغرور!
باريس! – وهنا أنتقل بكِ إلى ما دعت إليه المناسبة، وساقت إليه ملابسة
الظروف والحال!
باريس! – إنَّ مَن تحوين ممن يدعونهن (غاداتٍ ساحرات)، أراهنَّ أنا (حشرات)
ودون الحشرات...
بل (حسرات)! وفوق الحسرات...
بل إنهنَّ لكاذبات، منافقات، خادعات، ماكرات.
بل إنهنَّ لعاهرات... فاجرات...
وانهنَّ... إنهن كما أعرف وتعرفين! وكما أعهد وتعهدين!
باريس! – لا مؤاخذة، إنه شعوري الخاص!
فعلى مذبح (الحقيقة) أقذف بهذا الشعور
ليظل عبرة للسابقين وآية (للاحقين)!
ووداعًا! – يا باريس! – الغانية العاهرة، والحسناء الداعرة!
أودّعك بقلبٍ فرحٍ مرحٍ لمغادرتك،
وإذا قدِّر له أن يراك (ثانيةً)...
فسيلجُ ربوعك بقلبٍ حزينٍ مُحطم!
وستخفيِّن أنت لاستقباله!
يقتلك العداء المُستحكم، والحقد الدفين!
ولكن لن أعبأ بك! ولن آبه بكِ يا باريس!
باريس 27 نيسان 1935
(في قطار باريس المسافر إلى ميلانو)
من الساعة 2,30 إلى الساعة 3