الأستاذ سليمان محمود جمعة
شاعرٌ لبنانيٌ. عضو "اتحاد الكتاب اللبنانيين". يحمل الإجازة في اللغة العربية وآدابها من الجامعة اللبنانية (1997).
مما صدر له عن "حركة الريف الثقافية": "جمرات (1995)، "كتابةٌ على أجنحة الغربة" (1999)، "شذا الحجر" (2002).
حروف ذاكرة
من وحي "ناقوس الأحزان أو مراثي إرميا" للدكتور داهش
في ذكرى مرور مئة عامٍ على ولادته الأرضية
داهش مرَّ بالأرض
عبيرُ أعوامِك المئة شمسٌ دافئة، تشرق بالطيب المضيء في فضاء المؤمنين بك، وتنشرُ في ربوات أعوامهم الطمأنينة والرجاء، حتى يبلغ حبُّك بهم الأمانَ والعلاء، فإذا هم في عالم يسقط العدد فيه لمشيئة الخلود.
داهش مرَّ بالأرض، تكلمَّ فإذا الكلام ثورة لا تهدأُ؛ تكلم فإذا الكلام دروبٌ إلى السماء لا تبور؛ تكلم فإذا الكلامُ مركبةٌ بناها داهش حرفًا حرفًا بالحق والنور والعدل على أرضٍ مَرويةٍ بماء المحبة، وفي فضاءٍ يتنفسُ الصدق. وفي بحرٍ يموجُ ماءه الثباتُ والعزم، وفي صدورٍ حيث ينبض القلبُ بحبِّ الله الخالقِ العظيم.
قد عرفتُك، أيها الحبيب، والحلمُ يحدثُني عن عالضم نقيةٍ صورُه، مضيئةٍ مَعارجُه، عامرةٍ بأفانين الروعة والجمال مغانيه ورياضه؛ يحدثني عن عالمٍ بهي لا يغيبُ نورُ وجهك عنه، هو عالمي الذي قبلتُه بك ولك.
أقرأ في كتابك يُنعشُ مطرُ حروفك حديقة أيامي. أقرأُ في كتابك تسيلُ في عروقي عزيمةٌ تثبتُ على دروبك قدمي. أقرأ في كتابك تجري الحروف على لساني ناطقةً بالشهادة للحق، لك ولكلِّ العظماء الذين كانوا كواكبَ للحق كثيرةَ العطاء.
"كما إني أُصغي إلى نداءٍ خفي
يُهيبُ بي أن أخلعَ عني رداءَ المادة،
كي أستطيعَ ولوجَ هذا العالم السحري البهي." (ناقوس الأحزان"، ص 8)
كذلك أصيغتُ إليك، إلى "ناقوس أحزانك" كي أستطيعَ أن ألجَ عالَمَك الثائر. ولتُكسَر الجرَّةُ إذاً على عين العالم. هكذا تُكسَرُ يد الظُّلم والظلام، فلا ماءَ الغداةَ، ولا نبيذ، إلا الحميم ومرارة الجحيم.
في رحاب الشعر والفنّ
في عالم الدكتور داهش الأدبي يتكاملُ صدقُ الكلمة الراقية مع سمو اللوحة المعبرة. فلا شيء في كتبه عبثٌ أو سُدًى. فاللوحةُ – وهو يعشقُ الفن كعشقه للأدب – لها وظيفتُها الجمالية والأدبية والروحية.
كذلك المقطوعات الشعرية النثرية التي يقدمها على متن كتابه يفوحُ منها روحُ المعنى العام مجملاً كرؤيةٍ واضحةٍ تُضيء على ما سيأتي مفصلاً على صفحات الكتاب.
فكل ما يُطالعُك في كتابه أنيقٌ جميلٌ قد اعتنتْ به يدٌ صناع وذوقٌ رفيعٌ سام وخبير.
فالكتابُ الداهشي تحفةٌ فنيةٌ يضمُّ بين دفتيه مغازيَ تربطُ الإنسانَ بمصيره بين الأرض وتجاربِها والسماء ووحيها.
ففي "ناقوس الأحزان أو مراثي إرميا" أثبتَ الدكتور داهش قصيدتين نثريتين، تضوعُ الأولى بعبير الرغبة والشوق إلى عالم سحري بهي تحل فيه روحُه بعد أن تخلعَ عنها رداءَ المادة، وفي الثانية ينتفضُ ثائرًا على البشرية جمعاء لأن الشرَّ قد تأصل فيها، فيطلبُ تقويضها والرحيلَ عنها. كأننا على ضفتين من نهر عالمه: ضفةٍ يتوقُ إليها فيتزين جمالها موحيًا إليه داعيًا إياه، وضفة ينفرُ منها فيمدُّ يدَ قوته الروحية إليها ليقوضها داكًا شرَّها وأشرارَها.
تنفتحُ دفتا الكتاب على مشهد مدينة/قرية مطمئنة بين أشجار نخيلها تُطلُّ وادعةً على بحرٍ رائقِ الموج، تمخرُ عبابه أشرعةٌ بيضاء، وعلى شاطئها ترى رجالاً أشداء يُلقون شباكهم في البحر وإلى جانبهم سلالٌ مليئة بالرزق... وترى قافلةً من الجمال تتجهُ نحو المدنية يحدو بها حاديها مُثقلة بأحمالها:
الحياة في المدينة رغيدة مزدهرة يوشحها الشفق بألوانه العسجدية والحمراء كأنه يلبسها البهجة والوقار معًا، وهي محصَّنة بعين العناية من التنانين والخوف والأمواج العاتية.
ثم تُقلب الصفحات على مشهدٍ جديد لا لونَ زاهيًا له إلا قساوة خطوطهِ، كأنما عاصفةٌ هوجاء غاضبةٌ قد مرت هناك، ثم هدأت تاركةً كل شيء قانطًا مُتعبًا مهمومًا ساجمًا لا حراكَ يه. وترى في مقدمة المشهد جماعةً قد تحلقوا حول رجلٍ ضخم ذي ملامحَ قاسيةٍ قد ألقى من على راحتيه القويتين بجرةٍ فخارية تراها قد تحطمت بين قدميه وأمام الجماعة ويقول لهم: "ثم تكسر الجرة على عيون الرجال... وتقول لهم: هكذا قال ربُّ الجنود: كذلك أكسِر هذا الشعب وهذه المدينة." والجرَّة ترمزُ إلى الخَلقُ الطينيِّ وإناءِ الحياة... وها هي تتحطَّم! وتتوالى اللوحاتُ وأنت تقرأُ الكتاب لتُوحيَ إليك بالصورة واللون ما تقدمه الجملُ والكلمات.
وأكثر ما يشدك مشهدُ رجلٍ بثوبه الأبيض مستوحِدًا متحدًا بالطبيعة يجلسُ على صخرية كأنها الموجُ، ناريَّة اللون تكتنفُها غيومٌ بيضاء وحمراء، ويمتدُّ خلفه أُفقٌ كأنه البحر بزُرقته يعلوهما قمرٌ بدرٌ لا نجومَ تُؤنِسه. ينظر إلى الأرض كأنه يحجبُ نظره، فيحتجبُ عما حوله أو يغيبُ فيه. هذه اللوحات هي في صُلب النص تقول مفرداتُها ما تقولُ جملُه، وتوحي بخطوطها وألوانها ما تُوحي به التعابير.
فأنتَ مرة أخرى على ضفتين: في مدينةٍ تزخرُ بالحياة، وعلى أخرى تغمرُها التعاسة على بالها الحُطامُ والسكوت... واللاحراك.
بين يدي العقاب
هذا العالم الذي يقدمه الدكتور داهش هو المقدمة/ الرؤية المجملة التي ستراه مفصلةً في متن المراثي...
ففيها المشهدُ الغائب: تلك المدينة المقدسة، العظيمةُ الربوات، السيدة، صاحبةُ التاج والمجد، المتألقةُ بأبنائها وقصورها؛ تلك المدينةُ ستتراجعُ إلى الخلف في الذاكرة تأكلها النيران، ويمحوها الدمارُ والخراب. أمَّا المشهدُ الذي سيكون حاضرًا فسيكونُ الركام، والأصداء الحزينة تتجاوبُ في الأوداء المغمورة بالأسى...
هذا هو الدرب دائمًا في أدب الدكتور داهش، ينقلك من عالم إلى عالم، فتختارُ بحريةٍ المكان الذي تريدُ ولوجه، وتنبذُ العالَمَ الذي لا يستجيب لرغباتك أو توقِك.
فلندخل إلى عالم المراثي حيث يعترفُ إرميا بخطيئة مدينته المقدسة وبخاطاي شعبه وكهانة وأنبيائه. فالعقابُ قد يكون جماعيًا إذا ما عمَّ الفسادُ المدينة، فتُدمرُ قصورها، وتخرب حدائقها، وتحرق أشجارها، وتُقتلُ حيواناتها، ويجتاحها أعداؤها. ها قد طاول العقابُ حجرها وبشرها وشجرها. ها قد طاولَ العقابُ ماضيها وحاضرها ومستقبلها! ما أقسى هذه الثورة القلمية! وما أنبل ضراعاتِ الأنبياء! لأنهم بضراعاتهم يُطلون على نهار الحقيقة في قلبهم وفي عقلهم، بينما يقبعُ الآخرون على أطلالهم جاثمين، سوداءَ ذاكرتثهم، عوراءَ عيونُهم، قفراءَ قلوبُهم.
فاسمعْ إرميا واصفًا غضبَ الربِّ على مدينته، ذاكرًا الاسباب التي من أجلها استحقت ذلك. قال بحكمة: "لماذا يشتكي الإنسانُ ما دام قد أخطأ واستحق الجزاء!" ثم قال: "قد أجتاحَ (المدينة المقدسة) من أجل آثام أنبيائها، ودجل كهنتها الفاسقين..." وقال: "صبِّ عليها من السماء جامَ غضبه... ودكها إلى الحضيض... ألقى بنيرانه، فالتهمت الأخضر واليابس..." وقال: "قد أصبح أعداؤها أسيادها لأن إرادة الرب قد قضت بإضلالها من أجل كثرة معاصيها".
ما نطقت به السماء
من إرميا، إلى عيسى، إلى محمد، وإلى داهش... صيغةٌ واحدة وتعليلٌ واحد.
وها إن المسيح بعد أن نبذه قومُه يتوعد مدينته بالخراب والدمار... وما تتم السنون السبعون عديدها حتى تجتاح الجيوشُ المدينة المقدسة وتدمرها. لقد صدق وعيدُه، ونال المكذبون الظالمون عقابهم بالقسطاس جزاءً وفاقاً.
وفي القرآن الكريم: (ضرب الله مثلاُ قريةً كانت آمنةً مطمئنةً يأتيها رزقُها رغدًا من كلِّ مكان فكفرتْ بأنعُم الله فأذاقها الله لباسَ الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) (النحل: 112). أما تنطق هذه الآيةُ بما قدَّمه الدكتور داهش في لوحاته؟ فإذا القرية المطمئنة تتبدَّلُ بأخرى قاتمةٍ بائسة، قفراء، محطمةٍ كالجرة الفخارية. وما اعترف به إرميا متضرعًا نقرأُه في آياتٍ أُخَر.
قال الله تعالى: (وإذا أردنا أن نُهلكَ قريةً أمرنا مُترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القولُ فدمرَّناها تدميرًا.) (الإسراء: 16) وجاء أيضًا في القرآن الكريم: (وما أهلكنا من قريةٍ إلا لها منذرون.) (الشعراء: 208).
أما تنطق هاتان الآيتان مصداق ما وردَ في فصول الكتاب "ناقوس الأحزان أو مراثي إرميا"؟
هذا العالم الذي يستحضرُه أدبُ الدكتور داهش يُوقظُ أو يبعثُ روحًا متصلاً بين الأنبياء والسماء والأرض، كأنَّما الداهشية لغةٌ كونية توحِّد الخطاب الأزليَّ مع الناس ومع الله منذ القِدَم وحتى اليوم.
في رحاب داهش
الدكتور داهش يكتبُ الحقيقة للحقيقة بكلماتٍ ترسمُها في ظاهرها، كما هي في باطنها، غير مُواربٍ ولا معتمدًا أساليب للتمويه معقدةً. فالطرُقُ تنوح... نعم هي تنوحُ بلغتها، تبكي بدمعها كما هو دمعُها وكما هي لغتُها. وهي كالصخور التي تصدعت خشية وخشوعًا لذِكر الله كما وردَ في القرآن الكريم.
فالشجرة، في أدب داهش، تُراودُها أفكارٌ متنوعة، فمنها السامي ومنها الدنيء. وقد تُوحي بها إليك. كذلك البصلات الخضراوات تتمنى وتفرح وتحزن (انظر كتابة "قصص غريبة وأساطير عجيبة"، ج2، ص 81 – ص 91).
ففي عالم الدكتور داهش الأدبي تمتلئُ الكلماتُ بالنور، فتنطق بالحقيقة. تدعوك الى السفر نابذًا ما هو أرضيٌّ مرذول، راغبًا فيما هو سماويّ.
فحينما رثى إرميا مدينته المقدسة أورشليم دقت نواقيسُ أحزان داهش تُعلن حزنها على مدن العالم: من القدس إلى بيروت، فإلى كل بقعةٍ من أرضنا التاعسة قد تتنكر لنداء السماء، فتسمحُ للظلم أن يمد سُرادقَه البغيض، فيحجب شمس العدل والحقيقة.