إلى الأُمّ شمُوني
بقلم ماري حدَّاد1
أُختي الحبيبة!
رحلتِ فجأةً من بيننا، وعادت روحُك النقيَّة إلى باريها.
رَقدِتِ رُقادَك الأبدي،
وعلى وجهك المتالّمِ المعذَّبِ ظهرَت علاماتُ السرور،
وعلى أساريرك بشائرُ الانبساط والغبطة.
لقد كنت أُمَّ الآلامِ الثانية مريم أُمّ يسوع.
إنَّ ولَدَك انتُزعَ منكَ بقوَة الظُلم.
وكم كنت تنوحين وتقولين وقلبُك جريحٌ ونفسُك منسحقة:
- إبني طاهر... إبني بريء... والله كبير. فلتكن مشيئتُه.
ومع أنّ عينيك كانتا مغمورتَين بالدموع السخينة،
فإنّ روحَك بقيَت صامدةً أمام العاصفة الهوجاء.
أمّا جسمُك الجبّار كالسنديانة،
فقد مال منحنيًا، وخانك على طريق الجُلجُلة.
فرزَحت تحت أعباءِ الحياة القاسية.
ولكن هناك مَن ساعدَك في حَملِ صليبِ آلامِ...
هو ذلك (الكتابُ المقدَّس) الذي كان يُرافقُك ليلَ نهار.
وكنتِ تُردِّدين كلماتِه،
وشفتاك تتلُوانِ بهدوءٍ وسكينةٍ ما يحتويه من روح الحياة والعزاء.
ولذلك لم تشائي أن تعرفي في حياتك كلِّها كتابًا غير الإنجيل الطاهر.
--------------------------------------------
1- تراجَع النبذة الشخصيَّة عنها في مقالتها السابقة. والأمُّ شموني هي والدة الدكتور داهش، والمقالة رثاءٌ لها بُعَيد وفاتها، كُتبتْ باللغة الفرنسية. وقد اقتُبستْ من كتاب "أناشيد حزينة". جمعه ماجد مهدي (الدار الداهشية للنشر، نيويورك 1991)، ص 42.
----------------------------------------------------
أليس فيه معرفةُ الحقيقة؟
لقد رافقَك من مهد الطفولةِ إلى القبر.
وقد تكشَّفت لك أسرارُه منذ نعومةِ أظفارِكِ
حتَّى أصبح معلمَك الوحيد ومدرستَك الكبرى.
وقد وهبَك اللَّه نعمةَ الذكاء الفطريّ الخارق
الذي يُنشئُ النوابغَ الخالدين،
فاصبحتِ مستحقةً لأن تكوني، بكلِّ جدارةٍ، والدةَ داهش.
ولأوَلِ مرةٍ تعرفتُ بك أصبحتِ لي أُختًا حقيقيَّة،
وأُلفتُنا مَكّنَتْ بيننا صلةَ المحبةِ الراسخة.
وكتُ أقولُ دائمًا:
- ما أطيبَ الحياة مع هذه الأخُتِ العظيمة، النبيلة الصادقة،
الباذلة لنا بوَداعةٍ كلَّ ما يزخرُ به قلبُها الكبيرُ الكريم.
لقد اقتبَستُ فوائدَ غاليةً من مزاياك العالية.
وكنتُ أُريدُ البُلوغَ إلى درجتِكِ.
ولكن من أين لي ذلك؟
لقد ترصَّدك الموتُ، يا أُختي، في أواخر هذا العام،
وأخذَك من بيننا.
وفرَّقَ الدهرُ شملَنا على هذه الفانية.
وها أنا جالسةٌ على حافّة الطريق في منعطف الحياة،
أتَلفَّتُ يمينًا وشَمالاً، وإلى الأُفقِ البعيد.
فتوارَيتِ سريعًا، وأنا أُفتشُ عبثًا عنك، فلا أجدُك،
بعد أن كنت بقُربي منذ هُنيهة.
وها أنا الآن لا أرى آثاراً جديدةً لأقدامِك
على رمال هذه الحياة الفانية.
إنّ روحَك كانت كسهمٍ منطلقٍ ومتَجهٍ دائمًا إلى العلاء، إلى فوق.
أمّا قدماك فقد كانتا وحدَهما فقط تلمسان الأرض،
بينما روحُك تُجاورُ السماءَ وتُلامسُها.
إنّ كنوزَك كانت مكدَّسةً في الأهراء الخالدة
حيث لا يُصيبُها صّدأٌ ولا يأكلُها الدود.
لقد انفصلَت روحُك من هذه الأرض بلا ألَمٍ ولا جهود،
كالثمرة الناضجةِ المعدَّةِ للحصاد الإلهيّ.
وبينما أنا أُعانقُك الآن للمرّة الأخيرة
أستَودعُك رسالةً لا شكّ أنّك ستقومين بتأديتها هناك.
واللَّه وحدَه يعلمُ عددَ الأيّام التي ستفصلُ بيننا.
وإنِّي أطلبُ من اللَّه القدير أن أُكملَ الحياةَ الأرضيّة الباقية لي
بالكمال الذي أكملتِ به رسالتَك على هذه الأرض.
فإلى اللقاء، يا أختي، إلى اللقاء.
في 24 تشرين الثاني 1949