"جحيم " داهش
بعد "رسالة الغفران " و"جحيم" دانتي
فيتطاير رذاذ من الدم وتزرق العراقيب
وتلعب الشياطين على القرعات بالقباقيب
تحت هذا العنوان ، نشرت جريدة "الحياة" في عددها
الصادر بتاريخ 24 آيار 1946 المقال الآتي :
بقلم أديب مروَّة
أصدر الدكتور داهش منذ عدّة أيّام كتاباً جديداً أسماه "الجحيم" تخيّل فيه طبقات النار في الدنيا الآخرة ، وأنواع العذاب في كلّ طبقة من طبقاتها ، التي شاء أن يجعل عددها زهاء الخمسين طبقة ودركاً .
وقد صدّر الكتاب تلميذه وصفيّه الأستاذ حليم دمّوس بمقدّمة طويلة مهّد فيها للموضوع بآرائه في الجحيم ، أعرب فيها عن اعتقاده المُطلق بخلود النفس والثواب والعقاب ، مع تأييد عرضي لنظرية التناسخ وتقمّص الأرواح . ثم أتى على ذكر المؤلّفات التي سبقت الدكتور داهش في طرق هذا الموضوع ، كرسالة الغفران للمعرّي ، والملهاة الإلهيّة لدانتي ، ويوم القيامة لرسلان البنبي ، والتوهّم للحارث بن أسد المحاسبي ، مع تعليق بسيط على كلّ منها ، حتى يصل إلى الحديث عن جحيم داهش الموعود فيقول :
" ينقسم جحيم الدكتور داهش إلى ثلاثة أجزاء متساوية الفقرات والسطور ، وكل جزء يشتمل على خمسين دركاً مظلماً من تلك الدركات المرهبة والعوالم السفليّة المرعبة ، وكل درك يحتوي على أربعة وعشرين سطراً مسجّعة على أسلوب طريف مبتكر يدركه القارئ بعد اطلاعه على هذه المجموعة وقراءته إيّاها من الدفة إلى الدفّة "... هذه المجموعة التي شاء العلاّمة الكبير الأستاذ العلايلي أن ينظم بعض قطعها شعراً رفيعاً يذكّرنا بلزوميّات أبي العلاء وبرسالة غفرانه إذ يقول في أبيات نقتطف منها ما يلي :
هلمّ إليّ يا ابن الأرض واخطـر ورائـــي لا ولا يرعبــــك أمـــــر
نسير على تـلال السحب حينــاً وحينــــاً بيــــــن طيّــــات نمـــــرّ
نظرت ومــن ورائي كلّ أفـــق كبارجة لهـــــا في السحب غـــور
فهيّا صـــاح هيّـــا قبــــل فوت فإنّ دقائــــق الملكـــــوت دهــــــر
ففي دار البقــــاء تذوب ذوبـــاً حقائـــق دهركـــم فالحين عمـــــر
* * *
فهرولت ارتاد الطباق مسارعاً وجزت تخوم الأرض بين المعابر
قطعت دهاليـزاً كمثــل لفائــف حوت روح أهوال كروح المقابــر
* * *
وقد راعني فيها مناظرها التي تهول شديد النفس وسط المنـــازل
تراقصت الأشباح فيها رهيبـة كمرفع جنّ في فصول المهـــازل
* * *
تلقّتني الأفاعــي فــي مضائي فشدّتنــي رعوبـــاً فـــي مكانـــي
من المستنقعــات الــدون هبّت تسابــق مثــــل أفراس رهــــــان
تضيف إلـى عذابهـــم عذابـــاً بلسع مثـل وقـــع الطعن قــــــان
عـــذابٌ يخلـــد الخاطـون في إلى يـــوم النشـور الأرجوانـــي
* * *
وها نحن ننقل أيضاً إلى قرّائنا بعض هذه "الدركات" لما فيها من غرابة ، رغم ما في سبكها من فن ، وذلك بقلم الدكتور داهش .
إلى ربّ الهاوية
الإهداء هو :" إلى ربّ الهاوية القاطن في أعماقها السحيقة ...إلى الخائض في محيطٍ لجبٍ من الظُّلمات المُدلهمّة ... إلى سيّد الظُّلمات وربّ الآثام وُمؤدّب الطغام القاطن في أعماقِ الجحيم ... إلى الهائم في أودية الهول والرعب والهلع الخ ...."
داهش يهدّد !
وأغلب الظنّ أن داهش حين وضع هذا الكتاب أراد به تهديد مُضطهديه ومُنكري رسالته ، إذ يقول في مقدّمته :" فلو وكل إليّ الأمر لأنزلت بهؤلاء البشر الكفّار أروع العذابات الهائلة ، التي لو خطر شبحها لهم حتى في الأحلام ، لقضوا حياتهم في وجلٍ هائل وخبلٍ عنيفٍ بتار . ألا لحى الله هذه البشريّة المذنبة الغارقة في محيطات شهواتها الذليلة .
" نعم لقد ضقت ذرعاً بهؤلاء البشر الملاعين ، فأحببت أن ألقيهم في جحيمي هذا آخذاً بعضهم برقاب بعض ، علّني أبرّد غليلي وأشفي أوامي حتى إذا دنت ساعة الانتقام الحقيقيّة لا الكلاميّة إذ ذاك يرى هؤلاء "الأجلاف" ما سأذيقهم إياه من بلاءٍ مُرعب بطّاش !"
درس في التعذيب
وها هو يصف طرق التعذيب في الجحيم في وصف جهنّم فيقول :
الرؤوس الصلعاء تطلّ على المشاهدين من نوافذها
وشبكة من أقبح الخليعات تلعب على القرعات بالقباقيب
فيتطاير رذاذ من الدم الأسود وتزرقّ العراقيب
وتزمجر الأرواح الجرداء من بصيلاتها المُجتثّة لشدّة آلامها
وتعود فتحلم بعودة أمانيها فتزدهر أحلامها
وإذا بلعلعة القباقيب توقظها فتعضّ ألماّ بنواجذها .
* * *
ويدخل كل منهم في حفرته المُظلمة
وينهال عليه الجمر حتى يبلغ أرنبة أنفه
فيبثّ كلّ منهم آلامه لإلفه
وتخرج أنّاتهم الجريحة فتهلع منها سقر
ويخورون – أعاذك الله منهم – كما تخور البقر
ويصرخون : رحماكم لمن نشتكي ونرفع هذه المظلمة ؟
* * *
لقد طغيتم في دنياكم وبغيتم
ودجّلتم على السماء وهتكتم الأعراض
فلا تلوموا السماء الآن لأنّها قابلتكم بالإعراض
إنّ عذابكم سيستمر ملايين من السنين
وسنذيقكم في أثنائها المرّ والصاب والغسلين
لأنّكم شمختم بأنوفكم ، وعلى الضعفاء اعتديتم
* * *
وتقرأ أسماء من نام منهم وخالف القانون
فيحضرون والهلع الشديد قد أغرقهم
وإذا بصوت رهيب ينادي قائلاً : أغرقهم !
وبأسرع من لمح البصر يدفع بهم إلى اليمّ
فتقطعهم الحيتان . يا لعذابهم كم هو أليم وكم !
فتطرب الأبالسة ويعزفون على العود والقانون .
* * *
وعندما تظلم تلك الأجواء المُخيفة
وتحلّق وطاويط الليل في السراديب
ويوعوع ابن آوى ويعوي الذئب
أحثّ الخطى والخوف يدفعني للخروج
كخوف بني إسرائيل المُسطّر في سفر الخروج
وعندما اجتازها أشعر بأثقال الحياة خفيفة
القلم أعجز من أن يستطيع وصف حقيقة المشاهد
فالخطأة قد جوزوا بصراحةٍ مُخيفة تقشعرّ منها الروح
وهم في جحيمهم الخالد تكاد الأنفاس منهم تروح
فالآلام العميقة قد سرت في أرواحهم فأنهكتهم
والأسقام السحيقة امتزجت بهم فاهلكتهم
فأصبحوا عبرة العبر لكل من ينظر ويشاهد .
* * *
فأنشد الشيطان الرجيم بصوتٍ وكأنه نفير الضرير :
أنا ربّ الهاوية القويّ الشكيمة
أقتصُّ وأي اقتصاص من الخطأةِ على الشتيمة
وأنكّل بكلّ من حكم عليه أن يهبط إلى عالمي
ومن تكبّر فسأظلمه مثلما كان كبريائي ظالمي
هنا الهول والرعب والذعر مع اصطكاك الأسنان ذات الصرير .
* * *
هذه صور من " الجحيم" كما تخيّله الدكتور داهش ، نقلناها إلى القرّاء لما فيها من طرافة خياليّة تاركين النقد الأدبيّ فيها للصحف الأدبيّة .
أديب مروَّة
بيروت 24 أيار 1946