لقد نسيتكَ
للشاعرة الأرلندية المشهورة (إيللا هويلر ويلكوكس) قطعة شعرية عنوانها "التغير"، وقد نشرتها مجلة "الأسبوع " الغراء في عددها الثاني عشر بلغتها الإنكليزية الأصلية، وطلبت إلى القراء أن يترجموها شعرًا أو نثرًا، وللفائز جائزة قيمة تقدمها له... وقد قرأتُ ترجمتها للآنسة سعاد عبد الخالق، فأحببتُ بدوري أن أصوغها بقالبي الكاتبي. معتمدًا لا النص الإنكليزي الأصلي ولكن النص العربي المترجم الذي وضعته الآنسة المذكورة. وقد اقتبستُ المعاني نفسها وأخرجتها بألفاظ أخرى، فأتت على الصورة التالية:
أجائزٌ أن أكون قد نسيتك؟
- أجل، لقد سلوتُكَ...
وها إن الزمن قد قام حاجزًا منيعًا يفصل بيني وبينك،
فإذا بنا متباعدان رغم أننا لم نزل مُتقاربين.
أجل يا حبيبي في سالف السنين...
هي الحقيقة الصادعة،
فإني ما عدتُ لأشعر بالنشوة الروحية تغمرني،
وتدعني أُحلِّق في سماوات السعادة،
عندما تتلاقى نظراتُك بعينيَّ كما كانت تتلاقى...
لكن رغم هذا الانقلاب الفجائي، ما زلتُ لك صديقةً مُخلصة،
إذْ ما زلتُ أذكر تلك الأويقات الهانئة
التي مرت سِراعًا مثلما تمر الأحلامُ العذبة بعد اليقظة،
وتلاشت سويعات الحب المُفعمة
مثلما ستتلاشى حتى ذكرانا بعد مرور الأزمان الزاحفة.
إن الماضي المتواري لم يُبقِ لنا إلا الذكرى فقط،
وهي ذكرى سعيدة يجب أن نبقى فيها غارقين
عندما تحتلُّ مُخيلة كل منا.
ولكنْ، هل نستطيع إدراك كُنْه انتهائها،، ولمَ؟...
أيها الحبيب الوحيد فيما مضى،
ما الذي يدعوك لأن تُطيل النظر في وجهي؟
وهل من العجيب أن يحدث هذا التغيير،
وكلُّ ما تُنيره ذُكاء عرضة للتغيُّر؟!
إنَّ الطيور الصادحة والأزاهير الأرِجَة،
والنجوم النيرة والاشجار الباسقة،
والسهول المترامية الأطراف والمفاوز الشاسعة،
والأنهار ذات المياه البلورية والفراش الهائم في الحقول الفاتنة،
والجبال المُتشامخة والصخور الصماء،
والبحار اللانهائية، وكل ما هو معروف ومجهول...
تتغيّر بمرور العصور عليها،
فتلبس حلّة غير تلك التي كانت أبدًا ترتديها...
أوَليس وجهنا نفسه يحدث فيه تغيير
نلحظه بأنفسنا العام بعد العام؟
أوليست المرآة تنقل صورةَ هذا التغيير بعد حدوثه؟...
إنَّ أعمق ما يختلج داخل قلوبنا من أفكار وميول،\
وأسمى ما نطمح إليه من رغائب وأماني،
وكل ما يمرُّ بمخيلتنا من آمالٍ وأحلام،\اليست كلها خاضعة لناموس التغير؟
فكيف تطلب مني أن أمكث ثابتة بحبك،
وكيف يجوز لك تأنيبي أيها العزيز؟
وهل بلغ منك الجنون هذا المبلغ
حتى تود أن تُهيمن على أسمى ما يملكه المرء وهو (القلب)،
وتُرغمه على أن يستمرّ قانعًا بتخيلاتِ وأحلام الشباب
في أولى ساعاته؟!...
أُتظُرْ... أُنُظرْ... إن الطبيعة تُحيي الأرض في شهر مايو،
وتدعُها تطلق سراح الزنابق الناصعة من عقالها،
فتبرز برؤوسها مُتمايلةً بها تيهًا وصلفًا،
بعد تقبيل عليل النسيم لها...
ولكنه يعود فيحدث التغيير...
فتذوي الزنابقُ مُتناثرة
ليحلَّ مكانها النسرين، والأضاليا، والبنفسج،
والياسمين والمنتور، وشتى أنواع الزهر،
ثم يحدث التغيير بهذه أيضًا، وهكذا دومًا وأبدًا...
نعم إن خلجات القلوب العاشة تتغير،
إذْ يحدث بها التطور، بعد أمد يطولُ أو يقصُر،
فيذوي الحبُّ كما تذوي الأزاهير الأرجة...
أواه! يا معبودي المسكين...
إذا كان التغيير قد تمكَّن من قلبي
فأحدث فيه هذا التحول نحوك،
فما حيلتي، أنا التي جاهدتْ كثيرًا، فكان الخسران حليفي؟!
القدس، 14 شباط 1934