دراسات
في كتاب جحيم الذكريات
أروع ما فيه الحقائق الشهب!
رأي الكاتب الكبير والأديب المعروف كرم ملحم كرم
صاحب "مجلّة ألف ليلة وليلة
بكتاب "جحيم الذكريات " للدكتور داهش
بقلم الكاتب الكبير كرم ملحم كرم
لي في الشعر المنثور رفيع هوى . فالعاطفة في رحابه مُطلقة الأعنّة ، يدفعها الخيال فتنقاد، وتجلوها المُوهبة فترتع في انسجامٍ صقيل ، فلا قيود ولا حدود . ألا مرحباً بشعرٍ طلّق القافية!
على أنّ هذا الشعر ، الشعر المنثور ، ليس من السهولة بما يبيح لكلّ طارق أن يتغلغل منه في المحراب . فهو والشعر الموزون المُقفّى ينبعان من عين واحدة . فإذا جفا الطبع ، ونبا التوليد ، فالنكوص أولى . ولا خير في معنىً أرمد العين ، وفي مبنى معتلّ الكبد . فالسقم في مواليد الأدب يزيد على الغُنية !
بل إنّ للشعر المنثور أحكاماً مُزدوجة لا سبيل إلى التَّعامي عنها : أحكام الشعر وأحكام النثر معاً . فعليه أن يملك من الشعر رنّته وخياله ، ومن النثر حبكته وعالي سناه . فإذا اجتمعت به روعة الشعر الحالية العود ، وصياغة النثر المُحكمة الأداء ، فقد توفّر فيه الفنّ وأشرف على الغاية . وإلاّ فما يدعو إلى إجهاد النفس في ثرثرة بالية ؟
والشعر المنثور طبع الأدب العربيّ بطابعه في ما عالج منه جبران خليل جبران وأمين الريحاني . على أنّ جبران أصفى خيالاً وأبعد مدى . فهو وحده فارض هذا اللون الجديد على أدب الضاد . ولولاه لاستبقى الخيال العربيّ صبغته في أواخر عهد الانحطاط وأوائل عهد الانبعاث : صناعة لفظيّة ليس لها من السموّ دعامة تتكئ عليها . إن هي إلاّ حشو مملّ وتكلّف ممقوت !
وعهد الانحطاط عشق الألفاظ دون المعاني ، وامتدّت عدواه إلى مطلع عهد الانبعاث . فما شذّ عنها سوى أديب إسحق وقد صان بيانه عن الإغراق في التدجيل اللفظيّ . فنفح الأدب بأسلوب خاصّ يتنكّر للسجع الرخو الشكيمة ، وللخيال البليد . وهذا الأسلوب جاد على أدب الضاد بدم طريف استروحت به اللغة العربيّة شميم الحياة ، فأدركت أنّها في مستهلّ نهضة ريّا . وتوفّرت لها ترجمة التوراة ، فنعمت بالشعر المنثور الأغنّ الجرس كما نعم العهد العبّاسي بالمقامات وقد عكف على سبكها بديع الزمان ، فأقام منها فنّاً خاصّاً جلاه الحريريّ ، ونافرهما فيه الكثيرون ، فما ثبت على المحكّ سوى ناصيف اليازجي في "مجمع البحرين" وبه ختم السجع عهده وصرنا إلى تحطيم القيد وإلى الانطلاق الرسيل .
ومنذ بديع الزمان والأدب العربيّ يتعثّر بالألفاظ . فكان ضفائر محبوكة من عويص المعاجم ووعر الكلام . لا يمتدّ الأفق بالمنشئ إلى أبعد من الصياغة وقد جهل الخيال والمُجنّح والنفاذ إلى اللبِّ الصراح . فاشتغل الأدب بالرصف . ولقد رصف أهراماً على أهرام ، جميلة التنضيد ، برّاقة النظيم ، إلاّ أنّها أهرام من حطبٍ جافّ لا عصير فيها ولا زبد . فانكبّ على المعاجم وعلى كلّ ما ينحو نحو المعاجم ، فما استولده أقطابه غير الأدب المصنوع وليس فيه الكفاية . وزاد القوم هياماً بالألفاظ ذلك الطراز من الشعر المُعقّد الكلم لخالقه أبي تمّام وللاحقه فيه أبي الطيّب المتنبّي . فتعمّلا البيان يذلّلانه للصناعة . ولولا تفوّقهما في النفس الشعريّ لخنقهما الجهد المكدود . وأقبل أبو العلاء بلزوميّاته فناءت معانيه الجسام بألفاظه الضخام وقد فرضها على شعره عنوةً واقتداراً . وإنّنا لنسمع أبداً لهاثها تشكو به اضطراب نظامها وترجو الغوث والإنصاف !
مع أنّ " الأغاني" راجت في ذلك الحين موفورة السلاسة ، شجيّة الأغاريد ، ومع أنّ شعر عمر بن أبي ربيعة ، وجميل بثينة ، وأبي نوّاس ، ملء الأسماع والأبصار ، ولكنّ الفحولة بدت لأبي تمّام في الأخطل والفرزدق فجاراهما ، بل حاول أن يعلوهما ويزيدهما شأواً ، فغاص على الخشن الغليظ من الكلمات ونبذ الطبع السليم . وتفتّحت عينا المتنبّي وشعر أبي تمّام في كلّ فم وفي كلّ أذن فأبى إلاّ أن يقتحم الميدان .
ولكنّ الأدب العربيّ ملَّ الجعجعة مع طربه للفخامة ، وشاقته موشّحات الأندلس في نداها وسميح زغبرها ، فنهد إلى الجوّ الطليق . وفي الموشّحات من رحابة الخيال ما لا تسخو به اللزوميّات . فكان أن عافت النفوس التقليد ، وحنّت إلى الخلق والإبداع .
وطغى عهد الانحطاط زمناً طويلاً فخرست الألسن . وما تنفّس أدب الضاد إلاّ والبعثات الدينيّة الغربيّة تستقرّ تحت سماء الشرق حاملة بيمينها التوراة . وأدب التوراة مهر أدب الانبعاث بمواليد صحاح ، منها الرقّة والخيال ، الكامنان في الشعر المنثور ، بل إنّ الشعر المنثور نفسه وليد التوراة ، فما نغش به أدب الضاد إلاّ وقد ترجمت إلى لغتنا مزامير داود وأناشيد سليمان .
وأدب التوراة أبو الأدب الوجداني في اللغات أجمع . فعدا على الغرب ونهلت منه فرنسا أدبها المُعتّم به القرن التاسع عشر . وهذا الأدب ترجمناه واستقينا من نبعته ، فخرج بنا عن الخشونة ومال بنا إلى الحياة . وقد يكون أبعدنا عن فحولة اللفظ ، إلاّ أنّ هذه الفحولة لا نريدها طاغية بل مُسعفةً . والإسعاف بدأنا ننعم بمكنته ونتبيّن مداه .
والأدب الوجدانيّ حزين ، باكٍ ، وطابع الحزن والبكاء مقدور له . وهو صورة ساطعة لكلّ نفس تأوي إلى اللحم والدم ، وما في اللحم والدم غير الخيبة والاضطراب والألم والنوح . فلا عجب أن يزخر الأدب الوجدانيّ باللوعة والتلهّف والزفرات .
والشعر يسيطر على التوراة . ولم يكن بالمستطاع ترجمة هذا الشعر شعراً والإبقاء فيه على معناه الناصع . فترجم نثراً ، وكانت منه نواة الشعر المنثور الشجيّ الأنّة . وقرأ فريق من أدبائنا هذا الشعر المترجم نثراً فطابت لهم محاكاته . ولقد فعلوا ، وفي طليعتهم جبران ، ونفحوا أدب الضاد بلونٍ جديدٍ يضمّه إلى ثروته ومذخوراته ، وهو لون خميل الأداء ، ريّان الأسلوب . على أنّ السهولة المُوهومة في الشعرِ المنثور أباحته لكلّ طالب . فتصدّى له من يندّ عنه الشعور وصفاء الروح . وبتنا ، ونحن نبغي سماع البلبل والشحرور ، نسدّ آذاننا عن نعيق الغربان والبوم .
وكلّ لون من ألوان الأدب عرضة للاستباحة ، يواثبه صغار الأحلام ورائدهم الغرور ، ولا يرجعون عنه إلاّ وقد أذلّوا ناصيته وشوّهوا جهارته . ولكنّ الراسخ القدم هو الموهوب . ويكفي الشعر المنثور أن يخلع عليه جبران سنيّ اللألاء ورحيب الخيال كي ينمو ويعيش ، ويفسح له الأدب العربيّ المجال الوسيع في دولته وأسواقه . فهو حديث العهد بالنور ، وقد أنجبه القرن العشرون ، غير أنّه خصيب الجنى . فلا بدّ أن يتوفّر عليه أدباء ملهمون ، ويرفعون إلى الذروة . فلن يكون جبران وحده فارس الحلبة ، وإن يكن أوّل من شقّ الطريق ومهّد الصراط !
* * *
" وجحيم الذكريات" من بضاعة الشعر المنثور . فهي نفاثات روح يشقى ويتألّم ، روح خبر الناس وتجلّت له حقيقة الحياة . فنفر من الناس والحياة وساوره شكّ وقلق ، والتمس الخلاص من دنيا الأباطيل الطافحة بالخداع والغرور والحمق والآثام .
وفي كلّ مقطع من مقاطع الكتاب يطفر اليأس ، ويطغى الألم ، ويندلع الكره وتثور النقمة .فما العالم في عرف المنشئ غير كتلة من ذئاب وثعابين . أما الخير ، وأمّا الصلاح ، فكلمتان تحسب الأجيال أنّها منطلقة إليهما ، غير أنّهما كلمتا حقّ أريد بهما باطل . فما علاهما من الخير والصلاح غير قشرة ناحلة ، هزيلة ، على حين أنّ اللبّ كلّه نفاق وضلال !
إنّ العالم لتعس شقيّ في "جحيم الذكريات" والناس فيه أدنياء جشعون أو أغبياء محتالون ، وهو قول صدق . فالعالم بؤرة من ألمٍ واضطهاد وبلاهة وفساد . يدّعي الصلاح ولا يحاوله ، ويطمح إلى السعادة ولا يبلغها ، بل هو لا يطيق بلوغها ونفوس أبنائه أعشاش للغدر والحسد والخسّة !
ولقد آثر صاحب "جحيم الذكريات" الشيطان على الإنسان . والرأي نبيل ، فالشيطان مع كلّ انغماسه في الدنس والكيد والحقد والشرّ لا يبلغ منها ما بلغ الإنسان في رجسه وسفالته ومدى طغيانه .
وصاحب "جحيم الذكريات" واعي الإحساس . فما خفي عليه أنّه يتخبّط في هذا العالم مثله في خضمٍّ يموج بالرياء والبغضاء والخيانة والفساد . فالرياء في من حوله . والبغضاء في صدور من يتوهّمهم أعزّاء عليه . والخيانة في من يحسبهم أوفياء . والفساد في من يدّعون التقى ويتاجرون برحمة الله !
أجل ، هنا هي الجحيم العاتية ، لا في العالم الآخر . والشيطان في هؤلاء الدارجين على سطحها ، لا في جهنّم النار . كلّي ثقة وإيمان ، فالجحيم والشيطان مع كلّ أهوالهما ليسا أشدّ ويلاً من الأرض وأبنائها على الأرض وأبنائها . فجهنّم الأرض ألأمّ من جهنّم الآخرة . وشيطان الأرض أعظم رُعباً ودمامةً ورجساً من شيطان النار الدائمة الضرام !
لقد أعجبني من "جحيم الذكريات" مرماه ومعناه . ففيه الشعر المنثور الرقيق ، إلاّ أنّ أروع ما فيه الحقائق الشهب النضناضة اللسان . فالعالم جحيم ، والإنسان شيطان ، وأجيال الناس مواكب من ثعابين وذئاب ... هدفها ، كلّ هدفها , نهش بعضها بعضاً !
إنّها لصورة متوعّدة ، راعدة ، ولكنّها صادقة ، قاطعة ! ألا أخلع عنك ثيابك لنعرفك من أنت . ما أبعد هذا الإنسان الروّاغ الضاري عن مثال الله !
كرم ملحم كرم
بيروت ، شهر نيسان 1943