أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

العدالة الإلهيّة

من خلال "قصص غريبة وأساطير عجيبة"

                                                                        بقلم طوني شعشع

 

يخطئ من يتصوّر أنّ بين الفلسفة والأدب ، ولا سيّما الميثولوجيا ، حدوداً قاطعة . فقد يبلغ من تداخلهما عند بعض المُفكّرين أن يُحار الباحث في هويّة المُفكّر : أفيلسوفٌ هو أم شاعر ؟ ولعلّ أفضل مثال ، بهذا الصدد ، هو نيتشه . ومن يدري ؟ فلربّما كان نموّ الفلسفة في تربة الأسطورة ، حتّى ليسوغ القول إنّ الفلسفة هي الأسطورة مُتجرّدة من كسوتها المُنمّقة . ومن يرجع إلى بداءة التفكير الفلسفيّ – وفق ما اصطلح على اعتباره بداءة – لا يعدم أدلّة على تداخلهما عند الفلاسفة الإغريق ، قبل سقراط ، وعلى نحو فريد ، عند تلميذه العظيم أفلاطون . فإذا علمنا أنّ الكثير ممّا خلّفه لنا اولئك الفلاسفة ، من مقطّعات ، هو أصلاً قصائد ، وأنّ أفلاطون زاول الشعر قبل الفلسفة ، ثمّ استخدمه في عرضها ، لم نجد حرجاً في الاعتقاد بأنّ بين الفلسفة والأدب وشائج لا يجوز الاستهانة بها ...

ولكن إذا حصل ، في ما بعد ، تمايز بين الثقافتين : الفلسفيّة والأدبيّة وخصائصهما وشروطهما ، فلا يحول ذلك دون ترافدهما . فقد يطرق الأديب موضوعات تتّصل بالفلسفة ، وقد يعمد الفيلسوف ، أو صاحب العقيدة الفلسفيّة ، إلى استخدام القصّة أو المثل أو الأسطورة من أجل أن يبثّ آراءه ويجلو مراميه .

في هذا الضوء علينا أن نقبل على رائعة الدكتور داهش "قصص غريبة وأساطير عجيبة" (في جزءيها)(12) . فما همّه السلوة أو المُتعة الجماليّة ، بل عرض عقيدته الروحيّة من خلال القصّة والأسطورة . على أنّ ذلك لا ينفي ما في رائعتة من بديع الوصف وغريب الخيال وجميل البيان ، ممّا يستحقّ دراسة مُستقلّة مُستفيضة . ولكنّ ذلك كلّه ليس غاية في ذاته ، بل روافد وأدوات من أجل غاية أبعد هي : العقيدة الداهشيّة .

والحقيقة أنّ للدكتور داهش ، من خلال "قصصه وأساطيره". غايتين : فكريّة نظريّة (عرض آرائه في الوجود والناس والأشياء ...)، وخلقيّة عمليّة (البحث على ممارسة الفضائل واجتناب الرذائل) . غير أنّهما ليستا مُنفصلتين ، بل مُتلازمتان جوهريّاً : البعد الخُلقيّ أحد أبعاد النظرة الداهشيّة إلى الوجود ، زد أنّ النظرة الداهشيّة – وبخاصّة في بعدها الميتافيزيقيّ – تحمل مُعتنقها ، من غير اللجوء إلى الوعظ المباشر ، على مزاولة الفضائل ... وما تمييزنا بين الغايتين إلاّ في سبيل المزيد من الشرح والجلاء .

ويتهيّأ لنا أنّ هذه "القصص والأساطير" يمكن أن تندرج في سياق ما ندعوه " الأسلوب النبويّ" في مُخاطبة الناس . السيّد المسيح بشّر بملكوت السماء متوسّلاً الأمثال ، والقرآن الكريم حافل بالقصص والأمثال ، والإشارات إليها ... وللأسلوب النبويّ جملة فوائد ، منها أنّ النبيّ – في رأي ابن رشد – لا يتوجّه بكلامه إلى النخبة المُثقّفة من الناس فقط ، بل إليهم كافّة . فما هم جميعاً في مستوى واحد من حيث الفهم والتصوّر والتصديق .

الأمثال والقصص – والمُجاز عموماً – أجدى في تبليغ الحقائق الروحيّة إلى الناس جميعاً ، على تفاوت مستواهم : العامّة يكتفون بالظاهر ، بينما ينفذ الخاصّة إلى الباطن ، وكلّهم يقين بأنّ لهذه القصص والتشابيه مرامي أبعد من ظاهرها القريب . وسواء أحصل التصديق بالظاهر أم بالباطن ، فالغرض واحد وهو ممارسة الفضائل من أجل الخلاص .

وعندنا أنّ " الأسلوب النبويّ" أصلح في التعبير عن الحقائق الروحيّة ، ما دام العقل البشريّ – ومن ثمّ اللغة الفلسفيّة المُجرّدة – أعجز عن القطع في المسائل الروحيّة . ومن فضائله أنّه يفيد الدنوّ من الحقيقة ، لا القبض عليها ؛ ومنها أنّ الرمز أداة إيحاءٍ تنطوي على دلالاتٍ جمّة ، في حين أنّ المفهوم المُجرّد غالباً ما يشتمل على دلالة واحدة مُحدّدة ، قد يخطئ التأويل ، لكنّ الرمز هو أبداً في غنىً وتجدّد ، وربّما اكتسب مع الزمن أبعاداً ما كان ليفطن إليها أوّلاً ...

وعلى الجملة ، فإنّ "قصص الدكتور داهش الغريبة وأساطيره العجيبة" هي ، بالنسبة إلى العقيدة الداهشيّة ، أشبه بأمثالِ السيّد المسيح بالنسبة إلى العقيدة المسيحيّة . فما هي ، إذن ، التعاليم الداهشيّة من خلال هذه "القصص والأساطير "؟

 

                                         *      *      *

لا يصعب على الباحث أن يكتشف أنّ الفكرة الغالبة على الكتاب هي العدالة الإلهيّة : كلّ ما يأتيه الإنسان ، من خيرٍ أو شرّ ، له ثوابه أو عقابه . والعدالة قد تكون قريبة ، في حياة واحدة ؛ وقد تكون بعيدة ، في حياة ثانية ، سواء على الأرض أو في عالم آخر . والمؤلّف يجهر ، في مقدّمة الجزء الثاني من الكتاب ، قائلاً :" أنا أؤمن بالتقمّص إيماني بوجودي". والتقمّص ، في شرعه ، قانون أملته الرحمة الإلهيّة ، علّ الإنسان "يتطهّر من أوشابه ويتخلّص من أوزاره " ، إذ إنّ الحياة البشريّة الواعية المسؤولة أقصر من أن تتيح له ، حيال مُغريات الأرض وتجاربها الجمّة ، الانتصار على نفسه والعودة إلى مصدره (مقدّمة الجزء الثاني ،ص 7). وإذا لم يقيّض لبعضهم الانتصار على تجربة ، ومات ، فلا يظنّ أنّه نجا منها . عليه أن يجبهها ، في أدوار حياة لاحقة حتّى ينتصر عليها ويرتقي (ج 2 ، ص 38-39).

وتقضي العدالة الإلهيّة ، أحياناً ، أن يجيء الجزاء من نوع العمل ، إمّا على يد من حلّ به البلاء في دور سابق ، كالمرأة التي ألقت لولديها طعاماً للذئاب الجائعة ، فافترسها في حياة ثانية ذئبان هما ولداها نفسهما (ج 1 ، ص 106)؛ وإمّا مباشرة من العدالة الإلهيّة ، كالطفل الذي ولد أعمى لأنّه سمل عيني صديقه في دور سابق (ج 2 ، ص 211) .... ولا بدّ أن يعجب القارئ من تغيّر العلاقات بين الأفراد ، من دور إلى دور ، وتنوّعها : فقد تستحيل الصديقة إلى شقيقة ، والشقيقة إلى عشيقة ، والابن إلى ذئب ، والهرّة عند سيّدة بيت إلى سيّدة ثريّة ، ابنتها سيّدة البيت سابقاً ، والكلب إلى أمير ، واللحّام إلى كلب ... وقد تبقى العلاقة هي هي ، وإنّما تنتقل إلى نوع آخر من الكائنات ، كالزنجيّة وأولادها الذين أصبحوا ، في دورة لاحقة ، هرّة وأجراءها ... علاقات متنوّعة مُتحوّلة مُعقّدة يتعذّر عليك التكهّن بما ستؤول إليه ، حتما ، لأنّها تضرب جذورها في تقمّصات مُتعدّدة سابقة ، لا قبل للطاقة البشريّة باستيعابها ...

وتقضي العدالة الإلهيّة ، أحياناً أخرى ، بانتقال بعض الصِّفات الجسميّة والأمراض من دور إلى دور ، كالزنجيّة التي تقمّصت هرّة سوداء ( ج 2 ، ص 117) ؛ والسيّدة التي كانت هرّة كسرت رجلها وبقر بطنها ، في حياة سابقة ، وإذا بها في التقمّص اللاحق ، تشكو ألماً في رجلها ... وألماً متواصلاً في بطنها "(ج 1 ، ص 87).

والعدالة تقضي ، أيضاً ، بانتقال العواطف والميول من دور إلى دور . فمن الحبّ ، مثلا، ما يولد من نظرة أولى ، وسرّه أنّ الحبيبين كانا ينتميان ، في الأصل ، إلى روح واحدة تجزّأت عبر الزمان . يقول حرمخيس الكاهن في معبد أوزريس ، لأمونارتس ، الفاتنة التي تدلّه بها فجأة : " أنت – ولا شكّ – جزء من روحي المُنفصلة عنّي من قديم الزمان " (ج1 ، ص 220) . ويؤكّد المؤلّف ، في الموضع نفسه ، قائلاً :" فقد كانا معاً منذ آلاف الأعوام ، وهذه الحقيقة يثبتها الشعور العنيف المُشترك ". وربّما جال في ذهن القارئ أنّ لجبران مثل هذا الاعتقاد في قصّته "رماد الأجيال والنار الخالدة " (عرائس المروج). ولكنّ مقارنة سريعة بين القصّتين تظهر أنّ جبران يقتصر على هذه الفكرة ، بينما تندرج ، عند الدكتور داهش ، في سياق نظرته إلى العدالة الإلهيّة : الكاهن حرمخيس نذر نفسه للإله أوزريس ، ولكنّه حنث بقسمه ، فقضت العدالة الإلهيّة بأن يلتقي حبيبته ، في حياة لاحقة ، وبينهما من العمر فارق كبير ، زد أنّ على امونارتس ، حبيبته ، التضحية بسعادة زواجهما ، بأن تغادر حرمخيس حتّى يقيّض لها الإلتقاء به في تقمّصات آتية ...ترى ، أين نجد كلّ هذه التفاصيل والأسرار في قصّة جبران ؟

ولكنّ حبّ حرمخيس وأمونارتس نادر الوقوع في التاريخ البشريّ ، بل قل يكاد يكون مُستحيلاً . فما الحبّ على الأرض ، في رأي المؤلّف ، إلاّ " الشهوة العارمة التي تتأجّج في قلب كلّ من الشابّ والشّابّة "، أمّا الحبّ الحقيقيّ السامي " فموطنه هنالك هنالك بعيداً في السماوات العلويّة "(ج 2، ص 210) . وربّما اتّضحت لنا ، في هذا الضوء ، قصّة الشاعر الذي جاب الصحارى ناشداً الحبّ الخالد ، فلم يجد إليه سبيلاً إلا الانتحار علّه يحظى بحبيبته في عالم فوق هذا العالم (ج 1، ص 123).

 

إذا ، فقد يتقمّص الحبيبان في كوكب آخر ، غير الأرض ، إذاً عزّ عليهما اللقاء فيها (ج 2، ص52). ولا بدّ ههنا من إشارة إلى أنّ "التقمّص"، بعد الموت ، في كوكب آخر ، يفيد أنّ الحياة الثانية ليست ولكنّه ماديّ أيضاً . "أحلام" قبيل مولدها ، غاب "جسدها أمام دهشة الحضور وعجبهم الشديد " (ج 1، ص 35) ؛ والشاعر ، بعيد انتحاره ، خلع الجسد الأرضيّ " ليرتدي الجسد الروحي الخالد" (ج 1 ، ص 126). إذن ، فليس صحيحاً ما هو شائع من أنّ الإنسان ، بعد الموت ، يستحيل ، إذا تصفّت نفسه ، إلى كائن روحيّ لا تشوبه مادّة . الداهشيّة تؤكّد أن الحياة الثانية هي أيضاً ماديّة ، والإنسان يحتاج إلى أزمنة متطاولة جدّاً ، وتقمّصات جمّة وتجارب هائلة ليعطى له الاندماج بالعالم الروحي ، ومن ثمّ بالله ، جلّت ألوهيّته . وعليه ، فلا يجوز أن تؤول ، على أنّها مجاز ، الأوصاف القرآنية عن الجنّة ، والحياة الثانية .

ويلزم ، ممّا تقدّم ، أنّ الكواكب ليست قناديل معلّقة في الفضاء لتؤنس الإنسان . هذه الفكرة هي من بقايا الاعتقاد بمركزيّة الأرض ، الذي اندثر إلى غير رجعة . الكواكب ، في العقيدة الداهشيّة ، عوالم آهلة بكائنات ، منها ما هو أدنى من الأرض ، ومنها ما هو أرقى ... لذلك لا نعجب إذا جال بنا الدكتور داهش في بعض الكواكب ، وحدّثنا عن أنظمتها وأشكال سكّانها وحضاراتها ، ممّا يصعب ههنا إيجازه . فليراجعها من شاء الاستيضاح في مواضعها من الكتاب ( ج 1 ، ص 212 ؛ ج 2 ، ص 107 وص 223).

على أنّ التقمّص ، في رأي الدكتور داهش ، قانون يتعدّى البشر إلى الكائنات جميعاً . أليست تحوّلات الأشجار ، في خلال الفصول الأربعة ، ضرباً من التقمّص ؟( ج 2، ص 10) . وإذا كان التقمّص لا يفهم إلاّ من خلال العدالة الإلهيّة ، فهذا يستتبع أنّ الجماد والنبات والحيوان تثاب وتعاقب ، وأنّها مُدركة حرّة مُسؤولة .

يجب ، والحالة هذه ، ألاّ تحمل قصص الأشياء والأشجار والأزهار والحيوان ... على محمل المجاز أو التشخيص . المسألة أعمق ممّا يتصوّر ، إذ يؤكّد الدكتور داهش أنّ لما ندعوه ، خطأ ، كائنات " غير عاقلة" ، ملكات إدراك تجاوز الطاقة البشريّة . فقد يسمع بعضها أحاديثنا ويعيها ويحفظها ("القنديل اليتيم " ج 1 ، ص 78؛ والتقى النسر بالنمر " ج 2، ص 43 ). وربّما أعطي لبعضها "شعور" فطريّ يعرف به نوايا البشر وخفاياهم ، كالأفاعي التي زوّدت بالسمّ لمجازاة المُستحقّ من الناس (" حديث بين أفعوانتين" ج 1، ص 197)...

ويذهب الدكتور داهش إلى أبعد ، فلا يجد حرجاً في القول إنّ من الحيوان ما أعطي له معرفة تقمّصه السابق :" المرء عندما يتقمّص كحيوان أو طير أو سواه يُعطى سيّال معرفة الماضي ، فيعرف أنّه كان بتقمّصه السابق رجلاً أو امرأة ، ولماذا تقمّص الآن بصورة الحيوانيّة "(ج 2، ص 39). أمّا البشر فقد أغلقت دونهم هذه المعرفة . وإذا بدا لنا ، في بعض القصص والأساطير ، إنّ من الناس من عرف تقمّصاته ، بالأحلام أو بسواها ، فمردّه ، في رأينا ، إلى ضرورة تعليل الحادثة من غير إساءة إلى المُقتضيات الفنيّة للقصّة .

ولا يفوق بعض الحيوان الإنسان من حيث قوى الإدراك عنده ، فقط ، بل من حيث مستواه الخلقيّ أيضاً ." الهرّة البطلة" أنشبت أظافرها في المُعتدي الأثيم وأوردته موارد التهلكة (ج 1، ص 112)؛ والكلب نكتار آثر ، بعد سياحته "البشريّة" في عالم الناس ، أن يرجع كلباً كما كان (ج 1 ، ص 132)....

وههنا بعض الجِدَّة في النظرة الداهشيّة إلى التقمّص . الشائع أنّ تقمّص الأنسان حيواناً دليل على انحطاطه الخلقيّ ، وعقوبة له . أمّا الداهشيّة ، فليس يلزم عندها ذلك ، ولعلّ بعض التقمّصات الحيوانيّة أو النباتيّة أرقى مستوى من تقمّصات إنسانيّة !

يتحصّل لنا ، ممّا تقدّم ، أنّ ترتيب الكائنات النوعيّ ، من وجهة روحيّة ، بات عرضة للطعن فيه ، وأنّ معيار التقدّم لم يعد وقفاً على الإنتماء إلى النوع . هذه النظرة الفلسفيّة الجديدة لا تقلّ ثورة عن آراء كوبرنيكس في النظام الكونيّ : لم تعد الأرض ، في التصوّر الكوبرنيكي ، مركز الكون ؛ بيد أنّ الإنسان لم يتنازل عن سلطانه " ومركزيّته" على الأرض . أمّا في النظرة الداهشيّة ، فقد زلزل عرش الإنسان ، وبات مخلوقاً كسائر المخلوقات الأرضيّة .

وممّا تحصّل لنا ، أيضاً ، أنّ للماجريات على الأرض أسباباً قريبة ، وأسبابا بعيدة . الأسباب الحقيقيّة للأشياء ليست القريبة الظاهرة ، إنّما البعيدة الخفيّة . وما الأولى غير منفذ طبيعيّ للثانية . السبب الظاهر لضرب الأم ابنتها بقضيب فولاذيّ هو انفعالها من جرّأء مشادّة عنيفة بينهما ، أمّا السبب الحقيقيّ البعيد فيعود إلى دورة حياة سابقة ضربت فيها سيّدة القصر (أي الفتاة في التقمّص الجديد) هرّة جائعة ( الأمّ في التقمّص الجديد نفسه ) بهراوة أودت بحياتها , وقس على ذلك سائر القصص والأساطير الدائرة على محور التقمّص ...

وإذا حدّدت الصدفة بأنّها التقاء سلسلتين من الأسباب الطبيعيّة ، ولا رابطة عليّة بينهما ، فهذه الحلقة السببية "المفقودة" موجدة حتماً في التقمّصات السابقة . على أنّ جهلنا بالأسباب البعيدة ، وأقتصارنا على القريبة منها ، هو ما يقودنا إلى الإعتقاد بالصدفة . فليس صدفة ، على سبيل المثال ، ما طرأ على الزحّافة من خلل ، وانقضاض الذئاب على بوشكين وكراسيا : العقاب اللازم عن جريمتهما ، في تقمّص سابق ، هو الرابطة السببيّة الخفيّة بين سلسلتي الأسباب الظاهرة.

 

ولكنّ الأسباب البعيدة لا تفعل إلاّ من خلال السببيّة الطبيعيّة ، وعليه فلا وجود "للخارق". وما يروى من كرامات وخوارق – ما خلا مُعجزات الأنبياء الصحيحة – هو ، في رأي الداهشيّة ، أكاذيب وشعوذات لا طائل تحتها .... لذلك يسخر الدكتور داهش ، في بعض قصصه ، من رجال الدين "المُتخرّصين والزاعمين أنّ صورة مريم العذراء دمعت عيناها ، وأنّ صورة السيّد المسيح تفجّرت من عينيه الدموع ...(ج2 ، ص 43-44) ؛ ويهزأ أيضاً بمدّعي علم الغيب :" هذا لا يعلمه إلاّ الله والراسخون بعلم الغيب ، ، إذا وجِدَ حقّاً علم اسمه علم الغيب ... ولكن هيهات !".

*      *      *

تلك هي جولة سريعة ، وسريعة جدّاً ، في مضامين "قصص غريبة وأساطير عجيبة " للدكتور داهش ، أردناها مدخلاً صغيراً إلى دراسات أعمق وأشمل . الكتاب أغنى من أن تستنفده دراسة ، بل قل دراسات ... فما برحت فيه موضوعات جمّة للبحث والتقصّي ... على أنّنا نودّ ، قبل أن نمسح اليراعة ، أن ننبّه إلى أمر مهمّ ، مفاده أنّ القارئ قد يصطدم "بغرابة" التعاليم الداهشيّة ، ويرى أنّها بعيدة عن التصوّر المألوف ، ومن ثمّ فما هي إلاّ ضرب من الخيال .

والحقيقة أنّ الاحتجاج "بالغرابة" ، في نقد التعاليم ، قد ينقلب حجّة تؤيّد صحّتها . ذلك بأنّ "الغرابة" كانت ملازمة ، أوّل بدء ، لنشوء الحقائق العلميّة : ألم يكن "غريباً" ، وغريباً جدّاً ، القول إنّ الأرض تدور ، والشمس ثابتة ؟ ألم يكن " غريباً" وغريباً جدّاً ، الاعتقاد بنسبيّة الزمن واعتباره بعداً رابعاً من أبعاد المكان ؟ ألم يكن "غريباً" ، وغريباً جدّاً ، القول إنّ المادّة مؤلّفة من ذرّات ، والذرّة أشبه بنظام شمسيّ موغل في الدقّة ؟....

هذه الحقائق العلميّة جُبهت ، أوّل الأمر ، بالرفض ، والاستهجان ، لأنّها كانت "غريبة" تخالف المألوف الشائع . ولكنّها استحالت ، مع الزمن ، مألوفة لا يجادل في صوابها اثنان . وعليه ، فلا يبعد أن تصير التعاليم الداهشيّة إلى ما صارت إليه الحقائق العلميّة .

أجل ! لا بدّ للحقيقة أن تسطع . ومن يجبن دون التحديق إليها ليس أهلاّ للوقوف تحت وجه الشمس !

                                                                         طوني شعشع

                                                                   زحلة ، في 9/9/1979

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.