حياتنا التافهة
عندما قذف بي العدم إلى عالم الوجود،
كنتُ ذرة في عالم الهناء والخلود.
في تلك الدقيقة، كتب علي الشقاء.
وفي خضم هذه الحياة نؤتُ بالعناء.
بين سلسلة الآلام المتلاحقة ترعرتُ،
وبأحضان الشقاء والكرب العميق نشأتُ،
حتى أكملتُ العاشرة.
ومن ذلك التاريخ،
ابتدأت المعرفة الدنيوية تنطبع في أعماقي،
واتخذتُ عادات البشر لي قانونًا،
اسيرُ على ما يسيرون عليه.
ونُقِش، أيضًا، في نفسي الحزنُ والفرح،
وجميعُ العوامل البشرية الأخرى
التي لم أكن مقيدًا بها قبل مجيئي إلى أرض الفساد.
وعندما أكملتُ العشرين،
أحاطت بي رزايا دنيانا
إحاطة السوار للمعصم.
وكانت جميع هذه الشرور خاضعةً
للقانون الأرضي الذي يسير عليه الجسد الذي هو غلافٌ للروح النقية.
كنتُ قبل مجيئي إلى الأرض لا أعرف عن الشرور شيئًا.
وعندما وُلدتُ وترعرتُ،
خضتُ غمرات مطالب الجسد الماديّ،
مُدنسًا الروح العلوي.
إذًا لِمَ سَمَحَ المُوجد للصلاح الطاهر
أن يندمج بالطلاح العاهر؟!
فكرتُ كثيرًا دون أن اصل لنتيجة مُقنعة،
فنكصتُ حتى تأزف ساعةُ معرفتي.
ستنطوي عشراتُ السنين،
وستنحني هامتي من مرور الأعوام.
فالأعوام تنهبُ الزمان نهبًا،
فهي كالبرق المُومض الخاطف!
واعتمدتُ راسي بيدي،
ورحتُ أهيمُ في بوادي التخيلات،
علِّي أفوزُ بحل عادل
لهذه الألغاز والمعميات،
ولكنني، وا أسفاهّ! عدتُ دون نتيجة منطقية.
إن الحياة، يا أخي،
ليست سوى وهمٍ باطل
وظلٍّ حائلٍ زائل.
فالأنهار الجارية وهي تصطخب،
والبحار الثائرة وهي تُزمجر،
وكلُّ ما في الكون من صاخب وصامت،
سيعتريه الذبولُ فالأفول.
فإذا ما انتهت، بعد ذلك، صلتُنا بالحياة
بعدما يسيطرُ الموتُ على ربوع الكُرَة الأرضية،
إذ ذاك نتجسدُ بعالمٍ آخر.
وبعين الدهشة يتراءى لنا الخطأ
الذي كان جسدنا المادي
يخوض فيه غمرات الباطل المرذول،
وكنا ننقاد لطلباته الدنيوية.
فيا للجسد الحقير ورغباته الدنية!
ويا للروح السامية وأهدافها السماويّة!
وفي عالم الروح سنعرف أخطاءنا التي جرفتنا واسقطتنا،
فنتأسف لجهلنا الصارخ
الذي كنا نرسفُ بقيوده المتينة.
وفي عالم الروح، عالم الطهر والنقاء،
ننتشي برحيق الغبطة والسعادة الأزلية،
ونُنشد أهازيج الحب مع الملائكة الأبرار،
ونبتهج بخلعنا جسدنا المادي الحقير
المُبتلى بأوضار المادة الخسيسة.
فبعالم الروح تحيا الفضيلة المُثلى
حيث لا يوجد مكرٌ أو حسد،
ولا كبرياءٌ، ولا دناءة،
ولا سفالةٌ، ولا جريمة،
ولا بغضٌ، ولا نقيصة،
بل حبٌّ كامل،
وسرور شامل،
إذْ يُظللنا العليّ القدير،
ويرعانا بحنانه اللانهائي.
ولكنْ، متى يأتي ذلك اليوم السعيد؟
وهل يجوز لنا الاندماج مع الملائكة الأطهار،
قبل أن نكون قد كفرنا عن أعمالنا الشريرة
تكفيرًا يُنيلنا ما نصبو إليه؟
كلاّ، بل يجب علينا التكفير أولاً،
وعندها نستحقُّ أن ننعم بالسعاة الخالدة.
ومن أعالي السماوات،
تتراءى لنا من خلال الأزمان السحيقة
صورُ أعمالنا الماضية كغمامة سوداء مُرعبة،
تُذكرنا بما كنا نقوم به عندما كانت المادة
هي العامل المُتسلط على عقولنا ونفوسنا.
فلنصرع إلى الله تعالى
أن يُرشدنا إلى الطريق القويم،
كي نقوى على محاربة الأدران والشرور،
فنقرّب وقت خلودنا،
حيث تغمرنا السعادة مع الاتقياء والأنقياء،
وإلا، فالويلُ ثم الويلُ لنا
إذا ظللنا مُتجاهلين طريق العدالة
ومُبتعدين عن الحق الذي يعلو ولا يُعلى عليه.
10 نيسان عام 1933