أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

السَّبتْ في 2 آب 1969

 في يَوْمِ سَفَري استَيْقَظْتُ مَريضاً

فورَ يقظتي صباحَ اليوم، بادرتُ إلى ترتيب حقيبَتيْ سفري، مع أنني استيقظتُ وأنا شاعرٌ بأنّني مريضٌ، إذْ كنتُ أُحسُّ بدُوارٍ شديد يتملّكني تملّكاً تامّاً. كنتُ أرى اللوحاتِ الزيتيّةِ تدورُ، والغرفةُ تنطوي جدرانُها على نفسِها، وكلُّ أثاثِها يعلو ويهبِطُ، فاستعذتُ بالله من شرِّ الشيطانِ الرجيم، وقلتُ في نفسي: تُرى، هل أستطيعُ السفَر وأنا بهذهِ الحالةِ الفظيعةِ! وسرعانَ ما انتابني الغَثَيان، فاستعنتُ عليه بكوبٍ من عصير الليمون.

وفي تمامِ الساعةِ السابعةِ والنصف، وصلَ الدكتورُ جورج خبصا رفيقُ رحلتي حولَ العالم. وعندما علمَ ما بي، قال لي: لنعدِلْ عن السَّفَر، لأنك بهذه الحالةِ لا يمكنكَ أن تتحمَّل مشاقّ الرحلة. فأجبتُه: سأسافرُ مهمَا كلَّفني الأمر، ولنْ أَعدلَ عن هذهِ الرحلةِ، خصوصاً أنَّتذاكر البان أميركان PAN AMERCAN قد أُنْجِزَتْ، وهي بحوزتي، وقد بلغَتْ كلفةُ السفرِ بالطائراتِ ذهاباً وإياباً ثلاثة آلاف دولار، أيْ نحو عشرةَ آلافِ ليرةٍ لبنانيّةٍ. وأسرعَ بعضُ الإخوةِ فدلّكوا لي جسمي بالعطورِ، وتنشَّقتُ منها مراراً وتكراراً، متناولاً بعضَ المُنْعِشات، حتى شعرتُ بأنَّ حالتي قد تحسَّنت ولله الحمد!

وقد تقاطرَ الإخوةُ والأخَواتُ الذين عرفوا أنني سأسافرُ مساءَ اليوم، منْ أجلِ توديعي. وقدْ عَدَدْتُهم، فكانوا ستةً وأربعين شخصاً بينَ رجلٍ وامرأة. وسرعانَ ما أَزفَ الوقتُ، إذ أشارتْ الساعةُ إلى الخامسةِ والنصفِ مساءً، فنزلتُ للحالِ، يرافقُني رهطٌ من الإخوةِ والأخواتِ، قاصدينَ المطارَ.

في مَطَارِ بيروت

بَلَغْنا المطارَ في الساعةِ السادسة إلاَّ رُبْعاً مساءً. وقد استقلَّيتُ سيارةَ الأخِ الكريمِ فريد فرنسيس، ورافقني بها ليلى إبنةُ شقيقتي أنتوانِت، وإِلين ضاهر، والأخُ الحبيبُ الدكتور فريد أبو سليمان. أما الدكتور خبصا فقدْ استقلَّ سيّارة الأخ هادي حجَّار، ورافَقَتْهُ زينا حدّاد وشكري وجورج شكُّور. واستقلَّ سيارة إيليَّا حجّار الأستاذ الأديب أسعد علي وغازي براكس. وكذلك واكبْنَا الأخَ العزيزَ سليم قمبرجي وشقيقه عليّ. وفي سيّارةِ الأخ سِرْج رافقَتْنا السيّدة رباب المقدّم وابنتها سهيْلا.... وغيرهم من الأخوة والأخوات الداهشيّين عددٌ كبير.

وعندما بَلَغَ رَتْلُ السيّارات محطَّة الطيران، ترجَّلنا جميعاً. وبعدَ أن قبَّلتُ كُلاَّ منهم قبلة الوداع، غادرتُهم مع أخي الدكتور خبصا، ونزلنَا إلى صالونِ الإنتظارِ قبلَ أنْ نستقلَّ الطائرة الجبَّارة الجاثمة على أرضِ المطارِ.

 ودَوَّتِ المُحَركَات

ثمَّ شَقّتْ أجوازَ الفَضَاء

في تمامِ الساعةِ السابعةِ إلاّ رُبعاً منْ مساءِ 2-8-1969، دوَّتْ مُحرِّكاتُ الطائرةِ الجبَّّارةِ بوينغ 707، ثمَّ درَجَتْ على أرضِ المطارِ، وأقلعَتْ وهي ترعدُ بجبروتٍ وتهدرُ كالطاغوت.

وأخذت تعلو رويداً رويداً حتَّى بلغَ ارتفاعُها اثني عشرَ ألفَ متر. نظرتُ من عَلُ إلى أسفل، فماذا رأيتُ؟

شاهدتُ بساطاً ممتدّاً لا نهايةَ له: بساطاً نسجَتْهُ يَدُ الطبيعة من الغيوم المتّخِذة لها شتّى الأشكال والرسوم. تالله! ما أَروعَ ما أُشاهدُ، وما أَوقعَهُ في النفسِ! ثمَّ أليسَ عجيباً أن يبلغَ التقدّمُ العلميّ والميكانيكي هذهَ الدرجةَ منَ العظمةِ؟! وأيّةَ عظمةٍ تعلو عليها؟!

مئتا مسافرٍ ومسافرةٍ يجلسُ كلٌّ منْهُم على مقعدِهِ المُريح، وأمامَهُ فسحهٌ رحبةٌ يستطيعُ أن يضَعَ فيها حقيبةَ سفره. كما بإمكانِهِ أن يفتحَ أمامَهُ طاولةًٌ صغيرةٌ يُخرجُها من ظهرِ مقعدِ زميلهِ الماثلِ أمَامَه- وكلُّ مُسافرٍ يستطيعُ عملَ هذا- فيضعُ عليهَا كتاباً ليطالعَهُ، وفي ساعاتِ الأكلِ، يتناولُ عليها طعامَه براحةٍ تامَّةٍ لا تشوبُها أيَّةُ منغِّصات مهما كانتْ طفيفة. والأغربُ من كلِّ هذا، ورغمَ ارتفاعِ الطائرةِ العظيمِ، فإنّ أيًّا منّا لم يشعرْ بأيّ ارتجاج، حتَّى الطعامَ وأكوابَ الماءِ لا تتحرّكُ على الإطلاق لشدّةِ الإتقانِ البادي للعيان.

حقّاً إنَّ الإنسانَ قدْ بَلَغَ الشأْوَ الأعلى في مضمارِ العلومِ والاختراعاتِ العظيمةِ التِي تعودُ جميعُها بالنفعِ العميمِ للجنسِ البشريّ.

الوُصُولُ إلى طَهْران

وفي تمامِ الساعةِ الحاديةَ عشرةَ إلاَّ رُبعاً ليلاً- أي بعدَ أربعِ ساعاتٍ طَيَرانٍ متواصلٍ- وصلنَا إلى طهران. فهبَطَتْ بنا الطائرةُ، ومكثتُ ساعةً وربعاً في هذهِ المدينةِ، وهكذا أُتيحَ لي أن أزورَ، في هذا الليل، المخزنِ الموجودِ ضمنَ المطارِ. وقد ابتعتُ منه أوانيَ من الميناءِ الجميلِ الزخارفَ وذي البراعةِ في نقوشهِ الفنِّيةِ التي تأخذُ بالألبابِ.

وعندما انتهتْ الطائرةُ بنَا إلى طهران، كانتْ الساعةُ الحاديةَ عشرةَ إلاَّ ربعاً، بينمَا كانتْ في بيروتَ التاسعةَ والرُبعِ ليلاً، لأنَّ الفرقَ هو ساعةٌ ونصفٌ بينَ بيروت وطهران.

ثمَّ أقلعتْ الطائرةُ بنَا في تمامِ الساعةِ الثانيةَ عشرةَ منتصفِ الليل، بتوقيتِ طهران، بينمَا كانتْ الساعةُ في بيروت، حينذاك، العاشرةَ والنصفِ ليلاً. وبعدَ طيرانٍ متواصلٍ ثلاثَ ساعاتٍ كاملةٍ، بلغْنَا مدينةَ نيودلهي في الهند، وكانتْ الساعةُ، آنذاك، فيها الخامسةَ صباحاً، بينمَا كانتْ في بيروتَ الواحدةَ والنصف.

وفورَ خروجي منَ الطائرة، شعرتُ بموجة حرٍّ شديدة تلفحُني، كما كانتْ الأمطارُ تتساقطُ رذاذاً. وقد أسرعتُ إلى صالونِ المطارِ أُنقِّلُ بَصَري في المسافرين سواءَ القادمين منهُم أم الذاهبين إلى أوطانِهِم أو إلى رحلاتِهِم في أرجاءِ كُرَتِنا الأرضيِّة. وبعد مُضيّ ساعة كاملة، عدتُ فاستقلَّيتُ الطائرة، فأقلعَتْ بنا في تمامِ السادسةِ صباحاً، بتوقيت نيودلهي، الثانية والنصف بعدَ منتصفِ الليلِ بتوقيتِ بيروت. واستمرَّتْ الطائرةُ الجبّارةُ في سَيْرها الهائل، قاطعةً في الساعةِ نحوَ 950 كيلو متراً، حتى وصلتُ أخيراً، وبعد طيرانِ أربعِ ساعاتٍ كاملةٍ، إلى مدينةِ بانكوك. وحالَ خروجي من الطائرةِ، نظرتُ إلى ساعةِ المطارِ في بانكوك فإذا بِهَا تُشيرُ إلى الحاديةَ عشرةَ والنصفِ صباحاً، لأنَّ الفرقَ بين المدينتين هو خمسُ ساعاتٍ كاملةٍ.

 إلى الفُنْدُق

 بعدَ وَعْثاءِ السّفَر

 

بعدَ الإجراءَاتِ القانونيِّة من قِبَلِ السُّلُطاتِ الرسميِّة في المطار، والتأشيرِ على جوازَيْ سَفَرنا، استقلَّينا سيّارة أوصَلَتْنا إلى فندقِ سيام أنتركونتنتال. وقدْ كنتُ منهوكَ القوى لسَهري المتواصلِ طوالَ ساعاتِ الطيران، أي إحدى عشرة ساعةٍ كاملة. وللحالِ استغرقتُ أنا والدكتور خبصا في نومٍ عميقٍ مدّةَ ساعتين كاملتين، ثمَّ استيقظنا وصَمَّمْنا على أن نقومَ بجولةٍ استطلاعيّةٍ في مدينةِ بانكوك التِي نزورُها للمرَّةِ الأولى.

الأحد في 3 آب 1969

في شَوارع مَدِينَة بَانْكُوك

نزلتُ برفقةِ الدكتور خبصا في تمامِ الساعةِ الثانيةَِ والنصفِ منْ بعدِ ظهرِ يومِ الأحد، وتجَوَّلنا في أرجاءِ بانكوك. فإذا شوارعُها رحبةٌ والسيرُ فيها مزدحِمٌ، والسيَّاراتُ تملأُ الشوارعَ والأزقّةَ، وتكتظُّ بها المنعطفات. أمَّا أبنيتُها ففخمةُ وضخمة.

ونوافيرُ المياهِ تجدُها في عدَّةِ أحياء، وهي ينابيعٌ عظيمةٌ تنبثقُ منها المياهُ لترطّبَ الجوَّ الشديدَ القيظ، إذْ إنَّ مدينة بانكوك تبلغُ الحرارةُ فيها 40 درجة مئويَّة, وفي بعضِ الأحيانِ تزيدُ عنْ هذا الحدِّ المرتفع.

وأيمُ الحقِّ، لقد تضايقنا لهذا الحرِّ غيرِ المعهودِ عندَناَ، وضاقتْ أنفاسُنا، لِذا أسرعْنَا بإيقاف تاكسي، وطلبْنَا منهُ أن يقومَ بجولةٍ في أرجاءِ المدينة لنراها ونكوّنَ عنهَا فكرةً صحيحة.

أمّا السائقُ فقد أقلَّنا إلى حديقةٍ واسعةِ الأرجاء يملكُها شخصٌ من بانكوك، وضِمْنَهَا يقومُ منزِلُهُ. وقد وضعَ في هذهِ الحديقةِ عشرةَ أقفاصٍ كبيرةٍ، وفي كلِّ قفصٍ وضَعَ أفعى من النوعِ الضخمِ أو أُفعوانان إذا كانا من الحجمِ العاديّ. وكلُّ راغبٍ في مشاهدتها يدفعُ نصفَ دولار.

ويرى القارئ أنّني تصوّرتُ مع بعض الأفاعي كتذكار لزيارتي مدينة بانكوك التي أراها للمرَّة الأولى في حياتي.

أَغْرَبُ وَليمَة عشَاء

مساءَ الأَحد اتّفق الدكتور خبصا مع مكتبِ السفريّات على أن يأخذنَا معْ عددٍ كبيرٍ منَ السُيّاحِ المقيمينَ في الفندقِ إلى مكانٍ اسمه بيمان PIMAN لنتناولَ فيهِ طعامَ العشاءِ، وكذلك لنحضرَ الرقصَ التايلاندي.

وفي تمامِ الساعةِ الثامنةِ والربع مساءً حسبَ الإتفاق، وصلنَا إلى ذلك المكانِ. فإذا به قاعةٌ رحيبةٌ تستوعبُ مئةً وخمسينَ شخصاً، وقد مُدَّت فيها موائدٌ غيرَ مرتفعةٍ، كلٌّ منها يتسعُ لشخصين دونمَا زيادة. وتحتَ كلِّ طاولةٍ حفرةٌ عُمقها 60سم بعرض 45 سم.

وحالَ وصولي مع الدكتور خبصا، جلسَ كلٌّ منَّا على الأرض وأَدخلَ رجليه في الحفرةِ، ولمْ يظهرْ من كلينا سوى الرأس والصدر. أمَّا نصفنا السفلي فكانَ مخبوءاً في الحفرة المغطّاة بالمائدةِ التي تناولنَا العشاءَ عليهَا. وكلُ سائحٍ أو سائحةٍ فعَلَ ما فعلناه.

وكنتَ تَسْمَع شتّى أنواع الأحاديث بمختلفِ اللغات: فمنهُم من يتكلّم الإنكليزيّة، وبعضُهُم الإفرنسيّة، وسواهُم التايلانديّة، وآخرون الإيطاليّة أو التركيّة أو الهنديّة أو الألمانيّة. فكانتْ مجموعةُ هذه الأحاديثِ يختلطُ بعضُها ببعض، فيرجعُ صداها الغريبُ ليصطدمَ بالآذانِ التي لا تفهمُ أيّةَ كلمةٍ من خليط هذه اللغات العجيب، إنّما كنتَ تَسْمَع دويّاً وكأنَّهُ دوي قفران النحل الغريب الاهتزازات.

الرقص الدينيّ

وبعدَ انتهاءِ الطعامِ، أعلنتْ المذيعةُ البانكوكيّة أنَّ راقصاتٍ بانكوكيّات سيقدّمن بعضَ الرقصات الدينيّة.

وفجأة برزَتْ فتاتان ترتديان ثيابَ الرقصِ الدينيّ، وراحتا تتمايلان على إيقاعِ المزاميرِ وآلاتِ الطربِ الغريبةِ التراكيب. ولبثتا ترقصان فترةً من الزمنِ. ثمَّ انسحبتا لتظهرَ مكانهُمَا راقصاتٌ أُخَر أكملنَ ما بدأتْ به الراقصتان المبدعتان. وبعدَ ساعةِ رقصٍ كاملةٍ قدّمن فيها فنّهنَّ الدينيَّ العجيبَ الغريب، انسحبنَ إلى ما وراءِ الستار، بينما دوّتْ عاصفةٌ من التصفيقِ استحساناً لإبداعهنَّ الفنّي.

أخيراً، هَرَعَ كلٌّ منّا يبحث عن حذائه الذي خلَعَه ساعة دخوله إلى أغربِ عشاءِ بأعجبِ مدينةٍ.

 في 4 آب 1969

    نومٌ عَميقٌ

صباحَ 4-8-1969، وكانَ يومَ اثنين، نهضتُ من فراشي ونظرتُ إلى الساعةِ، فإذا بي قد نمتُ ستَّ ساعات كاملة. حقّاً إنَّ هذا غايةَ العجبِ، إذْ لمْ يحدثْ لي، منذُ سنواتٍ طويلةٍ، أنْ أستغرقتُ في نومِ ستّ ساعاتٍ كاملة.

نهضتُ وكُلّي نشاطٌ وحيويّة، وهبطتُ الدرجات قفْزاً أُريدُ المدينةَ لأُشبعَ نَهَمي مِنْهَا قبلَ مغادرتي إيّاها.

رحلةٌ في قاربٍ نهريٍّ

في تمامِ الساعةِ السابعةِ والربع من صباحِ 4-8-1969، وبصحبةِ الدكتور خبصا، استقلّينا الأوتوبيس مع عشراتِ السيّاحِ قاصدينَ النهرَ، يرافقُنا الدليل. وقدْ ركِبْنَا القاربَ، وكانتْ امرأةٌ بانكوكيّة تقودُه. وقد استمرّينا نُغِذُّ السير فيه ونحنُ نشاهدُ البيوتَ الفقيرةَ على ضفّتيه.

كما كنّا نشاهدُ العشراتِ من النساءِ والرجالِ والشبّان والشابّات كلّ منهُمْ مستغرقٌ في عملهِ. وقد كانَ أكثرهُم عاريَ الصدرِ، والأطفالُ عُراة تماماً لشدّة الحرّ القاتل.

كانت سيماء الفقر ظاهرة على الجميع ظهوراً لا شُبْهةَ فيه، والأقذار تملأ مياهَ النهرِ، فإذا هي متّسخةٌ تشمئزُّ النفسُ منها. كمَا أنّ رائحةً كريهةً كانتْ تتنسّمُها أنوفنا فتظهر علاماتُ الانقباضِ والنفورِ على وجوهنا. وهكذا بقي القاربُ يتهادى طوالَ ساعةٍ ونيّف، حتى بلغنَا، أخيراً، مكاناً تُباعُ فيه الأشياء التذكاريّة للسيّاح.

عند ذاك وقف القاربُ، وإذا باعة الموز وجوز الهند الأخضر والأناناس وغيرها من فواكه مدينةِ بانكوك يعرضون علينَا ما يحملونه، والأوساخُ تغمرُهُم من قمّةِ رؤوسِهِم حتَّى أخمص أقدامهم. وبعدَ أن ابتعتُ بعضَ الأشياء التذكاريَّة، استقلّينَا الزورقَ، فسارَ بنَا إلى معبدٍ ضخمٍ، بديعِ الهندسة، غريبِ النقوش، أخذتُ له رسمين تذكاريّين. كما أنَّ الدكتور خبصا أخذ له فلماً سينمائيّاً ليبقى تذكاراً لرحلتنَا إلى بانكوك.

وفي طريقِ عودتِنَا، شاهدْنَا بعضَ النُسوة وقد انهمكن بغسلِ صحونِ الطعامِ وتنظيفها، ولكن بماذا؟! صدّقوني: بماءِ النهرِ المليءِ بملايين الجراثيمِ الرهيبة! أَيُصَدَّق هذا؟! نعم، إنها حقيقةٌ لا مراءَ فيها. لقد شاهدتُها مشاهدةً عيانيّة مثلما شاهدها كلُّ من كانَ معي بالقارب. فيا للغرابةِ!

وفي تمامِ الساعةِ الحاديةَ عشرةَ، غادرنَا القاربَ ونحنُ مأخوذان بما شاهدناه وما سمعنَاه!

 إلى مَعْبَد بُوذَا الزمرُّدي

كانتْ الساعةُ الثانيةَ عشرةَ ظهراً عندما استقلّينا سيّارةَ سائقِ الأمسِ الذي أخذنَا إلى حديقةِ الحيواناتِ. وقد طلبنَا منهُ أن يُقلّنا إلى معبدِ بوذا الزمرّدي، ففعَل. وهو لا يبعدُ عن الفندقِ أكثرَ منْ رُبعِ ساعةٍ.

حقّاً إنَّ هذا المعبدَ لَمُعجزةٌ، بل قُلْ مُعجزةَ المُعجزاتِ! فما الذي أستطيعُ أن أصفه؟!

هل أصفُ دقَّةَ الهندسةِ العجيبةِ، أم فُسيفساءَ العاج والصدفِ المتداخلين ببراعةٍ ومهارةٍ عظيمتين؟ أم أصفُ الوشي الذهبيّ وحُسْنَ سَبْكه، ثمّ دمجه، والتفنّن العظيمَ بصنعِهِ؟! إنّه آية! آية عظمى لا نظيرَ لها!

كنتُ أنظرُ إلى مجموعةِ المعابِد، وأنا مبهورٌ، بل قُلْ مسحورٌ، لعظيمِ جمالِهَا وروعةِ سَبْكها وإنسجامِها الذي لمْ أرَ له مثيلاً. إنَّ هذه المعابدَ آياتٌ خالدةٌ من الفنِّ القديم، هذا الفنُّ العظيم الذي خلَّدَ بوذا الحكيم مؤسِّس البوذيّة قبل ألفين ونيّف منَ الأعوامِ. لقد خلّدَه البوذيّون. ولِمَ يا تُرى؟.

لقد خلّدوه لأنَّه استطاعَ أنْ ينتصرَ على ميولِه الجسديَّة ويقهرَها، استطاعَ أن يدعَ روحَه تتغلّبْ على جسدهِ، وليسَ جسدهُ يتغلّب على روحهِ. لهذا خلّدَهُ البوذيّون آلافاً من الأعوام، وبنوا له مئاتِ الهياكلِ العظيمةِ، أفرغوا فيها كلَّ ما أُوتوه من علمٍ وخبرةٍ ومعرفةٍ ودقّةٍ، فجاءَت آية من آياتِ الإبداعِ الرائعِ، يراها الجميعُ فيُبهرون بها، ويردّدون كلمة: تالله ما أروعَ ما نشاهده!

إنَّ هذه المعابدَ البوذيّة العظيمة يجبُ أن يشاهدها كلُّ من يستطيعُ ذلك.

ولمّا كانتْ الحرارةُ 39 درجة، وكنّا نسيرُ من معبدٍ إلى معبدٍ على أقدامِنا، شعرنَا بأنَّ أرواحنا تكادُ تزهقُ، وضاقتْ أنفاسُنا، وأخذ العَرَقُ يتصبّبُ من أجسادِنا بغزارة. لهذا اختصرنَا الوقتَ وغادرنَا هذه المعابدَ الفريدةَ، وقفلنَا عائدين بالسيّارةِ إلى الفندقِ، ونحنُ نكادُ نلفظُ أنفاسنَا لشدّةِ القيظِ والتعبِ المُضني.

وما بلغنَا الفندقَ حتى استلقينَا على سريرينا دونَ أن نخلعَ ثيابنا، ورُحنَا نغُطُّ في نومٍ عميقٍ.

 المَطَرُ في 4 آب 1969

وعندما فتَحْنَا أعيننَا، شاهدنَا السماءَ وقدْ أمطرتْ مطراً غزيراً، فارتحنَا لهذهِ الأمطارِ لأنَّهَا ترطّبُ الجوَّ بعدَ حرارتِهِ المُنهِكَةِ للأجسادِ.

 البلاطُ المَلَكيّ بحدائقه الغنّاء

استدعينَا السائقَ وطلبنَا منهُ أن يَنقُلَنَا إلى البلاطِ الملكيّ لنشاهدَهُ، فأفادنَا أنَّ السيّاحَ لا يستطيعون مشاهدةَ البلاطِ إلاّ يومَ الخميس، ويجبُ أن يكونَ كلٌّ مِنهُمْ مرتدياً بذلةَ عاديةَ كاملة- لا ثيابَ سبور مثلنا- وبما أنَّ اليومَ هو الاثنين، فلا يمكنُ مشاهدتُه إلاَّ الخميسَ القادم. فطلبنَا منهُ أن يأخذنَا إليه لنرَاهُ من الخارجِ، ففَعَل. وعندما بلغناه وجدنَاه محاطاً من جهاتِهِ الأربع بحديقةٍ غنّاءٍ قدّرتُ مساحتَهَا بمئةِ ألفِ مترٍ مربّعٍ، والحرسُ الملكيُ على كلّ زاويةٍ منْ زواياهُ الأربعُ.

بحيرةُ القصر الملكيّ

وتفصلُ بينَ الحديقةِ والقصرِ ترعةٌ من الماءِ. فمَنْ يريدُ أنْ يبلغَ الحديقةَ عليهِ أنْ يقطعَ الترعة، وإذ ذاك يصلُ إلى السورِ الخارجي المحيطِ بالحديقة، وهناكَ يواجهُ جنديّاً يمنعهُ مِنَ الدخول.

وبعدَ أن شاهدْنَا البلاطَ الملكيّ منَ الخارجِ، عُدنَا إلى الفندقِ، عاقدين الأملَ بأنْ نسافرَ الغدَ إلى مدينةِ بنوم بن.

 في 5 آب 1969

 إلى فُنْدُق هادي حَجَّار

في الساعةِ الثامنةِ والنصفِ صباحاً، طلبتُ من الدكتور خبصا أن يأخذَني إلى الفندقِ الذي نزلَ فيهِ الأخُ هادي حجّار، قبلَ أشهرٍ، عندما زارَ بانكوك. فاستقلّينا سيّارة أوصلتنا إلى فندق مونو روم، فإذا هو حسنٌ، لكنَّ الفندقَ الذي نزلنَا فيهِ أفضلَ منه، خصوصاً بحديقته الغنّاءِ الفيحاءِ وحوضَ السباحةِ فيها البالغ الجمال والتامّ النظافة. وقد ابتعتُ من الفندقِ الذي نزَلَ فيه هادي بعضَ الحلى الفضيّة، ثمَّ عُدنَا إلى فندقِنَا سيام أنتركونتنتال. وقد نسيتُ بالسيّارة التي أوصلتْنا إلى فندقِ هادي ميزاناً لحرارة الطقس أسفتُ عليه كثيراً لأنه كان يهمُّني، وما كنتُ قد استعملتُه إلاّ يوم سفري، إذ أحضرتُه معي لأعرف بواسطته حرارة كلّ بلدٍ أُسافرُ إليه.

إلى بنُوم بن

في تمامِ الساعةِ الثانيةَ عشرةَ ظهراً، استقلّيتُ والدكتور خبصا سيّارة تاكسي إلى محطّة طيران بانكوك. وقدْ استغرقَ ذهابُنَا من الفندقِ إلى المحطّةِ نصفَ ساعةٍ، وذلك يعني أنَّ مطارَ بانكوك يبعدُ عن قلبِ المدينةِ ضِعفَيْ بُعدِ مطارِ بيروت عن ساحةِ البرج. وبعدَ وصولنا، مكثنا في استراحةِ المطارِ حتى الساعةِ الثانية والربع بعدَ الظهر، وإذ ذاك حطّتْ الطائرةُ بوينغ 727، فاستقلّيناها، وحلّقت بنَا فوراً، فبلغنا بنوم بن في تمامِ الساعةِ الثالثة وخمس دقائق.

وللحالِ استقلّينا أوتوكاراً إلى فندق سَبَقَ لهادي أنْ نَزَلَ فيه. أمّا أنا فلمْ أُعجَبْ بهِ لأنّي شعرتُ بضيق فور دخولي إليه، لأنّ الظلمة تكتنفُهُ من الداخل فينتاب المرءَ انقباض حالما يلجه. ولذا غادرتُه مع الدكتور خبصا، واعتلى كلٌّ منَّا درّاجةً صُنِعَتْ كعربة، وذهبنَا إلى فندقِ (مونو روم أوتل) حيث حجزَ لنَا الدكتورُ خبصا غرفةً ابتداءً من يومِ الخميس الموافق 7آب 1969. وبعدَ أن جُلنَا في أرجاءِ المدينةِ على الدرّاجاتِ التي يسيّرُها سائقون، اتّجهنَا إلى محطّةِ الطيرانِ لنستقلَّ الطائرةَ إلى آنكور مدينةِ المعابدِ البوذيّة.

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.