الأستاذ سليمان بختي
كاتبٌ وناقدٌ لبنانيٌ. حاز البكالوريوس في العلوم والإدارة (الجامعة اللبنانية الأميركية، 1981), والإجازة في العلوم السياسية والإدارية (الجامعة اللبنانية، 1981). يعملُ منذ العام 1990 مديرًا لـ"دار نلسن للنشر". له "إشارات النص والإبداع" (1995). شارك في تأليف بعض الكتب الجماعية، وفي مؤتمراتٍ ثقافية في لبنان والخارج. ترجم وراجع عدةَ كُتُبٍ من الإنكليزية إلى العربية. له مقالاتٌ ومراجعاتٌ كثيرة في الأدب والنقد والترجمة، في الصحف والدوريات اللبنانية والعربية.
كتاب "ضجعة الموت أو بين أحضان الأبدية" للدكتور داهش
عبر الرؤى والفنِّ والحرية نحو الأعماق والآفاق
اكتشفت هذا الكتاب للمرة الأولى عن طريق المفكر الراحل هشام شرابي إبان التحضير لنشر كتابه "صور الماضي"، وهو الجزء الثاني من مذكراته التي سبقها كتابه "الجمر والرماد". طلب مني الدكتور هشام شرابي صورَ غلافات أربعة كُتب: "الغربال" لميخائيل نعيمة، و"نشوء الأمم" لأنطون سعاده، و"المقدمة" لشارل مالك، "وضجعة الموت" للدكتور داهش. إستغربتُ، في البداية، أن يطلب هشام شرابي هذا الكتاب. وأخيرًا وجدناه لدى الدكتور سمير الصليبي في سوق الغرب"، فوضع الدكتور هشام، في كتابه، صورةَ الغلاف الخارجيِّ للكتاب غير المجلد وقد بدت فيه امرأةٌ عارية الصدر تُمسك بطفلٍ ميت. ووضع صورةً ثانية لامرأةٍ عاريةٍ تحت عنوان "ليجا والبطة" بريشة كوريجيو، بالحجم ذاته تقريبًا الذي تظهرُ فيه على الصفحة 126 من كتاب "ضجعة الموت" وقد أحاطتْ بها الظلمة التي لم تظهرْ في الصورة، "كما تذكرتُها"، يقول شرابي. ووضع صورةً ثالثة لوجه فينوس بريشة بوتشللي كما يظهر بالحجم ذاته، وقد اقتُطعت بقيَّة اللوحة التي تُظهِر البحرَ! والسماءَ والملائكة.
ومما ذكره هشام شرابي في كتابه "صور الماضي" عن كتاب "ضجعة الموت" وعن الدكتور داهش بك أقتبسُ ما يأتي:1
"كان يتردد أيضًا على بيت جدي، آنذاك، شابٌ اسمه داهش بك اشتهر في الأوساط الاجتماعية بقدرته على التنبوء بالمستقبل. لم التق به إلا بعد مدةٍ طويلة من تعرفه على بيت جدي، ذلك أنه نادرًا ما أتى لزيارتنا خلال الصيف، أي عندما كنت أمضي عطلتي في عكا. لذلك سررتُ عندما سمعتُ، ذات يومٍ، جدتي تنادي بصوتٍ متهدج: "داهش بك قادم. افتحو الباب".
كان، أنذاك، في أواخر العشرينات من عمره، أسودَ الشعر، نحيل القامة]...[.
في تلك الزيارة التي تعرفتُ فيها إليه، سلم داهش بك جدتي كتابًا كان قد انتهى من تأليفه، عنوانُه "ضجعة الموت أو بين أحضان الأبدية" وعليه تقديم: "إلى عارف بك وعائلته الكريمة". تصفحته جدتي، ووضعته على الرفِّ الذي كانت تضعُ عليه خالتي الصغرى كُتبها المدرسية. بعد ذلك، لا أظنُّ أن أحدًا سواي لمس الكتاب.
كان مجلدًا تجليدًا متقنًا ومطبوعًا على ورقٍ فخمٍ لماع. توجت صفحته الأولى صورةُ المؤلف، وتلاه إهداءُ الكتاب بخطٍّ رفعيٍّ أذكر منه هذه الكلمات: "غلى الموت والحياة الأبدية". أما نصُّ الكتاب فقد كان مجموعة قصائد كُتبت أيضًا بالخط الرفعيِّ ضمنَ إطارٍ أسود. وإلى جانب كل قصيدة طُبعت رسومٌ بعضها على صفحةٍ كاملة، وبعضُها الآخر على نصف صفحة... قرأتُ بعضَ القصائد لكن دون أن أستطيع فهمها. بدت معقدةً إلى درجة الغموض الكامل. لكن الصور والرسوم، التي كان أكثرها مستمدًا من أعمالِ فناني عصر النهضة، سحرتني]...[.
تذكرتُ كتاب "ضجعة الموت"... عندما التقيتُ داهش بك بعد مرورِ سنواتٍ طويلة. كان ذلك في أوائل السبعينات، في إحدى زياراتي الصيفية إلى بيروت. سألت أمي، يومَ وصولي، ونحن نحتسي القهوة عمَّا حلَّ بداهش بك.
حتى تلك اللحظة وطوال تلك السنوات لم يخطر اسمُ داهش بك على بالي لمرةٍ واحدة. نظرتْ إليَّ باستغراب، قالت إنها سمعت أنه يُقيم في بيروت منذ 1948.
في اليوم التالي، وبحدود الساعة الثالثة بعد الظهر، كنتُ مثل معظم سكان بيروت
----------------------------------------------
1 انظرهشام شرابي: "صُور الماضي"، ط3 (دار نلسن، السويد 1998)، ص 67 – 72.
----------------------------------------------
في ذلك الوقت من اليوم، مُستلقيًا على السرير أُطالعُ الصحف والمجلات، وأحاولُ أن أغفو قليلاً، حين رن جرَسُ الباب الخارجي، وسمعتُ الخادمة تفتحُ الباب، ثم تأتي إلى الغرفة المجاورة وتقولُ لوالدتي: "السيد داهش بك يسأل عن السيد هشام".
قلتُ في نفسي: لا بد أن والدتي قد أرسلت إليه خبرًا تُعلمُه بأني موجودٌ في بيروت، وأني سألت عنه، فأتى لزيارتنا.
كان جالسًا في زاويةٍ مُعتمة من غرفة الاستقبال الصغيرة. ورغمَ حرارة الجوِّ، فقد خُيِّلَ إليَّ أني شعرتُ بلفحةٍ من الهواء البارد تهبُّ على وجهي لدى دخولي الغرفة. وقف مسلمًا بصمتٍ، وشعرتُ بالانقباض ذاتهِ الذي شعرتُ به عند لقائنا الأول في عكا منذ سنين طويلة. ما إن جلس حتى رأيتُ أنه قد تغير كثيرًا. كان أثقلَ وزنًا، وفي تقاطيع وجهه علاماتُ الكبر. إلا أن عينيه النافذتين لم تتغيرا!
"أتذكرني؟"
"بالطبع أذكرُك"
وعندما جاءت والدتي تحدثنا قليلاً، ثم غادر على أن نلتقي ثانية.
سألتُ أمي كيف تمكنتْ من الاتصال بداهش بك.
"أنا لم أتصِلْ به."
"لستُ أدري".
************
ثم اكتشفتُ الكتاب مرة ثانيةً حين قرأته، وسبرتُ غوره. في البدء يلفتثك الشكلُ والرسوم والإخراج، ثم طريقةُ الكتابة في النثر الشعري، ثم إهداء الكتاب إلى الموت، إلى "حبيبي الموت،" كما يقول المؤلف. تذكرتُ في هذا الإهداء ما قاله الروائي المصري العالمي نجيب محفوظ غير مرةٍ في مقابلةٍ أخيرة له قبل وفاته حين أهدى فنه "إلى مصر التي علمتني فن الكتابة وفن الحب وفن الموت".
بلى، هناك فنٌّ الموت شغل بال الفراعنة مثلما شغل بال الإنسان على مر العصور.
لماذا يموت الناس؟ وإلى أين يذهبون؟ ماذا ينشدون: سرُّ الحب، سرُّ الحياة، سرُّ الموت، سرُّ الروح، سرُّ الجمال؟ وكيف تعملُ المادة في الروح، فلا تغادر المادة، ولا تفنى الروح؟
يدركُ داهش أن أثقال المادة تعيق الروح. أعباءُ الجسد والأشواق والأحلام والأماني، كلُّ هذه الأشياء تُوقِف الانطلاقة. وإن ما يُبنى عليه حقًا هي الروح. وهو هنا على مذهب الصوفيين الكبار أمثال جلال الدين الرومي الذي يقول: "إن الله يهبُ جناحين لِمَن تخلَّى عن حصان الجسد".
لا أعرف ما الدفعُ الذي جعل الدكتور داهش يكتبُ "ضجعة الموت": هل هو الحب؟ أم الموت؟ أم الألم؟ أم المكان؟ أم الخلود؟
يقول داهش: "بآلام نفسي أكتبُ الآن". ألألم هو معيارُ الوجود ومرادِفُه: ألمُ الحبِّ، ألمُ الحنين، ألم الذكريات، ألمُ الوجود. ولا تتجوهر النفسُ إلا بالآلام. ولا يُحسبُ المرءُ في عداد الأحياء إلا إذا تألم. الألمُ يجوهر الحياة، يدفعها إفى الآفاق وإلى الأعماق. ولكن هل يُفضي الألمُ إلى الاحتراق، إلى الموت؟ أحدُ الفلاسفة الكبار كتبَ ذات مرة: إذا لم أحترقْ أنا أو تحترقْ أنت، فمِن أين يأتي النور. يُقابلُ الدكتور داهش في كتابه9 بين الفرح والألم، بين الشقاء والراحة. وإن الحياةَ تُصنَع، في النهاية، من هذين الرافدَين. ونقطةُ الوصول إلى أبعد هي الموت.
والموتُ، هنا، هو حرية، "يُطلق أرواحنا من أقفاصها" علنا نصِلُ إلى عالَم الخلود والسعادة والسرمديَّة. ولكن هذا الوصول يمرُّ بأسرارٍ كثيرة. هل يدخل المرءُ إلى حياةٍ معيشة أم إلى ثوبٍ يلبسُه، وإلى ثوبٍ يرميه. وهنا يبدو واضحًا مبدأُ التقمص في طروحات الكاتب. كلنا، إذاً، ننطلقُ من العالم نفسه، ونعودُ إلى العالم مراتٍ ومرات حتى يقف الماءُ عمودًا. ليس في "ضجعة الموت" علاقاتٌ مع المجهول أو السحر أو الحلم الغامض أو السر الذي لا نعرفُ كنهَه. هناك أربعةُ أسس: الحب، الألم، المكان، والموت. الحبُّ الذي يعبرُ الأرض ومَن عليها والكون والشمس والكواكب. وهناك الألم المنبعثُ من حركة الوجود، من الصراع. وهناك المكانُ الذي يختصرُ هذا العالم، والذي تعيش فيه الحبيبةُ وتتماهى معه، وربما تقطنُ فيه. وهناك الموت الذي يجعل الملامحَ والسماتِ غائمةً، ويتركُ الأمور بعيدةً وقريبةً في آن: الموتُ الذي يريدُ منا أكثر من حياة، وأكثر من ألم؛ الموت الذي ينتصرُ على الزمن، والذي يغير الشكل، ولكنه لا يقوى على المعنى، ولا على القلب، ولا على الحبّ. يضعُنا الكاتبُ أمام مُفارقة: هل الحياة لا تنتهي أم الموت يبتلعُ كل شيء؟ أم إن بينهما انتقالاً سلِسًا لا يعرف القيود؟
لفتني في الكتاب كلُّ أنشودة تبدأُ بـ"أيها الغريب". والسؤال: مَن هو الغريب؟ المسيحُ كان الغريبَ الأكثرَ غُربةً وغرابةً في العالَم. وما هو موقفُ الغريب من الحب؟ مَن هو الغريبُ تحديدًا ؟ أهو الذي يموتُ بعيدًا عن أمانيه وأرضِ أحلامه أم هو الذي يموتُ في غُربته عن نفسه؟ وإذا كان الغريبُ لا يلتقي نفسه، فكيف يحصلُ اللقاءُ ويحدثُ الحبُّ؟ وكيف يقبض على ناصية السعادة؟ حتى السعادة الروحية تبدو بعيدة! يقول الدكتور داهش: "يا لها من إلهةٍ تُشعرُك بالسعادة لحظات!... ثم تُخلفنا لنشعرَ بالشقاء أعوامًا وآبادًا مخلفةً لنا الحسرات".
هذا الشوقُ الذي يعصفُ بالإنسان ليصلَ به إلى الآلهة، هل يُشعرُه بالسعادة المطلقة؟ بالخلاص؟ وما هو الزمنُ الذي يستغرقُه كلُّ ذلك – أعني الشوق والوصولَ والتحقق، ثخم الشقاء والحسرات؟ أم لعلها مأساةُ الإنسان في علاقته مع الآلهة، مع المطلق؟
في كتاب "ضجعة الموت" هناك الرسالةُ الأدبُ والحوار. وهناك، أيضًا، المزج بين الرؤية والكلام. وفي الكتاب حضورٌ لعالم الملائكة والأرواح والحوريات الجميلات. هناك حضورٌ للعامل في غطبته السرمدية. وكيف يبلغُ المرء سعادتضه وخلاصَه الروحيَّ من خلال ثنائيات الحلم والحقيقة، الواقع والغيب، الجسد والروح. وثمة دعوةٌ إلى التمرد على المواثيق المقيدة، والبحث عن روابط وصيغٍ جديدة. لعله تمامًا يشبه ما قاله الدكتور داهش لهشام شرابي: "الناس تريد الهرب... الناس تُريد الاتصال بالأرواح للخروج من كابوس الحياة". وبعدُ فقرةً جديدة: كتاب "ضجعة الموت" هو هروبٌ بإحسان، هروبٌ مختلفٌ ورائعٌ وجميلٌ عبرَ الرؤى والفن والحرية إلى عالم التوق حيث تتحدُ الأعماقُ والآفاق، وتمحي الحدودُ والقيود.