اهداء الكتاب
إلى الروح التي ما زالت ترفرف حائمةً فوق رأسي.
إلى التي علمتني معنى الحب السامي الملائكي بطهارتها.
إلى التي تتساوى بنقائها مع الملائكة الأطهار.
إلى حوريّة الغاب المتوّجة باكليل من الغار.
إلى التي لا أطمع يومًا بعد الآن في رؤيتها.
إلى التي علّمتني بجمالها السماوي عبادة الجمال.
إلى التي حببتني بالحياة، بعد كرهي الشديد لها.
إلى التي فتحت مكنونات قلبي واسراره الخفية.
إلى التي تبعث في ميت الآمال وتذكيها، ولا آمال.
إلى التي أحبّتها روحي منذ القدم، وإلى الأزل.
إلى من ارتشفتُ من رحيقها الخمري المُسكر حتى ارتويتُ.
إلى التي لو تجسمت لي (أفروديت) – إلهة الجمال – لتسليني عنها لما سلوتُها...
إلى الروح التي تعانقت معها روحي منذ الأزل.
إلى الفتاة الفتَّانة التي وهبتُها قلبي وروحي.
إلى معبودتي لا بل إلهتي (ديانا) الرائعة الجمال.
أُقدّم هذا الكتاب.
الدكتور داهش
مقدمة الكتاب
هذا الكتاب ألفته منذ ستة وأربعين عامًا انطوت أيامها، واندثرت آثارها، وتبدَّدت رياحُها.
وكنت يومذاك بعنفوان الفتوة ونضارة الصبا.
ويومذاك أحجمتُ عن نشر هذا الكتاب، إذ أردتُ أن أخرجه بصورةٍ أنيقة للغاية، كما صمَّمت على تزيينه برسومٍ فنية رائعة.
ورحتُ أبحث عن فنان متمكَّن من فنه في البلاد العربية، ففشلتُ بمسعاي إذ لم أجد أيّ فنان بإمكانه إخراج الرسوم الفنية المطلوبة. فأرجأت طبعه إذ لم أحبّ أن أطبعه طبعةً عاديةً كالكتب التجارية المُتداولة.
وفي مطلع عام 1936 طبعتُ كتابي "ضجعة الموت" بمطبعة شنلِّر الألمانية بالقدس وكانت حينذاك أهمّ مطبعة في الشرق.
وكنتُ قد عثرتُ على فنانٍ إيطالي اسمه (موريللي) بالقاهرة فكلفته أن يرسم لي رسوم كتابي "ضجعة الموت". والحقيقة أنني لم أعجب بمقدرة هذا الفنان، وكنت أود أن أعثر على فنان يفوقه بالإبداع.
وقد خرج كتابي "الضجعة" بحلة أنيقة قشيبة مدهشة. والحق الذي يجب أن يقال أنه بعد مرور أربعة وأربعين عامًا على طبعي لهذا الكتاب لم يطبع كتاب آخر سواه، يكون بمستواه الفني، بين مئات الآلاف من الكتب التي طبعت بجميع البلاد العربية.
إذ طبع بألوانٍ أربعة طباعة أنيقة للغاية؛ وقد خطه الخطاط المشهور نجيب الهواويني، والخطاط محمد حسني.
والورق صقيل، ومن النوع الممتاز للغاية، وتجليده فني، وأناقته مثلى.
ذكرت هذا لأبين السبب الذي منعني من طبع كتابي "قيثارة الآلهة"، إذ أردتُ أن يخرج بصورةٍ تتفوق على كتابي "الضجعة".
ومكث الكتاب في درجة طوال هذه الأعوام الستة وأربعين. وأخيرًا نفضتُ عنه غبار الأيام، ودفعته للمطبعة بعد رقاده الطويل.
ويجد القارئ قطعًا عاطفية مختلفة كتبتُها وأنا في طور المراهقة التي انطوى عهدُها وانكفأت دفتها.
وكتابي "قيثارة الآلهة" يبرز الآن إلى الميدان ليُوقّع ألحانه على قيثارة الحبّ مستعبد الرجل والمرأة مذ خلفت حواء وآدم، وحتى نهاية أيام كرتنا الأرضية.
فالحبُ هو غايةُ الرجل وأمنيّة المرأة، فلولاه لتوقفت نسمة في دنيانا، ولأصبحت قفرًا يبابًا وبلقعًا خرابًا...
وليتَ الأمر كان هكذا...
إذًا لما كان شقاء وبلاء، وكربٌ وعناء.
ولكن رغمًا عن الأهوال التي تحيق بالرجل والمرأة نتيجة الاتصال الجنسي، فانهما يستميتان في سبيل جنى تلك اللذة العابرة، رغمًا عن تأكدهما ممّا سيلاقيانه من أهوالٍ ومنغصاتٍ متسلسلة لا نهاية لها.
وقد سبقهما لذلك أبوانا الأولان آدم وحواء، فضَّلا هذه اللّذة على الجنَّة التي طُردا منها بعد إقدامهما على أكل الثمرة المحرَّمة.
وبعد، لقد دفعتني فتُوتي، يومذاك، أن أخوض ميدان العاطفة، فدوَّنتُ توقي بكلماتٍ وجدانيّة يراها القارئ مسجَّلة في هذا الكتاب الذي أسميتهُ:
"قيثارة الآلهة"
بيروت، الساعة الثامنة من صباح 29/4/1980 الدكتور داهش
عام 1933
حياتنا الترفيهية
عندما قذف بي العدم إلى عالم الوجود، كنتُ ذرةً في عالم الهناء والخلود.
في تلك الدقيقة، كتب عليَّ الشقاء والعناء في خضمّ هذه الحياة.
بين الآلام المُمضَّة ترعرت، وفي أحضان الشقاء والكرب العميق كانت نشأتي، إلى أن أكملتُ العاشرة.
فمنذ ذلك التاريخ، أبتدأت المعرفة الدنيويّة تنطبع في أماقي، واتخذتُ عادات البشر لي قانونًا، أسير على ما يسيرون عليه. ونُقِشَ أيضًا في نفسي الحزنُ والفرح، وكلُّ العوامل البشريَّة الأخرى التي لم أكن مقيَّدًا بها قبل مجيئي إلى أرض الفساد. وحتى أكملتُ العشرين بقيتُ في كدٍّ وجدٍّ وشرور وآثام لا عدَّ لها.
وكانت كلُّ هذه الشرور خاضعةً بأكملها للقانون الأرضي الذي يسيرُ عليه الجسد الذي هو غلافٌ للروح.
كنتُ قبل مجيئي إلى الأرض لا أعرفُ عنها شيئًا البتَّة، لأن كل ما قمتُ به كان من مطالب الجسد المادّيّ لا الروح العلويّ. إذًا لم قضت الإرادة بمجيء الصلاح الطاهر ودمجه في الطلاح الفاسد؟
فكرتُ كثيرًا دون أن يفتح عليَّ بفهم ذلك، فتركُتُه إلى أن تأتي ساعة معرفتي.
عشراتُ السنين تصرمت، وإذا بظهري قد تقوَّس من مرور السنين التي حملتُها مُرغمًا.
فيا لها من أعوامٍ تأتي مسرعةً كالبرق الخاطف. إذ ذاك اعتمدتُ رأسي بيدي، ورحتُ أهيم في بوادي التخيُّلات، علَّني أفوز بحلٍّ مقبول.
ولكنني وأأسفاه ! عدت دون نتيجةٍ منطقية. إنَّ الحياة يا أخي ليست سوى وهمٍ باطل وظلٍّ زائل. فالأنهار الجارية وهي تصطخب، والبحار الثائرة وهي تزمجر، وكل ما في الكون من صاخب وصامت، سيعتريه الذبول فالأفول. فإذا ما ولت بعد ذلك صلةُ الحياة، وغمرت الكائنات شوكةُ الموت المُسيطر، من تلك النقطة فقط تبتدئ حقيقة معرفة الكائنات والحياة التي كنا نحياها سابقًا، فنعلم مبلغ الخطأ الذي كان جسدنا المادي يحاول إقناعنا به كحقيقة واقعة، لأنه منها وهي منه؛ وهو عندما يتلاشى نبتدئ نرى بعين الحقيقة كل أخطائنا الماضية، فنأسف لجهلنا الصارخ، ولكن لا نفع في الندم.
هنا: ننتشي برحيق الغبطة الخالدة الأزلية، وننعم في الطهر والنقاء الناصعين، وننشد أهازيج النصر مع الملائكة الأطهار لانتصارنا على المادة ورذائلها الخسيسة. هناك، حيث لا مكر ولا حسد، ولا كبرياء ولا دناءة، ولا سفالةً ولا جريمة، ولا بغض ولا نقيصة، بل حب شامل، وسرور كامل، إذ يظللنا العلي القدير، ويرعانا بحنانه اللانهائي. ولكن، متى يأتي ذلك اليوم السعيد؟ وهل يجوز لنا الاندماج مع الملائكة الأطهار، قبل أن نكون قد كفرنا عن أعمالنا الشريرة تكفيرًا ينيلنا ما نصبو إليه؟
كلا، بل يجب علينا التكفير أولاً، وعندها نستحق أن ننعم بالسعادة الخالدة.
ومن أعالي السماوات، تتراءى لنا من خلال الأزمان السحيقة صورُ أعمالنا الماضية كغمامةٍ سوداء مُرعبة، تذكرنا بما كنا نقوم به عندما كانت المادةُ هي العامل المُتسلَّط على عقولنا ونفوسنا. فلنضرع إلى الله تعالى أن يرشدنا إلى الطريق القويم، كي نقوى على محاربة الأدران والشرور، فنقرب وقت خلودنا، حيثُ السعادة مع الأتقياء الأنقياء، وإلا فالويلُ ثم الويل لنا إن بقينا بعيدين عن جادًّة الصواب والحقّ واليقين.
عام 1933 داهش.