في معرض الكتاب بالقاهرة
أغرب جناح في المعرض
تحت هذا العنوان نشرت جريدة "الجمهوريّة" المصريّة في عددها
الصادر بتاريخ 3 فبراير (شباط) 1979 الكلمة الآتية :
جريدة "الجمهوريّة" المصريّة
لم يكن ارتفاع أسعر الكتب هو الشيء الغريب الوحيد في المعرض . فهناك جناح بأكمله يثير الدهشة والغرابة والتساؤل . الجناح لدار نشر لبنانيّة اسمها "دار النسر المُحلّق للطباعة والنشر" . وعندما تلقي نظرة على كتبها المعروضة ، تحدث المفاجأة ، فجميع الكتب المعروضة لمؤلّفٍ واحد . ثمّ تلمح كتاباً يتيماً ، فتفاجأ أنّ الكتاب عن المؤلّف الواحد . فتأخذ نسخة من قائمة المطبوعات ، فتجدها عن مؤلّفات هذا الكاتب الواحد . إنّه الدكتور داهش ، والقائمة تعدّد مؤلّفاته شعراً ونثراً وفلسفة ومختارات ، فنجد 13 مؤلّفاً باللغة العربيّة ، 4 كتب باللغة الفرنسيّة . أمّا المؤلّفات التي تحت الطبع – كما تقول القائمة – فهي 26 مؤلّفاً ، من بينها الوقائع الداهشيّة 30 جزءاً .
وتسأل صاحب دار النشر ، والذي ألّف كتاباً اسمه "صوت داهش" عن المؤلّف الذي امتلأ الجناح بمؤلّفاته ، فيقول :" إنّه الدكتور داهش – الذي توفّي منذ عامين – وله 85 مؤلّفاً . وهو رجل له مُعتقد فلسفيّ روحيّ ".
-" وأنت لماذا لم تطبع كتباً أخرى ؟" فتأتي الإجابة أكثر غرابة :" أنا تاجر ، ودار النشر هذه من أجل مؤلّفات الدكتور داهش ". وتسأل :"لماذا؟"، فيقول :"أنا داهشيّ".
-" وهل الداهشيّة مذهب فلسفيّ أو اتّجاه ؟" فلا تجد إجابة محدّدة ، فتزداد دهشة ، وتجد نفسك أمام أغرب جناح وأغرب صاحب دار نشر وأغرب مؤلّف !!
داهش الأديب العجيب
مأخوذة من كتاب "مُعجزات وخوارق الدكتور داهش "، تأليف لطفي رضوان
بقلم لطفي رضوان
رئيس تحرير مجلّة "المُصوّر" المصريّة سابقاً
إنّ نهمي إلى مزيد من المعرفة عن الدكتور داهش الجبّار ، قد تزايد وتزايد حتى أصبحت لا أجد طعماً لراحة أو مُتعة ً في أيّ شيءٍ جميل يُمتّع غيري من الناس .
ووجدت حلاً ...
لماذا لا أبحث عن بعض الذين يتردّدون على الدكتور داهش لأقف منهم على مصادر وأماكن كتبه .
ووجدت واحداً .
وقد زادني هذا "الداهشيّ: حيرةً فوق حيرتي . لقد قال لي :"إنّ مؤلّفات الدكتور داهش تربو على الستين مؤلّفاً أدبيّاً ، عدا مؤلّفاته في حقول أخرى ".
يا إلهي !
ستّون مؤلّفاً أدبيّاً !
وعدت أسأل الشخص الكريم :
- وأين أجد بعض هذه المؤلّفات ؟
قال :
إنّها تنفد بمجرّد طرحها في المكتبات ؛ فلا تضيّع وقتك سدىً . لن تجد واحداً منها على الإطلاق .
وسألته :
- إذن ، بماذا تنصح ؟
قال :
ألم تشاهد مكتبة الدكتور داهش ؟
قلت :
-لا.
قال :
إنّ في منزله أكبر مكتبة خاصّة من نوعها في العالم ، على ما أظنّ ، إنّ فيها ما يربو على مئة ألف كتاب في مختلف حقول المعرفة ... في الروحانيّات وأصول الأديان ، والتاريخ ، والعلوم ، والآداب ، والفلسفة ، وخصوصاً الفنّ ...
قلت :
- وبعد ؟
قال :
- إذا استطعت أن تطلبَ إلى الدكتور أن يعيرك بعض كتبه من مكتبته تحلّ مشكلة البحث عن بعض مؤلّفاته .
وقرأ حيرتي البادية بوضوحٍ على وجهي .
فقال :
- ومع ذلك فسوف أقوم بإعارتك كتاباً أو اثنين من كتب الدكتور .
وسألته بعد أن شكرته :
- وأي نوع من مؤلّفات الدكتور ؟
فقال :
- بعض مؤلّفاته الأدبيّة لترى وتقف على فكره منذ ثلاثين سنة خلت ، وتعرف كيف كان ينظر إلى الدنيا وإلى الناس وإلى نفسه أيضاً .
قلت :
- إذن عليّ مؤقّتاً بهذه المؤلّفات وأنا لك من الشاكرين .
وسلّمني الصديق "الداهشيّ" بعضاً من كتبه الأدبيّة قائلاً :
- عندما تفرغ من قراءتها أكون قد وجدت لك بعضاً من كتبه الروحيّة . وأنت تجد في كتبه الأدبيّة التي ألّفها منذ أكثر من أربعين سنة ، كيف كان يفكّر في شرخ شبابه ، وكيف كانت نظرته إلى الحياة وما بعد الحياة ، ولهفته الشديدة إلى السعي للتمتّع بالحياةِ الأخرى ...بالموت .
فهو يقول :" إنّ الأسى هو ربيبي والموت هو حبيبي ".
أجل إنّ هذا الذي يرتاع منه الناس جميعاً ويخافون حتى ذكر اسمه ، يناجيه الدكتور داهش بشوق عظيم وحبّ عميم . فاسمعه يخاطب "الموت" في قطعة كتبها في مدينة القدس بتاريخ 7 كانون الثاني 1935 ، وقد ضمّها كتاب "القلب المحطّم"، ونشرت في المُصنّف المُعنّْون "مُختارات من كتبِ الدكتور داهش ":
أيها الموت
يا موت !
أيّها الحبيب الشفيق ، ويا نِعْمَ الصديق !
يا سمير وحدتي ، وأنيس يقظتي ، ومُخفّّف بلوتي !
يا طلاب نفسي ، ومطمح روحي ، ومهوى فؤادي !
يا عشيقي البعيد . ومرادي القريب !
يا حبيبي الموت !
أقفل عيني "يا حبيبي ،
أقفلها فقد تعبتا من النظر إلى هذا العالم القذر الموبوء !
فأنت ترى معي ، أيّها القارئ الكريم ، كيف كان يفكّر هذا الرجل العجيب منذ نيّف وأربعين عاماً ، وكيف أنّ الماديّات – وهو بعد في ريعان شبابه – لم يكن يأبه لها ، وكان لا يعطيها إلاّ ظهره ، وكيف أنّ نفسه كانت توّاقة إلى العالم الآخر ، العالم المجهول لنا ... ولكنه هو كان على بيّنة ممّا فيه ، لأنه كان يتغزّل بهذا العالم الآخر ، وكان يرجو ويلحّ في رجائه أن يسعده الإله بإدخاله إليه ، وهو بعد شابّ ! لماذا كان هذا التفكير من الدكتور داهش من ذاك الوقت ؟
هذا هو السؤال الذي حاولت أن أجد له الجواب الشافي . وقد بحثت كثيراً في بعض كتبه التي وقعت في يدي ، فلم تزدني هذه الكتب إلاّ غموضاً ، فهو غير مكترث للحياة ، غير آبه لما فيها من مُتعٍ حسيّة وماديّة ، مُعرضٌ كلّ الإعراض عن لذائذ الدنيا .
وبعد ، فقد عثرت في كتاب آخر له على سطور يصف فيها جوع نفسه وحسّه لا إلى الطعام والشراب وليس إلى الغيد الحسان ، بل إلى شيء آخر ... إقرأ معي ما خطّه الدكتور داهش وهو في عنفوان شبابه :
نفسي جائعة !...
نفسي جائعة ...ولكن إلى غير خبزكم المعروف ...
وروحي صابية .. ولكن إلى غير عالمكم هذا ..
وقلبي ينبض بغير ما تنبض به قلوبكم ...
نعم !
إنّ نفسي (جائعة) وجائعة ..
ولكن ! إلى (الإكسير) السماويّ !
لطفي رضوان