إنّ هذا "الجحيم" هو جحيم حقّ
بقلم ملك قلعجي
مع مدخل "الجحيم" يشعر القارئ بجو الجحيم ، فيفكّر بما سيكون وكأنّ هذه الكلمات الأولى نفير الحرب والهلاك وإنذار بالشؤم والعذاب .
" وعندما انتصف الليل وارتدى الكون حلّته القاتمة المُحيقة
طرق أذني عويلٌ مُخيف على بطاح الفانية برهبوت
ودمدمت شفاه غير منظورة : عفوك إلهنا ارحمنا ودعنا نموت ".
هذه الأسطر الثلاثة فاتحة لجحيم يعجز عنه التصوّر تجعل القارئ يتساءل : ترى ما هو ذلك العذاب الذي من أجله يطلب المُعذّبون الموت ؟
من الناحية الأدبيّة في هذه المقدّمة منطق وتسلسل ينقلنا معه الكاتب إلى الجحيم ويجعلنا بحشريّة لمعرفته .
وفي هذه المقدّمة مدخل يهيّء لذلك الجوّ الذي سيكون ، وفيه إيجاز وبلاغة فلا تطويل يملّل القارئ ويبعده عن الجو . بل كلمات وأسطر قليلة مُوجزة الكلمات تدفع القارئ دفعاً للمتابعة .
ومع الدرك الأوّل يطالعنا ابتكار من الناحية الأدبيّة : فذلك الأسلوب لم نعرفه من قبل . ثلاث جمل متقطعة بين المقطع والآخر ، كأنّ المقطع إغنية وكأنّها لازمة :
" دهاليز عجيبة ومناظر رهيبة غريبة
أشباح مُزعجة تطوف في أودية الليل البهيم
تنقيبها في مملكة الظَّلام أجيالاً طويلة
أخترقت كافّة طبقات الأرض
واجتزت دهاليزها العجيبة
فإذا بمناظرها هائلة وأشباحها رهيبة
تطوف في أودية الليل الثقيل
وتبقى في تطوافها من جيلٍ إلى جيل
ُمنقّبة بصبرٍ غريب في الطولِ وفي العرض ".
وعلى هذا الشكل يتتابع الوصف ، وفي كلّ مقطع تزداد صورة العذاب عنفاً والتعذيب قسوة والهول هولاً . وعلى هذا الوزن ، وعلى هذه القوافي ، وتلك اللازمة ، تندرّج نحو الدركات . وكلّ شيء يدفعنا على المُتابعة . النغم المُستحب ، الابتكار في ذلك التعبير الغنائي الفذّ ، التصوير المُتطوّر ، الإيجاز البليغ ، الأسلوب السهل المُمتنع .
ونصل إلى الدرك الثاني ، ويتغيّر العذاب ، ويشتدّ ، ففي كل مقطع صورة جديدة لم ترد من قبل ، ولا هي تكرّر . ونرى الدكتور داهش هنا قلباً رحوماً مع عذابه من البشر ومع خبرته الطويلة معهم ومع رؤيته حقارتهم وقذارتهم ، نراه هنا يدعو الله ليغفر لهم :
"ربّاه اغفر لهم يا ذا العطف والحنان
فقد انفطر قلبي لشدّة عذابهم ".
ماذا نقول عن جحيم الدكتور داهش غير أنّه حقّا ؟ فهل نتكلّم عن الصور ؟ إن تكلّمنا عن كلّ صورة واعتبرناها رمز العذاب والهول تبعتها ثانية أشدّ منها قسوة وفظاعة . ويسير القارئ مع الصور بتدرّج فلا يجد تكراراً أو مشابهة ، بل يشهد صوراً جديدة واسلوباً مُبتكراً فيه قوّة وفيه إيجاز وبلاغة ، وسهولة مُستعصية .
إنّ هذا الجحيم لهو جحيم حقّاً تتضاءل أمامه المؤلّفات السابقة .
ملك قلعجي
1965