في مقهى باريزي
الساعة الآن الثالثة بعد ظهر 14/11/1978، وأنا جالس بمقهى يجاور قوس النصر الشهير بباريس.
منذ دقيقة أنجزتُ مطالعة جريدة النهار وتاريخها 13/11/1978، وكنت أشاهد السيارات ذاهبة آيبة بسلسلة لا نهاية لها. وآلالاف من النساء والرجال يسيرون في كافة الاتجاهات وهم من مختلف شعوب الأرض وأممها؛ فالزنجى اختلط بالباريسي، والعربي بالفارسي، واليمني بالألماني، والسويسري جاور السعودي.
أجناسٌ ومللٌ عديدة، وشعوبٌ ونِحلٌ تعدادها كبير.
ومرّ من أمامي شابٌّ بمقتبل العمر وقد تخاصر مع شابة بعمره، وقد شبكت ذراعها على وسطه.
وكانا بين الفينة والفينة يتبادلان القبلات وكأنه لا يوجد سواهما في هذا المحيط اللجب.
فضحكت بسري لهذا التدجيل المفضوح، فالاخلاص كلمة سخيفة سقيمة لا يؤمن بها إلا المعاتيه.
فهذا التحاضر المُزيف ما هو إلا ضحكٌ على الذقون، فهي تضحك عليه بسرها وهو يبادلها الثعلبانية سواءً بسواء.
إنها شهوة عابرة وبعدُها عن الإخلاص بعد السماوات عن الأرضين.
فخبرتي في الحياة أكدت لي أن الإخلاص ما هو إلا سرابٌ بسراب ودخانٌ يتسرَّبُ
ويذوب متلاشيَا في الفضاء.
ونظرت إلى قوس النصر الشامخ البنيان وقد مرت عليه أحداثٌ وأحداث. إنه طودٌ شيُّد في قلب باريس عاصمة فرنسا.
وسبق أن شيَّد سليمان الحكيم قصره الباذخ وهيكله الشامخ،
ولكن ذكرهما طوته الأحقاب المُتلاحقة، فإذاهما في خبر كان.
وهذا القوس المُشمخر سيكون مصيره إلى زوال.
في عام 1930 سافرت بالباخرة إلى ماريسليا ومنها بالقطار إلى باريس، وإذ لم يكن يومذاك طائراتٌ تجارية تنقل المسافرين طاوية بهم المسافات إلى حيث يُزمعُ المرءُ الوصول فيبلغُ ما يقصده بساعات.
كان حينذاك يقتضى على المسافر لباريس حوالي أسبوع ليصل إليها، والآن يصلها بساعات.
ومنذ ذلك التاريخ حتى يومي هذا مضى من الأعوام 48 عامًا كاملةً طواها الدهر ولاشى أيامها.
وبعد قليل أو أقل من القليل سيطويني الموت ويلاشيني العدم.
والتفتّ للعزيزة (أ) الجالسة بالمقهى بجواري وسألتها:
أتوافقينني أيتها المُتفانية في سبيل الحقيقة بأن حياتنا ما هي سوى وهم بوهم؟ فوافقتني بايماءة من رأسها إذ إنها تعتقد ما أعتقده، وهذه هي الحقيقة المؤسية، فلنعترف بها صاغرين.
باريس الساعة 3 بعد ظهر 14/11/1978