العدالة الإلهيّة
من خلال "قصص غريبة وأساطير عجيبة"
بقلم طوني شعشع
يخطئ من يتصوّر أنّ بين الفلسفة والأدب ، ولا سيّما الميثولوجيا ، حدوداً قاطعة . فقد يبلغ من تداخلهما عند بعض المُفكّرين أن يُحار الباحث في هويّة المُفكّر : أفيلسوفٌ هو أم شاعر ؟ ولعلّ أفضل مثال ، بهذا الصدد ، هو نيتشه . ومن يدري ؟ فلربّما كان نموّ الفلسفة في تربة الأسطورة ، حتّى ليسوغ القول إنّ الفلسفة هي الأسطورة مُتجرّدة من كسوتها المُنمّقة . ومن يرجع إلى بداءة التفكير الفلسفيّ – وفق ما اصطلح على اعتباره بداءة – لا يعدم أدلّة على تداخلهما عند الفلاسفة الإغريق ، قبل سقراط ، وعلى نحو فريد ، عند تلميذه العظيم أفلاطون . فإذا علمنا أنّ الكثير ممّا خلّفه لنا اولئك الفلاسفة ، من مقطّعات ، هو أصلاً قصائد ، وأنّ أفلاطون زاول الشعر قبل الفلسفة ، ثمّ استخدمه في عرضها ، لم نجد حرجاً في الاعتقاد بأنّ بين الفلسفة والأدب وشائج لا يجوز الاستهانة بها ...
ولكن إذا حصل ، في ما بعد ، تمايز بين الثقافتين : الفلسفيّة والأدبيّة وخصائصهما وشروطهما ، فلا يحول ذلك دون ترافدهما . فقد يطرق الأديب موضوعات تتّصل بالفلسفة ، وقد يعمد الفيلسوف ، أو صاحب العقيدة الفلسفيّة ، إلى استخدام القصّة أو المثل أو الأسطورة من أجل أن يبثّ آراءه ويجلو مراميه .
في هذا الضوء علينا أن نقبل على رائعة الدكتور داهش "قصص غريبة وأساطير عجيبة" (في جزءيها)(12) . فما همّه السلوة أو المُتعة الجماليّة ، بل عرض عقيدته الروحيّة من خلال القصّة والأسطورة . على أنّ ذلك لا ينفي ما في رائعتة من بديع الوصف وغريب الخيال وجميل البيان ، ممّا يستحقّ دراسة مُستقلّة مُستفيضة . ولكنّ ذلك كلّه ليس غاية في ذاته ، بل روافد وأدوات من أجل غاية أبعد هي : العقيدة الداهشيّة .
والحقيقة أنّ للدكتور داهش ، من خلال "قصصه وأساطيره". غايتين : فكريّة نظريّة (عرض آرائه في الوجود والناس والأشياء ...)، وخلقيّة عمليّة (البحث على ممارسة الفضائل واجتناب الرذائل) . غير أنّهما ليستا مُنفصلتين ، بل مُتلازمتان جوهريّاً : البعد الخُلقيّ أحد أبعاد النظرة الداهشيّة إلى الوجود ، زد أنّ النظرة الداهشيّة – وبخاصّة في بعدها الميتافيزيقيّ – تحمل مُعتنقها ، من غير اللجوء إلى الوعظ المباشر ، على مزاولة الفضائل ... وما تمييزنا بين الغايتين إلاّ في سبيل المزيد من الشرح والجلاء .
ويتهيّأ لنا أنّ هذه "القصص والأساطير" يمكن أن تندرج في سياق ما ندعوه " الأسلوب النبويّ" في مُخاطبة الناس . السيّد المسيح بشّر بملكوت السماء متوسّلاً الأمثال ، والقرآن الكريم حافل بالقصص والأمثال ، والإشارات إليها ... وللأسلوب النبويّ جملة فوائد ، منها أنّ النبيّ – في رأي ابن رشد – لا يتوجّه بكلامه إلى النخبة المُثقّفة من الناس فقط ، بل إليهم كافّة . فما هم جميعاً في مستوى واحد من حيث الفهم والتصوّر والتصديق .
الأمثال والقصص – والمُجاز عموماً – أجدى في تبليغ الحقائق الروحيّة إلى الناس جميعاً ، على تفاوت مستواهم : العامّة يكتفون بالظاهر ، بينما ينفذ الخاصّة إلى الباطن ، وكلّهم يقين بأنّ لهذه القصص والتشابيه مرامي أبعد من ظاهرها القريب . وسواء أحصل التصديق بالظاهر أم بالباطن ، فالغرض واحد وهو ممارسة الفضائل من أجل الخلاص .
وعندنا أنّ " الأسلوب النبويّ" أصلح في التعبير عن الحقائق الروحيّة ، ما دام العقل البشريّ – ومن ثمّ اللغة الفلسفيّة المُجرّدة – أعجز عن القطع في المسائل الروحيّة . ومن فضائله أنّه يفيد الدنوّ من الحقيقة ، لا القبض عليها ؛ ومنها أنّ الرمز أداة إيحاءٍ تنطوي على دلالاتٍ جمّة ، في حين أنّ المفهوم المُجرّد غالباً ما يشتمل على دلالة واحدة مُحدّدة ، قد يخطئ التأويل ، لكنّ الرمز هو أبداً في غنىً وتجدّد ، وربّما اكتسب مع الزمن أبعاداً ما كان ليفطن إليها أوّلاً ...
وعلى الجملة ، فإنّ "قصص الدكتور داهش الغريبة وأساطيره العجيبة" هي ، بالنسبة إلى العقيدة الداهشيّة ، أشبه بأمثالِ السيّد المسيح بالنسبة إلى العقيدة المسيحيّة . فما هي ، إذن ، التعاليم الداهشيّة من خلال هذه "القصص والأساطير "؟
* * *
لا يصعب على الباحث أن يكتشف أنّ الفكرة الغالبة على الكتاب هي العدالة الإلهيّة : كلّ ما يأتيه الإنسان ، من خيرٍ أو شرّ ، له ثوابه أو عقابه . والعدالة قد تكون قريبة ، في حياة واحدة ؛ وقد تكون بعيدة ، في حياة ثانية ، سواء على الأرض أو في عالم آخر . والمؤلّف يجهر ، في مقدّمة الجزء الثاني من الكتاب ، قائلاً :" أنا أؤمن بالتقمّص إيماني بوجودي". والتقمّص ، في شرعه ، قانون أملته الرحمة الإلهيّة ، علّ الإنسان "يتطهّر من أوشابه ويتخلّص من أوزاره " ، إذ إنّ الحياة البشريّة الواعية المسؤولة أقصر من أن تتيح له ، حيال مُغريات الأرض وتجاربها الجمّة ، الانتصار على نفسه والعودة إلى مصدره (مقدّمة الجزء الثاني ،ص 7). وإذا لم يقيّض لبعضهم الانتصار على تجربة ، ومات ، فلا يظنّ أنّه نجا منها . عليه أن يجبهها ، في أدوار حياة لاحقة حتّى ينتصر عليها ويرتقي (ج 2 ، ص 38-39).
وتقضي العدالة الإلهيّة ، أحياناً ، أن يجيء الجزاء من نوع العمل ، إمّا على يد من حلّ به البلاء في دور سابق ، كالمرأة التي ألقت لولديها طعاماً للذئاب الجائعة ، فافترسها في حياة ثانية ذئبان هما ولداها نفسهما (ج 1 ، ص 106)؛ وإمّا مباشرة من العدالة الإلهيّة ، كالطفل الذي ولد أعمى لأنّه سمل عيني صديقه في دور سابق (ج 2 ، ص 211) .... ولا بدّ أن يعجب القارئ من تغيّر العلاقات بين الأفراد ، من دور إلى دور ، وتنوّعها : فقد تستحيل الصديقة إلى شقيقة ، والشقيقة إلى عشيقة ، والابن إلى ذئب ، والهرّة عند سيّدة بيت إلى سيّدة ثريّة ، ابنتها سيّدة البيت سابقاً ، والكلب إلى أمير ، واللحّام إلى كلب ... وقد تبقى العلاقة هي هي ، وإنّما تنتقل إلى نوع آخر من الكائنات ، كالزنجيّة وأولادها الذين أصبحوا ، في دورة لاحقة ، هرّة وأجراءها ... علاقات متنوّعة مُتحوّلة مُعقّدة يتعذّر عليك التكهّن بما ستؤول إليه ، حتما ، لأنّها تضرب جذورها في تقمّصات مُتعدّدة سابقة ، لا قبل للطاقة البشريّة باستيعابها ...
وتقضي العدالة الإلهيّة ، أحياناً أخرى ، بانتقال بعض الصِّفات الجسميّة والأمراض من دور إلى دور ، كالزنجيّة التي تقمّصت هرّة سوداء ( ج 2 ، ص 117) ؛ والسيّدة التي كانت هرّة كسرت رجلها وبقر بطنها ، في حياة سابقة ، وإذا بها في التقمّص اللاحق ، تشكو ألماً في رجلها ... وألماً متواصلاً في بطنها "(ج 1 ، ص 87).
والعدالة تقضي ، أيضاً ، بانتقال العواطف والميول من دور إلى دور . فمن الحبّ ، مثلا، ما يولد من نظرة أولى ، وسرّه أنّ الحبيبين كانا ينتميان ، في الأصل ، إلى روح واحدة تجزّأت عبر الزمان . يقول حرمخيس الكاهن في معبد أوزريس ، لأمونارتس ، الفاتنة التي تدلّه بها فجأة : " أنت – ولا شكّ – جزء من روحي المُنفصلة عنّي من قديم الزمان " (ج1 ، ص 220) . ويؤكّد المؤلّف ، في الموضع نفسه ، قائلاً :" فقد كانا معاً منذ آلاف الأعوام ، وهذه الحقيقة يثبتها الشعور العنيف المُشترك ". وربّما جال في ذهن القارئ أنّ لجبران مثل هذا الاعتقاد في قصّته "رماد الأجيال والنار الخالدة " (عرائس المروج). ولكنّ مقارنة سريعة بين القصّتين تظهر أنّ جبران يقتصر على هذه الفكرة ، بينما تندرج ، عند الدكتور داهش ، في سياق نظرته إلى العدالة الإلهيّة : الكاهن حرمخيس نذر نفسه للإله أوزريس ، ولكنّه حنث بقسمه ، فقضت العدالة الإلهيّة بأن يلتقي حبيبته ، في حياة لاحقة ، وبينهما من العمر فارق كبير ، زد أنّ على امونارتس ، حبيبته ، التضحية بسعادة زواجهما ، بأن تغادر حرمخيس حتّى يقيّض لها الإلتقاء به في تقمّصات آتية ...ترى ، أين نجد كلّ هذه التفاصيل والأسرار في قصّة جبران ؟
ولكنّ حبّ حرمخيس وأمونارتس نادر الوقوع في التاريخ البشريّ ، بل قل يكاد يكون مُستحيلاً . فما الحبّ على الأرض ، في رأي المؤلّف ، إلاّ " الشهوة العارمة التي تتأجّج في قلب كلّ من الشابّ والشّابّة "، أمّا الحبّ الحقيقيّ السامي " فموطنه هنالك هنالك بعيداً في السماوات العلويّة "(ج 2، ص 210) . وربّما اتّضحت لنا ، في هذا الضوء ، قصّة الشاعر الذي جاب الصحارى ناشداً الحبّ الخالد ، فلم يجد إليه سبيلاً إلا الانتحار علّه يحظى بحبيبته في عالم فوق هذا العالم (ج 1، ص 123).
إذا ، فقد يتقمّص الحبيبان في كوكب آخر ، غير الأرض ، إذاً عزّ عليهما اللقاء فيها (ج 2، ص52). ولا بدّ ههنا من إشارة إلى أنّ "التقمّص"، بعد الموت ، في كوكب آخر ، يفيد أنّ الحياة الثانية ليست ولكنّه ماديّ أيضاً . "أحلام" قبيل مولدها ، غاب "جسدها أمام دهشة الحضور وعجبهم الشديد " (ج 1، ص 35) ؛ والشاعر ، بعيد انتحاره ، خلع الجسد الأرضيّ " ليرتدي الجسد الروحي الخالد" (ج 1 ، ص 126). إذن ، فليس صحيحاً ما هو شائع من أنّ الإنسان ، بعد الموت ، يستحيل ، إذا تصفّت نفسه ، إلى كائن روحيّ لا تشوبه مادّة . الداهشيّة تؤكّد أن الحياة الثانية هي أيضاً ماديّة ، والإنسان يحتاج إلى أزمنة متطاولة جدّاً ، وتقمّصات جمّة وتجارب هائلة ليعطى له الاندماج بالعالم الروحي ، ومن ثمّ بالله ، جلّت ألوهيّته . وعليه ، فلا يجوز أن تؤول ، على أنّها مجاز ، الأوصاف القرآنية عن الجنّة ، والحياة الثانية .
ويلزم ، ممّا تقدّم ، أنّ الكواكب ليست قناديل معلّقة في الفضاء لتؤنس الإنسان . هذه الفكرة هي من بقايا الاعتقاد بمركزيّة الأرض ، الذي اندثر إلى غير رجعة . الكواكب ، في العقيدة الداهشيّة ، عوالم آهلة بكائنات ، منها ما هو أدنى من الأرض ، ومنها ما هو أرقى ... لذلك لا نعجب إذا جال بنا الدكتور داهش في بعض الكواكب ، وحدّثنا عن أنظمتها وأشكال سكّانها وحضاراتها ، ممّا يصعب ههنا إيجازه . فليراجعها من شاء الاستيضاح في مواضعها من الكتاب ( ج 1 ، ص 212 ؛ ج 2 ، ص 107 وص 223).
على أنّ التقمّص ، في رأي الدكتور داهش ، قانون يتعدّى البشر إلى الكائنات جميعاً . أليست تحوّلات الأشجار ، في خلال الفصول الأربعة ، ضرباً من التقمّص ؟( ج 2، ص 10) . وإذا كان التقمّص لا يفهم إلاّ من خلال العدالة الإلهيّة ، فهذا يستتبع أنّ الجماد والنبات والحيوان تثاب وتعاقب ، وأنّها مُدركة حرّة مُسؤولة .
يجب ، والحالة هذه ، ألاّ تحمل قصص الأشياء والأشجار والأزهار والحيوان ... على محمل المجاز أو التشخيص . المسألة أعمق ممّا يتصوّر ، إذ يؤكّد الدكتور داهش أنّ لما ندعوه ، خطأ ، كائنات " غير عاقلة" ، ملكات إدراك تجاوز الطاقة البشريّة . فقد يسمع بعضها أحاديثنا ويعيها ويحفظها ("القنديل اليتيم " ج 1 ، ص 78؛ والتقى النسر بالنمر " ج 2، ص 43 ). وربّما أعطي لبعضها "شعور" فطريّ يعرف به نوايا البشر وخفاياهم ، كالأفاعي التي زوّدت بالسمّ لمجازاة المُستحقّ من الناس (" حديث بين أفعوانتين" ج 1، ص 197)...
ويذهب الدكتور داهش إلى أبعد ، فلا يجد حرجاً في القول إنّ من الحيوان ما أعطي له معرفة تقمّصه السابق :" المرء عندما يتقمّص كحيوان أو طير أو سواه يُعطى سيّال معرفة الماضي ، فيعرف أنّه كان بتقمّصه السابق رجلاً أو امرأة ، ولماذا تقمّص الآن بصورة الحيوانيّة "(ج 2، ص 39). أمّا البشر فقد أغلقت دونهم هذه المعرفة . وإذا بدا لنا ، في بعض القصص والأساطير ، إنّ من الناس من عرف تقمّصاته ، بالأحلام أو بسواها ، فمردّه ، في رأينا ، إلى ضرورة تعليل الحادثة من غير إساءة إلى المُقتضيات الفنيّة للقصّة .
ولا يفوق بعض الحيوان الإنسان من حيث قوى الإدراك عنده ، فقط ، بل من حيث مستواه الخلقيّ أيضاً ." الهرّة البطلة" أنشبت أظافرها في المُعتدي الأثيم وأوردته موارد التهلكة (ج 1، ص 112)؛ والكلب نكتار آثر ، بعد سياحته "البشريّة" في عالم الناس ، أن يرجع كلباً كما كان (ج 1 ، ص 132)....
وههنا بعض الجِدَّة في النظرة الداهشيّة إلى التقمّص . الشائع أنّ تقمّص الأنسان حيواناً دليل على انحطاطه الخلقيّ ، وعقوبة له . أمّا الداهشيّة ، فليس يلزم عندها ذلك ، ولعلّ بعض التقمّصات الحيوانيّة أو النباتيّة أرقى مستوى من تقمّصات إنسانيّة !
يتحصّل لنا ، ممّا تقدّم ، أنّ ترتيب الكائنات النوعيّ ، من وجهة روحيّة ، بات عرضة للطعن فيه ، وأنّ معيار التقدّم لم يعد وقفاً على الإنتماء إلى النوع . هذه النظرة الفلسفيّة الجديدة لا تقلّ ثورة عن آراء كوبرنيكس في النظام الكونيّ : لم تعد الأرض ، في التصوّر الكوبرنيكي ، مركز الكون ؛ بيد أنّ الإنسان لم يتنازل عن سلطانه " ومركزيّته" على الأرض . أمّا في النظرة الداهشيّة ، فقد زلزل عرش الإنسان ، وبات مخلوقاً كسائر المخلوقات الأرضيّة .
وممّا تحصّل لنا ، أيضاً ، أنّ للماجريات على الأرض أسباباً قريبة ، وأسبابا بعيدة . الأسباب الحقيقيّة للأشياء ليست القريبة الظاهرة ، إنّما البعيدة الخفيّة . وما الأولى غير منفذ طبيعيّ للثانية . السبب الظاهر لضرب الأم ابنتها بقضيب فولاذيّ هو انفعالها من جرّأء مشادّة عنيفة بينهما ، أمّا السبب الحقيقيّ البعيد فيعود إلى دورة حياة سابقة ضربت فيها سيّدة القصر (أي الفتاة في التقمّص الجديد) هرّة جائعة ( الأمّ في التقمّص الجديد نفسه ) بهراوة أودت بحياتها , وقس على ذلك سائر القصص والأساطير الدائرة على محور التقمّص ...
وإذا حدّدت الصدفة بأنّها التقاء سلسلتين من الأسباب الطبيعيّة ، ولا رابطة عليّة بينهما ، فهذه الحلقة السببية "المفقودة" موجدة حتماً في التقمّصات السابقة . على أنّ جهلنا بالأسباب البعيدة ، وأقتصارنا على القريبة منها ، هو ما يقودنا إلى الإعتقاد بالصدفة . فليس صدفة ، على سبيل المثال ، ما طرأ على الزحّافة من خلل ، وانقضاض الذئاب على بوشكين وكراسيا : العقاب اللازم عن جريمتهما ، في تقمّص سابق ، هو الرابطة السببيّة الخفيّة بين سلسلتي الأسباب الظاهرة.
ولكنّ الأسباب البعيدة لا تفعل إلاّ من خلال السببيّة الطبيعيّة ، وعليه فلا وجود "للخارق". وما يروى من كرامات وخوارق – ما خلا مُعجزات الأنبياء الصحيحة – هو ، في رأي الداهشيّة ، أكاذيب وشعوذات لا طائل تحتها .... لذلك يسخر الدكتور داهش ، في بعض قصصه ، من رجال الدين "المُتخرّصين والزاعمين أنّ صورة مريم العذراء دمعت عيناها ، وأنّ صورة السيّد المسيح تفجّرت من عينيه الدموع ...(ج2 ، ص 43-44) ؛ ويهزأ أيضاً بمدّعي علم الغيب :" هذا لا يعلمه إلاّ الله والراسخون بعلم الغيب ، ، إذا وجِدَ حقّاً علم اسمه علم الغيب ... ولكن هيهات !".
* * *
تلك هي جولة سريعة ، وسريعة جدّاً ، في مضامين "قصص غريبة وأساطير عجيبة " للدكتور داهش ، أردناها مدخلاً صغيراً إلى دراسات أعمق وأشمل . الكتاب أغنى من أن تستنفده دراسة ، بل قل دراسات ... فما برحت فيه موضوعات جمّة للبحث والتقصّي ... على أنّنا نودّ ، قبل أن نمسح اليراعة ، أن ننبّه إلى أمر مهمّ ، مفاده أنّ القارئ قد يصطدم "بغرابة" التعاليم الداهشيّة ، ويرى أنّها بعيدة عن التصوّر المألوف ، ومن ثمّ فما هي إلاّ ضرب من الخيال .
والحقيقة أنّ الاحتجاج "بالغرابة" ، في نقد التعاليم ، قد ينقلب حجّة تؤيّد صحّتها . ذلك بأنّ "الغرابة" كانت ملازمة ، أوّل بدء ، لنشوء الحقائق العلميّة : ألم يكن "غريباً" ، وغريباً جدّاً ، القول إنّ الأرض تدور ، والشمس ثابتة ؟ ألم يكن " غريباً" وغريباً جدّاً ، الاعتقاد بنسبيّة الزمن واعتباره بعداً رابعاً من أبعاد المكان ؟ ألم يكن "غريباً" ، وغريباً جدّاً ، القول إنّ المادّة مؤلّفة من ذرّات ، والذرّة أشبه بنظام شمسيّ موغل في الدقّة ؟....
هذه الحقائق العلميّة جُبهت ، أوّل الأمر ، بالرفض ، والاستهجان ، لأنّها كانت "غريبة" تخالف المألوف الشائع . ولكنّها استحالت ، مع الزمن ، مألوفة لا يجادل في صوابها اثنان . وعليه ، فلا يبعد أن تصير التعاليم الداهشيّة إلى ما صارت إليه الحقائق العلميّة .
أجل ! لا بدّ للحقيقة أن تسطع . ومن يجبن دون التحديق إليها ليس أهلاّ للوقوف تحت وجه الشمس !
طوني شعشع
زحلة ، في 9/9/1979