ربَّةُ ربَّات الحُسن والمفاتِن
منذُ الأمسِ،
والحزنُ القاتلُ يُخيم على روحي،
يا مُنى نفسي.
وما ذلك إلا لأن مسافاتٍ شاسعة
تُبعدُني عنكِ،
يا قبلةَ آمالي ومحطَّ أمانيَّ!
آه! ليتني سمكةٌ ذهبية،
كي أُلقي بنفسي في خضم الأمواج،
وأقطعها سابحًا حتى أبلغَ مقرَّكِ...
أو ليتني طيرٌ صدّاح
أحومُ فوق سلسلة الجبال الشاهقة التي تفصلني عنكِ...
أو ليتني النسيمُ الشفاف،
فأعتلي قِمَم الغيوم حتى أجدَكِ،
وأروح أُقبِّلُ بوَلَه وجنون شفتيكِ المعسولتين!
وا أملاه!
متى أبلغُ أمانيَّ،
وأتمكَّن من لقائكِ المنشود،
فأغرقَ في محيط حبّكِ اللانهائي!
ليت الحمام الأمين واليمام الحزين
تحملُ اليكِ مكنونات قلبي ورعشات روحي.
ليتها تُخبركِ عن خفقان فؤادي
عندما تكونين بعيدةً عني،
يا كل ما أتمناه من دنياي الفانية.
ليتني أستطيع أن أحمل الجداول رسائل غرامي،
فتقرئيها من خلال خريرها السحري.
ليت شعاع البدر السابح في أوقيانوسات الفضاء
يهمسُ في أذنيكِ مكنونات فؤادي الحزين لبعدكِ.
ليتَ ملائكةَ الحبّ
تنقل إليكِ رغباتِ نفسي الخفية،
وتمنّيات روحي المدلَّهة بهواكِ.
إنّي في هذه الليلة القمراء،
أوَدُّ أن أُنشدكِ أناشيدَ حبي وهيامي.
أُريد أن أحلِّق مع إله الحبّ،
وأبحث عنكِ لأقدّم لكِ قرباني،
يا إلهةَ الحسن والمفاتن!
أُريدُ أن أندمج بأحزاني المُروعة،
بسبب بعادك عني،
يا من وهبتُكِ قلبي ونفسي وروحي وحسِّي.
إني أتخيَّلكِ، الآن، أمامي مُنتصبة،
كأفروديت ربّة الحسن والجمال والرقّة والدلال،
وقد انبثقت، يا فاتنة الكون،
من أعماق أحزاني المؤسية.
ومن خلال هذه الآلام الفادحة،
أراكِ تبسمين لي بسماتٍ رائعة
تبعث الجنون في أعصابي.
إن المُتع التي يحتويها جسدكِ الزاهرُ بالرغبات،
والثائرُ بالتمنيات،
ستقضي على حياتي، يا حياتي.
وإشراقُ وجهكِ الذي يعصفُ ببدور جنات الخلد
يُذيبُ روحي المُتيمة بحسنكِ الخلاب.
وإن بريق عينيكِ الدعجاوين
يهزأ بأجمل ما يذهب به فكر، ويرتقي إليه خيال.
وإن رعشات نهديكِ
تُردمُ جبابرة الآلهة من عشاقك،
فيصرعون أمام قدميكِ.
إن الطلَّ يمدُّ الورود الفتَّانة بالحياة،
فتُضمخ الفضاءَ بأريجها المُحيي،
فكيف لا أحيا عندما أتخيل طيفك السحري نُصْبَ عينيَّ؟ّ!
كيف لا أُمجد الخالق وأُسبحُ واهبَ الحياة،
لوهبه إياكِ فتنةً لا يمكنُ لقلم بشريٍّ أن يصفها؟!
حتى جوبيتير يُحطمُ قلمه،
إذا حاول وصف جمالكِ المُضعضع للنُّهى!
إن شبابكِ الرائع،
وصباك الموشى بزنابق الفراديس المنتثرة في جنّات النعيم
يبهرُ العقول، ويخلبُ الأفئدة، ويأسرُ الأرواح،
فتتدله الآلهة بحبك،
وتتصارعُ في سبيل فوزها بك.
إنَّ ابتسامتكِ السعيدة تُنسيني بهجة الربيع
المتوَّج بأروع الورود، وأنضر الرياحين، وأبهى الزنابق.
أيَّتها الكاعبُ الصنّاع التي يكاد لا يلمحها المُحتضر
حتى ترتد إليه روحُه في الحال!
إن شدوكِ أعذبُ من ناي أورفيوس،
ربِّ من عزف وشدا؛
وتموّج شعرك المخملي
يعصف بتموجات أغصان الصفصاف،
عندما يُدغدغُها نسيمُ الفجر المُنعشُ البليل؛
وعبق أنفساكِ أعطرُ من عيدان الندّ الهندية الندية،
وهي تحترقُ بخورًا مقدسًا أمام سدة موجد الكائنات!
أنتِ أروعُ من حديقة نراجس افروديت،
عندما تغمرها أنوارٌ من البدور المتوهِّجة
وهي تُرسلُ أشعتها السحرية في فراديس الخلد،
فتُضفي عليها جمالاً من جمالها الأخاذ،
وفتنةً من فتنها الخلابة،
وشعرًا من خيوطها النورانية الخالدة.
فهبيني، يا مُلهمةَ الآلهة، قبلةً
تكون ترياقًا لروحي القلقة،
وبلسمًا لجراح نفسي الحزينة،
وإكسيرًا معسولًا
يبعث حمى الاشواق المُلتظية في أعصابي،
فتسري في أعماقي.
وتجرفني تلك الأشواقُ فيزداد أُوارُ حبي لكِ،
وتستعرُ جمراتُ غرامي بكِ.
نعم، هبيني قبلةً أضعُ فيها كلَّ آمالي، وجميع تمنياتي،
وأدمجُها بأخيلتي وأحلامي،
فأحيا سعيدًا، هانئًا، قانعًا من دنياي
بذكريات هذه القبلة الأبدية اللذاذات،
السرمدية المُتع والبهجات!
وستكون قبلتي عن شفتيكِ من الرقة والحنان
بحيث يُخيلُ إليكِ أن فراشةً سحرية
انطلقتْ من فراديس الخُلْد
رسولةَ الآلهة إليكِ،
وراحت تُمطرُ شفتيكِ المُغريتين
تقبيلاً عذبًا رقيقًا رفيقًا.
هذه هي قبلتي إليك،
أضعُ فيها روحي وحسِّي
وفؤادي مع نفسي.
وعندما تثور الطبيعةُ،
وتُظلم النجوم،
وتخبو أنوارُ الشمس،
وتفنى أشعةُ البدر المنير؛
وبعدما تضطرب العوالم،
وتُزلزلُ الأكوان،
ويفقدُ عالمُنا كلَّ امان؛
وعندما تزأرُ الرياح،
وتُعول الخلائق،
ويعلو نشيج نساءِ الأرض بأعنق نُواح،
إذْ ذاك أتأكدُ أن الكائنات باسرها
قد أصيبتْ بخبلٍ رهيب من تأثير عشقها إياكِ،
وفنائها في حبّكِ الذي تتمناه وتتوق إلى لُقياه،
وإذْ ذاك أضرعُ إلى موجدي وواهبي نسمة الحياة
أن يرحمني فيهبني إياكِ،
قبل أن أُغادر دنياي.
وعندما تهرعين إلى لقائي،
يا عروسي الإلهية،
تهبط على فؤادي جميعُ أفراح العوالم العلوية،
وتخوض روحي بهجات الفراديس السحرية،
فأتمتع بك تمتعًا لم تشهده عينٌ إنسانية،
أو تسمع به أذنٌ بشرية!
وعند ذاك تسجدُ لي البرايا،
وتغبطني الإلهاتُ الفاتنات،
ويُفني الحسدُ القتالُ جميع الآلهة،
فتُدكُ السماواتُ وبحارُها،
وتفيض الأنهار وتحتجبُ أسرارُها،
وتُمحى آثارُها!
أمَّا أنا وأنتِ
فأننا نخلد، حتى الأبد، بحبنا،
ما خلدَت السماء.
بيروت، 1945