أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

عالم داهش

في "بروقه ورعوده"

                                                                بقلم ماجد مهدي

                                                     صاحب ومدير ثانوية النهضة العلميّة

 

مؤلّف الكتاب هو الدكتور داهش .

والكتاب "بروق ورعود" هو حلقة من سلسلة تؤلّف في مجموعها وحدة متكاملة تنعكس عليها حقيقة نفس عظيمة هزّت الخافقين طوال أكثر من نصف قرن .. سلسلة أربت اليوم على التسعين مؤلّفاً ، كلّ مؤلّف منها باب قائم بذاته تستطيع الولوج منه ، فإذا بك فجأة أمام عالم صغير يمكن القول إنّ أكثر ما فيه جديد يهزّ المشاعر ، ويوقظ الأحاسيس التي ما أمسّ حاجة إنسان القرن العشرين إليها ؛ كما ترتسم أمامك في هذا العالم الصغير صور ومشاهد أغلقت عن عيون بني البشر منذ بدء الخليقة ، وضرب بينها وبين أفهامهم ستار كثيف ، فلا يمكن فضّه أو إدراك ما احتجب خلفه .

ولئن وجدت نفسك في بعض الأحيان أمام فكرة تناولتها أقلام ، وأشبعتها تمحيصاً وبحثاً عقول أدباء ومُفكّرين ، فإنّك تجدها في هذا العالم الصغير وقد تجسّدت كلماً تنبض بالحياة وتختلج بالصدق ويتدفّق منها ينبوع عذب يلذّ الاستقاء منه .

بيد أنك وأنت بصدد الكثير من كتاباته ، تتراءى لك غيابات المجهول ، فتتكشّف لك أسراره ، وتقرأ عليك أخباره . وفي الكثير منها أيضاً تشعر وكأنّك تستشرق من مكانك دنيا الأرض فتختبر كائناتها وتصعق لحقيقتهم . فالميول الوضيعة لا تستتر بالألفاظ المُنمّقة ، وإنّما تظهر عارية جليّة تقشعرّ منها النفوس ؛ والظُّلم الصارخ لا تحميه قوى الطغيان والبغي ، وإنّما ترتسم إلى جانبه صورة العدالة الموؤودة ، فتثور لها النفوس وتقوّض قصور الظُّلم وتمحو آثارها ؛ والخيانات المُدنّسة تضاء لك دهاليزها المُظلمة فتتراءى المرأة الساقطة والرجل السافل والجرائم التي تجرّها أفعالهم الشنيعة وغضبة القدر العادلة التي تلاحقهم في أدوار حياتيّة متلاحقة .

والحبّ الوفيّ الذي يندر وجوده في عالم الأرض يبرز أمامك بحللٍ فردوسيّة فتمجّده وتتمنّاه .

و(النعيم) تشرف عليك أنواره بعد أن تجوس ربوع كواكبه .

و(الجحيم) ترتعد خيفة وأنت تخوض في لججِ دركاته السحيقة ، إذ إنّك تكون وجها لوجه أمام الخطاة المُعذّبين وهم يصرخون ويستنجدون ولا معين لأنّ الدور هو دور العادلة الإلهيّة ، ولا مناص من حكمها .

و ( مع يسوع الناصري) يعيدك ألفي سنة إلى الوراء فتجد نفسك إلى جانب المعلّم نفسه ، بلحمه ودمه ، بضحكه وأحزانه ، بهدايته ومُعجزاته فتتكوّن أمامك صورته الحقيقيّة الجليّة التي لم تشوّهها أيدي المغرضين المُنافقين .

والافتتان بالجُمَل أيّا كان ، والوصف الإلهيّ الذي يسبغه على جمال المرأة ، والهيام بالطبيعة ، والسأم من الحياة ، وحبّ الموت بل تعشّقه ومناجاته ، والتوق إلى الإنعتاق والعودة إلى رحاب الله الواسعة ... كلّ ذلك تمرّ به غبر تسعين مؤلّفاً . فما أن تخرج من عالم صغير حتى تدخل في عالم صغير آخر قد يكون مُنفصلاً عن الأول ، وإنّما تتصل جميعها في وحدة جوهريّة هي خلاصة فكر الدكتور داهش وعصارة روحه الفيّاضة التي لا ينضب معينها .

فمن كتابه (ضجعة الموت) إلى (كلمات) إلى (نشيد الأنشاد) و(الإلهات الستّ)و(عشتروت وأدونيس) إلى (الجحيم) و(النعيم) و(بروق ورعود) و(مذكرات دينار) و(نشيد الحب) إلى (القصص الغريبة والأساطير العجيبة) و(أسرار الآلهة) إلى (حدائق الآلهة) و(فراديس الإلهات) الخ ... أيّ كتاب قرأته تجد نفسك على الفور أنك في عالم واسع وشامل ، عالم خاص في دنيا الأدب أبدعته يراعة مقتطفة من جنان الفردوس وقلم سيّال هو مهبط وحي وإلهام ، تنسكب منه الكلمات في كل ثانية فترتسم على الطروس بسرعة عجيبة ، وتولد الجُمَل وتتراكم الصفحات ... تعرف أنك في (عالم داهش).

وكتاب (بروق ورعود) كما يوحي اسمه ، وكما صوّره الدكتور داهش في مقدّمته إنّما هو "بروق نفسيّة ورعود كلاميّة" شرح فيها " ما يشعر ويحسّ به في مختلف شؤون الحياة بصورةٍ مُوجزة لا تتعدّى السطور الستّة لكل قطعة منها " وقد عبّر الدكتور داهش في هذه السداسيّات عن آرائه في بعض أمور الحياة والموت والحقيقة والعدالة والجمال والمرأة ورجال الدين والصداقة وغير ذلك مما تختلج به النفس البشريّة .

وقد جاء تعبيره عنها صادقاً وصريحاً دون مواربة أو مسايرة . فالحقيقة عنده لا تلتحف بالخفاء ، يعلنها وإن صادعةً صافعة .

وهذه السداسيّات هي من الشعر المنثور المُقفّى الذي تمرّ بك ترانيمه فتطرب لها وتأنس بها ، ولا تحسّ فيها أيّ أثر للحشو اللفظي والتصنّع في السجع . فالقوافي في كل سداسيّة أو أسجوعة تأتي عفويّة وتؤدّي المعنى المقصود دون أيّ وجود للتعقيد والغموض . وهو لم يتوخّ البساطة كما يظنّ لأنها تجيء طبيعيّة دون تكلّف ، ولأنّ الذي يعايش الدكتور داهش ويعاينه في أوقات كتاباته يعرف ويتأكّد أنّ (صناعة الكلام) لا مكان لها في قاموسه الأدبيّ . فإذا ما ومض فكره تجسّد كلمات تنسال على أوراقه بسرعة عجيبة ، ولا يعود إليها كي يزوّقها وينمّقها . والدكتور داهش هو أول من ابتكر هذا الأسلوب النثري المُقفّى .

وبساطة في الكتابة مُحبّبة تشقّ الطريق أمام الفكر لتغزو نفس القارئ دون معاملات وبلا قيود.. وما قيمة الأدب إذا لم يكن نغمة تهزّ أوتار القلوب ، فتحسّ وتشعر ، وتسعد وتكتئب ، وتتوق وتتذكّر . وهل من الضرورة انتهاج التعقيد اللفظي للوصول إلى هذه الغاية ؟ وهل ذلك شرط من شروط الكتابة ؟!...

إنّ التعقيد هو في الغالب دلالة على خلو الأدب من الحقيقة التي هي روحه النابض . وإنّ من التنميق اللفظيّ ما يخفي وراءه فراغاً فكريّاً يفتضح في ساعة الجدّ وحين يوضع على مشرحة النقد الرهيبة .

أليس في كلمات الإنجيل عِبر وحقائق روحيّة سامية ؟!... أليست من البساطة والجمال بحيث تتملّك على الإنسان مشاعره وتحرّك ميوله العلويّة الغافية ؟! أوليست هذه هي الغاية ؟!

أنّ الدكتور داهش قد كتب لغاية ... لغاية يحيا ويُجاهد ويُضحّي في سبيلها . فالله عنده هو المُبتغى والغاية ، وهو البداية والنهاية ؛ وكلّ ما في حياته خاضع لهذا الكمال الدائم ولنواميسه العادلة الموضوعة منذ الأزل . فالحبّ البشريّ والعواطف البشريّة هي في نظره فقاقيع زائلة تتبخّر مع طلوع الشمس ، أما " حبّ الله فهو الحبّ الحقيقيّ الخالد!" (ص 31).

وعظمة المُبدع هي أحرى عنده بالتمجيد والإكبار وأحقّ بالتقديس والخشوع . فالكواكب والنجوم والأنظمة الإلهيّة التي تسيّرها ، والكائنات المعلومة والمجهولة ، هي كلّها مدعاة للتسبيح بعظمة الباري والخضوع لإرادته .

ومن أحقّ منه بأن ترتفع إليه الصلاة وهو الذي بيده كل أمر . بكلمة منه تولد عوالم وتنطفئ عوالم . ففي الاعتراف أمامه وبالضراعة إليه الخلاص الوحيد من قيود الشهوات الوضيعة والذنوب الرهيبة :

                                            ضراعة

" ربّي ... قوّني واهدني وسدّد خطواتي نحو الفضيلة

انزع من أعماقي الميول الوضيعة الدنيئة

ولا تدعني أسير الشهوات الدنيويّة

نقِّ قلبي يا الله وطهّر روحي ودعني أسمو بنفسي الكئيبة

أقل عثرتي ولا تدعني فريسةً للذنوب الرهيبة

طهّرني يا ألله ودعني أتفيّأ جنّاتك الظليلة "

 

                                                                      

أما حقيقة البشر كما يؤمن بها فهي مؤلمة وصادعة أحسّ بها منذ نعومة أظفارها وخبرها في شبابه وكهولته ،" فالحياة لديه تافهة ، والبشر في حقيقتهم أدنياء ، بل أفكة مُراؤون وأثمة مُداجون ".. (ص 10). ولا عجب ، فهم خاضعون لميولهم الأرضيّة ويضربون عرض الحائط بالإرشادات الإلهيّة والتعاليم السماويّة . الطمع ديدنهم ، والأذيّة شأنهم ، والشر متأصّل فيهم .

الصداقة عندهم خرافة :

"والصداقة والصديق طيف وهميّ شفّاف سرعان ما يتبخّر

إذا ما لمسته أشعّة الشمس الساطعة

فلا تؤمن بها ولا به مهما أتاك بالحجج القاطعة ..."

                                                                      

 

 

يظلمون الضعيف ويسجدون لظلّ القويّ ، ويئدون العدالة في كلّ صبح وعشيّة ، ثم يتغنّون بأمجادها . فأعواد المشانق أحقّ بمن في أيديهم الأحكام وزمام الأمور :

                                         العدالة الموؤودة

 

" يا أعواد المشانق ... كم لك من ضحايا بريئة شريفة

وكم من أثمة... لم يتأرجحوا بحبالك القويّة

ولؤماء ... لم تطلهم يد الأحكام العدليّة

إنّ دموع الآباء والأبناء ... تشقّ الفضاء

وصرخاتهم العميقة تخترق السحاب فالسماء ...

لا كنت يا أحكام ... وتبّا لكِ أيتها القوانين السخيفة !!"

                                                              

 

يؤلّهون المال ويعبدنه ، وأطماعهم أبديّة لا ترتوي . والصدق زار دنياهم ثم غادرها . تجمع بهم الشهوات فيتهالكون على المرأة . والزهو والغرور ، والحقارة والفجور عصفت بهم جميعاً ، فلم يعد له من مجال للثقة بهذه النفوس البشريّة ؛ ولذا تراه قد "كفر بالجنّ وبمن فوق الأرض والسحاب"(ص 50).

أ         مّا الحروب ، فيشعلونها لغاياتهم الدنيئة ، ويخلقون (أسطورة في سبيل الوطن)، فيندفع الأبطال إلى ساحات الوغى ويذهبون ضحيّة الأطماع والأهواء من أبناء المنافع ...

باختصار البشر هم أبعد ما يكونون عن الحقيقة ، والحقيقة نفسها أصبحت تائهة ضائعة عن دنياهم المليئة بالشرور والآثام .

ولكن ، أين يقف رجال الدين وحماته من هذا الانجراف البشريّ الشامل ومن هذا الواقع المأساوي المؤلم ؟!

لقد أصدر داهش عليهم حكمه الصادق الصارم ، فهو يرى فيهم قادة الضلال وحماة الإثم ومُروّجيه والرؤوس المُدبّرة لكثير من الجرائم والمذابح التي لم تجفّ دماؤها بعد . ولا عجب فواقع التاريخ والأحداث يشهد أنهم هم في كل العصور والأزمنة قتلة الأنبياء والمُصلحين ، والمُتاجرون بتعاليمهم والمُشوّهين لمبادئهم .

إنهم ثعالب يغلّفون الحقّ برداءِ الباطل .

إنهم ذئاب مُفترسة .

"إنّهم أبالسة الدنيا بل وقود الجحيم في العالم الثاني

إنّهم ... كذبة مراؤون بل أثمة مُداجون

يدّعون أنّهم لخطوات السيّد المسيح يترسّمون

وخطواته الطاهرة بريئة من أضاليلهم المُنكرة

هم يقطنون القصور الشامخة يسمّونها أديرة

ولم يكن لفاديهم مكان ليسند إليه رأسه في العالم الفاني "

 

                                                                        

إنّه يكمل بذلك ثورة المُصلحين الذين ذُبحوا وعلّقوا على المشانق واضطهدوا في سبيل الإصلاح الديني وإنقاذ الدين من براثن رجالاته ، ولا عجب ان نرى داهش ، وهو الذي لا يراعي في ثورته عليهم جانباً ، لا عجب أن نراه يعاني المُظلمة الوحشيّة ينزلها به رجال الحكم في لبنان بدافعٍ من رجال الدين والقائمين على المؤسّسات الدينيّة فيه . لكنه زاد ثورة على ثورته ، وامتشق حسام نقمته فزلزل أركانهم وقوّض عروشهم ورمى تيجانهم فجعلها موطئاً للنعال ومزّق طيالسهم ورماها في مراحيض دوابّ الازقّة .

ويمرّ قلم الدكتور داهش في لمحاتٍ سنيّة خاطفة ، فيعلن أن لا وجود للسعادة في عالم ابتلته السماء عدلاً بجذوة من نارِ جهنّم . وأنّى له أن يرى ظلّ السعادة ، وهي ما كانت يوماً إلاّ وليدة (الحقيقة) و(العدالة) ، وكلاهما ارتحلا عن عالم هو مباءة للشرور ومُستنقع للرذائل .

ثم يطوف قلم الدكتور داهش ، فإذا للمرأة نصيب كبير من ثورة نفسه وتباريح وجدانه ... إنها ملاكٌ وشيطان ، وسبب العزاء والشقاء ، وأرقى ما فيها عاطفة الشفقة وحنان القلب . لكنه يحتقر فيها الشهوة الهوجاء كما في الرجل ، ويسأم ادعاءاتها للعفاف والوفاء وداعاءه للفضيلة :

"مع أنّ ربّة الحقيقة لو تجلّت لصاحت بصوتٍ من العلاء

إنّ المرأة الطاهرة والرجل العفيف النفس لا وجود لهما في دار الشقاء"

                                                                  

ويشدو الدكتور داهش للجمال أينما تجلّى ، لأنه في نظرهِ لمسة من ملامسِ الألوهة وانعكاس للجمال الإلهيّ في أرض شقيّة .

وتنتشي نفسه بجمال الطبيعة كلّما اهتزّ غصن أو غرّد عصفور أو تنفّس فجر صباح جديد ، أو تحرّكت ريشة فنّان مُبدع فمزجت الألوان وخلقت صورة من صور الحياة ، أو كلما برزت عروس أحلامه وتجلّت غادة رؤاه المتوارية وراء السحب وبين أجواء الطبيعة ومسارحها .

و(الشمس الدائمة السطوع السرمديّة الشعاع) و( القمر سمير العشّاق وحبيب الشعراء) و(النجوم ... مصابيح السماء التي علّقتها يد الله ) و( الطفولة برقّتها ...وسذاجتها ...ووداعتها السمحاء)؛ كلّ ذلك يحرّك فيه أوتار قيثارةفيتغنّى ويتعزّى عن أتراح الحياة وهمومها ، ولو إلى حين ينعتق من قيودها ويجوس ربوع العوالم السرمديّة الخالدة العامرة بالسعادة المفقودة في الأرض .

فالشباب لديه قد رحل ، وزهرته النديّة قد تقصّفت وذوت ، ولم يبق غير الموت يتحبّب إليه ويتودّد له ليحمله إلى وطنه الثاني ويعيد إليه الراحة الأبديّة . أنه لا يخشى ظلّ الموت كما يخافه جميع البشر دون استثناء بل يرى فيه مزيل المُتناقضات ، إذ يساوي بين الملك والحقير والغنيّ والفقير ، هناك في مدينة الأموات حيث يخيّم ظلّه عليهم . إنه يرى فيه ظلّ العدالة والرحمة :

"فلولاه .... لما عرفنا معنى للراحة السرمديّة

ولولاه .... لما تذوّقنا نعمة الغبطة الأبديّة

ولولاه ... لما اطمأنّت قلوبنا الحائرة في هذا العالم الفاني

ولولاه ... لما اكتشفنا أسرار ذلك العالم الثاني

ولولاه ... لما رأت عيوننا وجه الحقّ ربّ الحياة والمَمَات !"

 

                                                                    

ولشدّ ما يتملّك القلق نفس الدكتور داهش ؛ فمطامح نفسه أبعد من أن تجد لها أفقاً يحتضنها . فهو ما عاش إلاّ ليبني صرح رسالة اختارته لها العناية الإلهيّة ، فناصبه الناس العداء ، وساموه بسببها الظلم والهوان . وما همّه ، فهذا نصيب كلّ نبيّ ومُصلح وعبقريّ ، بل هذا هو قدرهم .

حسبه أنه شامخ الرأس ينتظر بشوقٍ عظيم أن تحين الساعة ليتفلّت من قيود التراب ويمدّ جناحيه مُنطلقاً إلى أقصى السماوات بعد أن دمغ الأرض وقاطنيها بشهادته التي لن تردّ . إنها بالنسبة إليه قصيرة ثم يتمّ الانعتاق :

 

                                     إنعتاق

 

" لن تمكث نفسي طويلاً حتى تتوارى عن هذه الأرض الخادعة الغادرة

هذه الأرض التي لم ألق عليها سوى مطامع البشر والألم الصادع

والحزن العميق القاتل ... والأمل السحيق الضائع

نعم . سأتوارى عنها وأنا ألعنها حتى آخر الزمان

وعندما يطويني الدهر بذراعيه ويضمني الموت بدعةٍ وحنان

ساعتذاك ترتاح نفسي القلقة وتطمئنّ روحي الحائرة "

 

                                                                  

وما همّه ما تخرّصت به الأفواه ونطقت به الألسن ، وما همّه قطعان الكلاب الهائجة الهائشة على القافلة . إنّه ألقمها وسيلقمها في كل آن وحين ليس أجحاراً بل نعالاً . نعال تنصبّ على الرؤوس فتصميها وتدميها وباللعنة المُزلزلة ترميها . حسبه أنه يكمل أنشودة الظفر ولا يبالي :

 

                                     لا أبالي

 

" ترى ؟ ماذا سيقول الناس عني بعد موتي وزوالي ؟

إنّ البعض سيستمطرون على اسمي اللعنات والنقمات

كما أنّ آخرين سيردّدون ذكري بالتقديس والرحمات

وستخرج آهاتٍ عميقة من شتى القلوبِ والصدور

بعضها آهات غبطةٍ وحبور . وبعضها غصّات دامية لقاطنِ القبور

أما أنا فحسبي أن أكون عندئذٍ بين يدي الديّان لعرض أعمالي ".          

 

إنّه جبّار . إنّه ثائر . لقد جار ليهدم . جاء ليبني عالماً لا يعرف غير الله غاية وغير الحقّ ديناً ، ولا يعرف فيه مكاناً لخفافيش الليل المُتستّرين في الظُّلمة . فلهؤلاء نصيب كبير من "بروق ورعود":

                                       جبروت

 

"سأدكّ مُعتقدات هذا العالم السخيف الفاني

وسأهشّم أديانه وأجعلها طعمة لعواصف الأقدار الهوجاء

وسأبني عالماً آخر لا يمت بصلةٍ للمدنيّة المُنقرضة العمياء

وسأنشئ ديناً واحداً يتبنّاه جميع أهل الأرض

ومن يخالف أوامري ستهوي به شهبي وعليه صواعقي ستنقضّ

وسأنفّذ هذا بمفردي ... وأعلنه عندما تأزف ساعة الإعلان ".

          

لقد قال الدكتور داهش إنّ كتابه هو "بروق نفسيّة ورعود كلاميّة ".

لكنني أزيد فأقول :" كما تومض البروق في الليالي الليلاء الداجية ، وتطرد العتمة ، وتضيء الدروب ؛ هكذا بروق داهش . يد إلهيّة تمتدّ إلى ظلمات النفوس لتمسحها بسنى الروح والإيمان ، وشمسٌ ساطعة تشرق بنورِ الحقّ والفضيلة والهداية . وكما تنطلق الرعود من قبّة السماء فتزلزل وترعب وتثير الخشوع في كلّ كائن حيّ ، هكذا تنقضّ رعود داهش فتقوّض غشّ النفوس وتدكّ بنيان المظالم وعروش الطغاة . سلوا الأمس القريب . سلوا تاريخ لبنان واستنطقوه ، وانظروا أيّة لطخة سوداء وصمته بعد جريمة الجرائم الهائلة التي ارتكبها طاغية لبنان وزبانية لبنان وغربانه حاملي كتاب العهد الجديد . سلوهم كم اصطكّت ركابهم ، وكم خفقت قلوبهم ، وكم زارهم الندم في يقظتهم وأحلامهم على ما ارتكبوه بحقِّ داهش ، ولكن لات ساعة مندم .

إنّ "عالم داهش " الذي وشّت سماءه ازاهير الفردوس وطيوره وغيطانه ، وسكبت فيه ملائكة العرش إكسير السعادة لمن يفتحون قلوبهم للحقيقة ، هو نفسه قد أعدّ لأعداء الله والحقيقة ولأعداء داهش والداهشيّة بروقاً تومض فتُعمي ، ورعوداً تهوي فتبدّد وتُصمي .

                                              بيروت في 27/8/1979 ماجد مهدي

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.