عنكبوت النسيان
وَينسجُ عنكبوتُ النسيان خُيوطَهُ المُحكَمَة،
وإذا بالحزن العميقِ الذي حطَّ علينا بكلكله،
بعد فقدنا لأحب حبيبٍ لدينا، وقد تناسيناهُ،
اصبح ذكرى تمرُّ بخوطرنا في مناسباتٍ خاصة.
إن الإنسان مُشتقٌّ من النسيان.
فالأعوامُ الزاحفة تطوي أهم أحداثنا المأساوية؛
وسواءٌ أكانت تلك الأحداثُ الهامَّة
مُفرحةً أم مؤسيةً، فإنَّ الزمان يبتلعُها بطياته؛
فالزمانُ كالمُخدِّر يسيطر على شعورنا،
فاذا بنا وقد نسينا الماضي بأفراحِهِ وأتراحِهِ،
ولا نعيشُ إلا بحاضرنا الذي نسيرُ في دروبه المُتشعبة.
فكمْ من صديقٍ حقيقيّ غيبتهُ القبورُ بظلماتها المُدلهمَّة؛
وساعة انطلاقِهِ إلى عالم الغيب، كان وقعُ ذلك الغياب رهيبًا.
وبانطواء الأيام خفتْ وطأة الأحزانِ وتلاشتْ أثقالُ الأشجان.
وبفناء الليالي فناءٌ لوجودي،
وقريبًا سألتحقُ بآبائي وجدودي.
إذاً لماذا التشبثُ بتوافه هذه الدنيا التعيسة؟
ولِمَ التكالبُ على بهارج دنيانا وزبَارِجها الزائلة؟
وعندما أُفكّر بأمجاد سليمانَ الحكيم،
وبثروتِه الطائلة الخيالية، وبهيكله الشامِخِ الذرى،
وقد دُكَّت أركانُه، واضمحل بنيانه، وتفكَّكت عرى أوصاله،
إذْ ذاك يتملَّكني العجبُ العجاب،
وأُذهلُ من عدم اعتبارنا لهذه الحقيقة الصادعة،
حقيقة أباطيل العالم وفنائه الذي لا بُدَّ منه.
أوليسَ الملكُ سليمان الحكيم نفسُهُ من قالَ بامثاله:
"باطلُ الأباطيل وقبضُ الريح".
فإذا كانت الأرض، بكل ما تحويه، مآلها إلى الزوال والفناء السرمدي،
فماذا، لماذا لا نتجه نحو القوةِ الموجدة،
نحو المُكوُّنِ الإلهي السامي،
نحوَ خالقنا من العدَم إلى الوجود،
نحو الله الذي هو الألفُ والياء،
إذْ هو البداية وهو النهاية؟
ولماذا لا نُطلقُ الأطماع التي تقودنا إلى الهاوية السحيقة الأغوار؟
ولماذا لا نتجهُ نحو السماءِ، نحو العلاء؟
ولماذا لا نتمسكُ بالفضيلة نابذين الرذيلة؟
ولماذا لا نسيرُ في طريق الهداية والحق والصراط المستقيم؟
حتى إذا دعانا داعي الموت الذي لا بد منه ولا محيص عنه،
نكونُ ساعتذاك مُتأهبين لمرافقته والانطلاق معه
إلى كوكب دُرّيّ يتوهج بأنواره الإلهيَّة.
وهُناكَ نُكافأ على استقامتنا فنُعطى فرودسًا داني القطوف،
أيامُه أعيادٌ وأسابيعه بهجاتٌ وأعوامه مسرّاتٌ،
لا يمكن لقلم بشري أن يصف مقدار سعادته اللانهائية.
وهناك نجتمع مع أحبائنا وأعزائنا ونسبح الله،
ونمجدُ قدرته الإلهية، ونحيا إلى ما لا نهاية بسعادة
تُقصِّرُ الأقلام عن وصفها لعظمتها وروعتها!
فتعالَ، تعالَ أيُّها الموتُ الحبيب واحملني بعيدًا
عن عالم الارض الشقي بأتعابه الرهيبة؛
ودعني أجوسُ معك جنة الخلد، فتهنأ روحي،
وتبتهج نفسي في ذلك الملإ العلوي.
في السيارة الذاهبة إلى نيويورك
الساعة العاشرة إلا ثلثاً من صباح 16/2/1977