"كلمات " الدكتور داهش
حقيقة صارمة لا يستطيع تكذيبها أيّ إنسان
بقلم ملك قلعجي
ثورة تتفجّر ، وتوقٌ إلى السموّ ، إلى الحقيقة ، هما أوّل شيء يطالعنا به الكتاب . ولعمري هما ميزة الإنسان الإنسان الذي يهدم ليبني . ولا يعيش على فتات ما قدّمه إليه الأقدمون من أفكار ، بل لا يؤمن إلاّ بما يلمسه ويحسّه من تجرباته . وتلك هي ميزة لا يتحلّى بها سوى قلّة من الناس العباقرة : فأرسطو لم يؤمن إلاّ بما تعطيه إياه التجربة ، وديكارت قال :" أنا أشكّ في كلّ شيء ، لكنني لا أشكّ في أنّني أشكّ ".
من هنا ، من الشكّ ، من الثورة ، يبدأ الإنسان باكتشاف الحقيقة .
يقال إنّ هنالك صداقة ؛ ولكنّ الشكّ في ذلك ، وخوض التجربة هما وحدهما الكفيلان بقول الحقيقة : نعم أم لا .
وقد كنت كذلك وقمت بذلك العمل وعرفت أن لا صديق . لم تقل فقط :" ليس هنالك من صديق"، ذلك قول البسطاء . لكنّ العباقرة يحلّلون الطبائع البشريّة ؛ ولقد حلّلت نفوس البشر . عندما تقول لإنسان ما : ليس هنالك صداقة ، قد لا يقتنع . ولكنّ كلامك الذي يفسّر النفوس البشريّة أعمق تفسير ، ويخوض في خباياها مُظهراً كلّ ما يختبئ فيها ، مُبيّناً كلّ ما يعتمل بجوانبها من نزوات وأهواء ، يدفع القارئ دفعاً للإيمان بما تقول .
فقولك مثلاً :" أنا أشكّ بنفسي ولا أثق بها ، فكيف تريد منّي أن أثق ثقة عمياء لا حدّ لها .. أولا يعدّ هذا منتهى الغباء والجنون "؛
وقولك :" لا تثق بمخلوق ما ، إذ إنّنا جميعاً خاضعون لسنّة التغيّر ".
لقد عبّرت عن مشاعر البشر الذين لا يعرفون هم التعبير عنها ، بأساليب مختلفة : فمن قصة تروي فيها اضمحلال الصداقة ، إلى حكمة مُفعمة بالمنطق :
" لا خير في صداقة تنميها الغايات".
إلى أسلوب شعري يدخل القلب مباشرة :
"الصداقة كالزهرة الشذية عرضة للذبول والعفاء ".
أو مخاطبة الصداقة الحقيقية ، في التساؤل عنها ، في التوق إليها :
"بربّك أيتها الصداقة البريئة أنبئيني في أيّ أفق تحيين ؟".
كلّ قول ، كلّ فكرة هي جدّة في نوعها . فمن منطق إلى أقصوصة ، إلى شعر ، إلى رمز إلى مخاطبة ، إلى تساؤل ، إلى سرد ، إلى استنتاج :
"كم أكون أحمق ... إذا تركت لأيّ مخلوق سلطة على فؤادي بعد أن شاهدت من لؤم الأصدقاء ورذالتهم ما ناء له صدري وضاقت به آمالي ".
هنا يستنتج معك القارئ أيضاً . فأنت تدفعه دفعاً للإيمان بما تقول إن عن طريق الوقائع ، والحقائق الدامغة نتيجة التجربة أو عن طريق الأسلوب الذي يدخل النفس بلا استئذان .
وأنت في كلّ ذلك متألّم ثائر لأنّك تريد الصداقة الحقّة ولا تجدها فتتحسّر عليها قائلاً جاعلاً كل من يقرأ لك يقول معك :
"ما أقبحك يا خيانة وما أرذلك أيّتها البغضاء اللعينة . وواهاً عليك أيتها الصداقة الذابلة !"
وينتقل معك القارئ إلى اسلوب هادئ صاخب ، كذلك الجبل الذي يخبّئ في أعماقه بركاناً .
ما أجمل ذلك التشبيه الذي قلت فيه :" والظُّلمة أراها تحيط بي إحاطة الكواكب بالقمرِ المُشرق الوضّاء !"
يأس فأمل فيأس : سلسلة مُستمرّة تؤلّف حياة الإنسان وتجعله كما قلت " طيراً في قفصٍ رهيب لا يستطيع النفاذ منه حتى يأتي الموت ويحرّره من تلك العبوديّة ".
الوحدة ، الإيمان ، الإبتعاد عن المادّة ، نهم الحياة وزيفها ، المُجتعات ، الصداقة ، تقلّبات الحياة ، الإقبال عليها ثم اتشاف حقيقتها .
" أمجاد هذا العالم وهم باطل ، ولون حائل ، وظل زائل ".
" رغماً عن معرفتنا بأننا سنغادر هذه الحياة عاجلاً أم آجلاً ترانا متهالكين على سقطها ومتاعها كأننا مخلدون ".
كل حكمة ، كلّ قول تقوله ينطق بالحقيقة في كلمات قليلة موجزة ، في أسلوب سهل ممتنع موجز ، في عدّة كلمات ، فيؤثر في النفس مباشرة ويدخل القلب ويبعث على الاعتقاد .
فمن سرد للوقائع ، للإنسان كما هو :
"جميعنا مغترّ مخدوع ببعضه البعض".
" ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنوّ على القانتين ، وما أقل تنفيذهم القول ".
إلى دعوة للإنسان كما يجب أن يكون :
"التربية القويمة خير واق".
" القسوة الشديدة تأتي بنتائج لا نرضاها ".
وينتقل القارئ من جوّ الحياة القاتم إلى ما فيها من جمال حين تناجي الطبيعة وتعبر عن نفس حسّاسة ، صافية طاهرة :
" أنا أتوق للذهاب إلى إفياء الحزانى والموؤودين ، وأؤثرها على تلك الأفياء الصاخبة بالهازجين الضاحكين ".
وفي كلّ ما تقول حقيقة أعمق من أيّ عالم نفسيّ شرح وأعطى النظريّات المطوّلة عن النفس البشريّة ورغباتها . فأنت تدرك أدقّ الأمور التي تشرد عن عين البشر العاديّين لكنها لا تغيب عن نظرك .
" جميعنا نحبّ التملّق كالأطفال ".
" يتكلّم المرء بشفتيه ما ليس يضمره في فؤاده ".
" أنا اليوم غيري بالأمس ".
وبعد تلك المعرفة الدقيقة العميقة تنهى البشر :
"ازرع شرّاً تحصد ألماً ".
" اعمل الخير واعضد المساكين تحصل على السعادة ".
كل قول يسحر ، وفيه حقيقة صارمة لا يستطيع تكذيبها أيّ إنسان . وكلّ ذلك في أسلوب سهل ممتنع موجز بليغ .
ملك قلعجي
1965