في رحاب رب الأرباب وإله الآلهة
واجتمع الآلهة والإلاهات في الأولمب. وكان كبيرهم جوبيتير رب الأرباب وإله الآلهة، وبجانبه جُنون أحب نسائه إليه. ودار حديثهم عن المخلوقات البشرية والموبقات التي يرتكبونها.
ذلك بأنَّ الشياطين أصبحت تضجُّ في دركاتها الجحيمية مما يرتكبونه من الشرور، إذْ يقدمون عليها وكأنهم يقدمون على وليمة فاخرة، واعتداءاتهم الشائنة يكررونها بعضهم على بعض.
وكان رأي الأكثرية أن يُرسل جوبيتير صواعقه الإلهيَّة على أرضهم، فيدكّها على رؤوسهم، ويقلب عاليهم سافلهم، ويجعلهم، أخيرًا، في خير كان.
ولكن جوبيتير استمهلهم الأمر، وقال للآلهة والإلاهات:
- سأهبط بنفسي إلى الكرة الأرضية لأراقب أعمالهم وأحصي عليهم أفعالهم، وليس من حضر كمنْ غاب. إذْ يجب أن أهبطَ إلى كوكبهم وأندمج بهم ليسري عليَّ قانون الأرض الذي فرضتُه على أرضهم. وإذ ذاك سأردّم ديارهم وأمحو أخبارهم إذا شاهدتُهم عبيدًا للشرور واماء للجرائم النكراء.
- فوافق الجميع على رأي جوبيتير سيد الآلهة ورب العرش السماوي.
جوبيتير وفراسي
وهبط جوبيتير إلى الأرض مُتخذًا شكل شاب في مُقتبل العمر، وكان هبوطه في قرية غنية بطبيعتها الفتانة وينابيعها المُتدفقة وبحيراتها المُذهلة وشلالاتها الهادرة في تلك الغياض ذات الأشجار المُلتفَّة.
وكانت الأطيار تصدح على أفنانها فيردد الغاب صدى تغريدها العذب.
وكانت صبية في مقتبل عمرها ممشوقة القد، ناهضة الصدر، ناهدته، هيفاء القوام، ذات عينين خضراوين واسعتين تأسران الألباب لسحرهما وفتنتهما.
كانت هذه الهيفاء جالسة تحت ظل مجموعة من ورود الحقول البهيَّة، وقد اتَّخذت لكثرتها شكل شجرة تملأ فروعها الورود البرية.
ودُهِشت الفتاة لعدم سماعها وقع أقدام هذا الشاب الجميل. إذ شاهدته يقف فجأةً بجوارها، سائلاً إياها عن اسم القرية التي وصل إليها كغريب.
وبحياء وخفر أجبابته:
- انها تيفولي.
فقال لها:
- يؤسفني أنني وصلتُ إلى هذه القرية الجميلة بعدما سلبني جمهرةٌ من اللصوص ما كنتُ أحمله معي من المال، فأصبحتُ خالي الوفاض منه.
- ولا أدري كيف أستطيع أن أجد لي مأوى لهذه الليلة.
- وأنعمت الكاعب النظر بهذا الشابّ، فإذا هو وسيم الوجه، ممشوق القوام، فيه رجولةٌ ملموسة، وعيناه كعيني نسرٍ كاسر.
- فأسر لبَّها، واستهوى فؤادها، وإذا بها تقول له:
- يمكنك أن تكون ضيفنا هذه الليلة بسبب نكبتك. إذ إنني أعيش مع والدتي بعدما توفي والدي منذ عام.
فشكرها. وكان جمالها المُذهل قد استولى على لبّه، فخفق قلبُه بحبّها خفقان العاشق المتيَّم.
الإله العاشق والغادة المُتيمة
وانطلقا معًا إلى منزل فراسي الفاتنة، فوصلا إليه بعد عشر دقائق من المسير.
وكان المنزل الصغير تحيطه حديقة جميلة، وهو مُنعزل عن بقية المنازل، وتخفيه عنها مجموعةٌ من الأشجار الضخمة، وفيه كل وسائل الراحة.
وقدمت فراسي طعام العشاء للشاب مع كأس من النبيذ الجيد، ثم احضرت له بعض الثمار التي جمعتها من أشجار الحديقة المنزلية.
وعندما اختلت مع والدتها كان حديثهما الطويل عن هذا الشاب الممتلئ قوة وعافية. وقال لها أمها:
- لا شكَّ في أنه عريسٌ أرسلته الآلهة لكِ. فهو يظهر كأنه ولي عهد لشممه وأنفته وروعة قوامه، ولحسن كلامه وبراعته فيه.
وقد امتدَّت السهرة، وتتالت الساعات، وهذا الشاب وفتاته الفاتنة لا يملأن من الأحاديث، ولا يأبهان للنوم مهما امتدَّ بهما الوقت.
واعترف الشاب المفتول العضلات لفتاته التَّامة الأنوثة بحبّه الصاعق لها مثلما اعترفت هي بحبَّها الطاغي له.
واعترف الحبيبان بأنهما مدنفان
لقد أحببتك بمجامع قلبي وكأنني أعرفكَ منذ أعوام، وهذا عجيبٌ للغاية، إذ تقدم لطلب يدي عدد من شبان القرية، فرفضتهم جميعًا إذ لم أشعر نحو أي منهم بأية عاطفة تدفعني للقبول بأحدهم. أما أنت فمنذ شاهدتُك كاد قلبي أن يقفز خارجًا من وراء أضلاعي، لأنني شُدهتُ من حسن مظهرك والرجولة البادية عليك!
- وأنا يا معبودتي المُفداة، لقد اصبتُ بصاعقة مُدمِّرة منذ شاهدتُك, وتأكد لي أنني لا استطيع أن اعيش لحظةً واحدة دون أن تكوني معي.
جنون تحاول منع جوبيتير من الهبوط
وكان جوبيتير يصعد إلى السماء بين وقت وآخر، إذ لا يستطيع المكوث طويلاً بعيدًا عن جنون التي ليس لها طاقة على فراقه قط، فحبُّها له قد امتزج بدمائها امتزاجًا أبديًّا ولكن جوبيتير كان يختلق الأعذار العديدة مدعيًا أنه يدرس حالة سكان الأرض ويحصي عليهم أنفاسهم، حتى إذا تأكدت له شرورهم المتواصلة فإذا ذاك ينزل بهم عقابه الإلهيّ ويدكّ لهم أرضهم فوق رؤوسهم ولا يكون بذلك ظالمًا لهم.
- إذا الأمر يا جنون يحتاج لمدة من الزمن لكي أكون عادلاً إذا ما أقدمتُ على تدمير الأرض نهائيًا.
- ولكنكَ هبطت مراراً وتكراراً، وغبتَ أيامًا عن سمائك وأنتَ ماكثٌ في أرض هؤلاء البشر، بينما أنت الإله الأعظم.
- أو ما تأكد لك حتى اليوم إذا كانوا أشراراً أو أبراراً؟
- إن غيابك عني قد أضناني، وأطار النوم عن عيني، فبتُّ أسيرة الهم، سميرة الغم، رفيقة الشجن. فارحمني يا حبيبي العظيم جوبيتير، يا سيد الآلهة ورب السماوات. ودعكَ من الأرض ومن يقطن فيها، وامكث معي ليل نهار.
- جنون، كوني حكيمة وحكمي عقلك الإلهي على عاطفتك، وإذ ذاك أنتِ التي سترغبينني بالعودة مراراً وتكرارًا إلى الأرض لأدرس أعمال كل مدينة وقرية.
- قال هذا، ثم غمرها وأشبع وجهها وعنقها وفمها لثمًا وتقبيلاً. ثم هبط إلى الأرض وهو يردّد لجنون أنه سيعود إليها عاجلاً.
-
غيرة جنون تقودها إلى أرض البشر
وامتدَّ غياب جوبيتير ثلاثة أيام كانت جنون أثناءها تتقلب على جمرات من النيران المُتقدة، لعذابها الفكري الرهيب.
تُرى، ما هو سبب غياب حبيبها وسيدها جوبيتير عنها؟
أوَليس هو الإله الأكبر؟ أوَليس بوسعه معرفة البشر إذا كانوا صُلاحًا أو طُلاحًا، إذًا لِمَ هذه المماطلة؟ ولِمَ هذا الغياب المتواصل؟
وفعَلَ الشكُّ، بل قل الغيرة، فعلها في نفسها، فهبطتْ من سمائها إلى أرض البشر لترى ما هو سبب غيابه المُستمر.
فراسي أصبحت فراشة
وشعر جوبيتير بهبوط جنون إلى الأرض. وكان ساعتذاك في حقل عامرٍ بشتى أنواع الأزهار البرية. وكان يضم إلى صدره المُدلَّه حبيبته فراسي وهما يجلسان أمام بحيرة تترقرق مياهها الصافية.
وكانت شفتاه تقبلان شفتي هذه الظبية اللعوب وتهصرهما هصرًا متواصلاً. وقبل أن تصل جنون إلى مكانه، تحوَّل بقوته الإلهية لزهرةٍ فاتنة. كما حوَّل حبيبته الى فراشةٍ ملونةٍ رائعة المظهر.
في هذه اللحظة وصلت جنون أمام البحيرة، وكانت متأكدة من أن جوبيتير موجود في هذا المكان نفسه. وإذا بها تجد فراشة مُذهلة الجمال تمتصُّ رحيق زهرة الحقل الفاتنة.
فدهشت جنون من هذه المخلوقة الرقيقة الجناحين وهي تراها للمرة الأولى إذ لا عهد لها بمشاهدتها قبل اليوم.
ومنذ تلك الدقيقة خُلقت الفراشة، وهي تُرى دومًا مُحومة فوق الأزهار الملونة لتمتصَّ رحيقها المُحيي.
الولايات المتحدة الأمريكية
الساعة العاشرة والربع من ليل 4/8/1976