وهمٌ هي الحياة فما عجبي
كنتُ جالسًا على مائدة الطعام في مدينة ارخنكلسكايا،
وكانت الساعة الثالثة بعد الظهر،
وكانت الموسيقى الصاخبة تُخدش الآذان بأنغامها المُرتفعة،
وكان الأخ سليم ينقر بأصابعه على الطاولة تبعًا لأنغام الحاكي،
وكان السياح يملأون الموائد بعد تمتعهم بالطعام الروسي،
وكانت أشجار الغاب الكثيف تسطع عليها أشعةُ الشمس الزاهية،
فتظهر الأشجار مُتسربلة بثوبٍ وهاجٍ من النور البهي يأخذ بمجامع القلوب
أما أنا فقد كنتُ أشعرُ بحزنٍ عميق،
وبأصابع شوكية تضغط على قلبي الكئيب وتهصره هصرًا رهيبًا.
وغادرنا صالةَ الطعام، وتخللنا الغاب الفاتن بأشجاره السامقة،
إنها متعة للقصر وروعةٌ للنظر!
فالكلأ الأخضر يختلط بالأزهار المضوعة،
وإذ ذاك يُصبحُ الغاب جنةً فاتنة،
وتذكرتُ قبر تتيانا الأميرة الغضة الإهاب،
التي اخترمتها يد المنون وأسكنتها اللحد الرهيب،
وهي ما تزال في ريعان صباها واكتمال جمالها،
فحزنتْ نفسي للإنسان المسكين
يأتي إلى هذه الأرض التعيسة فيشقى ويتألم،
وتُحيط به الهموم إحاطة السوار للمعصم.
ومع أن أيامه تكون كدراء سوداء،
فهو يتشبث بالبقاء فيها،
ويتمنى لو يمتد به العمر إلى ما شاء الله.
وتذكرتُ أنني قبل أيام زرتُ كنيسة (قلعة بطرس الأكبر) بمدينة ليننغراد،
وهذه الكنيسة تضمُّ بقايا القياصرة وأولياء عهودهم،
والأمراء والأميرات من العائلة المالكة القيصرية،
فحزنتْ نفسي وتألمت روحي لأن مصير الإنسان
هو الفناء ونهايته إلى ذواء.
فأين أين ما كان يحفُّ بالقياصرة من أُبهة وبهاء!
واين أين الجنود وأين هي تلك البنود؟!
وأين ذلك الاهتمام الذي كان يمحضهم إياه الجميع؟!
وأين العربات المُذهَّبة الرائعة والخيول المُطهَّمة؟!
وأين القصور الشامخة والحدائق الفاتنة؟!
أين كل ذلك أين؟!
إن جميع ما ذكرتُ أصبح في أجداث بالية
تضمُّ رفاتًا أكلَ الدهر عليه وشرب!
رفعتُ بصري نحو السماء،
نحو موطن العليّ،
نحو الخالق عز وجلَّ،
نحو موجد الكائنات المعروف منها والمجهول،
ورددتُ في نفسي قائلاً:
- أي خالقي وموجدي،
لقد بلوتُ الحياة وبلتني،
وبمآسيها الرهيبة طوقتني،
فأطلق عبدكَ يا الله،
ودعْ روحه تحلق نحو الأعالي،
نحو السماء، نحو جنة النعيم،
نحو الفراديس الإلهية،
هناك حيث لا يوجد شقاءٌ وبكاء،
بل فرَحٌ إلهيّ وبهاء.
قرية أرخنكلسكايا الروسية، في 7/ 9/ 1972
الساعة الثالثة والربع بعد الظهر