أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

وأخيراً وجد ديوجين الإنسان

 

                                                                         بقلم نقولا ضاهر

                                                                     (ماجستير في التاريخ)

                        

تعدّدت المُعجزات وتنوّعت في رجل واحد ، ذي شخصيّة فذّة ، إنّه الدكتور داهش ، رجل المُعجزات والخوارق . فمن مُعجزات روحيّة ، طال أمدها وذاع صيتها حتّى شملت معظم عواصم العالم ، إلى مُعجزات أدبيّة رائعة ، أسميتها مُعجزات لأنّها تناولت مواضيع شتّى في كتب جمّة ، تعدّ بالعشرات ، منها ما يغلب عليها الطابع الاجتماعيّ من حيث موضوعاتها ومعالجتها ككتاب "مذكّرات دينار".

ومنها ما يغلب عليه الطابع الذاتيّ الوجدانيّ لما تحتوي من خلجات وآمال وأحزان ... ككتاب "نبال ونصال" ، وكتاب "عواطف وعواصف" و كتاب "مختارات" ، و"نشيد الحبّ" ، وكتاب "ضجعة الموت" ، و"الإلهات الستّ" .

ومنها ما يغلب عليه الطابع الفكريّ ، ككتاب "بروق ورعود" ، وكتاب "كلمات" ...

ومنها ما يغلب عليه الطابع الدينيّ من حيث أنّ بعض كتب الدكتور داهش موحاة إليه ، مثل كتاب "مذكّرات يسوع الناصري" ، وكتاب "الهادي الإلهيّ" ؛ أو من حيث أنّها تعالج وتسهب في شرح أو وصف موضوعات طرقتها الأديان السابقة ، ككتاب "نشيد الأنشاد" وكتاب "الجحيم" في ثلاثة أجزاء ، وكتاب "النعيم " في ثلاثة أجزاء أيضاً . أمّا كتاب "جحيم الدكتور داهش " فهو كتاب فريد من نوعه في اللغات العربيّة والأجنبيّة ، يصف فيه الكاتب شتّى أنواع العذابات في الدركات السحيقة بدقّةٍ متناهية ، وما يقاسيه الإنسان من جرّاء تسفّله وتدنّيه إلى تلك الدركات المُظّلمة الدجوجيّة . أمّا كتابه "النعيم " فيصف فيه العوالم العلويّة وما تحويه من سعادة وهناء وبهاء وسناء . تسبّح باستمرار إلهاً واحداً خالق السماء والأرض حيث لا حدود لملكه ولا انتهاء .

ومنها ما يغلب عليه الطابع الميثولوجيّ (أو الأساطير العجيبة) وهي إعادة جديدة مبتكرة لمنهج الأساطير في القرن العشرين ، ككتاب "خيال مجنّح أو حياة الأحياء في القمر" ، وكتاب "قصص غريبة وأساطير عجيبة" (في جزءين ) ؛ هذه القصص الشيّقة بمطالعتها ، المعبّرة بمغزاها ومعانيها ، فريدة من نوعها ، لا مثيل لها لا في الشرق ولا في الغرب ، ولم يخطر حتّى ببال أيّ كاتب أو أديب عند العرب أو الأجانب أن ينسج على منوال الدكتور داهش ليأتينا بأفكار مماثلة وصور بديعة مُعبّرة . لذا جاءت قصصاً فوق القصص وأساطير فوق الأساطير ، كتبها المؤلّف عن مبدإ وعقيدة ، تجلّت فيها العدالة الإلهيّة بصدقها وتساميها ، بثوابها وعقابها ، عظةً لمن يعتبر ، وكذلك نظريّة التقمّص أو الجزاء العادل التي برزت إلى حيّز الوجود بقالب واقعي ملموس لا تشوبه شائبة ، فقلبت المفاهيم ، وغيّرت المقاييس ، وأعطت حقائق روحيّة جديدة ، يتقبّلها الإنسان المثقف المؤمن الواعي لتعاليم الأديان السماويّة المُنزلة بعقلٍ سليم .

ومنها ما يغلب عليه طابع أدب الرحلة ، ككتاب "رحلاتي حول العالم" (في ستّة أجزاء) ، الذي يتّصف بخصائص ، من أبرزها أنّ القارئ يعيش معه لحظات تحرّكاته ، ويرافقه في زياراته وتنقّلاته ، لدقّة وصفه ، وغنّي صوره ، وسلاسة أسلوبه ، وشمول معانيه وصدق تعابيره ومبانيه ؛ فلم يسبق لرحّالة من قبله أن جاء بمثلها أو كتب حتّى ما يشابهها .

ناهيك عن "الكتب السوداء"(10) التي وضعها الدكتور داهش ونشرها ، فوزّعت في طول البلاد وعرضها ، في لبنان كما في بعض البلاد العربيّة ، وذلك من عام 1945 حتى عام 1952 ، زمن حكم الطاغية الباغية بشارة الخوري يوم كان رئيساً للبنان . وتمتاز هذه المجموعة بأسلوبها الخاصّ الفريد بنوعه ، كأنّه وجد له وولد معه فقط (أي مع الدكتور داهش) حتى لا يصل إليه غيره . ومن الكتب السوداء : كتاب " فضيحة العهد الاستقلاليّ المرعب "، و"الردّ على أكذب خطاب طنّان لرئيس جمهوريّة لبنان "، "العدالة والضمير والحقّ والقانون ضدّ بشارة الخوري" وكتاب "ميشال شيحا تحت المطرقة الداهشيّة " وكتاب "المُتبرّجات المُتبذّلات المُتهتِّكات ".... بل قل عشرات الكتب أمثالها التي هزّت المعتدين على داهش ، فزلزلت كيانهم ، وقوّضت أركانهم ، وهتكت مخبّآتهم ، وكشفت مكنوناتهم لما جاءتهم من الحقائق والبيّنات فأخرستهم حتى يوم يبعثون ...

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ هذا التصنيف لمؤلّفات الدكتور داهش ليس تصنيفاً قاطعاً ، إذ كثيراً ما يتداخل في الكتاب الواحد ، وعلى نحو مُنسجم جميل ، الطابع الوجدانيّ بالطابع الفكريّ الفلسفيّ ... ففي كتاب ضجعة الموت " لمحات فكريّة تستحقّ التوقّف عندها والتأمّل فيها ، وفي "الإلهات الستّ" أتحفنا الكاتب بسموّ معانيه وبعد مراميه وبأسلوبه السّلس ، فجاء تحفة على تحفة برسومه وإخراجه وخطوطه ولوحاته . وفي كتاب "كلمات" ، عبارات كثيرة تفصح عن خلجات نفس الدكتور داهش الوجدانيّة وآلامه في هذا المجتمع البشريّ المليء بالرزايا ، وغربته عن هذا العالم ، عالم الشرور والأكاذيب ، بقوله :" لا بارك الله في تلك الساعة التي فتحت فيها عينيّ ، فإذا بي في مكان يطلقون عليه اسم العالم ".

إنّ هذا التصنيف يعطينا فكرة عامّة عن أدب الدكتور داهش وكتاباته المُتنوّعة الأساليب المُتعدّدة الألوان ، وبالأخصّ أسلوب النقد والتعليق والردّ بطريقته الساخرة اللاذعة ، وجميعها تشير إلى إعجازِ الدكتور داهش بشخصيّته البشريّة والروحيّة .

أمّا عن البعد الإنسانيّ الذي امتاز به الأديب ، فنراه متجلّياً بكلِّ صدقٍ وإخلاصٍ ومحبّةٍ متفانية في كتاب "نهر الدموع أو مراثي الدكتور داهش في شقيق روحه الدكتور جورج خبصا "، هذا الكتاب الذي يتضمّن 168 صفحة ، من ضمنها 10 قطع كتبها الدكتور داهش إلى أخيه الدكتور جورج خبصا في عام 1944 تدلّ على وثيق أواصر المحبّة والإخاء بينهما ، وتشيد بمآثره الجليلة . يقول الكاتب :" فأصبحنا روحاً واحدة تحتلّ جسدين " (ص 8). و31 مرثية تعبّر عن حزن عميق ولوعة شديدة ، لفراق أخ كبير مُجاهد ، أخ حبيب رحل عن دنيانا في 8 تشرين الثاني سنة 1969 ، بعد أن عايش الدكتور داهش مدّة 28 عاماً قضاها في الجهاد المتواصل من أجل عقيدة روحيّة سامية آمن بها وعمل من أجلها إلى جانب مؤسّسها : إنّها العقيدة الداهشيّة . أراد مؤلّف الكتاب أن يحيي حبّه الصادق المُجرّد من كلّ غاية مادّية في عالمٍ إلهه ومعبوده المادّة وذلك في قطعة :" إلى أخي الحبيب خبصا"، إذ يقول فيها :

" أخي الدكتور الحبيب

لولاك لما استطبت حياتي

ولولا وجودك لما رضيت بوجودي

ولولا أملي بأنّه سيأتي يوم ألتقي فيه بك

لفضّلت الانتحار على هذه الحياة الشقيّة".

                                                                                              

                                                        

كما يجسّد الدكتور داهش تفاني وإخلاص الدكتور خبصا لعقيدته الداهشيّة ، بالإضافة إلى موقف من مواقفه البطوليّة يوم اضطهاد الداهشيين زمن المجرم بشارة الخوري ، في قطعة ،"لماذا أحبّ الدكتور خبصا"، بقوله :

"أحبّه لأنّه تقدّم لافتدائي عندما حاول الرّعاع الاعتداء عليّ ، مع أنّه كان سواه ممّن يحبّونني حاضرين فلم يتقدّم أحد منهم لافتدائي ".

                                                          

ويخلّد الصداقة (11) والنبل والكرم والشهامة ، هذه السيّالات العلويّة الهابطة إلى عالم دنيويّ تعيس بعيد كلّ البعد عن هذه المزايا النبيلة ، عالم مادّي مرذول ، فارغ من جميع قيمه الروحيّة السامية ، ولا يعرف معنى للفضائل إلاّ بالاسم ؛ في هذا العالم المادي الجشع ، كان الدكتور خبصا يعطف على الفقراء فعلاً ، ويحسن إلى المعوزين ، فيطبّبهم دون مقابل ، ولا يكتفي بذلك بل غالباً ما "كان ينقدهم بعض المال ويقدّم لهم الدواء مجّاناً". كما إنّه كان يعيل بعض العائلات المُحتاجة باستمرار دون أن تعلم يساره ما تفعل يمينه ، ولا يعير المادّة إيّ اهتمام ، هذا ما يبيّنه الدكتور داهش في قطعة يقول فيها :

"عرفته نبيلاً كريماً ،

لطيف المعشر ، رقيق المحضر ،

صديقاً صادقاً ، ورفيقاً حاذقاً ،

طبيبا عطوفاً ، وأخاً رؤوفاً ،

يهب باليسار ما يكسبه باليمين ،

يعطف على البؤساء ويؤاسي الفقراء ،

ويهب خبرته الثمينة للمساكين ".

                                                              

 

وفي قطعة "شهامتك عظمى" يقول :

"في كلّ حقبة من الزمن

يهبط من العوالم العلويّة زائر إلى أرضنا الشقيّة ،

لكي يعلّمنا الفضيلة والشهامة والأنفة والإخلاص ،

ولكي يدعنا نلمس لمس اليد كيف يجب أن نفضّل الشرف ،

وكيف يجب أن نضحّي ونثبت في عقيدتنا ،

ثم يغادرنا وكأنّه البرق قد ومض ومضى ،

مخلّفاً لنا الأحزان القاتلة والذكرى التي لا تنسى ".

 

ويتوّج الدكتور داهش خواطره الحزينة المؤلمة التي لن تبرح خاطره ، بآهات تصدر من أعماق نفسه الطيّبة ، وهو بين اليقظة والحلم ، متسائلاً عمّا جرى ، مُتحسّراً لما جرى ! يشعر كأنّه في جحيمٍ مُستعر بالنيران ، يتقلّب على جمراتِ ناره المُتّقدة ، مُشبّهاً الموت بوحشٍ مفترسٍ اختطف حبيبه من بين يديه فجأة . فهالته قوّة الصّدمة ، وأمسى بحالة تثير الشفقة ، ضالاًّ في صحراء حياتنا الشقيّة ، يمزّقه الألم ويلازمه الحزن العميق ؛ كلّ ذلك بسبب فقدان أحبّ المخلوقات إلى فؤاده وأصدقها وأوفاها ، بعد أن أصبح جزءاً لا يتجزّأ من كيانه وحياته ، في صباحه ومسائه ، فيعبّر الكاتب عن هذا كلّه بما سطّرته يداه في عدّة قطع من هذا الكتاب منها :" نيران مُتلظّية تلتهم روحي"، "ذكراك الخالدة" ، "تباد الآزال وذكرك خالد". يقول في هذه الأخيرة :

"أخي الحبيب خبصا ،

ستمضي أيّام وتتلاشى أسابيع ، وتزول شهور ،

وتتصرّم أعوام ، وتفنى أجيال ، وتتلاشى أحقاب ،

وتضمحلّ دهور ، وتباد آزال ، وتزلزل آجال ،

ولكنّ ذكرك ، ذكرك العطر ، ذكرك الإنسانيّ ،

لن يزول ، لن يضمحلّ ، لن يفنى ، ولن ينسى ،

بل سيخلد حتى أبد الآبدين ".

                                                        

 

وفي قطعة "أصبحت وحيداً فريداً " يقول :

"طوال 28 عاماً تصرّمت حبالها ،

كنت تزورني في كلّ يوم منها ،

فأجاذبك الاحاديث وتجاذبني ،

ثم اختطفك الموت بعنفٍ رهيب ،

وإذاني وحيد فريد أندب نفسي ".

                                                                

هنا يبدو الكاتب أكثر وضوحاً في تعبيره عن حبّ وصداقة وروحانيّة فقيده الراحل الدكتور خبصا ، وتقديره له في قطعة :" لن تبرح خاطري "، وذلك بعد أن اختبره طيلة أيام حياته معه ، أخاً مُجاهداً مُخلصاً لعقيدته الداهشيّة ، يعاني ما تعانيه في السرّاء والضرّاء ، "غير هيّاب ولا وجل من نقد الناقدين وألسنة المُتخرّصين المتطاولين ". فيقول :

"أحببتك لأنّني أختبرتك ،

وتأكّد لي أنّك من القلائل

الذين لا يتمسّكون بالمادّة ،

ويلتصقون بها التصاق الرُّوح بالجسد ،

بل كنت تجعلها وسيلة لغاية ".

                                

وينطلق الكاتب من هذه القطع الشجيّة المُعبّرة بأفكاره النافذة إلى صميم حياة الإنسان وجوهرها ليعطينا الحكمة الرائعة ، " ولدت فشقيت فمتّ "؛ يصف لنا فيها شقاء الإنسان وما يعانيه في حياته الأرضيّة منذ ولادته حتى كهولته إلى أن توافيه المنيّة ، بسبب ضعفه البشريّ الموروث وتهالكه على الجنس ، في هذا الخضمّ المُتلاطم الأمواج ، عالم وجودنا ، عالم دنيانا ، ويتساءل : هل يعتبر الإنسان ؟ في قطعة من قطعه يقول فيها :

"حياة الإنسان سريعة الزوال

وعمر المرء لحظة عابرة

فبالأمس كنت يا قاطن القبور رضيعاً ،

ففتىً ، فشاباً ، فكهلاً ،

ثم اخترمك الموت فجأة !

فيا لشقاء ابن آدم !

ولكن هل يعتبر أبناء آدم وحوّاء ؟

فها هم يتهالكون على الجنس ، ويقذفون بالأبناء ،

ليعود الموت فينكّل بهم !

إنّهم لا ولن يتّعظوا !

فانجذابهم للمرأة سيغمرهم بالأحزان ،

ويزرع في بيوتهم كتائب الأشجان ".

 

فهذه الأفكار الواقعيّة ، بل هذه الحقائق التي يطرقها الدكتور داهش هنا ، تكشف لنا الستار عن استمراريّة الحياة ، وشديد إيمانه وتعلّقه القويّ بالله تعالى ، وعن عقيدته الروحيّة الثابتة ، والعالم الثاني ، عالم الخلود والسعادة اللامتناهيين ، وعن التقمّص والثواب والعقاب ، إذ يقول :

" إنّني أهنئك ، يا أخي على العالم الذي بلغته الآن ،

هذا العالم البعيد البعيد ، السعيد السعيد ،

فأرتع به ، يا أخي الحبيب ، وتمتّع بربوعه الإلهيّة ".

                                                                  

ولم يتوقّف يراع الكاتب عن كتابة القطع المؤسية المُعبّرة عن حبّه الخالد العظيم ووفائه لأخيه الحبيب الدكتور خبصا ، وعن تفاؤله القويّ وتعلّقه الشديد بالحياة الأخرى . وها هو يرثي رفيق جهاده أثناء مهرجان خبصا التكريمي الذي أقيم في بيروت ، الأشرفيّة ، في قاعة سينما أمباسي في 8 تشرين الثاني سنة 1972 ، بقطعة عنوانها :" أرثي جهادك ووفاءك "، إذ يقول في بعض منها :

"منذ ثلاثة أعوام طوى الموت أخاً داهشيّا وفيّاً ،

جبّاراً بعقيدته ، جبّاراً بإيمانه ، جبّاراً بكفاحه ،

والله يحبّ الجبابرة المُجاهدين المُنافحين ،

المُكافحين الظُّلم والظُّلاّم وأهل الظلام .

أرثي فيه الصداقة الحقيقيّة التي لا ترمى إلى غاية ،

إلاّ غاية الإيمان بالله ، الإيمان بالحقّ ، الإيمان بالعدالة ".

                                                                

وهكذا تجسّدت المحبّة الروحيّة المُجرّدة من الغايات بأسمى معانيها ، وتجلّت الصداقة الحقيقيّة بين أخوين مع أنها مفقودة بين البشر ولا وجود لها إطلاقاً ، واتّضحت مبادئ وأفكار وعقيدة الدكتور داهش الملخّصة في النقاط التالية :

الإيمان بالله والعمل بوصاياه ، الصداقة والوفاء ، الإخلاص من أجل الخلاص ، التضحية والجهاد ، المحبّة والأخوة ، التقمّص والثواب والعقاب ، خلود الروح والعالم الثاني ... جميع هذه المبادئ برزت بوضوح في هذه المراثي بعفويّة صادقة ، نابعة من صميم فؤاده ، يعبّر فيها مخلص ، هو الدكتور جورج خبصا ، الذي لم ييأس الفيلسوف ديوجين ، حامل المصباح الشهير ، من التفتيش عنه ، ولم تذهب عمليّات التنقيب سدىً حتى وجده . نعم ، وجد الرجل ، وجد الإنسان ، هذا الإنسان الذي وقف وقفة عزّ وفخر ، مُكافحاً إلى جانب الدكتور داهش ضدّ الظُّلم والطغيان ، مُناصراً للحقّ مُحبّاً للخير ، مُتعشّقاً للحقيقة الروحيّة كما أرادتها العزّة الإلهيّة ، مُدافعاً عن عقيدته الداهشيّة حتى النفس الأخير ...

واستحقّ هذا الإنسان الكريم ، هذا الرجل الحاتميّ ، إعجاب الكاتب فأتحفنا بكتاب يخلّد فيه سيرته النقيّة التقيّة ، ليكون عبرة وعظة وذكرى للإخوة الداهشيّين والأجيال الآتية في هذه الأرض الفانية .

                                                                 نقولا ضاهر

                                                         بيروت ، في 30 آب 1979

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.